خواطر في ذكرى المولد

في ذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم تزدحم الخواطر في نفس المؤمن وهو يتأمل جوانب الخير والأسوة والعظمة في شخص هذا النبي العظيم صلى الله عليه وسلم.

1- من هذه الخواطر ذلك التلازم العجيب بين ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم من الفضائل، وبين ما تحلّى به من هذه الفضائل، حتى كانت شخصيته، وسلوكه في نفسه وبين أهله وأصحابه، بل مع أعدائه كذلك... تجسيداً حياً لتلك الفضائل التي دعا إليها.

وننظر إلى ما نسمعه من كلام الزعماء في مشارق الأرض ومغاربها فنجد فيه بعض ما ترنو إليه النفوس من تحقيق العدل بين الناس، ورعاية حقوق الإنسان والحيوان وحماية البيئة وحفظ الأرواح والممتلكات... ونرجع البصر كرتين لنرى حقيقة ما يلتزم به هؤلاء الزعماء من تلك الدعاوى، فينقلب إلينا البصر خاسئاً وهو حسير، ليقول لنا: إنها مجرد دعاوى يزاودون بها على بني البشر، فها هي ثمرات دعاواهم حروب ودمار وسجون.

2- ومن هذه الخواطر أن يسأل المسلمون أنفسهم: هل نحن نقتفي فعلاً خطوات النبي صلى الله عليه وسلم، ونتأسى بأخلاقه، ونعمل بأوامره وتوجيهاته، ونجاهد فيما جاهد فيه... ويكون الجواب مؤسفاً. إن إيماننا بالنبي صلى الله عليه وسلم وحبنا له أقرب إلى عاطفة تجيش حيناً وتفتر حيناً، لكننا لم نبلغ أن نصوغ حياتنا وأخلاقنا وتعاملنا وفق ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، أو وفق ما يقاربه، بل إن كثيراً منا ليعمل، بوعي وبغير وعي، على اتباع سُنَن أعداء الإسلام، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلناه معهم. وليس يكفي أن نحتج على ذلك بما غزانا به هؤلاء الأعداء في ثقافتنا ومناهج تربيتنا، وما ضَيّقوا به علينا في معاملاتنا الاقتصادية وعلاقاتنا الاجتماعية. بل لنكن صرحاء في أنفسنا: لقد بلغت بنا الهزيمة الروحية مبلغاً خطيراً حتى صرنا نتودد إلى أعدائنا بالتخلي عن ديننا. فأين حبنا لنبينا واقتداؤنا به؟!.

3- وخاطرة ثالثة نتأمل فيها خُلُق النبي صلى الله عليه وسلم فنرى قمة سامقة لا يبلغها النظر.

فقد تجد الرجل الذي يملك اللباقة والدماثة واللين والسماحة والكرم والحلم... بدرجة من الدرجات، وتجد الرجل الذي يتصف بالحزم والشجاعة والبأس وقوة الشخصية... بدرجة من الدرجات.

لكنْ أن تجد من جمع ذلك كله، وأكثر منه، وفي أعلى الدرجات التي يطمح إليها بشر... فقد وجدتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده القدوة والمثال في ذلك.

ويكفي أن نذكر في ذلك ما شهد به رب العالمين، فإنها أعظم من كل شهادة.

قال تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً). {سورة الأحزاب: 21}.

وقال سبحانه: (وإنّك لعلى خُلقٍ عظيم). {سورة القلم: 4}.

وقال جلّ ثناؤه: (وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين). {سورة الأنبياء: 107}.

وقال: (فبما رحمة من الله لنتَ لهم). {سورة آل عمران: 159}.

وبعد هذا الإجمال يحلو أن نستلهم من أخلاقه قبسات تضيء لنا الطريق:

روى البخاري ومسلم شهادة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها يوم رجع إليها النبي صلى الله عليه وسلم وقد جاءه الوحي في غار حراء: "إنّك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتَكسِبُ المعدوم، وتَقري الضيف، وتعين على نوائب الحق".

وروى البخاري ومسلم أيضاً قول هرقل لأبي سفيان (الذي كان وقتئذ على الشرك): "... وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمتَ أنْ لا. فعرفتُ أنه لم يكن ليدَعَ الكذب على الناس ويكذب على الله تعالى".

وهذا المعنى قد أشارت إليه الآية الكريمة:

(فقد لبثتُ فيكم عُمُراً من قبله. أفلا تعقلون). {سورة يونس: 16}.

قال محمد الأمين الشنقيطي، في تفسيره "أضواء البيان": "في هذه الآية حجة واضحة على كفار مكة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُبعث إليهم رسولاً حتى لبث فيهم عمراً من الزمن، وقَدْرُ ذلك أربعون سنة، فعرفوا صدقه وأمانته وعدله... وكانوا في الجاهلية يسمونه الأمين.

وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وأجودُ ما يكون في رمضان، فلرسولُ الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة.

وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها: "ما ضَرَبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده شيئاً قط ولا امرأة ولا خادماً، إلا أن يجاهد في سبيل الله. وما نيلَ منه شيء قط فينتقم من صاحبه، إلا أن يُنْتهك شيء من محارم الله، فينتقم لله عز وجل".

وروى الإمام أحمد: قال أنس رضي الله عنه: ما كان شخص أحبَّ إليهم رؤيةً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا، لما يعلمون من كراهيته لذلك.

وروى الإمام أحمد أن رجلاً سأل عائشة رضي الله عنها: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل في بيته؟ قالت: نعم. كان صلى الله عليه وسلم يَخْصِفُ نعله، ويَخِيط ثوبه، ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته.

وروى مسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كنا والله إذا احمرّ البأس نتّقي به، وإن الشجاع منا الذي يحاذي به. يعني النبي صلى الله عليه وسلم.

وروى الإمام أحمد: يقول علي رضي الله عنه: كنا إذا احمرّ البأس ولقي القومُ القومَ اتّقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه.

ولو أردنا أن نستقصي الروايات الصحيحة في صدق النبي صلى الله عليه وسلم وأمانته وحلمه وكرمه وشجاعته وصبره وشكره وعبادته لاحتاج الأمر إلى عشرات أضعاف هذا المقال، وفيما ذكرنا إشارة تكفي من يبتغي الأسوة الكاملة، فالصلاة والسلام على الشاهد المبشّر النذير الداعي إلى الله بإذنه والسراج المنير، وعلى آله وأصحابه ومن سار على دربه.

وسوم: العدد 849