هجرة المسلمين إلى الحبشة 2

العلامة محمود مشّوح

هجرة المسلمين إلى الحبشة

19 / 3 / 1976

(2)

العلامة محمود مشّوح

 (أبو طريف)

إن الله مع الذين اتقوا والذين هـم محسـنون ، أما بعـد أيها الإخوة المؤمنون :

 أرجو أن يكون هذا اليوم آخر ما نتحدث عن هجرة الحبشة وتوابعها ، وقد يكون من المستحسن أو من المفيد أكثر أن نفيض في الحديث أكثر مما أفضنا ، ولكن تقديري الخاص أن الذي قدمناه حتى الآن يكفي إن شاء الله تعالى ، لا ليلقي الأضواء الكافية على كل القضايا التي تتصل بهذه الواقعة التاريخية فذلك غير ميسور ، ولكن ليعطي صورة مقاربة للمنهج الذي نأخذ أنفسنا به حينما نتجشم دراسة أي أمر من الأمور التي نهتم لها .

 كنا تحدثنا في الأسبوع الماضي حول استحالة التطلع نحو الحبشة لكي تكون مركز انطلاق للدعوة الإسلامية في ضوء غير الضوء الذي تحدثنا عن القضية من خلاله قبل أسبوعين ، في الجمعة الماضية نظرنا إلى المسألة في الضوء القوانين العامة للنبوات ورأينا بحمد الله تعالى أن القوانين العامة للنبوات لا تأذن باتخاذ الحبشة وما في حكمها مقراً ومنطلقاً للدعوة ، نظراً لافتقاد العنصر الأساسي وهو وحدة اللغة وحدة اللسان الذي يستتبع بالضرورة استحالة التفاهم واستحالة البيان وهما الشرط الأساسي لنجاح النبوات . فمن حيث أن الحبشة تتكلم لساناً غير لسان العرب ، ومن حيث أن النبي المرسل بهذه الرسالة عربي اللسان ، ومن حيث أن الأسس الأساسية العامة والخاصة للدعوة والمتمثلة بالقرآن الكريم وبسنن النبي صلى الله عليه وسلم وهي الوعاء الذي يوصّل هذه الرسالة هو وعاء عربي ، من حيث هذه الأمور جميعاً كان لا بد أن يكون البحث منصباً والجهد موجهاً إلى ترسيخ الرسالة في بلاد العرب ، لأنها عربية اللسان توجه إلى العرب قبل أي قوم من الأقوام .

 واستشهدنا على ذلك بما كفى وشفى إن شاء الله تعالى ، ووعدنا أننا في الجمعة القادمة ـ أي هذه الجمعة ـ سننظر في المسألة على ضوء آخر ، في الحقيقة أن الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم خاتمة الرسالات الإلهية إلى الناس ، ما بعد محمد من رسول يرتجى ، وليس من بعد محمد من مخلوق يتوكّف خبر السماء ، ولا بعد القرآن كتاب يحمل أوامر جديدة من قِبل الله تعالى إلى الناس . ولكن هذه الرسالة الخاتمة جاءت تتويجاً لنبوات سابقة ، فمنذ أن فتح الإنسان عينيه على الدنيا رافقته هداية الله تعالى ، إظهاراً للمنة وتأكيداً للرحمة السابغة التي اختص الله بها عباده ( وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ) ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ) ولولا أن الرسالات التي سبقت رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان ينقصها من أجل أن تكون قادرة على الخلود والاستمرار شيء ما لسقط مبرر الرسالة الإسلامية من الأساس ، فطالما أن الرسالة على أي نبي كان من الأنبياء تُنزّل قادرة على هداية الناس وقيادة الناس وملء الفراغ الذي يحصل في نفوس الناس ومجتمعاتهم فلا مبرر على الإطلاق لإرسال رسول ولا لإنزال كتاب ، ولكن الأمر على خلاف ذلك ، فنحن نجد أن الله تبارك وتعالى اقتص علينا في القرآن الكريم قصص أنبياء ومرسلين سبقوا نبينا محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأن الله طوى في علمه ذكر أنبياء آخرين فقال ( منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص ) فالأنبياء الذي ورد ذكرهم في القرآن الكريم ليسوا هم كل مظاهر الرحمة الإلهية التي تجلت في موالاة الهداية إلى الناس ، ونجد أن الله تبارك وتعالى يذكر الحمكة من قصص القرآني وقصص الأنبياء والمرسلين وقصص الأم التي بادت ، يذكر فيقول ( لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ) ويقول ( وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمتقين ) فالأنبياء الذين مضوا حين عرض الله جوانب من سيرهم علينا وأوضح بعضاً من معالم رسالاتهم لنا كان لغرض الاتعاظ والتذكر والتدبر والتثبيت ، فما هي الدروس التي تمنحنا إياها هذه النبوات السابقة وهذه الرسالات الماضية ؟ وما هي الدروس التي يمكن أن نستفيد منها من تتبع أخبار الماضين من الأمم التي بُشرت وأُنذرت فمنهم من هدى الله ومنهم من تجبر وعتى وعصى ؟ هنا نقف على رأيين ، والرأي الأول الذي سأبديه لكم هو الرأي الأشيع والأرجح بين الذين يدرسون هذه الأمور ، وهو الرأي الذي أرفضه بلا تردد ، هذه الرأي يقول : إن الله تعالى تدرج في البشرية بواسطة الرسالات التي أُنزلت على الأنبياء السابقين ، يعني أنهم يعطون للبشرية تصوراً يشبه تصور نشأة الإنسان الفرد ، فالإنسان الفرد يولد طفلاً ثم يافعاً ثم شاباً ثم كهلاً ثم شيخاً ثم يدركه الأجل فيموت ، فكذلك الإنسانية في طريقها المتطور والسائر أبداً إلى الأمام لها ذات المراحل التي تلحظ على الطفل حين تتدرج به أطوار النشأة ، فالإنسانية في مراحلها الباكرة لم تكن على درجة من النضوج العقلي والعاطفي يسمح لها بتلقي وتفهم القيم العالية والتشريعات المعقدة والعقائد الرفيعة ، فالرسالة تأتي في زمن ما على قوم مخصوصين لمرحلة معينة فإذا انتهت هذه المرحلة تكون الرسالة قد استنفدت أغراضها وأصبحت غير قادرة على الوفاء باحتياجات الطور الجديد ، الطور الأعلى والأكثر تقدماً في حياة البشرية ، فلهذا يرسل الله تعالى رسالة جديدة بواسطة نبي جديد لكي يتجاوب مع الآمال الأبعد التي وصلت إليها البشرية في مراحلها المتقدمة ، وهكذا مرّاً وجراً حتى انتهى الأمر إلى أن أرسال الله تعالى بالرسالة الخاتمة محمداً صلى الله عليه وسلم بعد أن بلغت الإنسانية رشدها وكمالها في ذلك الحين وأصبحت مستعدة لأن تتلقى كلمة الله النهائية والخاتمة لكلامه السابق كله ، ربما كان ذلك يدغدغ غرورنا نحن المسلمين من حيث هذا التفسير والتحليل يعطينا شيئاً من الاستعلاء ، شيئاً يخاطب جانباً من الغرور في النفس الإنسانية ، من حيث أننا نمثل قمة النضوج الإنساني ، ولكن الأمر فيما أتصور وفيما أرجح يخالف جملة وتفصيلاً كل هذا الذي أوّله وفصّله معظم الدارسين لهذه القضية ومن بينهم كتّاب مسلمون قدماء ومحدثون لهم وزنهم ولهم احترامهم ، لكننا كما تعلمون حين نكون أمام حقيقة علمية أو تاريخية لا نتردد في الأخذ بها رضي من رضي وسخط من سخط ، أحب من أحب أو كره من كره ، وافقت رأي الجمهور أو خالفت رأي الجمهور ، فالجمهور عندنا هو الحقيقة الناصعة التي لا غبار عليها ، وسواء التف حولها فرد واحد أو ملايين الأفراد ، أو لم يستجب لها أحد فذلك لا يقلل بتاتاً من أهمية الحقيقة من حيث هي حقيقة لها وزنها ولها احترامها ويجب أن يأخذ بها الناس .

