حضارة المحبة

ليالي هذا الشتاء قاسية ٌ وباردةٌ جداً ؛ كقلوب العُربان ، وشاحبة ٌ كبطون الغِربان ، ومُظلمة ٌ كأمة العرق الأصفر الجاحدة الجاهلة ؛ وبالرغم من ذلك تبسمتُ بعد ليلة نَطوفٍ كثيرة الخير ؛ والشمسُ قد انتهزت صباحا ً فرصة انقشاع الغمام فـذرّتْ شعاعها الذهبيّ فوق أشجار القرية الحالمة ، والناس قد بدأوا ينفضون عن أبدانهم وقلوبهم الأغطيةَ الثقيلة .

بعد دقائق من تأملي في الشمس ، وبعد أن رَسَمَتْ ظلّي على جدار أحمر تبسمت فعبستُ لأنني تذكرتُ وجه الفرعون الأحمر الأرعن ، وما تفرعن إلا على سيقان الخونة .

انسابت مياه تلك الليلة في وديان القرية ، وانساب النهار كالعُمر ، وجاء المساء حيث نضيّقُ الخناقَ على المدفأة ونتسامر حولها .

سألتُ أحد أصدقائي : لو خُـيـّرنا معاشر البشر جميعا بمختلف معتقداتنا بين الفناء المطلق والبقاء أحياء ً نُـعذّبُ في النار خالدين فماذا يختار الناس ؟

فأجاب كما توقعت ، وقال : كم تمنيتُ أن ينصر الله المستضعفين في الأرض ودعوت ُ اللهَ بذلك ، فقلت ُ له : (ويأبى الله إلا أن يُتمّ نوره ... ) ألا ترى كيف بعثَ اللهُ جنديا متناهياً في الصغر على الأعداء فأرعبهم وحصرهم !

قال : صدقت (من يعمل سوءاً يُجـْـزَ به ...) ، وخلاصهم ليس في البحث عن أمصال بل تحرير المستضعفين ورفع الظلم عنهم في الحال .

وختاماَ قافلة الجمال تسير منذ قرون ، وما فتأ النبّاحون حتى الساعة ينبحوا ، فما أوقف النباحُ القافلةَ ، ولو أبطأها قليلا ، فحضارة المحبة التي نبتت من عرق السائرين لا يمكن لحضارات الكراهية أن تجتثها ، فشمسُ حضارتهم قد طَـفـَـلـــتْ للغروب .

وسوم: العدد 864