في ظلال القرآن

خطبة الجمعة 6/12/2013م

د. محمد سعيد حوى

وما زلنا معكم كيف نتفاعل مع القرآن .

وإن الإنسان ليعجز عن أن ينقل تلكم الحقائق إلى المسامع فضلاً عن القلوب، لأنها حياة.

لا يعرفها إلا من ذاقها وتذوقها لذلك نجد مثلاً سيد قطب رحمه الله(صاحب في ظلال القرآن) يقول : (الحياة في ظلال القرآن نعمة لا يعرقها إلا من ذاقها، نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه ، لقد عشت أسمع كلام الله سبحانه يتحدث إلي بهذا القرآن أنا العبد القليل الصغير، أي تكريم للإنسان هذا التكريم العلوي الجليل، أي رفعة يرفعها هذا التنزيل ، عشت في ظلال القرآن هادئ النفس مطمئن السرير قرير الضمير عشت أرى يدى الله في كل حادث وفي كل أمر، عشت في كنف الله ورعايته .

نعم المؤمن بالقرآن العظيم يسمو فوق الدنيا وسفاسفها، وفوق الجاهلية واهتماماتها الهزيلة الصغيرة، فتجد أهل الدنيا إذ يعبثون في حياتهم بعيداً عن القرآن بينما أهل القرآن يسمون به تماما كالفرق بين رجل عاقل راشد يمتلك بعض ما يمتلك ومقابله طفله يعبث ببعض ألعابه يظنها هي كل الدنيا، أهل القرآن ينظرون إلى أهل الدنيا كما ينظر الكبير إلى عبث الأطفال) من الظلال بتصرف واختصار,

 ولذلك عندما نقول نعيش مع القرآن وللقرآن فهذه الانتقالة وهذا التحقق لا يمكن أن يوفيه الكلام حقه ، ربما لو وقفنا مع بعض مواقف السيرة والصحابة ربما يستحضر القلب بعض هذا المقصود .

 

 

هذا عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ،قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم )) اقرأ عليّ))

فقلت: أقرأ عليك وعليك أنزل؟  فقال: إني أحب أن أسمعه عليّ من غيري.

قال: فقرأت سورة ((النساء)) حتى إذا بلغت ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً ﴾ [النساء: 41] قال: حسبك. فالتفت، فإذا عيناه تذرفان. البخاري: 2/692 ، ولنا أن نتستءل لماذا ذرفت عيناه ، وأي معانٍ قامت في قلبه صلى الله عليه وسلم.

وذكر عن عمر أنه قرأ: ﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ ،مَا لَهُ مِن دَافِعٍ ﴾ [الطور: 7- 8]

فربا منها ربوة (شهق) عيد( أي مرض فعادوه) منها عشرين يوماً.

محاسبة الصحابة أنفسهم:

ولما نزل قوله تعالى ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 284] 

اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم( لشدة حرصهم على التطبيق) ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ، فَقَالُوا: أَيْ رَسُولَ اللهِ، كُلِّفْنَا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ، الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْجِهَادَ وَالصَّدَقَةَ، وَقَدِ اُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الْآيَةُ وَلَا نُطِيقُهَا، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ بَلْ قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ "، قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ، فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ، ذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِي إِثْرِهَا (ثناء عليهم): {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285] ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلّ ببركة الطاعة بيانا منهَ: {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] "

تتدارس و تفاعل مع الآيات:

فهذا أبو الدرداء يتدارس مع أم الدرداء ﴿ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ،ثُمَّ الجَحِيمَ صَلُّوهُ ،ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ،إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ العَظِيمِ ،وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ ﴾ [الحاقة:30 - 34]

فيقول ابو الدرداء: أنقذنا أنفسنا من نصف جهنم بالإيمان فلننقذ انفسنا من النصف الآخر بالحض على طعام المسكين

تفاعل مع آيات الإنفاق:

لما نزلت ﴿ مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴾ [الحديد: 11]   قال أبو الدحداح: يا رسول الله! إنّ الله يريد منّا القرض؟

قال: نعم أيا أبا الدحداح؟

 قال: أرنا يدك.  

قال: فناوله يده.

قال: أقرضت ربي حائطي. وحائطه فيه ست مئة نخلة ، فجاء يمشي حتى أتى الحائط ، وأم الدحداح فيه وعيالها. فنادى: يا أم الدحداح!

قالت: لبيك!    قال: اخرجي، فقد أقرضته ربي.

}حياة الصحابة، للكاندهلويّ: 2/172{

ولما نزلت ﴿ لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 92] أخرج الشيخان، عن أنس قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله يدخلها ويشرب من ماء فيها طّيب.

قال أنس : فلما نزلت ﴿ لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ...﴾ [آل عمران: 92]  قام أبو طلحة إلى الرسول فقال: يا رسول الله! أنّ الله تعال يقول ﴿ لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ...﴾  وإن أحب أموالي إليّ بيرحاء، وإنها صدقة لله ، أرجو برها وذخرها عند الله ، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله.  قال : فقال رسول الله ((بخٍ !ذلك مال رابح)). وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين. فقال أبو طلحة: أفعل ، يا رسول الله. فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه0 (البخاري)

نعم إن الصحابة يبحثون كيف يتحققون بمقام الأبرار الذي طالما حدثتنا عنه الآيات

تفاعل واستجابة رغم الجراح:

فلما عاد المسلمون من أحد وندبهم رسول الله للخروج لملاحقة جيش المشركين لم يتخلف واحد منهم رغم جراحاتهم الشديدة حتى أثنى الله عليهم

﴿ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ القَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [آل عمران: 172]

تفاعل في التسامح والعفو كظم الغيظ:

وفي البخاري عن ابن عباس أن رجلاً استأذن على عمر فأذن له ،فقال له:

يا ابن الخطاب والله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل.

فغضب عمر حتى همّ أن يوُقِع به ، فقال الحر بن قيس:

يا أمير المؤمنين ، إنّ الله عز وجل قال لنبيه:

﴿ خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199]

وإن هذا من الجاهلين. فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه ، وكان وقافاً عند كتاب الله عز وجل.

أخلاق  أبي بكر في العفو والصفح والإنفاق والاستجابة لله

 وكان مسطح بن اثاثة ممن طعن في السيدة عائشة في حادثة الافك وكان فقيرا من المهاجرين ابن خالة ابي بكر الصديق ، أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} الآيَاتِ، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ: وَاللَّهِ لاَ أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ مَا قَالَ لِعَائِشَةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُوا الفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي القُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبـُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [النور: 22]

 فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي، فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ الَّذِي كَانَ يُجْرِي عَلَيْهِ.( صحيح البخاري)

ولذلك عندما كانت تقرأ السيدة عائشة قوله تعالى في وصف المتقين ﴿ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 134]   تقول لله در التقوى ما ترك لذي غيظ (ضفاء) أي إذا جنى عليهم أحد لم يؤاخذوه.

تفاعل الصحابة مع أوامر الله:

عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ قَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 219] الْآيَةَ، قَالَ: فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، قَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي فِي النِّسَاءِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] فَكَانَ مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ يُنَادِي: «أَلَا لَا يَقْرَبَنَّ الصَّلَاةَ سَكْرَانُ» ، فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ولما نزلت ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ،إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ﴾ [المائدة:90 - 91]

 قَالَ عُمَرُ: انْتَهَيْنَا ) سنن أبي داود / صحيح، وكذلك فعل الصحابة حتى أن بعض لربما رمى الكأس وكان على شفتيه؛ لما سمع بالآية.

ولما نزل قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ [الأحزاب: 59]

 تروي ام سلمة لما نزلت هذه الأية خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها. وروي نحو ذلك عن السيدة عائشة في الثناء على نساء الأنصار كيف امتثلن لأمر الله في دقة الحجاب وسرعة الامتثال.

عمر يلخص الموقف وآثار التفاعل:

لقد بلغ تفاعل المسلمين مع القرآن مبلغاً لذلك خطب عمر يوم استلم مفاتيح بيت المقدس (نحن قوم أعزنا الله بالإسلام وهدانا بالقرآن ورحمنا بمحمد  فهدانا به من الضلالة وجمعنا به من الشتات ، وألف بين قلوبنا ، ونصرنا على عدونا ، ومكن لنا في البلاد، وجعلنا به إخواناً.

وإياكم والعمل بالمعاصي وكفر النعمة ، فقلما كفر قوم بنعمة ولم ينزعوا إلى التوبة إلا سُلبوا عزهم ، وسُلط عليهم عدوهم...)

ويبقى السؤال مستمراً كيف نتفاعل مع القرآن؟

وماهي حقوق القرآن علينا ؟!