تفسير سورة النساء

العلامة محمود مشّوح

تفسير سورة النساء

28 / 4 / 1978

( 2 )

العلامة محمود مشّوح

 (أبو طريف)

 الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ، أما بعد :

 فيسرنا أن نبدأ الحديث بصورة مفصلة عن سورة النساء بعد أن عرضنا في الدرس الماضي جانباً من الظروف الواقعية التاريخية التي اكتنفت نزول هذه السورة الكريمة ، وقبل الدخول في لب الموضوع أحب أن ألفت نظر الإخوة إلى أمر شديد الأهمية وخاصة بالنسبة للمسلمين في هذه الأيام ، إن على المسلمين أن يعلموا وهم يسمعون كلمات الله ويقرأون كتابه أن هذا القرآن خاض بالمسلمين أروع معركة وأشرف معركة وأنبل معركة شهدتها الإنسانية على امتداد تاريخها الطويل ، إن هذا القرآن ما كان آيات تطلق في فراغ ، ولا كان تعليمات ترفع في الفضاء ، وإنما كان قبل أن يكون قولاً كان عملاً يهدم واقعاً ليبني واقعاً آخر ، يويل نمطاً وأنموذجاً في الحياة ليضع في محله نمطاً وأنموذجاً آخر ، فحين نستمع إلى آيات الكتاب العزيز علينا أن نستحضر صور الحياة الخربة المهترئة الفاسدة التي كان القرآن يشكل ثورة عليها ومعول تحطيم لها ، فالقرآن كان يواجه حالات واقعية ، ولعل من المفيد أن أذكر لكم لكي تدركوا ضخامة المعركة التي خاضها بالقرآن بالمسلمين أن سنة الله مضت في السالفين والخالفين إلى بعثة محمد عليه الصلاة والسلام أن الرسالة الجديدة ما تهدى إلى الناس وعلى وجه الأرض ذرة من خير ، حينما تنطفئ تماماً شعب الإيمان وتندرس نهائياً أمارات الخلق والخير والعدل والحق يأذن الله جل وعلا لفتح الباب في وجه النور الجديد .

 إن القرآن الكريم حين كان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليزيل واقعاً لا خير فيه ويقيم واقعاً فيه الخير كله كان يتعامل مع وقائع ، ومن هنا هذه الحرارة والحيوية والأمانة والصدق في آيات الله سبحانه وتعالى .

 ارجعوا البصر إلى سورة النساء وأحضروا أذهانكم ما قلناه في الدرس الماضي عن جانب من الظروف الأليمة القاسية غير الإنسانية التي اكتنفت نزول سورة النساء لترى أن استمرار حياة الناس على النحو الجانبي أمر مستحيل ، ولو أنه استمر لكان الله غير موجود ، لأن الله عدل وحق وخير ، وحين يرضى بزوال العدل ومحو الحق وتدمير الخير لا يكون ثمة إله .

 ارجعوا أيضاً إلى فواتح السورة وأعملوا أفكاركم فيها قليلاً ، حاولوا أن تتعودوا تعمق الأمور ، سأقرأ لكم بعض هذه الفواتح وأساعدكم على المزيد من التفكير ، يقول الله تعالى مفتتحاً سورة النساء بخطاب موجه إلى الناس كافة ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً ، وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوباً كبيراً ، وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى أن لا تعولوا وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً ، ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفاً ، وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيباً ، للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ، وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قلّ منه أو كثر نصيباً مفروضاً وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولاً معروفاً ، وليخشَ الذي لو تركوا من خلفهم ذريةً ضعافاً خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً ، ، إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً ) بعد هذا الوصف لواقع بيّن وعيني ومشهود في الحياة الجاهلية ، فيه الجور كل الجور والظلم والعدوان ، وبعد هذه التوجيهات السامية واللفتات النبيلة التي تضمنتها هذه الفواتح تنصب الآيات على بيان أنصباء الوارثين التي يستحقونها من مورّثيهم لتوضع الأمور مواضعها الحقة ولكي لا تطيش الموازين فتفسد على الناس حياتهم بله أن تعدم بالمرة آخرتهم ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين ) ثم يوزع الله جل وعلا بالقسط حقوق الوارثين وفاقاً لما يعلمه الله جل وعلا من وجائب وصلات مترتبة بين الأقرباء .