 أول ما نلاحظه على التأويل الذي طرحناه لكم كما عبّر عنه أصحابه هو الإهانة غير المقصودة لأجيال مضت بيننا وبينها عشرات الألوف من السنين ، نحن نعرف من سيَرها ومن تتبع أحوالها ، من خلال الآثاريات التي كشف عنها البحث ، ومن خلال المدونات التي تسربت إلينا ، أنها كانت تتمتع بقدر كبير من السمو الخلقي ومن التقدم العلمي ومن النضج التشريعي ، ولعل أحداً لا يجهل أن فلاسفة اليونان ومن قبلهم من حكماء الهنود والمصريين ممن بيننا وبينهم ستة آلاف أو سبعة آلاف وربما عشرة آلاف سنة من لو عرضنا على أسماعكم بعض إنتاجهم في الفلسفة وفي الأخلاقيات وفي الشعر وفي الأدب والفن عامة لراعكم أن هذا الكلام قمة من القمم العالية التي تتقاصر دونها همم الكثيرين في هذا الزمان الذي يعطيه سمة التطور وسمة الرقي . وأكثر من ذلك حينما نقول هذا ـ وباعتبارنا مسلمين ـ نعتقد أن أبانا الأول هو آدم صلى الله عليه وسلم رسول لله تعالى ونبي ، وأن الرسل والأنبياء قمة في الفكر والأخلاق والسلوك ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عن آدم عليه الصلاة والسلام : لو وُزن عقل آدم بعقل أبنائه جميعاً لرجحهم وزاد عليهم . نحن نتجاهل في الواقع بدائه وبصائر لا يجوز أن تغيب عن البال .

 النبوات السابقة ما وصفها وما هو وضعها في القرآن ؟ ثم من أين جاء الالتباس إلى عقول الدراسين الذين ظنوا الأمور على النحو الذي ذكرناه ؟ حين نمسك بالقرآن يا إخوتي من فاتحته إلى خاتمته ونقرأ أخبار الأنبياء الماضين قبل محمد صلى الله عليه وسلم نقف على حقيقة بسيطة ولكنها واضحة بل صارخة ، كل نبي أرسله الله تعالى قبل محمد صلى الله عليه وسلم فإنما أرسـله بالإسـلام ( وأُمرنا لنسلم لله رب العالمين ) ما جاء نبي فقال : أرُسلت باليهودية ، ولا قال : أُرسلت بالنصرانية ، ولا قال ، أُرسلت بالإبراهيمية ، ولا بالنوحية ولا بأي شيء من هذا ، وإنما تضافر قولهم جميعاً على تقرير هذه الحقيقة الناصعة والصارخة وهي أنهم أُرسلوا بالإسلام ، فلا دين إلا الإسلام ، مصداق ذلك أنكم تقرأون في القرآن ( إن الدين عند الله الإسلام ) ثم تذكر الآية الكريمة العلل التي فرّقت الأمم الماضية عن هذا الإسلام فتقول ( إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أُوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ) فالتحاسد الذي ينتج عن مؤثرات شتى ، نفسية ومجتمعية ، والذي ينتج عن ضغوط شتى تأتي من مصادر متعددة هو الذي فرّق الكلمة الجميع وهو الذي شتت الأمة المجتمعة وهو الذي أعطى لبعض الديانات تسميات وأوصافاً خاصة ، وكل ذلك بُعد عن الحقيقة بسبب البغي والتحاسد والتظالم بين الأمم الماضية .

 لنأخذ لكم مقطعاً معبّراً يذكره الله تعالى في سورة البقرة ، سأقرأه لكم مع طوله ، يقول الله تعالى بعد قصص طويل عن مآسي كانت من أهل الكتاب ومواقف محرجة ونزعجة ومحزنة وقفها الكتابيون من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن الدعوة ، يقول مندداً ومعنفاً وموبخاً ( ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ) أي أضاع حظها من الخير والبر والمعروف ( ولقد اصطفيناه في الدنيا ) أي اخترناه ، واختاره الله على علم لقوامة هذه الشخصية وسلامتها ونقاوتها ( وإنه لفي الآخرة لمن الصالحين ، إذ قال له ربه أسلم ) ما قال له : تنصّر ، ولا قال له : تهوّد ( إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لله رب العالمين ) هل انتهى الأمر عند هذا الحد ؟ لا ، تمضي الآيات فتقص ما كان من بعد ( ووصى بها ) بماذا ؟ بهذه الكلمة التي هي الإسلام ( ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب ) أي ووصى يعقوب أيضاً بنيه ( يا بنيّ إن الله اصطفى لكم الدين ) اختار لكم الطريق الواضح والمنهج الموصل إلى بر السلامة في الدنيا وإلى رضوان الله تعالى في الآخرة ( فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) لاحظوا التنصيص المتكرر على الإسلام ( فلا يموتن إلا وأنتم مسلمون ) ثم يلتفت الخطاب الرباني الكريم إلى الموجوديم في زمن محمد صلى الله عليه وسلم وإلى أسلافهم عبر التاريخ من خلالهم من اليهود والنصارى فيتسـاءل ( أم كنتم شهداء ) أي موجودين حاضرين ( إذ حضر يعقوب الموت ) يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام جميعاً ( أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ) لا ثلاثة ( إلهاً واحداً ونحن له مسلمون ، تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تُسألون عما كانوا يعملون ) بعد هذه الآيات يأتي حجاج ( قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون ، أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون ) هؤلاء الناس الذين كانوا يدّعون يهوديةً ويدّعون نصرانية ، بيّن الله جل وعلا في هذا المقطع أن جلة الأنبياء برآء منه لأن الدين عند الله هو الإسلام ، فإذاً أول حقيقة نضعها أمام عيوننا ونحن في صدد هذا البحث هي أن الله لم يرسل رسولاً إلا بالإسلام ، فما معنى الإسلام ؟ من هنا كان المنزلق الذي ذهب منه بعيداً كثير بل معظم الكاتبين الذين تناولوا هذا الموضوع .

