نظرية العنف 1

العلامة محمود مشّوح

نظرية العنف

وتأثيرها على المجتمع الإنساني

وقضية الهجرة إلى الحبشة

(1)

5 / 3 / 1976

العلامة محمود مشّوح

 (أبو طريف)

إن الله مع الذين اتقوا والذين هـم محسـنون ، أما بعـد أيها الإخوة المؤمنون :

كان في النية أن أؤجل هذا اللقاء لولا أن أخانا أبا محمود حفظه الله أنجز ما كان فيه من حديث عن الهجرة ، ولولا الأصداء والآثار التي تركتها آخر خطبة كانت لنا في هذا المكان لدى فريقين متباينين من الناس ، كان هدفي من آخر حديث ، وكان حديثاً على هامش الهجرة ، أن أبيّن أن حادث الهجرة كان حادثاً طبيعياً جاء في سياقه الزمني وفي مكانه من مراحل الدعوة من غير استعجال لخطوات الطريق .. فمن أجل ذلك كان مبارك الثمرات ، وكانت الهجرة نصراً مؤزراً للإسلام وفاتحة عهد جديد في تاريخ الإنسانية ، ولكن استيعاب الكلام تأخذ الإنسان في مجاريها التي لا بد له من أن يتبعها شاء أم أبى ، ومن ذلك حديثنا عن تعليم الصبر الطويل الذي صبره محمد صلى الله عليه وسلم وصبره المؤمنون معه في مكة المكرمة قبل الهجرة .

ولقد كان مما قلنا إن هذا الصبر عنوان سلوك في الإسلام هو سلوك عدم العنف في مواجهة المخالفين ، وأحسب أنني طرقت هذه الفكرة قبل اليوم ، طرقتها فيما أذكر حين كنت أخطب في الجامع الوسط قبل أن يكمل بناء هذا المسجد ، وحينما كنت أتحدث عن المقدمات التي رأيتها ضرورية لتشكل مدخلاً لدراسة السيرة على ضوء مناهج علمية بعيد عن التزمت وضيق الأفق ، كما هي بعيدة عن الغوغائية والارتزاق ، فقد آن للمسلمين أن يُعملوا عقولهم في كل شيء ، وفي ضوء العقل عليهم أن يقرروا ، وفي ضوء العقل عليهم أن ينفذوا .

لهذا لم أجد سبباً يدعوني لإطالة الحديث حول هذه القضية في خطبتنا الأخيرة ، والكن الشيء المؤسف أنني فوجئت بتيارات أو بردود فعل إزاء الكلام الذي تحدثت به ، والشيء الذي أزعجني حقاً هو أن بعض الإخوة فهم من كلامي الذي يقرر رفض العنف والغلظة أن هذا أمر مرحلي ، هذا من بداية الكلام غلط ، فالواقع أن عدم العنف في غير مدعاةٍ إليه ولا ضرورة ملجئة مسألة مبدئيةٌ في الإسلام ، فالإسلام لا يريد أن يُفني الناس ، لا يريد أن يقتل الناس ، لا يريد أن يميت الناس ، الإسلام يريد أن يحي الناس . ولذلك فطالما وُجد أي أمل في أن يستقيم الإنسان أياً كان اتجاهه فهو محل الرعاية والاهتمام والاحترام ، أما ما يدور اليوم في الساحة العالمية من ارتخاصٍ لقيمة الإنسان وعدم اهتمام به فشيء غريب عن الإسلام ، إذاً فرفض العنف ليس مسألةً مرحلية في الإسلام ، لكنه قضية مبدأ ، هذه واحدة ، وهي واحدة ليست في الحساب ، الذي هو في الحساب أولاً الاستغراب الذي قابل به كثير من الإخوة الذين يشاركوننا آراءنا واتجاهاتنا دعوتنا هذه إلى الحب والتسامح واللين والطيبة والمرحمة في مواجهة المخالفين ، هذا شيء في الواقع عجبت له ، عجبت له لأن الله يقتصّ علينا في القرآن من وصف نبيه محمد صلوات الله عليه فيقول جلّ من قائل (فبما رحمة من الله لنتَ لهم ولو كنتَ فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعفُ عنهم واستغفر لهم وشاروهم في الأمر) الوصف الجوهري والرئيسي لرسول الله صلى الله عليه وسلم اللين وكرم الطباع والمرحمة والشفقة والطيبة التي لا تعرف حداً ، كيف يغيب هذا عن بال الإخوة ؟ ومع ذلك فلقد وقفت أفكر طويلاً ثم عذرتهم ، عذرتهم لأننا نعيش في جو يشكل قوة ضاغطة على تفكير الإنسان وعلى سلوكه ، ليست في الساحة المحلية ولا في الساحة العربية وإنما في الساحة المحلية انتزعت ودُفعت إلى الخلف بعيداً كل معاني الإنسانية ، وبقيت الناس تعيش على قوانين الغابة وأعراف الوحوش ، بقيت الناس لا تسمع إلا أحاديث الدماء وإلا أحاديث القتل وإلا أحاديث الخطف وإلا أحاديث العنف الذي لا يريد أن ينتهي إلا أن يدمر هذه الحياة الدنيا .. كيف يمكن أن نطلب من المسلم أن يبقى بعيداً عن هذه التأثيرات ؟ لا بد له أن يتأثر بها ، من هنا كان إخوتنا يستغربون دعوتنا إلى شيء يخالف المألوف في هذه الأيام.

