درس ما بعد غزوة أُحد

العلامة محمود مشّوح

( 2 )

11 / 10 / 1974

العلامة محمود مشّوح

 (أبو طريف)

الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :

فقد تلونا عليكم يوم أمس مقطعاً من سورة آل عمران استقبل الله جل وعلا به أحداث الغزوة التي أتت السورة على ذكرها ، كانت المقطع كما يلي ( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ، هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ، ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ) وهؤلاء الآيات الثلاثة هن اللواتي كان عليهن مدار الكلام يوم أمس ، ونصل الحديث اليوم مستعينين بالله تعالى ..

يقول الله تعالى بعد هذه الآيات موجهاً خطابه إلى المؤمنين ( إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين ) وأظن أنكم تدرون جيداً أننا ذكرنا من قبل أن هول المفاجأة التي واجهها المسلمون في غزوة أُحد أثار في نفوسهم عواطف متباينة وأفكاراً متضاربة ، لقد كانت أُحد بعد بدر بسنة وشهر ، وكانت حلاوة النصر في بدر لم تكن قد نُسيت بعد ، وكان سهولة النصر ، فمهما ينسى المسلمون فلن ينسوا أن الله جل وعلا أمكنهم من رقاب أعدائهم في بدر خلال ساعة من نهار ، وكان ذلك مما رسّخ دعائم الإيمان في نفوسهم ، لأنهم رأوا أن اليد التي عملت في بدر هي أطول من أيديهم ، وأن القوة التي حققت النصر في بدر هي أكبر من قوتهم ، فحين رأوا أن هـذه اليد لا تتداركهم في أُحد وأن هذه القوة لا تقف بجانبهم كما وقفت يوم بدر طرأ علـى بعض النفوس تسـاؤلات كثيرة : لماذا ونحن المسلمون وفينا رسـول الله صلى الله عليه وسلم تمسّنا الجراح وتصيبنا الآلام ويلحق بنا القتل وتحل بنا الهزيمة ويُجرح نبينا صلى الله عليه وسلم ؟ لقد تصور البعض أن هذه الوقائع تعني لوناً من التخلي من قِبل الله تعالى عن جنده ، وما كان الأمر كذلك .

فكما قلنا أكثر من مرة : ليست الحياة انتصارات كلها ، وإنما فيها النصر والهزيمة وفيها الغلبة والارتداد وفيها السعادة والألم ، ولا بد للإنسان المؤمن أن يضع في حسـابه أن معالي الأمور وكبريات الغايات لا بد من كفائها من التضحيات . والمسلمون في معاركهم جميعاً إنما يريدون أن يرفعوا راية الله ويعلوا كلمة الله وأن يقاتلوا الناس كافة حتى تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى ، وأن يرفعوا السلاح حتى يكون الدين كله لله . وهذه غاية لا أكبر ولا أبعد منها بإطلاق ، والذين يعدّون أنفسهم للقيام بها والوفاء بتبعاتها عليهم أن يعلموا أن دون تحقيق ذلك القتل والجرح والهزائم والنكبات ، لكن يبقى ثمة فارق لا ينبغي للمؤمن أن يسقطه من حسابه . فالجراح التي تنال المسلمين هي كفارات لهم ورفعة في الدرجات ، والقتل شهادة ، والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون . وأما ما يصيب الكافرين من ذلك فزيادة في غضب الله جل وعلا ومقته إياهم ، والله تعالى يقول تبياناً لذلك على لسان المؤمنين ( قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ) وإحدى الحسنيين الشهادة في سبيل الله أو النصر على الأعداء ( ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون ) لا ينبغي أن يسقط هذا الفارق من حساب المؤمن ، الله جل وعلا يقول هنا تصحيحاً لبعض الخواطر التي وقعت في أذهان المؤمنين ( إن يمسسكم قرح فقد مسّ القوم قرح مثله ) والقرح هو الجرح أو ألم الجرح ، فإن مسّ المؤمنين جراح فقد مسّ القوم جراح مثلها ، المشركون أيضاً أُصيبوا بجراح وسقط منهم قتلى ( إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله ) ولكن مع ذلك فالمسلمون لا تفوتهم المقارنة في هذا الميدان ، فإن كان المشركون قد أُصيبوا فإصابة المسلمين أكبر ، المسلمون سقط منهم قرابة سبعين من خيارهم عدا عن الجراح ، عدا عمّا حلّ بالنبي صلى الله عليه وسلم من سقوطه في الحفر التي حفرها الفاسق ، ومن وقوع الجراح في شفته وفي أسنانه وفي وجنته صلى الله عليه وسلم ، ومع ذلك فالله جلّ وعلا لكي لا يسترسل المؤمنون في هذه الأفكار الضارة يقول لهم ( وتلك الأيام نداولها بين الناس ) أمس في بدر ظهرتم على المشركين ظهوراً كاسحاً ، فأي غرابة في أن يصيبكم وهن يلحقكم منه جرح وقتل وما في معناه ؟ ( تلك الأيام نداولها بين الناس ) .

أيضاً فإن الله جلّ وعلا أراد أن يكشف عن أمرٍ ينبغي أن لا يغيب عن الأذهان ( إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله ) كلمة ( مثله ) هاهنا تشير إلى التماثل في حر الألم ومس العذاب ، الجرح الذي يُصاب به المسلم له من الألم مثل الألم الذي يُصاب به الكافر ، المماثلة هنا مقصودة ، ذكرها مقصود ، يريد الله جلّ وعلا أن الألم الظاهر مـن الجراح والقتل ومتاعب الحرب وآلامها متماثل ، ما أحسستم به أيها المسلمون أحس المشركون بمثله ، أذلك كان مدعاةً لأن ينقصوا ولأن يهربوا ؟ لا ، لقد رأيتموهم صمدوا أمامكم حتى أزاحوكم عن مواقعكم وأخذوا النصر من أيديكم بعد أن حصلتم عليه من بعد أن أراكم الله في عدوكم ما تحبوه ، هؤلاء على باطل يعبدون أصناماً آلهة ، وأنتم على حق تعبدون الله الواحد القهار ، فإذا كان صبر أهل الباطل هكذا فليكن صبر أهل الحق أكبر من ذلك وأكثر ، وإذا كان مبلغ استمساك أهل الباطل بباطلهم وحرصهم عليه وذبّهم ودفاعهم عنه بهذا الشكل فلا أقل من أن يتكافأ هذا مع حرص أهل الحق على حقهم ، في مقابلة تمسك المبطلين بباطلهم يكون من العار والعجز أن يتهاون صاحب الحق في حقه ، لأن الإنسان في العادة يتمسك بالحق ويزهد بالباطل ، فإذا رأيتَ صاحب الباطل قابضاً على باطله بيد من حديد وكنتَ أنت يا صاحب الحق تخوض معه معركة حياة أو موت فاشدد قبضتك على حقك كي لا تكون أدنى منزلةً من صاحب الباطل .

 الله جلّ وعلا أراد أن يوقع في خلد المؤمنين هذا المعنى ( إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء ) أين يُعرف الصادق من الكاذب ؟ وأين يُعرف المؤمن من رقيق الدين وضعيف الإيمان ؟ وأين يُعرف الرجل من الإمعة المتهافت ؟ أليس ذلك في معارك القتال ومواقع الصدام ؟ في حالات الرخاء والدعة كل إنسانٍ يستطيع أن يقول : أنا . ولكن ذلك يصدق أو لا يصدق حين ساعة الامتحان . والإيمان يُعرف أين ؟ يُعرف في مواقع القتال ، الذين يُثبتون أقدامهم في سوح المعارك ويطلبون الموت يترجمون عملاً عن إيمانٍ راسخٍ كالجبال ، والذين يلوذون بالفرار ويلتمسون لأنفسهم المعاذير كي لا يُبلوا البلاء الحسن في ذات الله جلّ وعلا يكشفون عن رقةٍ في الدين وضعفٍ في الإيمان . كي يعلم الله الذين آمنوا كان لا بد أن تكون معارك وأن يكون صدام ، والله جلّ وعلا عالم بالخفيات قبل أن تكون ولكنه أضاف العلم إلى نفسه هنا إعلاءً لقدر الإيمان والمؤمنين ، ومراده جلّ وعلا أن لا يبقى في الصف المؤمن دخل ولا زغل ، أن تكون هناك صعوبات وأن تكون هنالك شدائد حتى يعرف المسلمون حقيقة ما هم عليه ، فإذا نهدوا إلى عدوهم في المستقبل عرفوا مَن الذين يبلون البلاء الحسن ومَن الذين يجبنون عند اللقاء الأول ؟ لا بد من تميز الصادقين من الكاذبين ، ولا بد من تميز المؤمنين من الذين يضعف إيمانهم عند الملمات والنكبات ، ذلك زاد في الطريق لا غنى عنه ، ومن سوء الحظ أن تأتي أوقات يُغطى فيها على الناس حتى يكون الادعاء هو الذي يترجم عن أخبار الناس .

 لو كانت الدنيا صراعاً بين الإيمان والكفر ، بين الإسلام والشرك ، بين الحق والباطل ، وكان هذا الصراع يتطلب وقوده من الرجال ومن عزائم الرجال لانقلبت موازين المجتمع وتغيرت أقدار الناس ، في حالات السلم يعيش أصحاب الماضي على ماضيهم ، ويعيشوا أصحاب الثراء على ثرائهم ، ويعيشوا المقتدرون على الكذب والخديعة على نتاج كذبهم وخديعتهم ، ولكنه في حالات الصراع الشرس لا يتقدم الصفوف إلا أولو العزائم من الرجال ، إلا المخلصون من الرجال ، إلا الذين يبلون البلاء الحسن في ذات الله تبارك وتعالى . فمن أجل ذلك ترى أوضاعنا الحالية بما أنها أوضاع زائفة مكذوبة ، بما أنها أوضاع لا تترجم عن قيم الرجال ولا تترجم عن استحقاقات الرجال ، يتقدم الصفوف التافهون والإمعات والفارغون ومَن لا يستحقون من الدنيا قلامة ظفر ، لماذا ؟ لأن الجهاد في سبيل الله غائب ، ولأن المعركة بين الحق والباطل متوقفة ، فلا بد من أجل الاستعداد للمستقبل من أن تُعطى هذه المعارك وقودها اللازم من عزائم الرجال وإيمان المؤمنين ، لكي يعلم الله ـ والله هو العالم ـ ولكن للتشريف والتقدير قال ذلك ، وأما الحق فلكي يعلم المؤمنون بعضهم بعضاً ولكي ينتفي الزيف ويزول الخداع .

 ( إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم الشهداء ) في قوله جلّ وعلا ( ويتخذ منكم شهداء ) تصوير لحالة تُوقع في روع الإنسان المسلم أن هذا الشهيد صنيعة الله جلّ وعلا منذ أن كان في علم الله تبارك وتعالى ، اتخاذ الشهداء تصوير يُتصور منه أن الله جلّ وعلا يُقبل على جماعة المؤمنين فيصطفي من هنا رجلاً ويأخذ منه هنا رجلاً على علمٍ منه جلّ وعلا بسرائرهم وبنياتهم وبعزائمهم ( ويتخذ منكم شهداء

 حين تقدم المسلمون للغداة ، وأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستعرض جنده كان في الجند أطفال صغار صبية ، ما الذي أخرج هؤلاء الصغار ؟ حب الله وحب رسول صلى الله عليه وسلم ، والحرص على نيل منزلة الشهادة عند الله تبارك وتعالى ، نظر النبي صلى الله عليه وسلم وقلبه الكريم يذوب رقةً وعطفاً على هؤلاء المؤمنين ، وهـو يحمد الله جلّ وعلا أن غرس الإيمان في هذه القلوب ، نظر إلى هـؤلاء الصغار فلم يملك أن ردّ قسماً منهم لصغرٍ بالغٍ في السن ، فلما رأى البعض أن النبي صلى الله عليه وسلم يردّ صغار السن أخذوا يتطاولون على رؤوس أصابعهم لكي يراهم النبي صلى الله عليه وسلم كبار الأجسام ، فأجاز عليه الصلاة والسلام رافع بن خديج ، لأنهم قالوا له : يا رسول الله إن رافعاً رامٍ بالسهم حاذق ، فأخذه بالجيش ، فجاء سمرة بن جندب رضي الله عنه وكان صغيراً وقال : يا رسول الله أنا أصرع رافعاً . يريد أنه في حلبة الصراع يرمي رافعاً على الأرض ، فطيب النبي صلى الله عليه وسلم خاطره وقبله في الجيش . منذ البدايات كان المسلمون يقدمون على القتال لا كما يقدم الناس في هذه الأيام على المعارك ، لكنهم يقدمون على القتال والموت كما يزف الرجل إلى عروسه ، يعلم أنه قادم على ربٍ كريم هو أبر به وأرحم له من أمه وأبيه ، وهو ضمن له منزلة الشهادة أن يحيه عنده وأن يرزقه من ثمرات الجنة وأطايبها .

 كذلك ، فلئن كان هذا التسابق نحو الموت من قبل الشهداء ظهر على الصبية الصغار فكذلك ظهر على العجّز من الشيوخ ، حينما تقدم المسلمون إلى ساحة المعركة أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن تُرفع النساء والصبيان إلى الآطام يعني إلى الحصون ، وكان فيمن رُفع مع النساء والصبية شيخان كبيران ، حسين بن جابر الذي كان يلقب باليمان والد الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه ، وثابت بن وقش من بني عبد الأشهل ، كانا شيخين كبيرين طاعنين في السن ، خلفهما النبي صلى الله عليه وسلم مع النساء والصبيان لأنهما لا يصلحان لقتال ، فلما التحم الجيشان أو قبيل ذلك تسارّ حسين أي اليمان مع ثابت بن وقش ، قال أحدهما لصاحبه : ويحك ، ما يقعدنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن شيخان كبيران ؟ لم يبقَ لنا من العمر إلا ظمأ حمار ، والعرب تضرب المثل بقصر المدة بظمأ الحمار لأنه من أكثر الحيوانات تعرضاً للعطش ، يعني أنه لم يبقَ لنا من العمر ومن الدنيا إلا الشيء القليل ، فما يجلسنا ؟ تعال نأخذ أسيافنا ونلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن غير أن يعلم المسلمون ومن غير أن يعلم النبي صلى الله عليه وسلم دلف الشيخان الكبيران حتى دخلا في الجيش ، أما اليمان فقد تناوشته أسياف المسلمين وهم لا يعرفونه ، فرآه حذيفة فقال : أي عباد الله هو أبي ، قالوا : والله ما عرفناه . فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يَدِه فتصدق حذيفة بديته على المسلمين ، فزاده ذلك خيراً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأما ثابت بن وقش فالتحم مع المشـركين فقُتل في المعركة ، هذان شيخان كبيران جداً لم يريا أنه يسعهما أن يتخلفا عن المعركة وأن يجلسا بين الصبية وبين النساء ورسول الله وأصحابه يخوضون المعارك في سبيل الله .