 الإسلام في أصل الوضع اللغوي هو الاستسلام ، إعطاء المقادة ، الانقياد ، الخضوع ، فهو رديف العبادة ورديف الدين على تباين في سعة المعنى وضيقه سلباً وإيجاباً لا داعي لأن أشرح هذا الموضوع ، سيكون له حديث في يوم آخر . فحين نقول : إن أصل الإسلام في الوضع هو الاستسلام فهل يكفي في تحقيق الإسلام أن أقول : أسلمت لله رب العالمين ؟ ذهب معظم الباحثين وعلى الأخص الإسلاميون منهم إلى أن الرسالة التي كانت تأتي على نبي سابق قبل محمد صلى الله عليه وسلم هي الإسلام في الواقع لكن بهذا المعنى اللغوي ، أما الشرائع والأحكام فقد تضيق وقد تتسع وقد تكون وقد لا تكون ، هذا في الحقيقة خطأ ، خطأ لأننا لو قلنا : أسلمنا لله رب العالمين ، فأول سؤال يتوارد إلى ذهن الإنسان : أسلمت لماذا وعلى أي أساس ؟ هل انتهت القضية عند قولي : أشهد أن لا إله إلا الله أم لهذه القضية توابع ؟ هل انتهت القضية عند هذا الكلام أم الكلام هذا مبدأ له مضمون وله محتوى وله إفرازات لا بد أن تتمثل في الواقع المعتقدي للإنسان وفي السلوك الفردي للفرد وفي النظام الذي يحكم الفرد والجماعة جميعاً وفي النظام الذي يخيّم على المجتمع الإنساني كله ؟ لا شك أن الحياة التي تأبى الفراغ وترفضه تقرر لنا أن الإسلام لا يكون إسلاماً حين أقول : لا إله إلا الله وأطيع نزواتي وأطيع أهوائي وأطيع غرائزي ، وأن الإسلام لا يستقيم لي وأنا أشعر بالرغبة فيما بين أيدي الناس ، وأنا أشعر بالرهبة من الناس ، لا شك أن الإسلام لا يستقيم أبداً وأنا أتحاكم فيما يعروني من شؤون إلى أمور لا يرضى عنها الله جل وعلا ، بل هي تتصادم وتدمر وتخرب ما أراد الله تبارك وتعالى ، فالمسألة ليست مسألة كلام ، وإذا رجعنا إلى وقائع السيرة النبوية نجد أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : يا نبي الله علمني ما أقول لكي أكون مسلماً . قال : قل : آمنت بالله وتخليت . أمران يتضافران ويتعاونان على تحقيق قضية الإسلام التي تكررت على ألسنة الأنبياء جميعاً ، إيمان مطلق بالله ، ووضع للمقادة بين يدي الله ، وتخلٍّ وترك لكل ما كان الإنسان عليه في الجاهلية من عقائد وطبائع وأخلاق وشرائع وآداب وما أشبه ذلك ، أي تهيئة النفس وتهيئة المجتمع لكي يدخل عالماً جديداً قوامه أنه أوامر تصدر من قِبل الله أو من قِبل رسوله صلى الله عليه وسلم معزولة تماماً عن كل ما يسيء إلى استقامة الحياة واستقامة الاعتقاد واستقامة الأخلاق واستقامة التشريع ، من هنا انزلق إخواننا الذين درسوا هذه المسألة فظنوا فعلاً أن البشرية تمشي أطواراً وهذا غلط ، فالبشرية من حيث هي بشرية فطر الله الناس عليها ، فطرها كما أخبر في القرآن على هـذا الإسلام ( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم ) فهذا الإسلام هو الفطرة ، وهو الفطرة التي حوت ما يتجاوب معها من عقائد ونظم وتشاريع ، أي أن الإسلام يأتي معه بكل مستلزماته على صعيد الشعور وعلى صعيد العقل وعلى صعيد الفرد وعلى صعيد الجماعة وعلى صعيد البشرية جميعاً ، وبغير هذا لا يمكن أن يستقيم الإسلام بصورة باتة .

 إذا كان الأمر كذلك فهنا لا بد أن نطرح سؤالاً : هل الرسالات التي جاءت على لسان إبراهيم وموسى وعيسى وسائر رسل الله هي ذات الرسالة التي جاءت على محمد صلى الله عليه وسم ؟ أجازف فأقول : نعم في الأعم الغالب ، فنحن نعلم أن الله أخبر في محكم كتابه أن كل رسول دعا إلى الوحدانية ، وهذا أصل من أصول الإسلام التي نعرفه والذي أبلغنا إياه محمد صلى الله عليه وسلم ، ونحن نعلم أن الصلاة نداء توجه به كل نبي جاء إلى هذه الأقوام ( وأوصاني بالصلاة ) ونحن نعلم أن الزكاة شرع نادى به كل نبي قصّ الله علينا قصصه في القرآن ، ونحن نعلم أن الله أخبر أن الصوم فريضة ماضية على الأمم القديمة ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ) ونحن نعلم أن الحج فريضة قديمة إذا قال جل وعلا مخاطباً إبراهيم عليه السلام ( وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر ) هذه هي المحتويات العبادية برسالة الإسلام ، حين تُطلق الصلاة وحين تطلق الزكاة ويطلق الحج وما أشبه ذلك فالمراد قطعاً مدلولاتها الشرعية ، ومدلولاتها الشرعية معروفة عندنا ، نسب معينة تؤخذ في الزكاة ، ركوع وسجود يقام في الصلاة ، إمساك عن المفطرات يُلتزم بها في الصيام ، زيارة لبيت الله على نمط مخصوص في أيام الحج .. فلا يمكن أن نصرف هذه الأشياء إلى معنى غير المعنى الذي تعارفنا عليه عندنا في الإسلام ، لأن النص جاء مطلقاً ولا نملك أن نقيد هذا النص بل نحن نجريه على المعهود عندنا في شريعة الإسلام .

 هل لهذه العبادات وظيفة تؤديها في المجتمع ؟ نقول : نعم ، نحن نخطئ كثيراً إذا ظننا أن جملة عقائد الإسلام مع عباداتها مع آدابه وأخلاقه مع تشريعاته على المستوى الشخصي والمستوى الجماعي والمستوى العالمي أمور يمكن أن ينفصل بعضها من بعض ، لا يمكن ، حينما يتعطل جانب من جوانب الإسلام ولو صغير ينعكس الخلل على القضية بكاملها حتماً لازماً ، ولهذا كانت مواقف النبي صلى الله عليه وسلم متشددة في هذه القضايا التي يتهاون بها الناس اليوم ، جاء رجل فقال : يا رسول الله عدّدْ علي شرائع الإسلام ؟ فعدد رسول الله عليه شرائع الإسلام ، قال : يا رسول الله أبايعك عليها جميعاً إلا الصلاة والجهاد . قال له : لا صلاة ولا جهاد فبمَ تدخل الجنة ؟ إذا لم تصلِّ فتربط نفسك بالله وتذل له وتخشع ، وإذا لم تجاهد أعداء الله تبارك وتعالى لتضع نفسك جندياً مطيعاً بين يدي خالقك ، فما هو الذي يبيح لك أن تدخل الجنة ؟ جاء آخر فقال نفس القول ، فعدد عليه النبي شرائع الإسلام ، فقال الرجل : يا رسول الله أعفني من الصلاة ، قال له : يا هذا إنه لا خير في دين لا صلاة فيه . فالواقع أن الشرائع التي ننظر إليها نظرة غير جدية ذات علاقة وثيقة بجميع شعب الإسلام ، إن الإسلام بناء ، بناء لو اختلت منه لبنة في زاوية من زواياه تعرض للدمار والانهدام ، فما دامت شرائع الإسلام لها عملها المباشر في ترقية النفس وفي تهذيبها وفي تكملة الشخصية الإنسانية فهي إذاً لازمة من لوازم كل نبوة ، لا يمكن أن تخلو نبوة من النبوات من شرائع ومن آداب تشد أزر العقيدة كما تشد أزر الجماعة .

 ها هنا قضية أعتقد أنها مفروغ منها ، يبقى سؤال حول هذه النقطة ، إذا كنا نقول إن هذه الشرائع لازمة ، لنقل إنها لازمة ، لكن هل من اللازم أن تكون الشرائع على هذا الوجه بالذات ؟ نقول أيضاً : نعم ، لأمر بدهي يعرفه كل مسلم يفكر قليلاً ، ربما يسأل سائل : ما حكم كون الصلوات خمساً ولم تكن عشراً أو لم تكن اثنتين ؟ ولماذا يصوم الناس شهراً ولا يصومون شهرين أو يوماً واحداً ؟ ولماذا يحجون إلى البيت الحرام ولا يحجون إلى البيت المقدس ووو ..إلى آخره ؟ وما الفرق بين أن نعطي من أموالنا اثنين ونصف بالمائة ولا نعطي عشرة بالمائة أو واحد بالمائة ؟ نقول بلا تردد وبكل بساطة : إن الوضع الذي شرعه الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم هو خير وضع يساعد على أن تبلغ الشخصية الإنسانية غاية كمالها وغاية سموها ورقيها ، ولو علم الله جل وعلا أن الزيادة أو النقص في الصلاة أو الزيادة أو النقص في الصيام أو الزكاة أو ما أشبه ذلك أو أي تغيير يحقق مصلحة البشرية بأفضل مما عليه الآن لكان رحمة الله جل وعلا قاضيةً بإحداث هذا التغيير ، ولكن في سابق علم الله تبارك وتعالى يجب أن ترتب الأمور بهذا الشكل ، لأن هذه الصيغة هي الوحيدة من بين جميع الصيغ الأخرى التي قد تخطر بالبال هي التي تساعد على إيصال الإنسان إلى المكانة التي أراد الله تعالى أن يصل إليها كي يكون إنساناً مسلماً .

 فإذا قلنا إن عبادات الأقوام السابقة كانت مغايرة لعباداتنا ، وقلنا إن الرحمة الإلهية تجلت في كون العبادات بالشكل الذي شرحناه والذي نعرفه فإن الله جل وعلا قد حجب عن الذين من قبلنا وفق لهذا المنطق جانباً من الرحمة كان يجب أن لا يحجبه وهذا سفه لا يتورط فيه آحاد الناس بله ربك جل وعلا العالم بكل شيء المقتدر على كل شيء . وحين ننظر إلى الديانتين الأقرب إلينا اليهودية والنصرانية ، لماذا اختلفت عقائدنا عن عقائدهم وشرائعنا عن شرائعهم وعباداتنا عن عباداتهم وآدابنا عن آدابهم ؟ واحد من أمرين : إما أن نخضع للتصور السابق ، وإما أن نقول : إن اليهودية والنصرانية على الوجه الذي هما عليه ديانتان محرفتان ، من وجهة نظرنا نحن المسلمين نقرأ القرآن ونسمع أحاديث محمد صلى الله عليه وسلم نقطع جزماً بأن الذين أوتوا الكتاب من قبلنا حرّفوا كلام الله حتى وافق أهواءهم وشهواتهم وساير الأوضاع التي هم عليها . والأمر لا يقف عند هذا الحد كما سأشرح ولكنه يتناول فعلاً حقائق تاريخية يعترف بها اليهود ويتعرف بها النصارى . فاليهودية ، ولندع يعقوب وبنيه ، ولندع استقرارهم في مصر وهي حقيقة تاريخية تشهد عليها نقوش معبد الكرنك في مصر ، لندع هذا كله ولنقف باختصار وقفة مع موسى عليه الصلاة والسلام ، ماذا أراد موسى من فرعون ؟ موسى رجل تربى في بلاط فرعون ، كان بنو إسرائيل يقاسون عذاباً مراً وهواناً عظيماً ، كان فرعون يأمر بأن يقتّل أبناؤهم ويًستحيى نساؤهم ، وكانوا بحسب نص التوراة يشتغلون بالطين والأرض ويًسخّرون في أعمال البناء والحرث والزرع كما تُسخّر الرقيق والدواب والأنعام ، فجاء موسى المتربي في بيت فرعون بعناية إلهية بعد أن كان أن أمر بأن يُقتل جميع الأطفال الذين يولدون للإسرائيليين ، جاء بعناية إلهية فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً ، ونشأ موسى في بيت فرعون إسرائيلياً من جملة الإسرائيليين حتى بلغ رتبة القيادة في جيش فرعون ، ثم اختصه الله بالرسالة هو وهارون عليهما السلام ، كان قد مضى على وجود الإسرائيليين في مصر أكثر من سبعة قرون ، قاسوا خلالها من الظلم والإرهاب ألواناً ، فكان طلب موسى عليه السلام ينحصر بعد الجهر بالوحدانية لله في وجه فرعون الذي يقول ( أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي ) كان طلبه أن أرسل معي بني إسرائيل . هذه الحالة من الظلم والإرهاب والقسوة الفظيعة لا يمكن أن تزكو معها رسالة ، هذا الوجود الذي كان عليه بنو إسرائيل لا يمكن أن يسمح بانتشار رسالة لسبب بسيطة ، هنا عندنا دين يأتي ، أين ؟ ضمن دولة قائمة مستقرة ، لها شرائعها وقوانينها ولها سلطاتها ولها آدابها ، موسى عليه السلام نبي يتحرك بتحريك الله إياه ، لا يتحرك من تلقاء نفسه ، أراد ـ كما أراد محمد صلى الله عليه وسلم ـ أن يستنقذ الدعوة من وسط لا يتوفر فيه أي شرط لنمائها ولزكائها ولتقدمها ولحفظها ، لذا قال : أرسل معي بني إسرائيل ، اسمح لهم بالهجرة من أرض الظلم والقهر والطغيان ، لأن الطغيان إذا طال ، والظلم إذا طال ، لا سيما حين يكون ضمن دولة مستقرة الدعائم ذات شرائع ونظم يمكن بكل بساطة أن يحطم العقيدة وأن يُدخل التحريف على كل الرسالة ، فخرج بمعجزة إلهية ، أخرج موسى بني إسرائيل فلما جاوز بهم البحر مروا على أقوام يعكفون على أصنام لهم ، في تلك المناطق من سيناء كانت قبائل الكنعانيين العرب منتشرة في ذلك الحين على شكل جماعات من القبائل الرحّل ، وكانوا أيضاً أصابهم من الانحلال مثل الذي أصاب بني إسرائيل بعد تطاول الزمن واندراس معالم دين إبراهيم عليه السلام ، فمروا على أقوامٍ يعكفون على أصنامٍ لهم ، ماذا كان كلام بني إسرائيل الذين يرون الآيات بأم أعينهم والذين يقودهم رسول الله موسى عليه السلام ( قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون ، إن هؤلاء متبَّر ما هم فيه وباطل ما كانوا يصنعون ) هذا الذي ترونه من عكوف هؤلاء الأقوام على الأصنام يعبدونها ويقربون لها القرابين باطل ومتبر ما هم فيه ، أي أنه سيهدم وأنه سوف يدك ويتبر ، لأن جراثيم الفناء والموت تعيش مع كل كيانٍ باطل ن ولكن بني إسرائيل الذين طالت عليهم عهود الرق وعهود العبودية ما استطاعوا أن يستوعبوا ذلك ، آتاهم الله جلّ وعلا بالإنعام وأنزل عليهم المن والسلوى ، فقالوا لموسى ( فادعُ لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ) من يستبدل الثوم والعدس بالمن والسلوى ؟ ( اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم ) أكلاف الكفاح والجلاد ثقلت عليهم ، بنو إسـرائيل كانوا يحملون رسالة هي رسالة التوحيد ، ورسالة التوحيد أبداً هدف لكل ضالٍ ومضل يوجه إليها كل ما عنده من وسائل الفتك والإفناء والتدمير ، وكان مطلوباً من بني إسرائيل في ذلك الحين أن يجالدوا ويجابهوا أعداء الله ، ولكن وهذا أول دروس التجربة تبين أن الأمم حين تعيش قروناً طويلة على الذل وعلى العبودية وعلى تقبل المهانة تفقد جميع خصائص الرجولة وتُفرّغ من جميع المهيئات لأكلاف الجلاد والكفاح في سـبيل الله .

 القضايا العظمى والقضايا الكبيرة لا تحملها إلا النفوس الحرة الكبيرة ، وهنا أول فارق نضعه أمام أعيننا أو نضع أصبعنا عليه ، بين وضع بني إسرائيل كحملة للرسالة فشلوا في حملها من أول الطريق بسبب العبودية ، وبين ثبات المسلمين العرب الذين نشأوا على خلائق الحرية وخلائق التحرر ، حتى أصبحت حرية الواحد منهم تساوي وجوده بل تفوق وجوده ، حتى إن الواحد من المسلمين بعد تنزل الرسالة يقول : يا محمد ، ولا يقدم ذلك بسلسلةٍ طويلة من ألفاظ التفخيم والتعظيم والإجلال والتقدير . فإذاً لا بد من شرطٍ جوهري لحمل كل رسالةٍ عالميةٍ وعالية هي أن يكون الشعب الذي يحملها شعباً حراً ، ومن هنا النظرة غير المستريحة التي ينظر بها الإسلام إلى كل تسلط وإلى كل إرهاب وإلى كل إفتياتٍ على حقوق المواطن الفرد ، فلا يسمح الإسلام بإيذاء الفرد ولا بسلبه ماله ولا بجلده ، بل يقرر فيقول : ظهر المؤمن حمى . ويقول : لا تضربوا عباد الله فتذلوهم . لأن الإسلام جاء ليحرر ، ومن هنا يرفض الذل والإذلال ويدمدم على الذين يريدون أن يُذلوا عباد الله تبارك وتعالى . هذه أول الحقائق ، من أين جاءت ؟ ما الذي سببها ؟ وجود حملة الرسالة في ظل سلطةٍ لا تقبل الرسالة ، نمشي مع الزمان فنجد أن بني إسرائيل بعد استقرارهم في الأرض المقدسة تعرضوا لهجمات وسُبوا ، وكان السبي البابلي وكان السبي الفارسي ، والسبي في ذلك الوقت يعني الاسترقاق ، ويعني قتل الرؤساء ويعني إحراق الكتب الدينية ، من من أجل هذا في السبي الأخير بعد خراب بيت المقدس ضاعت من أيدي الإسرائيليين حقائق التوارة جميعاً ، ويُذكر أن أحد الملهمين بعد أن عادوا وسمح لهم إمبراطور فارس بالعودة إلى فلسطين أملى عليهم التوراة من حفظه ، وهذا طبعاً فرية لا يمكن أن نقبلها في حال من الأحوال ، ونسخ التوراة الموجودة الآن بين أيدي اليهود لا يستطيع أي عالم متحيز أن ينسبها إلى موسى صلى الله عليه وسلم ، لأن الحقيقة التاريخية الصارخة تقول إن نسخ التوراة الأصلية في حوادث السبي المتكرر التي نزلت ببني إسرائيل .

 دعونا من بني إسرائيل وتعالوا إلى النصارى ، فقد نشأ عيسى إسرائيلياً من الإسرائيليين ، ولكنه نشأ في ظل الإمبراطورية الرومانية . الإمبراطورية الرومانية يصدق عليها من يصدق على مصر ، كذلك إمبراطورية عريقة ورثت الحضارة الإيجية والإيونية ، ورثت حضارة الإغريق واليونان ، وورثت كثيراً من النظم والعقائد التي وجدتها في المنطقة من أمثال شرائع البابليين والآشوريين وما أشبه ذلك ، فهي إمبراطورية واضحة المعالم بيّنة التشريعات لها رأيها الواضح في كل شأن من شؤون الجماعات ، ولكن الرومان كانوا قوماً وثنيين يعبدون الأصنام ، فنشأت النصرانية في ظل الإمبراطورية الرومانية ، كان يصب عليها تياران من الإرهاب من أول نشأتها ، اليهود الذين حسدوا عيسى عليه السلام ، أصبحوا يطاردونه ويستعينون بالسلطة لضربه وضرب الرسالة التي جاء بها ، الإمبراطورية الرومانية حينما لاحظت الانتشار الهائل الذي تحققه النصرانية بدأت ابتداءً من عام 64 للميلاد في عهد نيرون باضطهاد المسيحية ، ماذا كان يعني هذا الاضطهاد ؟ كان يعني السجن وقتل الرهبان وكان يعني تحريق الكتب وكان يعني المطاردة في كل مكان تناله أيدي الرومان ، في ذلك الوقت فـي القرن الأول وفي القرن الثاني للميلاد نجد أن أهم الذين برزوا من القديسين كانوا ( القديس جوستين والقديس ..والقديس .. ) هؤلاء الثلاثة عاشوا في أوائل القرن الثاني للميلاد ، حينما نرجع إلى دراسة أقوالهم وكلامهم واحتجاجاتهم ضد السلطة الرومانية التي تنكل بالمسيحيين نجد أنهم يضربون على وتر ، لاحظوا ، كان ينددون بالإرهاب ويقولون بصراحة : إن القسوة والفظاظة والغلظة لا تحل المشكلة ، ولكنهم يطلبون من أباطرة الرومان أن يتحقق بينهم وبين الدولة الرومانية شيء من الوفاق ، علامَ يدل هذا ؟ يدل على ملل أصبح يتسلل إلى نفوس الدعاة . ما جاء القرن الثالث أو أوائل القرن الرابع في عام 311 بدأت مراسيم التسامح التي أصدرها الإمبراطور قسطنطين في وجه الخلافات التي ظاهرة في المجتمع الروماني القديم وأراد أن يشد عرى المملكة . في عام 313 أصدر مرسوم ميلان الشهير والذي جعل النصرانية ديناً له حق البقاء على قدم المساواة مع بقية الأديان الوثنية واليهودية وغيرها التي كانت موجودة في ذلك الوقت ، بعد عشر سنوات من هذا التاريخ أي في عام 323 بالضبط اعتنق الإمبراطور قسطنطين النصرانية ، في ذلك الوقت ظهر بين النصارى آريوس ، أريوس أحد البطارقة العلماء الكبار في النصرانية ، أنكر على النصارى ادّعاءهم لألوهية المسيح وقال : إن عيسى عبد مخلوق لله تعالى حلت عليه نعمة الله بالرسالة فقط ، وأما كونه إلهاً فشيء لم تعرفوه القرون المسيحية الأولى على الإطلاق . ظهر هذا الرجل في الإسكندرية ، ولاحظوا الإسكندرية لأقول لكم بعد قليل ماذا تعني هذه الظاهرة ؟ متى كان هذا ؟ في عام 323 ، وفي عام 325 بالضبط دعا الإمبراطور قسطنطين الرهبان والبطارقة ليجتمعوا في مجمع ديني يقررون فيه شؤون العقيدة ويقبلون ما هو مقبول ويرفضون ما هو مرفوض وفقاً للعقائد النصرانية ، فكان المجمع وهذا المجمع اجتمع وكان معظمه يدين بألوهية الله الواحد ورفض ألوهية المسيح أو بنوته لله تبارك وتعالى ، كان عدد الرهبان الذين اجتمعوا خلال ذلك المجمع ألفان وثماني وأربعون راهباً ، فلما اجتمعوا اختلفوا ، وكانوا يجتمعون تحت إشراف الإمبراطور قسطنطين الوثني الذي دخل النصرانية حديثاً يحمل كل موروثات الوثنية ، فلما رأى أن الأمر هكذا اختار من بينهم ثلاثة مائة وثمانية عشر راهباً فقط ، وجمعهم تحت رئاسته ، فلما اجتمعوا أغلق عليه الباب ووضع خاتمه وصولجانه بين أيديهم وقال لهم : قرروا ما تقررون وعلي التنفيذ . أين ذهب رأي الآخرين وهم ألفان وثماني وأربعين ، وأكثر من سبعمائة راهب كانوا يخالفون هذه المجموعة الصغيرة ، لم يشأ قسطنطين أن يأخذ آراءهم ، وإنما تبنى رأي ذلك المجمع الصغير الذي نص على حرمان كل قائل بأنه مضت لحظة من الزمان لم يكن فيها الابن موجوداً ولم يكن فيها مولوداً ، وأن الابن والأب متساويان في الجوهر ، كلاهما أزلي قديم وكلاهما إله حق من إله الحق . هذا المجمع أيضاً حرّم أيروس وحرم قراءة كتبه وقرر مطاردة الوحدانية بصورة عنيفة ، وكتب قسطنطين إلى الآفاق يأمرهم بمطاردة هذه العقيدة ، لماذا ؟ ولماذا يا قسطنطين ؟ الرومان صحيح أنهم كانوا وثنيين ولكن التاريخ يعي وجود سقراط وأرسطو وأفلاطون ، وهم قمم من القمم العالية في الفكر البشري ، ساءهم أن يلاحظوا عند قومهم عبادة الأوثان واعتبروها هواناً وشيء لا يليق بالإنسان ، وأقروا بأن وراء هذا الكون خالقاً قادراً قاهراً هو الذي أوجده ، ولكنهم اصطدموا بعقبة ، الخالق الواحد الذي لا يتغير كيف يصدر عنه العالم المتكثر ، هذه الكثرة تقتضي الحركة ، والحركة تقتضي التغير ، فلهذا لا يجوز أن يصدر عن الواحد الكثرة التي تقتضي التغير والحركة ، فقالوا كما تبلور ذلك على يد أفلوطين الإسكندري في الأفلاطونية الحديثة في مدينة الإسكندرية بأن الكون مؤلف من ثلاثة : العلة الأولى التي هي الله وهي علةٌ ثابتة لا تخلق العالم مباشرةً ولكن بوسائط تمنعها من التحرك ، صدر عن العلة الأولى بواسطة نظرية الفيض التي طال بها أفلوطين الأسكندري ن صدر عن العلة الأولى العقل الفعال ، العلة الأولى تقابل ماذا ؟ تقابل الله ، العقل الفعال الذي هو العلة الثانية تقابل ماذا ؟ تقابل الابن الذي هو المسيح ، صدر عن العلة الأولى العقل الفعال وصدر عن العقل الفعال النفس الكلية التي تقابل الروح القدس ، ومن نفس الكلية تكثرت حوادث الدنيا وأشياء الدنيا ومخلوقات الدنيا .

 التثليث الذي ابتدعته فلسفة اليونان كما تمثل في الفلسفة الأفلوطينية الحديثة هو هو تثليث النصرانية مع فارق جوهري ، فالأفلوطينية الحديثة تقرّ بهذه الأقانيم الثلاثة ، ولكن على تفاوتٍ في المراتب ، المرتبة الأولى للعلة الأولى ، المرتبة الثانية للعقل الفعال ، المرتبة الثالثة للنفس الكلية ، أما النصارى فيقولون إن الأب والابن وروح القدس كلهم بمرتبةٍ واحدة من حيث القدر ومن حيث قيمة الألوهية ، فإذاً التثليث لم يكن في أساس النصرانية وإنما جاء طارئاً بشهادة التاريخ وشهادة كتبهم بالذات ، لكن لماذا ؟ تحت ضغط من ؟ تحت ضغط السلطة القائمة ، قسطنطين كان يمثل السلطة ، وكما وضع كل ما يستطيع من إمكانيات في خدمة الرهبان الثلاثمائة والثمانية عشر كذلك هؤلاء الرهبان وضعوا في خدمته كل ما يملكون من طاقة ، وتعاون الطرفان على تبادل المنافع ، وكان ما كان مما حدثتكم عنه منذ ثلاث جمع يوم قلت لكم : إن هذه المهزلة السخيفة توّجت بأن قابل البابا ليون الثالث في روما بوضع التاج على رأس شارلمان وانتصار الكنيسة إلى شرقيةٍ وغربية وانقسام الإمبراطورية إلى إمبراطورية شرقية في بيزامبيا وإمبراطورية غربية في روما .

 إذاً نحن أمام واقعٍ راهن ، إن السلطة بما لها من حدود وبما تفرضه من قيود تتنافى مع الرسالة ، وإن النبي صلى الله عليه وسلم لو لم يكن من قانون الرسالات ما يحول بينه وبين هذا التفكير لكفاه أن ينظر في تجربة النبوات ، كل تحريف حصل في النبوات السابقة فإنما سببه أن النبوات السابقة رضيت بهيمنة السلطة الزمنية القائمة ، فوجدت نفسها بعد زمانٍ يطول أو يقصر مضطرةً شاءت أم أبت لكي تحافظ على بقائها أن تساير السلطة الزمنية ، حذفاً وإضافةً وما أشبه ذلك .

 والحبشة بلد فيه دولة ، له سلطان ، فيه قوانين ، فيه ما فيه ، ولو أن الوقت منفسح لشرحت لكم كل شيء ، ولكن تكفي هذه الإشارات العابرة ، لتدلكم على أن رسول الله صلوات الله عليه بما أنه يحمل عقيدةً ترفض كل العقائد السابقة ، هذا واحد . وبما أنه يحمل شريعةً تطلب أن تخلي الدنيا الساحة تماماً من كل شريعةٍ أخرى لتحل محلها شريعة الإسلام ، اثنين . وبما أنها تطلب شعباً لم تذلـله السلطة ولم يعبّده الإرهاب ولم يذلـله الاستبداد السياسي ، ثلاثة . بما أن الأمر كذلك فالحبشة غير مؤهلة بما هي عليه في ذلك الزمان بأن تستوعب الرسالة المحمدية ، لسببٍ بسيط هو أن هذه الرسالة تريد أرضاً تتأقلم معها ، ولهذا فنحن نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما سنحت الفرصة وانطلق إلى المدينة المنورة لم يجد عوائق ، كانت المدينة تستعد لكي تنهي عهداً طويلاً من التفرق والانقسامات ، تستعد لتملّك عليها عبدالله بن أبي بن سلول ، فجاء محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن فشى الإسلام وأصبح له ذكر في كل دار من دور الأنصار ، وهاجر المسلمون المهاجرون من مكة إلى المدينة واستقروا هناك ، فكانت في المدينة فئات ، كان المسـلمون ، وكان الذين بقوا على الشرك من الأوس والخزرج ، وكان اليهود ، وحين دخل النبي صلى الله عليه وسلم اتفق الجميع كل الأطراف العرب المسلمين والمشركين واليهود معهم بمختلف قبائلهم على أن يكون محمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم هو المرجع في كل خلافٍ يحصل وهو السلطة التي توضع بين يديها مهمة تصريف شؤون المدينة ، سواء كانت داخلةً في اختصاص المسلمين أم كانت تتناول الوثنيين من العرب الذين لن يسلموا بعد ، أو كانت تتناول قبائل اليهودٍ موجودة بالمدينة . فأول استقرار الذي سبب الازدهار أن الإسلام مارس سلطاته الدستورية ، ومارس سلطاته التشريعية مباشرةً ، ولن يحتج أبداً أن يخضع لسلطة أو أن يعيش تحت ظل سلطة . أنشأ سلطته الذاتية لحسابه الخاص وسار بها لكن بعد ماذا ؟ بعد أن قضى مراحل نضجت فيها شخصيات المسلمين في المدينة من خلال العذاب ومن خلال الصبر الطويل ، لكن إلى الحد الذي لا يسمح بتخريب النفوس .

 بقي هناك ثلاثة عشر عاماً فقط ، أتصور لو أن الأمر امتد إلى مائة وثلاثين عاماً أو أكثر من ذلك لكن للإسلام شأن آخر . اليهودية مضت عليها مئات السنين ، ستمائة أو سبعمائة وأكثر من ألف سنة وهي تعيش في ظل سلطات زمنية تسومها الخسف وتذيقها العذاب ألواناً ، فاضطرت لأن تلائم بين وضعها وبين متطلبات السلطة ، النصرانية بقيت ثلاث قرون بالضبط وهي تعاني المطاردة والتقتيل والتذبيح والحرق والشي على النار البطيئة وإحراق الكتب ومخلفات الآباء ، ثم كانت لها سلطة ولكن بعد ماذا ؟ بعد أن دخل التحريف وبعد أن ضاعت معالم الرسالات الأولى . لكن هذا الإسلام تحمل العذاب والإرهاب إلى الحد الذي شحذ العزيمة ونمى الشخصية دون أن يسمح بتخريبها بحالٍ من الأحوال .

 هذه هي صورة المسألة يا إخوة ، بقيت في المسألة جوانب ، أترانا في العصر الحاضر نستطيع أن نطبق ذات الشيء على مجتمعاتنا الحاضرة ؟ سؤال مشروع ، ربما تأذى منه ناس وسُرّ له آخرون ، ولكنه سؤال يطرح نفسه بعنف وبإلحاح ، أقول : لا أدري ، أمامي في التجربة الأولى رسالة انتقلت من العذاب إلى جوٍ متحرض أسلمها مقادته بالكامل مائة بالمائة ، وأمامي الآن مجتمع أو مجتمعات مسلمة وضعها مختلف ، نحن نعيش في مجتمعات منها من يتحرق شوقاً إلى وضع شرائع الإسلام وقوانين الإسلام موضع التطبيق ، ومنها قسم هائل وكبير يعيش على هامش الإسلام ، فقد اهتماماته التي تشده إلى هذه القضية وتجعله عاملاً من أجل خير الإسلام ، ومنها أناس يهاجمون الإسلام بعنف وبشراسة ويريدون تحطيمه .. والكل يعيش في ظل سلطةٍ زمنية لها قوانين ولها قواعد ولها شرائع وتدعي أشياء ما أنزل الله بها من سلطان . طبيعي أن نقول : إن دساتيرنا وإن قوانيننا وإن شرائعنا زد على ذلك آدابنا وأخلاقنا تتنافى مع الإسلام ، وإنه إذا كان الآباء الأولون يريدون من الإمبراطورية الرومانية أن يصلوا إلى صيغة مهادنةٍ أو اتفاق فيما بينهم ، فنحن لا نملك هذا الحق بصورةٍ من الصور ، في الإسكندرية وفي موقع قيصرون بنت كليوباترا معبداً أقامت في صنماً اسمه عطارد ، وكان المصريون من أهل الإسكندرية يعملون له عيداً سنوياً ويقربون القرابين ويقيمون الحفلات ، ودخلت النصرانية إلى مصر واعتنق أهل الإسكندرية النصرانية ، ولكنهم ظلوا يقيمون الأحفال والأعياد لعطارد ، وفي زمن البطريك الحادي عشر للإسكندرية أراد أن يهدم الصنم فثار عليه الشعب ، أي شعب ؟ الشعب النصراني ، قالوا له : مضى أحد عشر بطريك لم يتعرضوا لهذا الصنم فنحن نمنعك من هدمه . وفعلاً مُنع البطريك من هدم الصنم ، وتعايشت النصرانية المحرفة مع الصنمية التي تراها بأم عينيها .

 حينما أسلمت ثقيف بعد الحصر الذي ضربه عليها محمد صلى الله عليه وسلم ثم فكوا عنها ، ثم جاء وفدها يعرض الإسلام طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالوا له : يا رسول الله نحن أسلمنا ونحمل إليك إسلام القوم ولكنا نريد منك أن تؤجل هدم صنمنا سنة ، قال : لا . قالوا : ستة أشهر ، قال : لا . شهراً ، قال : لا . قالوا : إنا نخشى السفهاء والصبيان والنساء ، قال : لا . لا مجال لذلك ، قالوا : ثلاثة أيام ؟ قال : لا . لا يوجد تأجيل ، الإسلام والصنمية لا يتعايشان ، قالوا له : إذاً يا رسـول الله نرجو أن تأذن لنا بأن يُهدم الصنم بيد غيرنا ، فبالفعل أرسل المغيرة بن شعبة مع عدد من الأصحاب وهدموا الصنم . الإسلام لا يمكن بصورة باتة من حيث المبدأ أن يقبل شيئاً يتصادم مع عقائده ومع آدابه ومع شرائعه ، لكن هل أستطيع أن أنقل التجربة كلها إلى العصر الحاضر بما فيه ؟ هذا العصر فيه مسلمون ، وفيه أناس يتمتعون بقصرون رؤية ، والواجب أن تُفتح أعينهم على سعتها ، هناك أناس يخاصمون ، هل يمكن لنا أن ننقل التجربة لنقول إن علاج المرحلة الحاضرة هو نفس العلاج الذي كان سابقاً ؟ من حيث المبدأ أقول : نعم نعم نعم من حيث المبدأ ، لكن من حيث التطبيق هل هذا يمكن ؟ بين المرحلتين تباين ، اتفاق في الوجه وافتراق من وجه آخر ، ولكي يكون القياس سليماً فيجب أن يكون المقيس والمقيس عليه متماثلين من كل وجه ، فإذا كان هناك اتفاق وافتراق فالحقيقة خاضعة لنسبة الاتفاق والافتراق ، ولهذا لا أستطيع ولا أملك أن أعطي الرأي ولا أن أفتي بالموضوع ، وحيث أنني أثرت القضية ، ويهمني يا إخوتي عن حق وعن صدق وبكل حب لكم ، يهمني أن أقول لكم كلاماً أرجو أن يستقر في أعماق قلب كل واحد منكم ، هذا الذي تسمعونه رأي قابل للتعديل وللتطوير ، قد نحذف منه وقد نزيد عليه ، والمسألة لا أستطيع أن أقضي فيها ، وبحسبي أنني أثير مشكلات وليس علي كلما أثرت مشكلة أن أطرح جوابها ، ولكن علي وعليكم جميعاً وعلى كل الفاقهين والقادرين أن يتعاونوا وأن يتآزروا في التفكير ، التفكير الجاد المؤسس على قاعدة العلم ، القاعدة الصلبة والمدعم بحقائق التاريخ وحوادثه الثابتة لكي نطبّ لوضع المسلمين اليوم ، ولكي نعالج المشكلات ، عند هذا الحد أقف ، وأظن أنني تركت فجوات كثيرة ، كثيرة جداً ، أنا أدرى الناس بها وأعرفكم بها بلا شك بالذي تركت ، ولكني آمل أن يكون هذا ختام الحديث عما يتعلق بالهجرة إلا اللهم يريد أحد من الإخوة أن يسأل سؤالاً معيناً وأنا سأكون سعيداً لو استدرك علي أحد أو استوضح ، حينئذ أنا ملزم بأن أتقدم بإيضاح اللازم ، وآمل إن شاء الله تعالى أن أنتقل بكم في الأسبوع القادم إلى ما هو الأهم ، إلى النظر في طريقة الإسلام في تدعيم الإسلام في الداخل وفي الخارج على السواء ، كيف كانت طريقة المسلمين في أول مراحلهم ؟ كيف كانوا يتلقون العذاب ؟ كيف كانوا يتحملون الإرهاب ؟ ولأية غايات ولأية كوى كان يفتحها الله ويفتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام المسلمين ، كل ذلك سنبدأ بإثارته بدءاً من الأسبوع القادم إلى أسبوعين أو ثلاثة لا أدري ، كل ما أريده أن يعين الله جل وعلا على إتمام ما بدأنا به وأن يجعل ذلك في ميزان حسناتنا وحسناتكم وصلى الله تعالى على سيدما محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.