فرأيت من واجبي أن أعالج المسألة علاجاً صحيحاً ونهائياً ، وأن أقول في المسألة قولاً يقطع كل قول ، وقولاً موسّعاً لا أحتاج بعده إلى أن أعيد الموضوع أبداً ، رأيت أن الله تعالى قال لنبيه في القرآن ( واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً ) ورأيته قال له ( فاصفح الصفح الجميل ) وقال له ( واصبر صبراً جميلاً ) فرأيت أن من الواجب قبل كل شيء أن نعرف ماذا تعني هذه الأوصاف التي وُصف بها : الصبر والصفح والهجر ؟ ماذا تعني بانطباعتها الأولى في نفس الإنسان العربي الذي خوطب بالقرآن يوم كانت فطرته سليمة لم تُمس ولا تلوث بهذه العجمة المستحكمة على العقول والقلوب ؟ ما تعني دلالة اللغة حين يوصف الصبر بأنه جميل ، وحين يوصف الهجر بأنه جميل ، وحين يوصف الصفح بأنه جميل ؟ ورأيت أن الواجب يستدعي أيضاً أن أعالج المسألة في ضوء آخر ما انتهى إليه الفكر الفلسفي المعاصر في موضوع الجمال وتأثيرات الجمال في المسالك البشرية وفي الاتجاهات العقلية للناس ، بل رأيت أن أعتمد حتى المناهج البراغماتية الذرائعية الوصولية لأبيّن أن العنف لا يجدي حتى عند أنصار أن الغاية تبرر الوسيلة أياً كانت ، ورأيت أن أستخدم قوانين علم الاجتماع في أعلى أطواره وأحدث ما وصل إليه الفكر الإنساني حتى الآن ، لأبيّن أن العنف طريق يوصل إلى تدمير المجتمعات الإنسانية ، ولا يوصل إلى إسعادها ولا إلى راحتها ، هذا من جهة .

من جهة ثانية ، ثمة فريق من الناس لا يشاركوننا آراءنا ، تكلمت أنا أن العنف شيء مرفوض وأنه عدوى من عدوى الماركسية ، وقلت ما قلت ، وقيل مِن ـ قبل بعض الإخوة ـ أنني أخدم اليسار العربي ، واليسار العربي له سامعون له عندي الآن . يا إخوتي : من أول الطريق يجدر بنا أن نتفاهم ، من بداية الأمر يجب أن يكون كل شيء واضحاً ، أنا لا أثق باليسار ، مفهوم ؟ رضي اليسار أم غضب ، هـذا شيء لا يعنيني ، كما أنني من جهة أخرى لا أثق باليمين ، رضي اليمين أم غضب ، أثق بشيء واحد بهذا الإسلام .

 القضية عندي متعلقة بالإسلام ، فإذا مسّت اليسار فليغضب ، وإذا مسّت اليمين فليغضب ، أما اليمين فهم طلاب مصالح وطلاب مكاسب ، ونحن طلاب استقامة بالحياة وطلاب آخرة ، فلا مجال للقاء بيننا على الإطلاق ، أفهم ـ لستُ غبياً ـ أن اليسار يتهمنا باليمينية ، هذا خطأ ، اليمين ليس أرحم بنا من اليسار ، يجب أن يكون هذا مفهوماً ، وقلت من بداية الطريق : يجب أن نتفاهم ، ولكن لماذا لا أثق باليسار ؟ اليسار عندي يساران ، يسار متأثر بالماركسية ، فهذا عندي ليس محل نظر ، ولا محل وقوف ، لا يمكن ، أنا أسمع الله تعالى يقول ( إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني ) ويأتي ماركس فيقول : الله غير موجود ، فمن أصدق ؟ أصدق الله أم أصدق ماركس ؟ أسمع الله يقول ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ) فيقول ماركس : كذبت بل لتتصارعوا . فمن أصدق : الله أم ماركس ؟ أسمع وأسمع وأجد مناقضة ، لا يمكن أن تُحل بتاتاً بين المسلمين وبين اليساريين الماركسيين ، كيف نتفق إلا إذا تخلينا عن الإسلام ؟ فبالنسبة لنا فأحب للإخوة الماركسيين أن يعلموا بكل صراحة أننا لن نكون معهم ولن نهادنهم وسوف ندمّرهم في الساعة التي نستطيع فيها ذلك ، ذلك بأنه لا يمكن أن يتعايش الكفر والإيمان على صعيد واحد بتاتاً .

 أما اليسار الذي يدعو إلى العدل الاجتماعي ، فأحب أن أهمس في آذانهم كلمة بسيطة ، لولا انقلاب الزمان ولولا فوضى المفاهيم ولولا تزوير التاريخ وتزوير الواقع لكان اليسار العربي غير الماركسي آخر مَن يدخل معنا سوق المزايدة في العدل الاجتماعي ، صح النوم ، بعد ألف وأربعمائة عام لقيام محمد صلى الله عليه وسلم بكفالة العدل وكفالة القوت وكفالة الكرامة الإنسانية يأتي مَن يزايد علينا في قضايا العدل الاجتماعي ؟ هذا غريب ، بل هذه وقاحة ، إذا كان اليسار العربي يؤمّن القوت ـ وأقيّد غير الماركسي ـ لقاء الحرية ، فالعدل الإسلامي يكفل لك المعيشة الكريمة دون أن يطلب منك أي شيء ، ذلك بأنه يعلم أن معيشتك حق ، ومعنى كونها حقاً أنها لا تقتضي جزاءً ولا تطلب ثمناً . في اليسار العربي غير الماركسي أنت مطالب بأن تصوّت ، ومهازل التصويت التي تكون نتائجها دائماً 99% مهازل لا تدخل في عقل ، الإسلام لا يطلب هذا ، الإسلام يعطيك قوتك ويعطيك بيتك ويعطيك كفالة معيشتك ولا يضغط على حريتك ، حتى حينما تكون مخالفاً له في الدين ، اليهود والنصارى والمجوس عاشوا في المجتمع المسلم موفوري الكرامة وموفوري القوت والحرية دون أن يضغط عليهم النظام الإسلامي بداعي أنه أمّن لهم حاجتهم المعيشية ، أبداً .

 مرة أخرى ، صح النوم ، بعد ألف وأربعمائة عام يزايد علينا اليسار الغبي بهذا الشكل ؟ لا ، من أول الطريق يجب أن نتفاهم ، نحن مسلمون ندعو إلى طراز من الحياة لا يكون فيه الناس أمّعات ولا تافهين ولا مستغفَلين ، وإنما يكونون رجالاً يمشون على الأرض وخطواتهم تدك ظهر الأرض قائلة : أنا هنا ، لا يمشون مشي العبيد ، يمشون مشي الرجال الأحرار ، مشي الرجال الذين وُجدوا ليخطّوا للتاريخ اتجاهاً هم أرادوه ، لأن الله تبارك وتعالى أراده ، أراده الإرادة العامة التي تصنعها الفرد العاقل المفكر المدرك المريد ، لن يدركها زعيم ولا متسلق ولا متسلط ، وإنما أرادها الإنسان الذي جعله الإسلام بمعنى الكرامة الإنسانية ومعنى العزة الإنسانية حتى جعلته يشعر أنه كون صغير قد انطوى فيه العالم الأكبر كله ، فهمتم يا إخواننا جميعاً ، تفصيلات هذه الأمور ليست الآن ، تفصيلات هذه الأمور تأتي ، عندي الآن مهمة أريد أن أنجزها تتعلق بموضوع الهجرة ، في الأسابيع القادمة إن شاء الله سأدخل في تفصيلاتٍ مستفيضة بكل هذه الأشياء ، لأنني كما قلت : أريد أن أنتهي بالمرة من كل هذه الأمور .

