في ظلال الثقة بالله

مقدمة :

إن الثقة بالله هي خلاصة التوكل على الله ، وهي قمة التفويض إلى الله ، وهي الاطمئنان القلبي الذي لا يخالطه شك ، وهي التسليم المطلق للملك جل وعلا ، هي الاستسلام لله عز وجل.

محاور الخطبة :

1.  تعريف الثقة بالله.

2.  نماذج حية من الثقة بالله عز وجل.

3.  من مقتضيات الإيمان بالله تعالى الثقة به.

4.  أنواع الثقة بالله.

هدايات قرآنية :

1.       يقول الله تعالى : ( ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ )[آل عمران:102] : فالله تعالى أمرنا أن نتقيه كما أمر ، وأن نترك الفواحش ماظهر منها ومابطن.

2.       ويقول تعالى : ( وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ) [غافر: 44] : فالثقة بالله هي خلاصة التوكل على الله ، وهي قمة التفويض إلى الله ، وهي الاطمئنان القلبي الذي لا يخالطه شك.

3.       ويقول سبحانه وتعالى : ( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) [الملك:14] : فالثقة هي التسليم المطلق للملك جل وعلا، هي الاستسلام لله عز وجل ؛ فهو الأعلم بما يصلحنا ، وهو الأعلم بما ينفعنا وما يضرنا.

4.       ويقول عز وجل : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) [القصص:7] : فالثقة بالله تعالى هي التي شجّعت أم موسى ، إذ لولا ثقتها بربها لما ألقت ولدها وفلذة كبدها في تيار الماء تتلاعب به أمواجه ، وينطلق به الموج إلى ما شاء الله .

5.       لكن سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام أصبح في اليمّ في حماية الملك جلّ وعلا ورعايته ، وما كان جزاء هذه الثقة العظيمة ؟ قال تعالى : ( فرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُون ) [القصص:13].

6.       إن الثقة بالله قد ظهرت جليّة عندما انطلق موسى ومن معه من بني إسرائيل هاربًا من كيد فرعون ، وتبعهم فرعون وجنوده بغيًا ، لكن موسى الواثق بالله وبمعية الله أراد أن يبعد الخوف والهلع ويضع مكانه السكينه والطمأنينة ، فأجاب بلسان الواثق ( قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ) [الشعراء:62] ،

7.       فما كان جزاء هذه الثقة العظيمة ؟ جاء الفرج من الله جل وعلا: ( فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ) [الشعراء:63]. ونجّى الله موسى وبني إسرائيل من كيد فرعون.

8.       قال تعالى : ( إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) [التوبة:40].

9.       وفي غزوة الأحزاب نرى صورة المؤمنين الواثقين بربهم وبتأييده وعونه ، قال تعالى : ( وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ) [الأحزاب:22]

10.  وبقوله تعالى : ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) [آل عمران:173].

11.  وقال تعالى : ( وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْسًا وَلاَ رَهَقا ) [الجن:13] : فالإيمان بالله يقتضي أن يوقن العبد بأن هذا الكون وما فيه من أنواع القوى ما هي إلا مخلوقات مسخرة لله ، تجري بأمر الله وتتحرك بقضائه وقدره .

12.  الواثق بالله تراه دائمًا هادئ البال ساكن النفس ، إذا ادلهمت وزادت عليه الخطوب والمشاكل فهو يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، ولسان حاله كما قال تعالى : ( قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) [التوبة:51].

13.  قال تعالى : ( وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) [آل عمران:139] :
فعلى المسلمين أن يثقوا بأنفسهم ثقة ليس فيها خور ولا ضعف .

14.   قال عامر بن قيس : " ثلاث آيات من كتاب الله استغنيت بهن على ما أنا فيه : قرأت قول الله تعالى : ( وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ ) [الأنعام:17] فعلمت وأيقنت أن الله إذا أراد بي ضرا لم يقدر أحد على وجه الأرض أن يدفعه عني ، وإن أراد أن يعطيني شيئًا لم يقدر أحد أن يأخذه مني ، وقرأت قوله تعالى : ( فاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ) [البقرة:152] فاشتغلت بذكره جل وعلا عمّا سواه ، وقرأت قوله تعالى : ( وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) [هود:6] فعلمت وأيقنت وازددت ثقة بأن رزقي  لن يأخذه أحد غيري".