 كذلك كان من الشيوخ رجلٌ يسمى عمرو بن الجموح ، كان رجلاً أعرج شديد العرج ، وكان له أربعة بنين كالأُسد يغزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويشهدون المشـاهد معه ، فلما كانت غزوة أُحد منعوه من الخروج في الغزوة ، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو أبناءه ، قال : يا رسول الله أولادي يمنعوني من الغزو معك وأنا والله أرجو أن أقاتل فأستشهد فأطأ بعرجتي هذه في الجنة ، قال : أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد . لأن الله جلّ يقول ( ولا على الأعرج حرج ) ثم التفت إلى بنيه قال : ما عليكم أن تدعوه أن يخرج فلعل الله أن يرزقه الشهادة . وخرج الرجل ، وبالفعل خرج يشم رائحة الجنة من دون أُحد فقاتل حتى رزقه الله جلّ وعلا الشهادة . هؤلاء صبية صغار وشيوخ كبار ، والنساء أيضاً أبلت في المعركة بلاءً حسناً ، أما الرجال فحدث ولا حرج ، لا تسل عن البطولات التي ظهرت من المسلمين ، لا تسل عن حمزة أسد الله وأسد رسوله وما فعل بالمشركين ، لا تسل عن أنس بن النضر ، لا تسل عن أنس بن الربيع ، لا تسل عن فلانٍ وفلانٍ وفلان ، فإن الله جلّ وعلا بالفعل قد اتخذ هؤلاء الناس ليصنعوا على عينه ، حتى تكون لهم قلوب تندك الجبال الرواسي ولا تتزعزع في سبيل الله تبارك وتعالى ، وحتى يكون هؤلاء الرجال أسوداً تخوض الوغى وتخوض الخمرات لتنصر الله جل وعلا وتنصر رسوله صلى الله عليه وسلم . أو ليس حقاً أن يقول الله جل وعلا ( ويتخذ منكم شهداء ) لمن هؤلاء الناس اصطفاهم الله تعالى ؟ اصطفاهم لنفسه لأنهم ينصرون دينه ، وصنعهم على عينه وأعدهم إعداداً معيناً ، ليؤدوا وظائف لا يقوم بها إلا العظماء من الرجال . أرأيتكم الشهداء حين يتخذهم الله جل وعلا ماذا يرون فـي الغمرات والقتال وماذا يرون في الموت ؟ ألم يأتكم نبأ الذي سمع الصوت يدعوا للخروج على أُحد وكان حديث عهد بعرس ، فانتزع نفسه من حضن الزوجة الوفية المحببة وهو لم يكن مضى على زواجه يوم أو يومان ، خرج أعجله الصوت والنداء حتى عن الاغتسال ، فجاء فوراً والتحم مع أعداء الله ، وما زال يقاتل حتى قُتل ، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن صاحبكم تغسله الملائكة . فسألوا زوجته عنه فقالت : إن من شانه كذا وكذا ، خرج إلى المعركة جنباً ذلكم هو حنظلة الغسيل رضي الله عنه .

 أولئك أقوام حينما يتعرف الإنسان على حقائقهم ، وحينما يتقرى أحداث تاريخهم يعجب ، كيف صيغت هـذه النفوس ؟ وكيف صُبّ هذا الإيمان في القلوب ؟ ولأية مهمة صنع الله هؤلاء الرجال ؟ وسيدرك قطعاً أن الشهداء طينة غير طينة الأغمار من الناس ، وأنهم بالفعل كما قلنا عمالقة .

 دعونا من معارك الإسلام ، في كل موقعة تقع بين الناس مَن الذي يموت فيها ؟ لا يموت فيها إلا الشجعان ، لا يموت فيها إلا خير الناس ، أما الجبناء والخوارون والمتخاذلون فهم يتسللون لواذاً أو يفرون من ساحة القتال . الذين يموتون هم دائماً خير الناس ، من هنا كان قول الله جل وعلا ( إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس ) يريد الله جل وعلا أن يشدد من عزائم المؤمنين في مواجهة أعدائهم .

 ( وليعلم الله الذين آمنوا ) كي لا تبقى الأمور غامضة وتبقى الساحة مرجرجة ( ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين ) لاحظوا هذه الخاتمة التي تُختم بها الآية ، أين أتت ؟ جاءت بعد قول الله تعالى ( ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين ) معنى ذلك كما هو بديهي ومفهوم ، أن الذي يُدعى لكي يقاتل في سبيل الله ويدفع عن دينه فيتقاعس فقد ظلم نفسه ودخل في عداد الظالمين علماً بأن الكافرين من الظالمين ، والكافرون هم الظالمون ، إن الشرك لظلم عظيم ، والذي يدخل المعركة فيشعر أن نفسه خشعت وذلت وجبنت فقد أصبح من الظالمين ، والظالمون هم الكافرون والمشركون والفاسقون .. يريد الله جل وعلا أن ينفر المؤمنين غاية التنفير من الذل ومن الجبن ومن الهزيمة من سوح القتال ، يريد الله جل وعلا أن يشد من أزر المسلمين حتى تكون كتائبهم في سبيل قطعة واحدة تترك الدنيا بما فيها وترغب فيما عند الله جل وعلا فيما وعد الله سبحانه وتعالى الشهداء من منزلة سامية ومن أجر عظيم ومن رزق لا ينقطع ومن حياة لا يدركها الموت والفناء .. ونسال الله تعالى أن يعيننا غداً على المضي قدماً في شرح الآيات وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين .