حين يتحالفان

نبيل جلهوم

[email protected]

غربتى ..

آلام جسدى ..

يجتمعان ..

يتحالفان..

لم تكتفى الغربة بألمها الخاص

ألم فراق الأحبة  

نعم لم تكتفى بذلك

لتأتى بأصدقاء لها آخرون

أصدقاء الألم الجسدى

لقد اجتمعا سويا واتحدا دون خجل

والأغرب من اتحادهما أننى رأيتهما أمام ناظرى

يتصارعان بقوة ..

غربتى تريد أن تفوز بأكبر قسط من ألم نفسى وقلبى وروحى

وآلام جسدى النحيل تريد أن تتفوق على آلام غربتى

جعلونى بينهما حقلا للتجارب والتصارع

غربة كل لحظة تفتك بقلوبنا حين أبعدتنا عن أحبة

باعدت بيننا وبينهم، هؤلاء من كنا بهم نأنس ومعهم نتسامر

فتخف الآلام وتتجدد الآمال

غربة تزيدك غربة حين لاتجد من يمسك بيدك

يمسح دمعتك

يجهز طعامك

يشير عليك وعليه تشير

غربة فى النفس قبل أن تكون غربة فى الوطن

فغربة الوطن تهون

أما غربة الأنفس والأحبة لاتهون

ثم يأتى الدور على نوع آخر من الألم

فالآلام الأخرى هذه المرة كانت أسنانى الصغيرة

خَلْقُ من خلق الله صغير

أخذتْ تضرب وتعصف بنا هنا وهناك

يمنة ويسرة

أعلى وأسفل

غريب ..

أن تنهار أعصاب الأسنان فى آن واحد

وفى أكثر من مكان

من شرق الفم الى غربه

وكأنهم قد اتحدوا عليك

يريدون الموت لك  

ظل غرب الفم يعصف بالألم من ناحية

ثم يلاحقه شرقه من الناحية الأخرى

حارت عقولنا وتِهنا والطبيب معا فى رحلة بحث طويلة

أى الأسنان تحديدا هو الذى تلف عصبه وظهر ألمه

يصعد الطبيب بآلته وكأنها محراث

يتحرك فى فمى فوقا ثم تحتا

يُشرّق ويُغرّب فى ساحة فمى وكأنه ملعب

وكأنه فى تمرين رياضى يريد أن يخرج منه بحالة إحماء جيدة

ثم يكتشف بقدرة ربه مكان الألم

وبعد رحلة من المخدر الكثير

يبدو أن الجسد النحيل قد استعصى على أن يتأثر بها

كان من الغريب جدا أن يكون تأثير المخدر ضعيفا

فلم يجد الطبيب مفرا من أن يزيد جرعة المخدر

خاصة أننى كنت أتألم بين يديه على مشرحة الخلع والتركيب

وصار العبد الضعيف المسكين 

يعتصر من ألمه ويأن كالطفل الرضيع

الذى يبحث عن ثدى أمه فلا يجده

يريد أن يرتشف منه رضعة ولو قليلة بعد بعد وحرمان

من حنانها، من عاطفتها، من أحاسيسها

رضعهة تبث فيه النشاط وتبعث فيه الأمل

تلك التى حين يتناولها يسكن ويهدأ ويستقر

يشعر أنه رجل وليس طفلا ..

يشعر وكأنه يعيش فى كوكب غير الأرض وقتها

ندخل والطبيب فى رحلة جديدة

رحلة خلع الأسنان واستئصالها من جذورها

بعدما عجز هو عن معالجة أعصابها

وأيقنت أنا أنه لابديل من الاستئصال

فرحنا والطبيب فى ساعة كاملة

لا السنّ يريد أن ينخلع

و لا الألم يريد أن يتوقف

ولا المخدر يريد أن يتفاعل ويؤثر

ولا الدماء تريد أن تتوقف ..

وكأنها مجزرة أُريدت بى على مشرحة الخلع والتركيب

رباه رحماك ..

صار الطبيب فى حيرة من أمره

تارة يقول: غريب حالك ياسيدى

وأخرى يقول: معقول كل هذا المخدر ولن يفلح معك

هنا لم يجد الطبيب سوى أن يقوم بعملية شبة جراحية

لم يجد سوى كسر السن الى نصفين

 بعدما استعصى عليه اسئتصاله كاملا

وقتها وطول الفترة  كنت أشير بالسبابة اليمنى

أتشهد دون كلام ودون أن تتحرك الشفتان بالشهادتين.

فتحرّك الشفتان هنا لايصلح حتى لا تصيبهما آلات الجرّاح

قلت لعل الموت يأتينى فتفيض روحى

أو يغيّبنى المخدر فتكون سبّابتى مع الله توحده

رحت فى دوامة أكبر

وطرقت باب الله بقوة

تذكرت وجوب إحسان الظن فيه

فرفعت الأكف

وارتعشت يدى

وأنا على سرير الخلع المرعب

أو إن شأت فقل مشرحة الموتى

يارب يارب يارب

كررتها ثلاثا

لثقتى أن ربى سيرد على: لبيك عبدى

نعم لبّانى ربى فورا

بدأت الأمور فى الخلع تسهل شيئا قليلا

الطبيب يطمئننى أن السن بدأ فى التحرك فاهدأ قليلا

خلع الطبيب النصف الأول من السن

ثم بعدها حاول فى النصف الثانى فلم يفلح

تحركت إبرة المخدر مرة أخرى قد تكون الرابعة

لا أدرى قد تكون الخامسة لا أدرى ...

تحركتْ نحو فمى بشكلها المرعب المخيف

 ماهذا ؟ أّهو ملك الموت يريد أن يقبضنى

فلم أجد سوى أن أكرر ندائى الى ربى

لينخلع بعدها النصف الثانى

تشهدتُ ..

أشهد ان لا اله الا الله

وان محمد رسول الله

دماء غزيرة تتساقط.

دوار لم أتمالك نفسى معه ..

أجلسنى الطبيب بيديه مشكورا ..

فقد كان ذو دين وصاحب خلق ..

لأخرج من غرفته

وكأننى قد خرجت من غرفة تعذيب

كنت أقع فيها تحت يدى الطبيب..

أيقنت وتعلمت دروسا تربوية من تلك المُحينة الصغيرة:

أن الإنسان مهما كان قويا فهو فى حقيقته  ضعيف  

أن الإنسان كم هو بأمس الحاجة الدائمة لربه ولمعيته ..

أن الإنسان فى أحلك ظروفه لا ييأس ..

فلا هو يتوقف عن إحسان الظن بربه

ولا هو يتوقف عن الدعاء لربه

ولا هو ينزع فتيل الأمل من ربه

الذكر وقت المحنة يهون على صاحبه ويخفف ألمه

أن الذاكر يعطيه الله مالايعطيه السائل يكفيك قول : يارب

أن ضعفك يجب أن تقويه بقوة من ربك 

حقا ..

ما أضعف صاحب السطور ..

بل ما أضعفك ياكل بُنى آدم .

استقو بربك وقت الألم

وكل وقت واستعن به والجأ اليه

أحسن فيه الظن وقل دوما يارب

حين يجد الله صدق توجهك اليه

لكن يتخلى عنك

ووقتها سيهبط عليك فرجه وستتنزل عليك رحمته

أخيرا ،،

أقول لغربتى و آلام جسدى  ..

رجاء ثم رجاء ..

 بعد اليوم لا تجتمعان علىّ، لا تتحالفان علىّ ..

فكفاكم ضعفى.

فالراحمون يرحمهم الرحمن.