الخاطرة 158 : الخداع البصري وضعف البصيرة

خواطر من الكون المجاور

الله عزوجل وهب اﻹنسان عينين ، هذا الرقم ( إثنان ) ليس صدفة ولكن حكمة إلهية لها معنى أنه يوجد نوعين من اﻹدراك : اﻹدراك المادي واﻹدراك الروحي ، ولهذا السبب ظهرت عبر مراحل تطور اﻹنسانية قسمين من العلوم ، علوم مادية تدرس مادية اﻷشياء واﻷحداث ، وعلوم روحية تدرس روحية اﻷشياء واﻷحداث. وحتى نصل إلى حقيقة الشيء والحدث علينا توحيد النوعين من اﻹدراك لنحصل على الإدراك الشامل. ولتوضيح ضرورة التعاون بين النوعين من اﻹدراك لحمايته من الخطأ سنحاول شرح هذا الموضوع عبر ضرب اﻷمثلة :

بشكل عام اﻹنسان يدرك ما يجري حوله بحواسه الخمس ( البصر ، السمع ، الشم ،اللمس ، الطعم ) ، ومدى صحة إدراكه للأشياء من حوله يتوقف في اﻷخير على شدة وعيه لحقيقة كل ما يتعلق بالشيء أو الحدث الذي يراه أو الذي يبحث فيه .

أفضل مثال يوضح أخطاء اﻹنسان في اﻹدراك هو إختلاف حجم القمر في السماء.

فإذا تأملنا القمر وهو بدر ( كامل ) نلاحظ أنه حين يتواجد قريبا من خط اﻷفق يكون كبير الحجم ، وحين يعلو قبة السماء يصبح حجمه أصغر ، ولكن علماء الفلك ، يعارضون هذا اﻹدراك ، فالقمر بالنسبة لهم هو كرة حجرية ثابتة الحجم لا تتبدل ، وأن بعد القمر عن اﻷرض في اليوم الواحد هو ثابت أيضا لا يتغير ، وأن ما تراه العين هو خطأ في اﻹدراك ، فحجم القمر هو ثابت سواء كان قرب اﻷفق أو في أعالي السماء ، وإذا ما صورنا القمر قريبا من اﻷفق ، ثم صورناه ثانية وهو في أعلى السماء ، وقسنا قطر دائرته في الصورتين لوجدناهما متساويتين ، فإدراك علماء الفلك ( اﻹدراك المادي ) في هذه الحالة هو الصحيح أما إدراكهم الروحي فهو على خطأ.

وتفسير سبب هذا الخطأ هو أن عين الناظر إلى القمر وهو قريب من خط اﻷفق تبصر أيضا أشياء أخرى كاﻷبنية والطرق والجبال ، وهذه اﻷشياء تحول البصر إلى رؤية منظورية أي ( زيادة صغر الشيء المرئي كلما إزداد بعده عن العين ). وهذا ما يجعل اﻹنسان يشعر بأن القمر عندما يكون قريب من خط اﻷفق بأنه يتواجد في مكان بعيد جدا ، أما حين يكون القمر في أعالي السماء ، فإن عين اﻹنسان تراه هو وحده فقط ، فتشعر العين كأن القمر يتواجد في مكان قريب. العين هنا تشعر وكأنها تبصر في مشهد واحد دائرتين لهما المساحة نفسها ، ولكن بسبب وجود الدائرة اﻷولى قرب خط اﻷفق ،أي في مكان بعيد ، أما الدائرة الثانية فتوجد في مكان بعيد ، لذا ترى الدائرة البعيدة أكبر من الدائرة القريبة حسب قانون المنظور. ( كما توضح الصورة حيث دائرة القمر تبدو أكبر من دائرة إشارة المرور الحمراء stop رغم أن الدائرتين متساويتين في الحجم) .

في الحقيقة أن القمر هنا موجود في صورة منفصلة عن الصور اﻷرضية بما تحتويه من أبنية وطرق وجبال كما ذكرنا ، وهي ممتدة عشرات الكيلو مترات وتتبع قانون المنظور بينما القمر يقع على بعد مئات الألوف من الكيلو مترات ، وقانون المنظور هنا لا ينطبق عليه ، ﻷنه في حالة منفصلة عن الصورة اﻷرضية.

هناك سبب آخر أيضا يساعد على هذا اﻷحساس وهو سماكة الغلاف الجوي التي نرى من خلالها القمر حيث أن القمر أثناء وجوده قريبا من اﻷفق تكون سماكة الغلاف الجوي كبيرة جدا وبما أن الغلاف الجوي يحوي على غبار وشوائب أخرى لذلك هذه اﻷشياء تجعل القمر يبدو باهت اللون ، أما عندما يتواجد القمر في أعالي السماء فتكون سماكة الغلاف الجوي صغيرة فيبدو لون القمر أكثر صفاء ، وهذا يجعل شعور الناظر أن القمر القريب من خط اﻷفق أبعد من القمر في أعالي السماء بسبب لونه الباهت، تماما كما يحدث مع الجبال فالجبال القريبة نراها بألوان غامقة وكلما بعدت أصبح لونها باهتا أكثر.

إذا ذهبنا إلى مواضيع (الخداع البصري ) في اﻹنترنت سنجد أمثلة عديدة عن حالات الخداع البصري أو بشكل عام عن الخداع في اﻹدراك ، ولكن ما يهمنا هنا هو ( لماذا تحدث هذه الحالات من الخداع أو بشكل آخر لماذا خلق الله اﻹنسان بهذا التكوين الذي يصاب بعض اﻷحيان بنوع من الخداع البصري ؟) . للإجابة على هذا السؤال ولفهم الحكمة اﻹلهية في طبيعة تكوين اﻹنسان ، سنعرض هذا المثال البسيط :

علماء النفس كثيرا ما يستخدمون تجربة خطي ( MULER - LYER) ﻹيضاح أخطاء اﻹدراك ، لننظر جيدا إلى الشكل في الصورة المرفقة ، ونحاول اﻹجابة على هذا السؤال : أي الخطين هو اﻷطول الخط اﻷحمر أم الخط اﻷزرق ؟

الجواب : يبدو للعين المجردة أن الخط اﻷزرق أطول من الخط اﻷحمر بوضوح ، ولكن بالنسبة لعلماء العلوم المادية والذين يفضلون تقديم اﻹجابة الصحيحة والدقيقة ، ولذلك نجدهم يطورون باستمرار أجهزة القياسات المختلفة ، فهنا نجدهم يستعينون بالمسطرة لقياس الخطين ، ليكتشفوا أن الخطين لهما نفس الطول وأن إدراك العين في هذه الحالة على خطأ، ولهذا السبب تستخدم هذه التجربة ﻹثبات وقوع اﻹدراك في الخطأ.

والسؤال هنا : أي إجابة هي الصحيحة ، ما تراه العين أم ما تقيسه المسطرة ؟

الجواب هو : ما تشعر به العين هو الصواب ، أما ما تقيسه المسطرة فهو الخاطئ ، فهنا لا يوجد خطأ في اﻹدراك أو خداع البصر ، ﻷن القياس بالمسطرة يرى صفة واحدة وهي أطوال الخطين ، بينما عين اﻹنسان ترى صفتين : اﻷولى وهي أطوال الخطين والثانية الزاوية التي يصنعها الخط اﻷحمر مع الخط اﻷسود وكذلك الخط اﻷزرق مع الخط اﻷسود ، فوجود الزاوية في كل من طرفي الخط يعطي بعدا جديدا هو العمق أي بعد الخط عن عين المشاهد، حيث أن زاوية الخط اﻷزرق المنفرجة أعطت إحساسا للمشاهد بأن الخط بعيدا عن عينه ، أما زاوية الخط اﻷحمر الحادة تعطي إحساس للمشاهد بأن الخط قريب من عينه ، وما دام للخطين الطول نفسه والخط اﻷزرق موجود في مكان بعيد ، لذلك فهو أكبر من الخط اﻷحمر الموجود قريبا من العين ، فالمشاهد في الحقيقة هنا يرى رقمين رقم طول الخط ورقم الزاوية ، أي في الخط اﻷزرق يرى طول الخط مثلا ( 5 سم ) والزاوية (135) درجة ، أما في الخط اﻷحمر فيرى طول الخط ( 5 سم ) وزاوية (45 ) درجة . حيث أن الرقمين ( 5 و 135) أكبر من الرقمين ( 5 و 45 ) تماما كما تشعر العين . أما القياس بالمسطرة فهو يقيس رقم واحد لذلك فمن الخطأ إستخدامها هنا.

لتوضيح هذه الفكرة أكثر سنعطي مثالا من الكتب المقدسة ، سفر التكوين يروي أن ( لامك ) والد نوح عاش 777 عاما، أما سفر التكوين في النسخة السبعينية فهو يذكر أنه عاش 753 عاما ، إن النظر باﻹدراك المادي ( كما فعلنا في المثال السابق ) سيعطينا نتيجة معناها أنه هناك تناقض بين السفرين ، فالعدد 777 أكبر من العدد 753 بفارق 24 عاما وهذا يعني أن أحد الكتابين محرف ، ولذا فدراسة الكتب المقدسة باﻹدراك المادي يدفع الباحث إلى التعصب أو اﻹنحياز ، فيختار الكتاب الذي يؤمن به شعبه ، أما الكتاب اﻵخر فسيعتبره كاذبا ، إلا أن هذا التعصب سيدفع به إلى التفكير والتبصر شيئا فشيئا بالمنطق المادي بتعمق أكبر ليصل إلى حد التساؤل بينه وبين نفسه : ( هل من المعقول أن يحيا المرء 777 عاما ؟ ما هذه الخرافة ؟ ) لينتهي به التفكير إلى إنكار كلا الكتابين والتخلي عنهما وفي اﻷخير سيصل إلى اﻹلحاد وإنكار وجود الله.

ولكن إذا نظرنا إلى السفرين كما فعلنا في التجربة السابقة ، أي باستخدام اﻹدراك الشامل سنفكر بأن شعوب العالم تستخدم تقويما مغايرا فيما بينها فمنهم من يعتمد التقويم الشمسي ومنهم التقويم القمري ،وسنلاحظ أن النسخة السبعينية هي النسخة اليونانية أي أنها النسخة التي كتبت للشعب اليوناني أو الشعوب الغربية بشكل عام ، وكما هو معروف أن الشعوب الغربية تستخدم التقويم الشمسي ، فإذا أجرينا حسابنا سنجد أن : (777 سنة قمرية تعادل 753 سنة شمسية ) .أي لا يوجد تناقض بين الكتابين ، وهنا الباحث بدلا من أن ينكر صحة هذه اﻷرقام ليصل في النهاية إلى اﻹلحاد، سيحاول أن يبحث عن الحكمة اﻹلهية في هذا اﻹختلاف : لماذا أوحى الله للشخص اﻷول أن يستخدم التقويم القمري ويذكر الرقم 777 وللثاني أن يستخدم التقويم الشمسي ويذكر الرقم 753 ؟

عندما يتعمق الباحث في دراسة هذا الموضوع سيجد أن تاريخ اليونان القديمة بشكله الكلاسيكي يبدأ عام 777 قبل الميلاد عندما قرر الملك إفيتوس ملك مقاطعة إلياذا في اليونان أن يقيم المباريات اﻷولمبية لينقذ المقاطعات اليونانية التي كانت تعاني من الحروب اﻷهلية والفساد واﻷمراض لتبدأ بلاد اليونان مرحلة جديدة في تاريخها حيث عام 776 بدأت أول مباريات اﻷلعاب اﻷولمبية بشكلها الكلاسيكي. وسيجد الباحث أيضا أن الإمبرطورية الرومانية يبدأ تاريخها عام 753 قبل الميلاد عندما تم تأسيس روما على يد أخوين توأم رومولوس ورموس. وكما هو معروف أن الشعب اليوناني والشعب اﻹيطالي كليهما يحملان إسم روم ، وقد تم ذكر هذا اﻹسم في القرآن الكريم ( سورة الروم ) ، هذا التطابق في اﻷرقام وأيضا وضع سورة الروم قبل سورة لقمان مباشرة ليس صدفة ولكن حكمة إلهية ، فما علاقة الروم بقصة لامك ( والد نوح ) المذكورة في سفر التكوين. وهل لامك هو شخصية واقعية أم أنه شخصية رمزية تعبر عن الجزء المادي في تكوين اﻹنسانية ؟

لنعطي مثالا آخر من القرآن الكريم ، إسم النبي إبراهيم عليه الصلاة والسلام في جميع سور القرآن الكريم - ما عدا سورة البقرة - نجده مكتوب بالشكل (إبرهيم) فقط في سورة البقرة نجده مكتوب بالشكل ( إبرهم ) أي بدون حرف الياء ، إذا نظر الباحث إلى هذا الفرق باﻹدراك المادي ، سيخرج بنتيجة لها معنى أنه يوجد خطأ إملائي بكتابة إسم إبراهيم في سورة البقرة ، ولكن من يبحث باﻹدراك الشامل سيجد أن سفر التكوين في اﻹصحاح 17 يذكر أن بأن الله أخبر إبراهيم بأن إسمه سيتغير من ( أبرام ) إلى ( إبرهيم ) ومعناه أبو الشعوب.

هنا الباحث سيتساءل ماهي الحكمة اﻹلهية من تغيير إسم إبراهيم من أبرام إلى إبراهيم في سفر التكوين؟ ولماذا وضع الله هذا التغيير في سورة البقرة بالذات.

إن اﻹستمرار بالبحث في سبب الإختلاف بين الرقمين 777 و 753 وكذلك سبب اﻹختلاف بين إسم ابرهم وإسم إبرهيم يساعدنا على فهم المعاني الروحية لكثير من القصص المذكورة في الكتب المقدسة ، وعلاقتها في تفسير تطور الحياة واﻹنسان على سطح اﻷرض ، فاستخدام اﻹدراك الشامل يفتح مجالات عديدة للبحث و يساعدنا في التعمق في اﻷمور أكثر فأكثر ويدفعنا إلى اﻹستمرار في متابعة البحث حتى نصل إلى مضمون اﻷشياء واﻷحداث هناك حيث تكمن حقيقة سبب وجود هذه اﻷشياء واﻷحداث من حولنا وعلاقتها بتكويننا وتطورنا.

أما إستخدام اﻹدراك المادي كما يحصل في العصر الحديث الذي يعتمد فقط على العلوم المادية ، فهو يضع سدا أمام فكر اﻹنسان ليصل به في اﻷخير إلى إنكار صحة أحداث الكتب المقدسة وبالتالي إنكار وجود الله أو اﻹيمان به. فليس من الصدفة أنه في السنوات اﻷخيرة نجد أن عدد الملحدين يزداد بإستمرار وفي جميع شعوب العالم بلا إستثناء، فازدياد عدد الملحدين ليس إلا علامة تؤكد أن علماء عصرنا يعانون من نقص في اﻹدراك لما يجري في دولهم ، أو بمعنى آخر علماء عصرنا يعانون من ضعف البصيرة لذلك معظمهم لا يؤمنون بوجود الله.

( إن شاء الله في مقالات قادمة سنشرح سبب ذكر الرقمين 777 و753 وكذلك سبب ذكر إسم إبراهيم في سورة البقرة بالشكل إبرهم بدون حرف الياء).

وسوم: العدد 751