 بعض الناس الذين كتبوا في السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي ، من المسلمين ومن المستشرقين غير مسلمين ، يربطون بين حادث الهجرة إلى المدينة وبين حادث الهجرة إلى الحبشة ، بعض المسلمين ومن خيار الذين كتبوا في القضايا الإسلامية ذهبوا إلى أن الهجرة الأولى والثانية إلى الحبشة كانتا تهدفان إلى تأمين موقع قدم في الإسلام ، أي إذا أمكن فلتستقر الدعوة في الحبشة ولتنطلق من الحبشة ، وهذا فهم غلط ، المستشرقون بعامة يقولون : إن حادث الهجرة إلى الحبشة كان حادثاً فاصلاً في تاريخ الدعوة الإسلامية ، لأن المسلمين اتخذوا أول اتصال لهم بالنصرانية في الحبشة فأفادوا منها وتأثروا بالنصرانية ، هل الأمر كذلك ؟ يجب علينا أن ندرك الأمور خارجياً وبدقة ، وأن يعطي للحادث التاريخي حجمه فقط لا ننقص منه ولا نخلق من الحبة قبة ، سأبدأ بآخر الاحتمالين بكلام المستشرقين ، هل صحيح أن الهجرة إلى الحبشة كانت من دواع تأثر الإسلام بالنصرانية ؟ بعبارة أدق : هل كانت الحبشة النصرانية قادرةً في تلك المرحلة على أن تعطي شيئاً للإسلام أو لغير الإسلام ؟ بعبارةٍ أدق : هل كانت النصرانية عموماً في الحبشة وغيرها قادرةً على أن تعطي الإنسانية شيئاً ؟ لا ، كان عمر رضي الله عنه يقال له القبيلة الفلانية اعتنقت النصرانية في الجاهلية والقبيلة الفلانية اعتنقت النصرانية ، فيقول رضوان الله عليهم بسخريةٍ ذات معنى عميق يقول : إن العرب ما عرفوا من النصرانية إلا شرب الخمر وأكل لحم الخنزير ، وعمر رضي الله عنه كان يتحدث عن العرب ولا يجهل أن النصرانية عموماً بين العرب وغير العرب ما عرفت في تلك الأيام إلا شرب الخمر وأكل الخنزير والاعتداء على المحرمات ، هذا واقع يشهد به التاريخ ، الحبشة في ذلك الزمان كيف كانت ؟ الهجرة ، متى كانت ؟ هجرة الحبشة الأولى كانت في شهر رجب من السنة الخامسة للمبعث ، بينها وبين الهجرة العامة ثماني سنوات ، هاجر أحد عشر رجلاً أو ثلاثة عشر رجلاً وأربع نسوة فقط من المسلمين ، ووصلوا إلى هناك وظلوا شهرين ، عادوا بعدها ، فوجدوا أن الأمر قد ازداد بين المشركين وبين رسول الله فانقلب منهم من انقلب من الطريق راجعاً إلى الحبشة ، وهاجرت أرتال أخرى حتى بلغ الذين هاجروا في الهجرة الثانية أكثر من ثمانين رجلاً مع نسائهم ومع أولادهم ، ظلوا هناك ، منهم من عاد بعد ، ومنهم من بقي إلى السنة السادسة أو السابعة للهجرة ، حتى عادوا في سفينتين من الحبشة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة ، وكان يومها عليه الصلاة والسلام قد أتم فتح خيبر ، عرفتم التاريخ ؟ السنة الخامسة للهجرة ، في السنة الخامسة من الهجرة ماذا كانت الحبشة ؟ بل قبل أن نجيب على هذا نسأل : لماذا هاجر هؤلاء الناس ؟ هل نستطيع أن نجد بين أيدينا وثيقةً أدق وأصدق من تعليل الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ لا ، حين اشتد البلاء في مكة على المسلمين ونال الأحرار والعبيد ونال الصغار والكبار رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخفف الضغط على المسلمين ، فأشار عليهم ، أشار ، مجرد إشارة ألقاها النبي صلى الله عليه وسلم، شرح لهم الأوضاع وما يلقون وما هو قائم ، وقال لهم : لو ذهبتم إلى أرض الحبشة . لم يكن هنالك أمر ، كان هنالك رأي ، لو ذهبتم إلى أرض الحبشـة فإن بها ملكاً لا يُظلم أحدٌ عنده حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه . إذاً فالأمـر مؤقت ، مجرد رغبة في تخفيف الضغط عن المسلمين لا أكثر ولا أقل ، لكن ما الذي ضخّم المسألة فيّ وفيكم ، الذين كتبوا حول هذا الموضوع ، ما رافق هذا الحادث وما تلاه ، في الحقيقة أن الفوج الأول الذي هاجر لم تسكت عليه قبائل مكة المشـركة ، أرسلت وفودها إلى ملك الحبشة النجاشي تطلب إليه رد المهاجرين ، وذهب الوفد وقام بسفارته بعد أن رشى البطارقة ورشى الرهبان ، فطلبوا منه أن يعيد إليهم هؤلاء الفارين ، فأهلهم أعرف بهم وأعلم بهم ، لكن الملك الذي لم يُخيّب فراسة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الملك العادل قال : لا ، حتى أستدعيهم سأسمع منهم ، فاستدعاهم ، فكان حوارٌ بينه وبين جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ، شرح له فيه جعفر مبادئ الإسلام وما دعاهم إليه محمد عليه السلام ، وشرح له عدوان قريش وشراسة المشركين ، وقال له : من أجل ذلك اخترناك على من سواك ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك . قال : اذهبوا . رفض أن يسلمهم للسفراء المكيين ، لكن الوفد عاد في اليوم الثاني ليكيد مكيدةً بغيضة ، قال له أي للنجاشي : إن المسلمين يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً ، يقولون : إنه ابن زنى . فاستدعاهم مرةً أخرى وسألهم ، ووقع على المسلمين فعلاً أمر عظيم ، في تلك الأوقات بعد مضي ستة قرون على وفاة المسيح عليه السلام ورفعه كانت المسيحية في رأيها الغالب تقول : إن المسيح هو ابن الله . والقرآن يقول غير ذلك ، قال جعفر : والله ما نقول إلا ما أخبرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم . سألهم عما يعتقدون في المسيح ، فقرأوا عليه صدر سورة مريم وفيها ( قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً ، وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً ، وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً ، والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً ) قال النجاشي : والله إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة . وانصرف الوفد المكي خائباً فاشلاً .

 هنا نقطة مع الأسف تعلقت ببعض الأذهان ونسج حولها المستشرقون كلاماً مستطيلاً ومستعرضاً ، ووقع فيها من قبل علماء كبار من علماء المسلمين وأدخلوها هي قصة الغرانيق ، ملخص هذه القصة أن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما أُنزلت عليه سـورة الرحمن تلاها على المشركين ، وحين كان يتلوها ( أفرأيتم اللات والعزى ، ومناة الثالثة الأخرى ، ألكم الذكر وله الأنثى ) ذُكر أن رسول الله صلى الله عليه وسـلم ذكر فيما ذكر ، ذكر أصنام المشـركين لما قال ( أفرأيتم اللات والعزى ، ومناة الثالثة الأخرى ) قرأ بعدها : تلك الغرانق العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى ، وسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وسجد المشركون من أهل مكة جميعاً ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر آلهتهم بخير . سمع المسلمون هذا الخبر فظنوا أن الأمور عادت إلى طبيعتها من الوئام والسلام بينهم وبين المشركين فعاد من عاد ووجدوا الأمور خلاف ذلك . مع الأسف قلت لكم هذه الحادثة ذُكرت في تفاسير محترمة كتفسير الطبري مثلاً ، وتفاسير أخرى كثيرة ، لكنها تقول إن الشيطان ألقاها على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ، ويدللون لذلك بأن الله قال ( ولولا أن ثبتناك لقد كدتَ تركن إليهم شيئاً قليلاً إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً ) وهذا عجيب ، بين هذه السورة وسورة الإسراء مراحل تتقطع دونها عن أعناق المطي كما يقولون ، هذه في وقت وهذه في وقت آخر ، المسألة في تقديري ليس كما دخلت في أذهان بعض علماء المسلمين القدامى ، ولا كما دخلت في أذهان المروّجين لها من المستشرقين عن غرض مقصود لإيجاد الصلة أي الاستعداد للمساومة والتنازل من النبي صلى الله عليه وسلم لصالح الشرك والمشركين ، لا ، المسألة خدعة من خدع السفارة القرشية ، لا شك أن السفارة التي ذهبت إلى النجاشي فعادت فاشلة أطلقت هذه الشائعة ، حينما أطلقتها بلغت المسلمين هناك وظنوا أن الأمر حقيقة فعادوا ، فقبضوا على من قبضوا منهم .

 يبقى علينا أن نسأل : لماذا هذا الاهتمام من المشركين في إعادة أحد عشر رجلاً وأربع نسوة ؟ لماذا ؟ هل يُعتبر حادثاً خارقاً للعادة أن تخرج من مكة أرتال وأعداد من الناس فلا تعود إليها بالمرة ؟ لا ، لكن بعض الناس ظن أن الأمر يتعلق بتمهيد لانتقال الدعوة إلى الحبشة ، وهذا كما قلنا خطأ ، والزاوية التي ينظر المشركون منها إلى المسألة تتصل بالآتي : الرسول عليه الصلاة والسلام متى ولد ؟ عام خمسمائة وسبعين للميلاد ، ماذا يصادف هذا العام ؟ يصادف عام الفيل ، ماذا يعني عام الفيل ؟ يعني هجوم أبرهة الحبشي على مكة لكي يهدم البيت الحرام ، ما هي معيشة القرشيين في مكة ؟ هي ما يدرّه عليهم مركز البيت في العرب ، لأن القريشيين كانوا يقيمون الأسواق والاحتفالات والمنتديات طيلة الأشهر الحرم الأربعة ، فيستفيدون من بذلك ويعيشون من هذه الخيرات . فتدمير البيت بالنسبة للعرب الجاهليين كارثة ، كارثة لأنها تقضي على المورد الوحيد الذي يعرفون منه ، تقضي على المبرر الوحيد الذي يجعلهم مرتبطين بهذا الوادي غير ذي الذرع . فالقريشيون المشركون معظمهم كان معاصراً لعام الفيل ، وحديث الفيل وإنجاء الله تعالى للبيت ولمكة ما يزال حياً في الأذهان ، والله تبارك وتعالى استثار في المكيين هذه الذكرى إذ أنزل فيها ما أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم ( ألم ترَ كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ، ألم يجعل كيدهم في تضليل ، وأرسل عليهم طيراً أبابيل ، ترميهم بحجارة من سجيل ، فجعلهم كعصفٍ مأكول ) القريشيون اقتنعوا أن الحبشة فعلاً تشكل عليهم تهديداً يتصل بوجودهم بالذات فأرادوا باجتماعهم هذا أن يحولوا دون أن تنعقد روابط ربما تحرّض حكام الحبشة على الهجوم مرةً أخرى على مكة وتحطيم البيت ، وفي ذلك إنهاء لقريش وإنهاء لمكانة قريش ، هذا واحد .

 الشيء الثاني ، سؤال لا بد أن يخطر في البال : النبي صلى الله عليه عليه وسلم أرسل هؤلاء الناس كما قلنا في السنة الخامسة من المبعث ، كان الذي نزل من القرآن قليلاً ، وكان الإسلام بعدُ غضاً طرياً في النزول ، ألم يخطر في بال النبي صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء المسلمين الذين أرسلناهم إلى بلدٍ نصراني يغاير دينه ديننا ، وديننا لما يكتمل بعدُ إنزالاً ولما تترسخ بعدُ قواعده ، وهذه النفوس لما تنصهر بعد إلى الدرجة التي تعطيها المناعة الكافية التي تحول دون التأثيرات الضارة ؟ أليس في إرسالنا إياهم إلى الحبشة النصرانية مغامرة ؟ سؤال لا بد أن يكون واجه النبي صلى الله عليه ، لا بد ، النبي عليه السلام بحكمته وبذكائه وبعقله لا تغيب عنه مثل هذه الاحتملات ، لكن السؤال الأهم هو : هل كانت النصرانية في تلك الأيام قادرةً على أن تُشعر هذا الإنسان المسلم بأنها تملك منهجاً عقدياً ومنهجاً اجتماعياً ونموذجاً ومنظومةً فكرية تفوق هذا القليل الذي جاء من الإسلام ؟ أتصور أن النبي صلى الله عليه وسلم على بصيرةٍ كاملة ، لأن ما هو موجودٌ في تلك الأيام من النصرانية لا يمكن أن يزاحم حرفاً واحداً مـن الكتاب ، لماذا ؟ حين ابتعث الله تعالى عيسى عليه السلام ابتعثه في الناصرة ، في بيت لحم ، والمنطقة في ذلك الزمان تحت حكم الرومان ، والرومان امبراطوريةٌ هائلة ، إحدى قوتين في العالم معروفتين في العالم القديم على الإطلاق ، في فلسطين في تلك الأيام في الأيام التي أُرسل فيها عيسى عليه السلام كان يسكنها اليهود ، وعيسى عليه السلام يهودي الأصل ، والرسالة المسيحية شعبة من اليهودية بدون ريب ، فلقي عيسى عليه السلام حرباً شعواء من اليهود ، اعتبروا دعوة المسيح عليه السلام انشقاقاً على العهد القديم الذي جاء به موسى ، وتعاونوا مع الرومان لمطاردة المسيح وأتباع المسيح عليه السلام ، واستمرت المطاردة حتى كان عام ثلاثمائة وثلاثة عشر للميلاد فأصدر الإمبراطور الروماني قسطنطين المراسيم الشهيرة بمراسيم ميلانو التي اعترفت بحرية الديانات في أرجاء الإمبراطورية الرومانية ، ومن جملتها النصرانية . وبعد أمد قصير ولرؤيا رأتها أم قسطنطين اعتنق قسطنطين النصرانية ، وانتشرت النصرانية في الإمبراطورية الرومانية منذ ذلك التاريخ . لكن السؤال أين الإنجيل الذي أُنزل على عيسى صلى الله عليه وسلم ؟ أين هو ؟ ضاع إنجيل عيسى في المطاردة ، لقي المسيحيون الأوائل ـ والحق يقال ـ من الأهوال ما تشيب لهوله الولدان ، حتى الإمبراطور المجنون نيرون إمبراطور روما ، صوّر له اليهود بافتعال حريق في روما أن المسيحيين هم الذين أحرقوا روما ، فكواهم في النار وقتّلهم وألقاهم للوحوش ودمرهم تدميراً .

 الأناجيل ما كتبت في زمن المسيح ، كتبت بعد وفاة المسيح بما لا يقل عن ثمانين عاماً ، ثم خلال المدة الواقعة بين السنة الأولى لميلاد المسيح عليه السلام وسنة ثلاثمائة وثلاثة عشر عقدت عدة مجامع كنسية ، كان الهدف منها النظر في هذه السير التي كتبها تلامذة المسيح وتلامذة تلامذتهم ، كانت الدنيا تموج بعددٍ لا يحصى من الأناجيل ، كل إنجيلٍ يدعي أنه الحق ، وكان مجتمع مقدونيا ومجتمع نيقيا وبقية المجامع التي تعقد من قبل الكنائس العامة أو المسكونية كما يسمونها تحرّم أناجيل وتفرض عقائد معينة . ما أسلم قسطنطين إلا والمسيحية تعتقد في غالبيتها الساحقة أن الله ثالث ثلاثة ، فهمتم ولاحظتم ، الله ثالث ثلاثة ، الابن الذي هو المسيح ، الله الذي هو الأب ، جبريل الذي هو الروح القدس . وحصل نزاع أيضاً ، مريم أم المسيح ما شأنها ؟ أيضاً حصلت انشقاقات واستقر الرأي على أن مريم أيضاً إله ، هذه التشققات في الكنيسة المسيحية رافقتها أيضاً تشققات أخرى على الصعيد السياسي ، تسمعون أن الله تعالى أنزل في المرحلة المكية ( ألم ، غُلبت الروم في أدنى الأرض وهم بعد غلبهم سيغلبون ، في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ) كانت الإمبراطورية الرومانية قد اكتُسحت من قبل الإمبراطورية الفارسية في ذلك الوقت ، ووصلت إلى حالةٍ من التمزق لا تحسد عليها أبداً . وقدموا التماساً للإمبراطور شارلمان وكان ذلك الوقت ملكاً من ملوك الفرجنة يتبع للإمبراطورية البيزنطية في القسطنطينية ، اتهم رجال الكنيسة البابا ليون الثالث بالزنى والكذب وشهادة الزور وبمفاسد لا حصر لها ، في أربع وعشرين تشرين الثاني من عام ثمانمائة للميلاد دخل شارلمان مدينة روما باحتفال مهيب ، في الأول من كانون الأول عقد عدة اجتماعات تحت رياسته بالنظر في الاتهامات الموجهة إلى البابا ليون الثالث ، في ثلاث وعشرين كانون الأول أصدر الإمبراطور أو الملك شارلمان في ذلك الوقت قراراً بتبرئة البابا ليون الثالث من التهم بعد أن فرض عليه أن يحلف اليمين ببراءته من كل ما نُسب إليه ، مع أن التقاليد المسيحية تمنع أن يتعرض البابا لحلف اليمين لأنه رأس الكنيسة . في عيد ميلاد من تلك السنة خمس وعشرين كانون الأول عام ثمانمائة فوجئ شارلمان وهو يؤدي الاعتراف في كنيسة القديس بطرس بالبابا ليون الثالث يرد الجميل ، يضع تاج الإمبراطورية على رأس شارلمان ، لذلك تكرس الانشقاق نهائياً في الإمبراطورية الرومانية ، وأصبحت هناك كنيستان ، كنيسة شرقية تابعة لبيزنطية التي هي القسطنطينية ، وكنيسة غربية مقرها روما أو الكرس الرسولي كنيسة القديس بطرس .

 الأوضاع بهذا الشكل ، في ظل حالة من هذا النوع تعجّ ببدعٍ ونحل ، منها نحلة بودونو الذي كان يقول إن المسيح ليس ابن الله على الحققية ، ولكنه ابن الله بالتبني ، تعرفون ما معنى هذا ؟ افترض أنك مشيت في الطريق ووجدت طفلاً ملقى في الأرض لا تعرف أمه ولا تعرف أباه ، ابن زنى ، فأخذته وتبنيته وربيته فيقال هو ابنك بالتبني ، المسيح بموجب هذه النحلة هو ابن الله بالتبني ، الله وجد مريم زنت ـ حاشها من ذلك ـ فتبنى ابنها وأرسله رسولاً للعالمين . في تلك الأوقات التي كانت تشيع نحلة تقول : إن المسيح من طبيعةٍ واحدة ، هي من جوهر الله ، طبيعة إلهية ، في تلك المرحلة التي كانت المسيحية تشيع فيها آراء لا أغرب ولا أسخف منها كان المسلمون يهاجرون إلى الحبشة في الوقت الذي أصبحت الكنيسـة غير قادرةٍ بتاتاً على أن تعطي أي شيء ، أي شيء بتاتاً ، أصبحت الكنيسـة معطلة وأصبحت النصرانية قد استنفذت أغراضها منذ زمنٍ بعيد .

 فحين يشير النبي صلى الله عليه وسلم على المسلمين أو على بعضهم أن يهاجروا إلى الحبشة .. يأتي من لا يعقل أو أصحاب الغرض والهوى والذين يريدون أن يطعنوا الإسلام ليقولوا : إن هذا الاتصال الأول بين المسلمين وبين الحبشة كان فاتحة تطور كاسح بالنسبة للإسلام لأنه لقح العقائد الإسلامية بالعقائد النصرانية ، يا سبحان الله ، أي لقاء وأي جامع بين عقائد الإسلام وعقائد النصرانية ؟ يا سبحان الله ، أي إشعاع تملكه الحبشة وهي جزء من إمبراطوريةٍ ممزقة لكي تعطي مثل هذه التأثيرات ؟ يا سبحان الله ، هل كان المسلمون الذين عايشوا محمداً صلى الله عليه وسلم في مكة فرأوا من طهره ورأوا من عفافه ورأوا من صدقه ورأوا من أمانته ما رأوا .. هل هؤلاء يجذبهم فجور البابا ليون الثالث ؟ يا سبحان الله ، كيف تضل العقول ؟ وكيف يشرد الذهن بصاحبه فيضل به ضلالاً بعيداً ؟ لا ، ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يغامر بإرسال هؤلاء النفر من المسلمين ، وما كان يخاف عليهم أن تتأثر عقائدهم ، فالنصرانية موجودة في بلاد العرب قبل أن يولد محمدٌ صلى الله عليه وسلم ، وقبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم ، ولكن كما قال عمر على النحو الذي قاله عمر رضي الله عنه : ما عرفت العرب من النصرانية إلا شرب الخمر وأكل لحم الخنزير ، أما النصرانية كعقائد وأخلاق وشرائع ومعاملات وآداب فقد ضاعت في ظلمات التاريخ منذ زمنٍ بعيد بعيد بعيدٍ جداً . النبي عليه الصلاة والسلام كان يعرف هذا كله ، الحبشة على مرمى حجر من العرب ، ينبع وجدة ميناءان يؤديان إلى الحبشـة ، ومتجر قريش مع الحبشة ذاهب وجاءٍ ، فالحبشة أخبارها معلومة ليست مجهولة ، كل يوم السفن تذهب وتروح تنخر غباب البحر الأحمر فتأخذ البضاعة من الجزيرة العربية إلى الحبشة وتعود ببضاعةٍ من الحبشة إلى الجزيرة العربية ، وهي فيما بين هذا وذاك تنقل الأخبار وتنقل الحقائق ، والنبي عليه الصلاة والسلام يعلم . الذين تصوروا هذه التصورات الباطلة كانوا يجهلون حقائق التاريخ ، أو يتجاهلونها ، والذين تصوروا هذه التصورات الباطلة كانوا يجهلون ما هو أهم من حقائق التاريخ ، كانوا يجهلون حقيقة النصرانية في ذلك الحين وقدرتها على العطاء وعلى الإشـعاع ، لا شيء في النصرانية يمكن أن يقبله إنسان .

 ما معنى الثلاثة في واحد والواحد ثلاثة وهذه السخافة التي لا تنتهي ؟ ما معنى أن يكون البابا معصوماً وهو يُتهم بالزنى ويشرب الخمر ؟ ما معنى أن يكون البابا يحل شيئاً فتحله السماء ويعقد شيئاً فتعقده السماء وهو يتملق شارلمان ويرد له الجميل بتتويجه إمبراطوراً على روما الغربية ثمناً لتبرئته من تهمٍ خطيرة مخلةٍ بالشرف والأخلاق والإنسانية ؟ أي شيءٍ بقي في النصرانية يمكن أن يتهم الإسلام أنه اقتبسه منها ، الإسلام جاء وقد كفت النصرانية عن العطاء .

 وحين ذهب هؤلاء النفر ذهبوا لهذه الغاية بالتحديد التي ذكرها لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم : اذهبوا إلى أرض الحبشة ـ تخفيفاً من العذاب والبلاء ـ فإن بها ملكاً لا يُظلم أحدٌ عنده . كان الرجل معروفاً بالعدل ، وأخباره في الجزيرة مستفيضة ، وآية عدله أنه ردّ هدايا قريش ورفض أن يُسلّم المسلمين للمكيين ، وأعطاهم الحرية في أن يعيشوا في بلده . قال لهم : ذهبوا فأنتم ضيوف ، أي أحرار ، من سبكم غرم ومن ضربكم غرم . أي أنه سيعاقب أي إنسانٍ من الأحباش يعتدي على المسلمين . وإلى أي مدى نهائياً ؟ لا ، قال لهم النبي عليه الصلاة والسلام : حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه . وقد جعل الله تبارك وتعالى الفرج للمسلمين بأن هاجروا من مكة إلى المدينة .

 هناك في الهجرة إلى الحبشة رأى : لو ذهبتم إلى أرض الحبشة . أما هنا في الهجرة إلى المدينة الأمر مختلف ، في الأول أذن النبي صلى الله عليه وسلم للمسـلمين أن يهاجروا ، لكن بعد أي شيء ؟ جمعهم وقال لهم ـ انتبهوا ـ قال لهم : إن أُريت دار هجرتكم . مو رأيت ولا فكرت ولا قدرت ولا أشرت : إني أُريت دار هجرتكم . أي أن الله تعالى أراني المكان الذي ستهاجرون إليه ، ليست المسألة بشرية إنما هي ربانية : إني أريت دار هجرتكم وإنها أرض ذات نخلٍ بين حرتين . والحرتان هما اللتان تكتنفان المدينة المنورة ، وهي أرضٌ بركانية ذات حجارةٍ سوداء ، لم يسمِّ المدينة ولم يذكر الاسم ، إنما شخّط ووصف الموقع ، إنها أرضٌ ذات نخل بين حرتين . وانصرف المسلمون على هذا الأمل إلى المدينة بعد بيعة العقبة الأولى وبعد بيعة العقبة الثانية ، وبقي النبي صلى الله عليه وسلم يتربص ، ما الذي كان يمنعه صلوات الله عليه من أن يكون أول المهاجرين ؟ ما الذي كان يمنعه من أن يوافق الموكب المسلم الذي هاجر إلى المدينة ؟ كان يأتيه أبو بكر يستأذن للهجرة ، فيقول له ك هوّن عليك ، اصبر لعل الله يجعل لك صاحباً . ويصبر أبو بكر ، وعدة مرات ، يأتي أبو بكر يقول : أتأذن يا رسول الله أن أهاجر ؟ فيقول : اصبر لعلّ الله يجعل لك صاحباً . وتحدثنا السيدة عائشة في حديث الهجرة التي رواه الأئمة جميعاً ، قالت : طرقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهيرة في ساعةٍ ما كان يأتينا فيها قط ، فلما رآه أبو بكر دهش ، قال له : ماذا يا رسول الله ؟ قال : إن الله قد أذن لي بالهجرة . قال : الصحبة يا رسول الله ؟ قال : نعم الصحبة . تقول عائشة رضوان الله عليها : فوالله ما سعمت أن رجلاً يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكرٍ في تلك الساعة يبكي فرحاً بمرافقته رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة . إذاً فالمسألة هناك رأي ، أما هنا فوحي ، شيء إلهي ، استقرار الدعوة في المدينة بأمر الله أذن الله بالهجرة وأراه دار الهجرة فذهبوا إليها ..

 وهناك مجرد رأيٍ ومشورة وبين الأمرين فرق كبير ، ماذا بقي ؟ بقي أن أقول : إنني أمسكتكم طبعاً وقتاً طويلاً في هذا الجو الذي قد لا يناسبكم ، وأتبعتكم ولكني أتعبت نفسي أيضاً ، تأكدوا . المسألة كما قلت تحتاج منا إلى أن نقول كل شيء ومرةً واحدة ، وسوف نجزئ الحديث أجزاءً ، وقد أصبحنا بحمد الله في حالةٍ من الصحة نستطيع أن نواصل فيها الحديث جمعتين أو ثلاثاً أو أربعاً أو أكثر .. بقي علينا أن نلقي في موضع الهجرة إلى الحبشة سؤال : هل في مبادئ الإسلام وشرائط الإسلام ما يشجع على أن تُتخذ الحبشة موئلاً وداراً للإسلام ؟ لكي نرد على الشق الثاني من الاعتراضات التي أثرناها في أول هذه الخطبة ، قلنا لا ونقول الآن لا ، ونرجو من الله تبارك وتعالى أن يوفقنا لكي نتحدث في هذا الموضوع فنبيّن أن قوانين الدعوة تمنع بصورةٍ باتة أن تنطلق الدعوة من أرضٍ غير عربية على الإطلاق ، واحد . وتمنع ثانياً أن تنطلق الدعوة الإسلامية وهي تحت كنف أي سلطةٍ مهما كان لونها ، ولهذا تحتمت أن تنطلق الدعوة من بلاد العرب ، وتحتمت أن تكون الدعوة غير محكومة لا بقانون الرومان ولا بقانون فارس .

 فإلى الجمعة القادمة أسأل الله تبارك وتعالى أن يعيننا على إتمام ما بقي من ما يتعلق بحادث الهجرة إلى الحبشة حتى نضعه في إطاره الصحيح ونعطيه حجمه الحق ، وبعد ذلك نعرج على الموضوع الذي نعطيه الأهمية البالغة هي موضوع السلوك الهادئ الرصين المحب الودود الذي سلكه النبي صلى الله عليه وسلم وسلكه المسلمون مع الخصوم ، لنعود بعد كل هذه الجولة ، لا لنترك الأمر مجرد افتراضات وتصورات واستنتاجات ، وإنما نستعرض نماذج لا من سلوك النبي صلى الله عليه وسلم ، سلوكه فوق الشبهات وهو القدوة العظمى ، ولكن من مسالك الأصحاب رضي الله عنه ، ماذا أعطاهم الصبر ؟ وماذا أثمر لهم صبرهم الطويل في حياتهم الخاصة ، في أخلاقهم الخاصة ، في بيوتهم ، في تعاملهم مع بعضهم ، في تعاملهم مع المجتمع المشرك حينما انتصروا وملكوا الدنيا ، في تعاملهم مع الأمم المغلوبة ، مع العروش التي أصبحت تحت أقدامهم ؟ كيف كانوا يعاملون هؤلاء الناس ؟ هل فقدوا فوائد الدروس التي تلقوها وهم يتلقون البلاء في مكة ؟ أم عاشت هذه الدروس معهم حتى جعلت الواحد منهم ـ يا إخوة يا مسلمين يا أحباب ـ أميناً على سياسة الدنيا بكاملها ، أقول لكم مستبقاً كل هذه النتائج : إن الإسلام نجح نجاحاً منقطع النظير في جعل الإنسان سيد نفسه ، وأعني أن الإسلام أفلح في أن يجعل الإنسان الفرد قادراً على أن يحكم نفسه ، من هنا كان قادراً على أن يحكم محيطه ، وأن يحكم العالم من بعد ، ولا أستطيع أن أمنع نفسي من المقارنة لأقول إن المفلوكين والصغار والتافهين والأوباش الذين يعجزون عن السيطرة على نوازعهم وعلى نفوسهم وعلى شهواتهم هم أحرى وأحرى وأحرى أن يعجزوا عن حكم العالم ، ومن هنا نرى في القمة خيانات ورشاوى ومظالم في كل أنحاء الدنيا ، لأن الناس غير مهذبين ، ولأن الناس بلا أخلاق ، ولأن الناس بلا تربية ، فالإسلام يوم يشدد على هذه الناحية يريد من الإنسان الفرد أن يكون سيداً يمشي على الأرض يقول لها : أنا هنا ، أنا هنا لأغير من معالمك ولأخلقك خلقاً جديداً ، ويريد من الإنسان أن يحكم الدنيا وفقاً لقانون الأخلاق ولقانون الله الذي يعمل ويتحرك مفصولاً عن كل دوافع النفس ، مفصولاً عـن كل حوافز الذات ، حتى تكون الحركة خالصةً لله تبارك وتعالى .

 فمن هنا كان حكم الإسلام لا استغلال ولا سيطرة ولا استعلاء ولا ظلم ولا سرقات ولا ولا ولا إلى آخره ، كان الخليفة تأتيه الأموال فتصب في المسجد صباً ، فيأتي بالديوان الذي يكون فيه المال ، فيقول : اذهبوا بهذا إلى فلان وهذا إلى فلان وهذا إلى فلان ، لا يمسي المسـاء إلا وبيت المال قد وزع كل قرشٍ فيه ، ذهب إلى المستحقين ، ليعيش الإنسان عيشةً كريمة ، ولا يقال له : تعال انتخبني ، ولا يقال له : تعال ادخل في السـجن ، لأنني أنا سيدك ولأنني أنا أطعمك ، لا ، ولكن لأنه إنسان بما هو إنسان ، تنال حق الإنسان . ثم بعد ذلك سيكنس بيت المال ويرش ويأتي الخليفة فيصلي فيه ركعتين . كذلك كان بقية الأمور ، وبهذه الأخلاق تستقيم الدنيا وبغيرها لا تستقيم ، بغيرها دمار ، لا يمينيون ، لا يساريون ، بغير الإسلام دمار ، عن الإنسانية كلها إذا لم تفء إلى قانون الله فسوف تدمر الدنيا على رأسها ، وإذا أرادت أن تعمر الدنيا وتتفجر بالخير واليمن والنماء والبركة فإلى الإسلام إلى الله إلى شريعة الله ، وبغير ذلك لا طريق ، لا شيء ، لا يمين ولا يسار ، ولا أي شيء من هذه التفاهات ، فهمتم ؟ من لم يكن يفهم فليفهم الآن ، نحن نتكلم بعقل ونتكلم بلا غوغائية ونرغب إلى إخواننا جميعاً يميناً ويساراً ، ماركسيين وغير ماركسيين فقط أن يكونوا أوفياء لعقولهم ، فقط أن يفكروا كما يفكر الإنسان ، أن لا يكونوا إمعّات ولا تابعين ولا يكونوا تافهين ، يفكر بأنه إنسان ، عالم قائم بذاته يستطيع أن يأخذ وأن يعطي وأن يُقيم وأن يُقعد أن يفعل وأن يترك ، أما الإمعات التافهون فعبء على الإنسانية ، عار على التاريخ ، سبة في جبين الإنسانية ، وبذلك فقط تعتدل اتجاهات الحياة .

 أتكلم هذا الكلام وقد يسأل سائل : ما قيمة هذا الكلام في بلد معزول لا تعرف عنه الناس شيئاً ، وبين أمة مستذلة مستضعفة ، أمة المسلمين وأمة العرب التي تتفجر الأحقاد من حولها فنقول : نحن لا نوافق أبداً على أن الأساس في الحضارة الإنسانية هو الشطر الاقتصادي ، وإنما كما قلنا : أن الأساس في الحضارة الإنسانية هو الشطر الإنساني ، فمن أجل ذلك كانت الكلمة أقوى من كل شيء ، كانت أقوى من القنابل الذرية وأقوى من القنابل الهيدروجينية ، الكلمة تبقى هي السلاح الفعال ، وأنت اليوم لا تحقرن منها ، فلا تدري أي تكون ولا تدري أية مسؤولية تتلقاها وتعانيها ، وأنت بعد ذلك سوف تتذكر أن إنساناً ما مغموراً لا يعرفه أحد ، في مكان ما في زاوية من زوايا الوطن العربي والإسلامي قلما يخطر على البال ، قال كذا وقال كذا ، وتكون قد خرجتَ من أشياء الدنيا ورجعتَ إلى العقل فتجد نفسـك مرغماً على تعتدل ، صدقوا هذا الكلام ، من هنا نحن نعول على الكلمة ، وحين نقول الكلام كل حرف نتحدث به نضع أمام عيوننا مخافة الله تبارك وتعالى ، لا نريد أن ندمر الأجيال ولا نريد أن نخربها ، لو أردنا الدنيا ما كان أسهلها وما كان أقربها ، لكن مضى من الله كتاب ناطق توعّد الضالين والمضلين بالعذاب المهين ، مضى من الله كتاب ناطق وعد الصادقين والمخلصين بجنات تجري مـن تحتها الأنهار ، وبذكر مسـتمر لا ينقطع ..

 أسأل الله وإياكم أن يجعلنا من أهل هذا الذكر غير المنون وغير المقطوع ، وأن يجعلنا أدوات نافعة في خدمة دينه وشرعة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وإلى الأسبوع القادم أرجو أن ألقاكم وأنتم على أتم استعداد لترافقونا برحلة شاقة ولكنها مفيدة وممتعة ، وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين .