الخاطرة 161 : روحانية الزمن

خواطر من الكون المجاور

قبل أيام قليلة إنتهى عام ٢٠١٧ ودخلت الإنسانية في عام جديد ، و في اليوم الأول من العام الجديد ربما فكر البعض في داخله بأن عاما آخر مضى من حياته ، وربما شعر البعض بنوع من خيبة الأمل من نفسه لأنه وصل إلى سنِّه هذه ولم يحقق شيئا يذكر من أحلامه، والبعض ربما تساءل بأنه حتى هذه اللحظة لم يحل مشاكله التي لها سنوات ، والبعض الآخر فكر أن العمر يمر وأحواله تسير من السيء إلى الأسوأ كما يحدث بأوضاع الإنسانية عادة في الفترة الأخيرة . وفئة أخرى ربما فكرت بأنها قد وصلت إلى سن الخدمة العسكرية، وآخرون ربما وصلوا إلى سن التقاعد ، والبعض قد وصل إلى سن الزواج .... مهما كانت أحوالنا فإن تغيير رقم تاريخ العام سيعطينا شعور عن جريان الزمن وجريان الزمن هذا سيكون له تأثير على نفسية كل إنسان سواء كان تأثيراّ سلبياً أو إيجابياً فحجم ونوع هذا التأثير يختلف من إنسان إلى آخر وذلك حسب نفسيته وحسب حالته.

إذا سؤالنا، ما هو الزمن؟ ربما في البداية نظن بأنه سؤال بسيط والإجابة عليه سهل جدا ، ولكن عندما نفكر في هذا السؤال نجد أنفسنا أننا كلما تعمقنا في تفكيرنا سيبدو لنا أن مفهوم الزمن أعمق بكثير مما تخيلناه في اللحظات الأولى ، وإذا بحثنا في آراء العلماء والفلاسفة على مر التاريخ عن مفهوم الزمن ، سنجد أن مفهوم الزمن فعلا بالغ التعقيد ، ولا يوجد حتى الآن تعريف قطعي يبين لنا بوضوح المعنى الشامل للزمن ، فهناك العديد من التفسيرات والنظريات تحاول كشف ماهيته ، ورغم محاولات العديد من الفلاسفة مقاربة مفهوم الزمن على مدى التاريخ ولكن مازال مفهوم الزمن لغز غامض يعجز فكر الإنسان في إيجاد تعريف شامل يرضي الجميع. فكما يقول الفيلسوف ابو الحيان التوحيدي عن البحث في مفهوم الزمن ( إنه فن ينشف الريق، ويضرع الخد، ويجيش النفس، ويقيء المبطان ، ويفضح المدعي ، ويبعث على الإعتراف بالتقصير والعجز ) .

الزمن كمفهوم عام مبسط عند معظم الفلاسفة القدماء كان له المعنى الذي عبر عنه الفيلسوف الإغريقي هيراقليطس الذي شبه الزمن بالنهر الذي يتجدد ماءه باستمرار ( لا يستطيع المرء أن يستحم في نفس ماء النهر مرتين ، لأن مياهاً جديدة تجري به بشكل مستمر ).الزمن بالنسبة للقدماء كان مثل النهر مياهه تسير بشكل دائم نحو المستقبل إلى اللانهاية ،فاليوم يبدأ بالصباح وبعد الصباح يأتي الظهر وبعد الظهر يأتي العصر وبعد العصر يأتي المساء وهكذا، وبعد يوم الأحد يأتي يوم الإثنين وبعد يوم الإثنين يأتي يوم الثلاثاء وبعده الأربعاء ..وهكذا ..والشتاء يأتي بعده الربيع ثم الخريف ثم الصيف ، وعام ال٢٠٠٠ يأتي بعده عام ٢٠٠١ وبعده٢٠٠٢ ثم ٢٠٠٣ وهكذا....

الزمن يسير إلى الأمام بشكل مستمر هكذا كان مفهوم الزمن .. ولكن في عام ١٩٠٥ ظهرت النظرية النسبية لألبرت أينشتاين وحطمت هذا المفهوم، الزمن في هذه النظرية غير ثابت وهو يختلف من مكان إلى آخر ، فالزمن يمكن أن يتباطئ أو يمكن أيضا أن يتوقف . والزمن حسب هذه النظرية ليس وحدة مستقلة ولكنه مرتبط بأبعاد المكان ( الطول والعرض والإرتفاع ) ، فهو يشكل البعد الرابع ، ومن هذه النظرية ظهر المصطلح العلمي (الزمكان ) ، ويعني الزمان والمكان ، هذا المفهوم الجديد للزمن في ذلك الوقت أحدث ضجة في الأوساط العلمية ، وقد قوبل بالرفض في البداية ولكن التجارب الفيزيائية فيما بعد أكدت أنه فعلا عقارب الساعة تتباطئ مع زيادة السرعة أو مع زيادة الجاذبية ، فقد أظهرت التجارب أن الزمن يختلف حسب المكان، فالساعة الموجودة بمكان منخفض - على الشاطئ مثلا- تكون حركة عقاربها أبطأ من حركة عقارب الساعة الموجودة على قمة جبال إيفرست ، لأن الجاذبية الأرضية على الشاطئ أكبر من الجاذبية على قمة الجبال، فإزدياد الجاذبية الأرضية يؤدي إلى تباطؤ حركة عقارب الساعة ، أيضا التجارب أثبتت أن الساعة الموجودة في مكان يتحرك فإن حركة عقارب الساعة تتباطئ كلما زادت السرعة ، وعندما تصل السرعة إلى سرعة الضوء عندها تتوقف عقارب الساعة ويتوقف الزمن.

هذه التجارب دفعت الكثير من العلماء إلى تقبل النظرية النسبية وأصبحت من أكبر وأهم نظريات العصر الحديث على الإطلاق ، وهكذا مع تقبل العلماء للنظرية النسبية، تغيير مفهوم الزمن في فكر الكثير من الناس ، وبعد أن كان للأشياء نوعان من الوجود وجود مادي ووجود روحي أصبح للأشياء وجود واحد وهو الوجود المادي لأن الزمن أصبح جزء من الوجود المادي فالزمن حسب النظرية النسبية -كما ذكرنا- هو البعد الرابع للأشياء ، فكل شيء له أربعة أبعاد وهي الطول والعرض والإرتفاع والزمن ومجموع هذه الأبعاد هي ( زمكان ) هذا الشيء.

حتى نفهم ما هو المقصود من هذه الفكرة بشكل أوضح سنذكر هذا المثال البسيط الذي يستخدمه الكثير من العلماء لشرح المصطلح العلمي ( الزمكان ) :

الإنسان مثلا يتألف من جسد له ثلاثة أبعاد وهي الطول(وهو المسافة بين أخمص القدمين حتى قمة الرأس) والعرض(المسافة بين المنكبين ) والسماكة أي السمنة ( المسافة الجانبية للجسم) ، ولكن عدا عن هذه الأبعاد هناك بعد رابع وهو الزمن أي عمر الإنسان ، فقد يكون الأب والإبن لهما نفس مقاييس الجسم ،نفس الطول ، نفس العرض ،نفس السمنة ، ولكنهما يختلفان في البعد الرابع وهو الزمن أي العمر، فعمر الأب قد يكون خمسين عاما بينما عمر الإبن إثنان وعشرين. فعذه الأبعاد الأربعة هي زمكان كل إنسان ، أي أنها تصف الجسم بدقة من حيث الحجم (المكان) والعمر (الزمان ) .

هذا المثال قد يقنعنا بصحة مبدأ مفهوم الزمن في النظرية النسبية وأن جسد الإنسان فعلا له بعد رابع وهو الزمن ، ولكن هنا سنعرض مثال آخر مشابه :

نادية فتاة طولها ١٣٠ سم ، وعرضها ٣٥ سم ، وسمنة جسدها ٢٥ سم ، وعمرها ١١ عام ، أيضا يوسف هو صبي له نفس الأبعاد الأربعة بالضبط ( ١٣٠، ٣٥، ٢٥، ١١ ) ، ولكن رغم تطابق الأبعاد الأربعة ، هناك فرق كبير بينهما فنادية كونها فتاة فهي قد دخلت في مرحلة المراهقة منذ عام تقريبا ، وأعضائها التناسلية قد بدأت في النشاط ، بينما يوسف الذي له نفس العمر ونفس الأبعاد وكونه صبي فهو لا يزال طفلاً وأعضاءه التناسلية بالنسبة له كإحساس غير موجودة لأنها لم تدخل في نشاطها بعد، فالفتيات مثل نادية في الماضي كانت تتزوج وتحمل وتنجب أطفال ، بينما صبيان بمثل سن يوسف لا يمكنهم أن ينجبوا أطفالا ، لأنهم لم يبلغوا بعد. فهناك فرق حيوي شاسع بين نادية ويوسف رغم أن كلاهما يملكان نفس الأبعاد الأربعة .

فإذا طبقنا المبدأ الذي اعتمدنا عليه في المثال الأول على المثال الثاني فهذا يعني أنه جسد الإنسان عدا الأبعاد الأربعة هناك بعد خامس وهو الجنس، وبناء عليه فإن كل نوعية من الإختلاف يمكن حسابها بعد آخر ، فالعرق أيضا يمكن إعتباره البعد السادس ، وكذلك شدة الذكاء هو البعد السابع ، و القوة الجسدية هي البعد الثامن ...وهكذا كل صفة يمكن أن تشكل نوع من الإختلاف يمكننا أن نعتبرها بعدا.. فنحصل في النتيجة ان الإنسان له عشرات الأبعاد، وهذا ما حصل تماما بعد سنوات من ظهور النظرية النسبية ، حيث ظهرت نظرية جديدة تقول أن الكون له /٥/ أبعاد ، وبعدها بسنوات ظهرت نظرية جديدة تقول أن أبعاد الكون هي /١١/ بعداً ، ووصلت أبعاد الكون حسب بعض علماء الفيزياء حتى اليوم إلى /٢١/بعد. ومن هذه الآراء ظهرت نظرية تعدد الأكوان . فحسب هذه النظرية هناك أكوان آخرى حول كوننا فطالما أنه يوجد مجموعات شمسية غير مجموعتنا ، ومجرات غير مجرتنا ، فهناك إحتمال كبير أن يوجد أكوان أخرى غير كوننا .

خلاصة الحديث : النظرية النسبية لأينشتاين رغم أنها ساهمت في فهم بعد الظواهر الفلكية لكنها قد جردت الوجود من طبيعته الروحية وحولته إلى وجود مادي كمي وليس نوعي وفصلته نهائيا عن الوجود الإنساني ، حيث أصبح الزمن وكأنه خط نستطيع أن نطويه لننتقل فيه من زمن إلى زمن آخر ، فالزمن أصبح مثله مثل بقية الأبعاد ، فطالما في بعد الطول نستطيع التحرك إلى الأمام وإلى الوراء ، وكذلك في بعد العرض أيضا نستطيع التحرك إلى اليمين وإلى اليسار ، وفي بعد الإرتفاع نستطيع التحرك إلى الأعلى وإلى الأسفل ، أيضا الأمر ينطبق تماما على البعد الرابع الزمن فيمكننا التحرك فيه أيضا إلى الماضي وإلى المستقبل، وهكذا أصبحت فكرة السفر عبر الزمن وكأنها شيء سهل وبسيط يمكن تحقيقه في المستقبل القريب ،فالمسألة تحتاج فقط تطور تكنولوجي لنستطيع إختراع آلة الزمن التي ستنقلنا إلى الماضي أو إلى المستقبل.

للأسف هناك كثير من العلماء أستطاعوا أن يحصلوا على شهادات عالية في العلوم المادية كالطب والهندسة والفيزياء وغيرها وحاولوا أن يستغلوا معارفهم هذه في خدمة الدين ، فنظروا إلى الكثير من النظريات الحديثة على أنها صحيحة وراحوا وحاولوا تفسير آيات الكتب المقدسة بناءً على هذه النظريات العلمية دون أن يتأكدوا من المضمون الحقيقي التي تحمله هذه النظريات في داخلها ، وهذا ما دفع إلى تشويه الديانات وتحريف معاني آيات الكتب المقدسة ، فأصبحت هذه الكتب عديمة الفائدة ليس لها قدرة في مساعدة الإنسانية في وقف الإنحطاط الروحي الذي تعيشه شعوب العالم اليوم بأكملها والذي يسير باستمرار من السيء إلى الأسوأ . إحدى هذه النظريات التي ساهمت في زيادة الإنحطاط الروحي هي النظرية النسبية التي حولت الزمن إلى بعد رابع بجانب الأبعاد الثلاثة للمكان ، فللأسف كثير من أولئك العلماء الذين رحبوا بالنظرية النسبية لم يعلموا أن فكرة تحول الزمن إلى بعد رابع تحمل في داخلها معنى الشرك بالله ، فنجد أنه في الفترة الأخيرة أن الكثير من علماء قد هجروا الدين ، وهذا لم يحدث صدفة ، فهناك الكثير من النظريات العلمية الحديثة ساهمت في تحطيم الإحساس الروحي للأشياء والأحداث في نفوس هؤلاء العلماء، من هذه الأراء التي ساهمت في زيادة نسبة الملحدين في العالم هي تحول الزمن إلى بعد رابع للمكان، أينشتاين نفسه الذي كان في شبابه يؤكد على وجود الله ، في آخر حياته نجده قد أصبح ملحدا يسخر من قصص الكتب المقدسة ( قصص الأنبياء) ويعتبرها خرافية ولا تصلح إلا للعقول البسيطة الساذجة.

من المعروف أن العرب كان شأنها أن تسب الدهر كلما حدثت مصيبة أو كارثة أو وفاة شخص حبيب ، فكانوا يقولون " يا خيبة الدهر " فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم " لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر ". فالزمن ليس بعدا رابع للمكان كما ظن أينشتاين ولكنه جزء من روح الله.

في المقالة القادمة إن شاء الله سنشرح تطور نوعية الإحساس بالزمن عبر تاريخ البشرية وكذلك سنذكر الأحداث الرمزية المذكورة في الكتب المقدسة التي توضح لنا الجانب الروحي لمفهوم الزمن وما هو المقصود ب(الدهر) الذي يذكره الحديث الشريف .

وسوم: العدد 756