15.  ومن أنواع الثقة الثقة بثواب الله ؛ فالمسلم يعتقد أن أي خطوة يخطوها في سبيل الله ، أي تسبيحه أو تحميده أو صدقه أو حركة يتحركها لعز الإسلام فسيكتب الله له الأجر على ذلك، ومصداق ذلك قوله تعالى : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ )[التوبة:120].

16.  وقال جل في علاه : ( وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ) [التغابن:11]

17.  وقال تعالى : ( وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ )[الطلاق:3]

18.  وقال تعالى : ( إِن تُقْرِضُواْ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ ) [التغابن:17].

19.  وقال تعالى : ( وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَى صِراطٍ مّسْتَقِيمٍ ) [آل عمران:101].

20.  وقال سبحانه : ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) [البقرة:186].

21.  ومن أنواع الثقة الثقة بنصر الله ، فالله وعدنا بنصره إن كنّا مؤمنين ونصرنا دينه ورفعنا رايته ، فالمسلم يوقن بأن الله ناصره وناصر دينه مهما طال الزمن ، ومهما قويت شوكة الباطل ، قال تعالى : ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) [الأنبياء:105].

22.  وقال تعالى : ( وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) [الصافات:173].

23.  وقال تعالى : ( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ) [غافر:51].

24.  وقال عز وجل : ( وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا ) [الإسراء:51].

قبسات نبوية :

1.       إن الثقة بالله تنجلي جليّة واضحة في سيرة نبينا محمد ، فها هو سيد الواثقين بالله بينما هو في الغار والكفار بباب الغار قال أبو بكر خائفًا: يا رسول الله ، والله لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا ، فقال بلسان الواثق بالله : ( يا أبا بكر ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟! لا تحزن إن الله معنا ).

2.       وها هو النبي يلقن الأُمة درسًا في الثقة بالله ، فيقول لابن عباس : ( احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف ) رواه الترمذي وقال : "حسن صحيح".

3.       وفي رواية غير الترمذي : ( احفظ الله تجده أمامك ، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وما أصابك لم يكن ليخطئك ) . إن المسلم الواثق بالله يُوقن بأنّ الله لن ُيتركه ولن يُضيعه ، إذا ما تخلى عنه كل من في الأرض فثقته بما عند الله أكبر من ثقته بما عند الناس.

شواهد من حياة السلف الصالح :

1.       قال الربيع بن خيثم : " إن الله تعالى قضى على نفسه أن من توكل عليه كفاه ، ومن آمن به هداه ، ومن أقرضه جازاه ، ومن وثق به نجاه ، ومن دعاه أجاب له ".

2.       الثقة بالله هي كما قال شقيق البلخي : " أن لا تسعى في طمع ، ولا تتكلم في طمع ، ولا ترجو دون الله سواه، ولا تخاف دون الله سواه ، ولا تخشى من شيء سواه ، ولا يحرك من جوارحك شيئًا دون الله "، يعني : في طاعته واجتناب معصيته.

3.       وقال بعض السلف: " صفة الأولياء ثلاثة : الثقة بالله في كل شيء ، والفقر إليه في كل شيء ، والرجوع إليه من كل شيء ".

4.       قال الألوسي : " فلا تهنوا ولا تحزنوا أيها المؤمنون ؛ فإن الإيمان يوجب قوة القلب ومزيد الثقة بالله تعالى وعدم المبالاة بأعدائه".

5.       قيل لإبراهيم بن أدهم : ما ِسر زهدك في هذه الدنيا ؟ فقال : " أربع : علمت أن رزقي لا يأخذه أحد غيري فاطمأن قلبي ، وعلمت أن عملي لا يقوم به أحد سواي فانشغلت به ، وعلمت أن الموت لا شك قادم فاستعددت له ، وعلمت أني لا محاله واقف بين يدي ربي فأعددت للسؤال جوابًا ".

6.       وها هو خليل الله إبراهيم عليه السلام يضع زوجته وابنه في واد غير ذي زرع في صحراء خالية ، لا ماء ولا طعام ولا جيران ، فتقول زوجته : يا إبراهيم ، لمن تتركنا ؟! لمن تدعنا يا إبراهيم ؟! فلم يجب ، فقالت : يا إبراهيم ، آلله أمرك بهذا ؟ فأشار نعم ، قالت : إذا لن يضيعنا . والكريم جل وعلا حقًا ما ضيّعهم.

والحمد لله رب العالمين