اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم

أ.د. محمد سعيد حوّى

خطبة الجمعة 24/ 4/ 2015م

5 رجب / 1436هـ

اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم

أ.د. محمد سعيد حوّى

من فضل الله علينا وعلى الناس أن منَّ الله علينا بهذا الدين العظيم، وكله هداية ورحمة، وسكينة وسعادة وطمأنينة، ويسر وعدل، وهو أعظم النعم ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ﴾ [آل عمران: 164]

﴿ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لاَّ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [الحجرات: 17]

ومن عظيم نعمة الله على الإنسانية أنه يقبل توبة التائبين من عباده المؤمنين ممن تاب بصدقٍ وإخلاصٍ إلى الله، ومن عظيم فضل الله أنه جعل كل التكاليف في طاقة الإنسان ومكنته، ومن عظيم فضل الله أنه لا يضاعف السيئة، بل يضاعف الحسنات إلى عشرة أضعاف إلى سبعمئة ضعفٍ إلى أضعافٍ كثيرة، كما أنه قد يرفع الله مقام عملٍ ما فيجعل له خصوصية عنده، ويرفع بذلك مقام صاحبه، وذلك من فضل الله على الناس، ولا يستطيع أحد أن يحجر على فضل الله وكرمه وعظيم عطائه.

وإذا كان هذا الأمر مُسلماً؛ فنحن هنا بين قومٍ يغالون في هذه الأمور؛ فتجدهم يروون أحاديث لا تصح، أو لا تفهم على وجهها، يريدون أن يقدموا خطاباً دينياً قد يؤدي إلى شيءٍ من التواكل والتحلل والإرجاء (والإرجاء أن يقال لك اعمل ماشئت مادام أنك تشهد أن لا إله إلا الله فأنت مغفورٌ لك).

وبين قومٍ يريدون أن يلغوا كل الفضائل التي خصَّ الله بها بعض الأعمال، ولو كانت في ظاهرها يسيرة؛ مع أنها صحت عن رسول الله  صلى الله عليه وسلم ،وهنا يقتضي الموقف الشرعي أنه لا إفراط ولا تفريط.

قلنا من قبل: إن بعض من يريد أن يحارب هذا الدين إما أن يُقدم لك تديناً متشدداً قاسياً دموياً تكفيرياً لينفر الناس، أو يقدم لك تديناً متحللاً متجاوزاً الحدود والموبقات والفرائض، ليس تيسيراً بل تهاوناً وتسيباً، لذلك من خلال عرضنا لهذه القضية؛ قضية كيف نتعامل مع أحاديث الفضائل؛ ندرك الوسطية والاعتدال في ديننا.

ضوابط وأسس:

بدايةً لا بدَّ أن تتوافر بالذي يعمل بأحاديث الفضائل شروطٌ تفهم من مجموع النصوص:

 صحة السند إلى رسول الله  صلى الله عليه وسلم بلا علة ولا مطعن.

أن يُحسن فهمها وغايتها ومقصدها، قال تعالى: ﴿ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ ﴾ [الزمر: 55]

 أي نحسن الفهم ونحسن التطبيق والعمل.

أن تكون جزءاً من عملٍ متكامل لا أنها منفصلة عن البنيان الكلي، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ [البقرة: 208]

تحري الحق والتقوى والبعد عن الهوى في التفسير للنصوص.

ولعلَّ الأمثلة توضح ذلك:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ»متفق عليه.

فهذا الحديث لا يعني أن يكون الإنسان مرتكباً للكبائر، متهاوناً مع الله مستهتراً، بل يبين كيف أن هذه القيمة العظيمة قيمة إزالة الأذى احتساباً لله تدل على قلبٍ طيب وشعورٍ راقٍ إيماني فيكافئ الله صاحبه، لكن لو تصورنا أن هذا الإنسان انطوى على نفسٍ خبيثة، أو أنه كان متعمداً هجر الفرائض، هل هذا يعني أن هذا العمل كل شيء؟ لم يقل الحديث ذلك، فنحن هنا بين فهمين سقيمين، فهمٌ يريد أن يلغي الحديث، وفهمٌ يجعلك تدخل الجنة فقط بهذا العمل، والنبي  صلى الله عليه وسلم لم يقل ذلك.

ومن هذا أيضاً حديث: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ رَجُلًا رَأَى كَلْبًا يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ العَطَشِ، فَأَخَذَ الرَّجُلُ خُفَّهُ، فَجَعَلَ يَغْرِفُ لَهُ بِهِ حَتَّى أَرْوَاهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَأَدْخَلَهُ الجَنَّةَ» متفق عليه واللفظ للبخاري

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ امْرَأَةً بَغِيًّا رَأَتْ كَلْبًا فِي يَوْمٍ حَارٍّ يُطِيفُ بِبِئْرٍ، قَدْ أَدْلَعَ لِسَانَهُ مِنَ الْعَطَشِ، فَنَزَعَتْ لَهُ بِمُوقِهَا فَغُفِرَ لَهَا» صحيح مسلم

 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ، كَادَ يَقْتُلُهُ العَطَشُ، إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَهَا فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ» متفق عليه

القضية ذاتها كيف أن العمل النبيل الإنساني الذي يدل على القلب الصالح يكافئ الله عليه.

وبالمقابل عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ» متفق عليه. دلَّ على قلبٍ قاسٍ غليظ.

ومن هذه الأحاديث الصحيحة: عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ صَلَّى البَرْدَيْنِ دَخَلَ الجَنَّةَ» متفق عليه.  [(البردين) صلاة الفجر وصلاة العصر سميا بذلك لأنهما يفعلان في بردي النهار وهما طرفاه حين يطيب الهواء]

 فبعض الناس يريد إلغاءه تحكماً عقلياً مع أنه من كان محافط على البردين جماعةً فهو أحفظ على باقي الصلوات،ومن أقام الصلوات حقاً نهته عن الفحشاء والمنكر.

إذن لاحظ معي عندما نفهم الأحاديث فهماً صحيحاً وفي سياقها وضمن العمل المتكامل مع كون سندها صحيح لا مشكلة، ومن ذلك حديث : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ غَدَا إِلَى المَسْجِدِ وَرَاحَ، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ نُزُلَهُ مِنَ الجَنَّةِ كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ» متفق عليه.

وحديث: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ» متفق عليه. فالإحصاء ليس معناه العد، ولكن الفهم والتطبيق والتحقق.

ومن ذلك: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا» متفق عليه.

فلا يعني الحديث أن تكون متهاوناً، بل من صام فإن الصوم يربي النفس ويزكيها.

ومن ذلك حديث: بُشَيْر بْن كَعْبٍ العَدَوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ " قَالَ: «وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ» صحيح البخاري.

فلإنسان الذي يحافظ على هذا الذكر يكون قلبه مؤمناً موصلاً بالله تقياً لله.

ومن ذلك حديث: عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ» صحيح البخاري.

ألا ترى أن هذا الإنسان قد تحقق بالتزكية بأعلى مراتبها فمَن حفظ اللسان والفرج فهو لغيرها أحفظ.

وغيرها من النصوص التي بينت فضائل أعمالٍ عظيمة عندالله. لماذا ينكرها البعض؟ أو لماذا يخرجها عن سياقها؟ ولا يعلم أنها تعني بناءً إيمانياً متكاملاً، فمن هنا نقول: إذا صح الحديث، وفُهِم فهماً صحيحاً، وكان جزءاً من البنيان الإيماني المتكامل، وابتعدنا عن الهوى وتحققنا بالتقوى، فالله يريد أن يرفع شأن بعض الأعمال لتكون تحفيزاً وترغيباً وفضلاً.

ضرورة فهم الأحاديث في سياقها ومقاصدها:

في المقابل هنالك من يجتزئ هذه الأحاديث من سياقها، فيقول لك: "إذا أنا طبقت الحديث الآتي" عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ إِلَّا أَنْ يَمُوتَ» السنن الكبرى للنسائي، صححه ابن حبان وغيره.، فيقول: "أنا أضمن الجنة".

فهذا فهمٌ سقيم لأنه لو كان مؤمناً حقاً لعلم أن وراء هذا:

 أولاً أنه محافظٌ على الصلوات.

ثانياً: أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.

ثالثاً: أن يتأمل ما معنى آية الكرسي، وهو يتلوها وفيها معاني التوحيد والتعظيم لله سبحانه وتعالى، والخوف منه، والتوكل عليه واللجوء إليه.

فلماذا يُستغرب هذا الحديث ؟ أو لماذا يظن أن هذه الفعل وحده سيجعله من أهل الجنة ؟ النبي  صلى الله عليه وسلم لم يقل ذلك.

الموقف من الذين يتعاملون مع أحاديث منكرة؟

أيضاً من يأتي بأحاديث منكرة متــناً وسنداً ففيها مبالغات غير عادية، أو لم تصح سنداً، فضلاً أنه لا يفهمها فهماً صحيحاً، يُريد أن يروجها بين الناس بدعوة الترغيب في العمل الصالح، فيؤدي إلى نوعٍ من الفتور والتحلل والتواكل والاجتزاء، وأضرب نماذج سريعة:

عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَتْ : مَرَّ بِي ذَاتَ يَوْمٍ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ: إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ وَضَعُفْتُ، أَوْ كَمَا قَالَتْ، فَمُرْنِي بِعَمَلٍ أَعْمَلُهُ وَأَنَا جَالِسَةٌ، قَالَ: " سَبِّحِي اللهَ مِائَةَ تَسْبِيحَةٍ، فَإِنَّهَا تَعْدِلُ لَكِ مِائَةَ رَقَبَةٍ تُعْتِقِينَهَا مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاحْمَدِي اللهَ مِائَةَ تَحْمِيدَةٍ، فإنها تَعْدِلُ لَكِ مِائَةَ فَرَسٍ مُسْرَجَةٍ مُلْجَمَةٍ، تَحْمِلِينَ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَكَبِّرِي اللهَ مِائَةَ تَكْبِيرَةٍ،فَإِنَّهَا تَعْدِلُ لَكِ مِائَةَ بَدَنَةٍ مُقَلَّدَةٍ مُتَقَبَّلَةٍ، وَهَلِّلِي اللهَ مِائَةَ تَهْلِيلَةٍ، قَالَ ابْنُ خَلَفٍ: أَحْسِبُهُ قَالَ، تَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَلَا يُرْفَعُ يَوْمَئِذٍ لِأَحَدٍ مِثْلُ عَمَلِكَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِ مَا أَتَيْتِ بِهِ "مسند أحمد، إسناده ضعيف.

ومع ذلك يروجه البعض ويسيء فهمه أيضاً، فكأنه من فعل هذا أصبح مجاهداً عظيماً ومنفقاً في سبيل الله، بل وربما دعا إلى ترك الجهاد أيضاً، هذا فهمٌ سقيم، ولاحظ كيف أن المبالغة فيه واضحة جداً، تخرج عن طبيعة النص النبوي، والحَكم الأعلى في ذلك أن السند ليس صحيحاً.

أو حديث عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا لِدَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا رِقَابَهُمْ وَيَضْرِبُونَ رِقَابَكُمْ؟ ذِكْرُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ " مسند أحمد، هذا إسنادٌ فيه ضعف.

فلاحظ كيف أن الفهم السقيم يجعله يُقدم على الجهاد والصدقة مجرد الذكر، وفضلاً أن الحديث لا يصح، فليس هذا مقصود الحديث، فإن من ذكر الله حقاً لابدَّ أنه يخشاه ويتقيه ويعمل بما يرضيه ويسارع إلى الصدقات والصلوات وإلى الجهاد وإلى ترك المنكرات.

و من ذلك ما يروجه البعض كحديث تَمِيم الدَّارِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، إِلَهًا وَاحِدًا أَحَدًا صَمَدًا، لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، عَشْرَ مَرَّاتٍ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَرْبَعِينَ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ " سنن الترمذي، ضعيف.

فإن هذا الحديث لا يصح وكل حديث فيه ألف أو ألف ألف أو سبعون ألف فلا يصح.

الخطبة الثانية:

واجبنا أن نجمع بين العمل مع الإخلاص والصدق وصحة الولاء والقيام بحق الأمة وحق الدين، وعطاءات الله لا حد لها طالما تحققنا في الفهم وصحة السند.

لا شك أننا نؤمن بالفضائل والرقائق والأجر العظيم من الله تعالى، لكن على أن يتق الإنسان المنكرات ويأتي بالواجبات، انظر إلى قوله تعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133]

وقوله تعال: ﴿ لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 92]

قوله تعالى:﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحَاجِّ وَعِمَارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [التوبة: 19]

وقوله تعالى: ﴿ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 156]

وقوله تعالى: ﴿ فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ، وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ، وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ، وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ ﴾ [الشورى:36- 39]

وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ ﴾ [الصف:10- 12]

﴿ إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ [الحجرات: 15]

وغيرها من الآيات الكثيرة التي تؤكد على العمل، ومنها الجهاد وترك المنكرات شرطاً لدخول الجنة، فأي حديثٍ في الفضائل إن صحَّ لا بدَّ أن يفهم في ضوء ذلك، كحديث:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ " متفق عليه، واللفظ للبخاري.

فأنت تلاحظ هنا أنه عملٌ قليل نسبياً (مائة مرة) أجره عظيم نسبياً أيضاً (مائة حسنة) وعدل عشر رقاب، لكن أيضاً لا بد أن يفهم في ضوء القواعد التي ذكرنا.

قال تعالى: ﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7]

المهم كيف نكون أقرب إلى الله، ونتطلع إلى رحمة الله، ونحسن الظن بالله مع العمل والإخلاص والصدق.