إنسانية القلوب

تأبى بعضُ الخواطر إلا أن تقتحم سكينةَ النفس ، أو  ميدانَ قلقها ، أو آفاقَ خيالاتها ، لتفرغ شحنتها المتوهجة لسبب ما . فتُؤمر أحيانا للقيام بأمر  رضيته عن قناعة ، فتسمع نداء طفل أو بكاءه ، فتنساب إليه رحمةً به وشفقةَ عليه ، وفي هذا درسٌ بليغ لكل إنسان . فالرحمة قيمة إنسانية لايجافيها إلا قساة القلوب ، وهي خُلُقٌ عالٍ في : ( معجم الإنسانية ) ذات الفطرة السليمة . والإنسان السوي يبحث في مدلول هذه الإنسانية التي أكرمها الله بالآلاء ،  والرحمة فيها هي الوجه المشرق الذي تبحث عنه الشعوب ، وتجري دون لقائه الأخيار من بني آدم . وهي المنبر الذي يخاطب سكان الأرض ، ويذكرهم بالرحمة الأبدية إذاهم تراحموا في فترة الحياة الدنيا الزائلة .  وفي حمأة الأحداث الدامية التي تجتاح أهل الأرض في الحقب المتتاليات ، يجد الإنسان نفسه بأمس الحاجة إلى الرحمة بكل مقاييسها ومساراتها ، ولعله في بعض المواقف المرعبة يشعر بحاجته إليها ، وكأنه يستذكر شيئا فقده من قبل . وبهذه المقارنة يؤكد على قيمة مافقدته الإنسانية ، وحرمت منه نفسها ، وهي أحق به من أي مخلوق آخر ، رغم أنها ــ أي الرحمة ــ جاءت لجميع ماخلق الله من ذوات الأرواح . انظر إلى العامل الذي يعاني من حمل ( الطوب ) للبناء ، في حر الشمس ، أو في شدة البرد ، اقرأ في وجهه علامات الجهد والتعب ، واستقرأ حبات العرق التي تسيل على جبينه وعلى أنحاء جسده ، ثم اقرأ قسوة قلب صاحب البناء الذي لم يعطه حقه آخر النهار بكل صلف و وقاحة . أين الرحمة ؟ كيف سيُرحم هذا الظالم قاسي القلب يوم لاينفع المالُ وإن كان كان ملء الأرض ذهبا ! أين ذهبت نسمة الوحي المقدس التي انبجست من نبع النبوة : ( أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه ) .

كم ستكون الإنسانية جميلة ومحببة إذا رفعت لواء هذه القيم الغالية ؟ وكم ستكون المآثر أثوابا محببة إلى النفوس . وهنا تُطوى صفحةُ الحماقة الظالمة ، وتتجلى  عبقرية الإنسانية الفذة لدى الإنسان . أليس من الواجب أن يعمل الإنسان لإصلاح ذاته وقد كثرت المخالفات ، وعظُمت المصيبات في مجتمعاتنا الإنسانية ، فهنا تكمن الشجاعة ، وتتجلى المروءة ، فكيف لإنسان أن يعتدي على إنسان ظلما وعدوانا ؟ وكيف يجوز لإنسان أن يمنع حق إنسان بكل وقاحة واستكبار ؟ وهذا يجر المسألة إلى الكثير من المظالم ، وإلى آثار الاستهتار بالإنسان وبالقيم الإنسانية التي جعلها البارئ سبحانه وتعالى مفاتيح مباركة لدخول بوَّابات الخلود في فردوسه الأعلى . للإنسان عند الله مكانة ، مكانة عالية ، فما بال مجرمي الحروب ، وما بال طغاة الشعوب الذين يقتلون الناس  ، ( وزوال الدنيا أهون على الله من سفك دم بغير حق ) . عساكر إبليس ربما لايعلم بعضهم بسوء مصيرهم عند الموت ، وفي القبر ويوم النشور ، وفي خلودهم في لظى نزاعة للشوى تدعو من أدبر وتولى يوم الحساب الأخير . فقد ضلوا الطريق وغابت عنهم صفحات الوحي الأثيرة ، وتعاليم الرسالات التي جعلت للإنسانية مكانتها العالية في قصة الوجود التي لم تنته بعد .

إنسانية هذا العصر أخرجوها من كل مضامينها الممتعة لبني آدم ، وحولوها إلى متاهات  لم يجد العلمُ فيها فضائله ، وقد خلت المعارف  من جلالها في نفوس البشر المتسلطين على بني جنسهم ، وأشاعوا فوضى النفاق ، وعربدة القوة الباغية ، والتآمر البغيض على القيم وعلى الشعوب . قوانينهم جوفاء ، ثرواتهم لمجرد الاستعلاء والاستغلال ، أسواقهم الاقتصادية بلا آداب أخلاقية ، بل حتى وجوههم سفاهـا قترُ الشقاء الذي لوَّنه لفحُ زمهرير  الضياع . لم يدركوا معنى أنهم من تراب ، وأن كل البشر من تراب ، وهذه حقيقة تدعوهم للتنازل ــ إن صح القول ــ عن بهرج التعالي على الخلق ، فأكرم الناس أنفعهم للناس ، وأقرب المؤمنين بالله من مجلس رسوله صلى الله عليه وسلم  في جنة الخلد هـم أحسنهم أخلاقا ، فماذا يحمل هؤلاء من أوسمة الأخلاق  المحمودة ، ومن شهادات الثناء ، أم أنهم يحملون يومئذ آثار  رجمهم ووجوم أنفسهم حيث باغتهم المصير المحتوم . من  بساتين الأخلاق الفاضلة يبدأ انطلاق الأريج العطر يملأ رحب الحياة المنشودة ، فتتنفسه أرواح أهل الفضل الذين لايرون من فضل لأحد على أحد . ولا يتعالون على أقرانهم الذي جُبلوا من نفس طينتهم . فسيد الخلق النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أثنى عليه ربُّه لحُسن أخلاقه ، وكان يقول : أنا عبد آكل كما يأكل العبد ، وأجلس كما يجلد العبد ، وقد أثَّر الحصير الذي كان ينام عليه على جسده الطاهر الشريف .  ولقد قيل : إن جهل الإنسان بمعنى كلمة إنسان وفحواها هو الذي أخرجه من دائرة الإنسانية فعاش وكأنه غير إنسان ! فالإنسانية تحتاج إلى تفعيل دور عناصرها التي ملكت على الفضلاء نعيم أنفسهم وسلامة قلوبهم ، ونفضوا أيديهم من كل الأهواء والضلالات والموبقات التي تلقي بأصحابها في مستنقعات الندامة مهما ملكوا من مال أو جاه أو سلطان . وتبقى الحقيقة الخالدة  حيَّة لاتشيخ ولا تموت ألا وهي : شرف الإنسانية بمعناها الذي آثرتْـه الحقب التاريخية لن تدنسه غوايات السفهاء في عصر من العصور  .

وسوم: العدد 908