 ومن الطبيعي أنني سوف أقف وربما مطولاً عند تحليل نصوص هذه الآيات على ضوء اللغة وأسرار البيان العربي ، مع علمي أن هذا الأسلوب يثقل على الكثيرين ، ولكني أصر على هذا الأسلوب بعناد ، فأنا واثق أعظم الثقة ، قانع مطلق القناعة ، أن أمتنا الكريمة إذا لم تكتسب ذوق اللسان العربي فسوف تظل أبداً بعيدة عن فهم أسرار كتاب الله جل وعلا ، وما دامت بعيدة عن هذا فلن تستطيع أن تفيد من سماع كلام الله وقراءة كلام الله فائدة تُذكر ، وقديماً قال علماؤنا رضي الله عنهم : لا يحل أبداً لمن لا يعرف أساليب العرب في مخاطباتها فيما بينها أن يتحدث في كتاب الله جل وعلا .

 لكني أدع الآن مؤقتاً لألفت أنظاركم للواقع الذي خاطبه القرآن ، لاحظوا أن السورة تفتتح بهذا النداء العجيب الموحي ( يا أيها الناس ) ولاحظوا أن السورة باسم ( النساء ) ومع ذلك فالفاتحة كأنما تُضرب تماماً عن النساء من حيث هن جنس من خلق الله جل وعلا ، لتتجه بالإيماء والإشارة إلى الجنس البشري ، رجاله ونسائه ، صغاره وكباره ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً ) وقلت لكم أني سوف أساعدكم على الفهم وعلى التفكير ، ما الذي تستطيع أن تستنتجه من هـذه الآية التي افتُتحت بها السورة ، بل قل بصورة أدق : ما هو الأثر الذي توخى القرآن إحداثه في المجتمع الجاهلي حين خوطب بهذه الآية ؟ هل هناك حالة قائمة جاهلية تستدعي أن يُقال لهم هذا الكلام ؟ فكّروا أن القرآن لم يُطلق في فراغ ، ولكنه كلام يخاطب الواقع ، بل هو كلام يخوض بالمسلمين أشرف معركة عرفتها الإنسانية على الإطلاق ، وإذاً فثمَ هناك في الجاهلية حالة قائمة تستدعي وتستلزم وتوجب أن يوجَّه هذا الكلام ، ما معنى هذا الكلام أولاً لكي نتعرف علـى الحالة المعارضة المراد إلغاؤها ؟ لا شك أن ها هناك أمر ، وأمر يوجَّه في سياق المشروع الإنساني الجديد لبشرية جديدة ، وإذاً فما يخالف الأمر هنا مرفوض ، وما يخالف الأمر هنا يصطدم مع حقائق الدين ومع حقائق المجتمع الذي يهدف هذا الدين إلى إنشائه وإقامته .

 إن الآية تُذكّر ، وتُذكّر بصيغة تستدعي المزيد من التأمل ( يا أيها الناس ) لم يقل : يا أيها المسـلمون . ولم يقل : يا أيها المؤمنون . وإنما قال ( يا أيها الناس ) ومعلوم أن كلمة الناس لفظة تُطلق على جنس أبناء آدم وحواء ، ذكرهم وإنثاهم ، صغيرهم وكبيرهم علـى سـواء ، وكذلك مسلمهم وكافرهم . فماذا بعد ( يا أيها الناس ) ؟ ( يا أيها الناس اتقوا ربكم ) ومعلوم أن لا جدال أن لنا رباً ، والعرب المخاطبون بهذا القرآن في الجاهلية معظمهم وغالبيتهم الساحقة كانت تعتقد أنها مربوبة ، شراذم قليلة منها كانت دهرية تقول كما يقول الشيوعيون والتحرريون والتقدميون والسفهاء وضعفاء العقول ( نموت ونحيا وما يُهلكنا إلا الدهر ) قليل جداً الذين يقولون هذا ، لكن الغالبية الساحقة من العرب الجاهليين كان يقولون : عن الله موجود . ولكن نحن كبشر خطاة وعصاة وضعفاء أقل وأذل وأهون من أن نُخاطب الله رأساً وأن نتجه بحوائجنا إليه مباشرة . ولذلك فهذه الأوثان والأصنام ما هي إلا وسائل ووسائط بيننا وبين الذات الإلهية ، نعرف تماماً أنها لا تخلق ولا ترزق ولا تحي وتميت ، نعرف ذلك تماماً ، ولكننا بحكم هوان شـأننا وعظمة الذات الإلهية أيضاً نقول ( ما نعبدهم إلا ليقربوا إلى الله زلفى ) فهذا شأن العرب الجاهليين من حيث اقتناعهم بوجود قوة قادرة قاهرة خلقت هذا الكون وبرأت هؤلاء الناس ، وإن كانوا بربهم يعدلون ، وإن كانوا بربهم يشركون . ولهذا صحّ أن يُخاطَب الناس ، والمراد طبعاً هم الجيل الذي خوطب بصورة مباشـرة ، والأجيال الأخرى طبعاً صحّ أن يخاطَبوا بقوله تعالى ( اتقوا ربكم ) لكن هـذا الرب موصوف بوصف جاء في الآية ، ما هـو هذا الرب ؟ قال ( الذي خلقكم من نفس واحدة ) كان يمكن لإقرار الحقيقة التي تضمنها صدر الآية أن يقال : اتقوا ربكم الذي خلقكم ، كما قيل في سورة البقرة ( اتقوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم ) وكفى ، ولكن مراد الآية كما أن مراد السورة لا سيما الفواتح شيء آخر ، ولهذا نتابع ..

 ( اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها ) يعني من هذه النفس وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ) وإذاً فليس المراد أن يُلفت نظر المخاطَبين إلى أن الله هو الخالق ، لا ، هذه في هذا المقام قضية مفروغ منها ، لا تحتاج إلى تذكير ، ولا إلى ذكر أصلاً ، لأن المخاطَبين يؤمنون بها ، وكلام الله أعلى وأسمى من أن يأتي من غير غرض ، لا بد من وجود غرض يبرر كل كلمة وكل حرف جاء في الكتاب الكريم .

 ( اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ) أراد أن يقول للناس : إنكم جميعاً برغم من أن الله بثكم في الأرض وشعبكم شعوباً وقبائل وبلبل ألسنتكم وخالف بين ألوانكم وغاير بين سحنتكم وقسيماتكم وفرّق بين أوطانكم وجعل بعضكم عالِماً وبعضكم جاهلاً وبعضكم غنياً وبعضكم فقيراً وبعضكم ذكراً وبعضكم أنثى .. برغم هذه الفوارق الملحوظة المشهودة الملموسة فينبغي أن لا تنسوا حقيقة النشأة الأولى ، أن الله خلقكم من نفس واحدة ، مهما يبلغ أحدكم من رفعة ومنزلة وثراء وبسطة فلا ينبغي أن ينسى أنه وأي إنسان آخر مهما يكن شأنه يعود إلى آدم أبي البشر عليه السلام . أوَلم يقف عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع التي قال فيها وصاته الأخيرة إلى الناس وبلّغهم بلاغهم العام وأشهد الله عليهم بالبلاغ : كلكم لآدم وآدم من تراب .

 هذه حقيقة ، خلقكم من نفس واحدة ، هذه النفس الواحدة هي آدم جبل الله طينته ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وعلمه الأسماء كلها واستخلفه في الأرض ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ) ومن آدم بالذات اشتق الله حواء ، ثم البشر ، كما أن آدم أبو البشر . ولا داعي أن نقف هنا كما يقف كثير من المتحذلقين في العصر الحاضر لنتسائل عن مدى صحة رجوع الناس إلى أب واحد وأم واحدة ، لا داعي لأن نقف هذه الوقفة بحجة العلوم الحديثة وبحجة نظرية التطور ، ولا داعي لأن نناقش موضوع تسلسل الأنسان من الأنيمبيا إلى القرد ومن القرد إلى الإنسان ، لا داعي لهذا ، فالعلم علم ، العلم حقائق صلبة لا تقبل المجاملات ولا ترضى بالظروف ، من الذي شهد النشأة الأولى ؟ الله جل وعلا يقول ( ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضداً ) فلا أحد يستطيع بأن يخبر بعلم عن النشأة الأولى كيف كانت ؟ وما يروّج الآن ويُلبس ثوب العلم فما هو بعلم ، لأنه ظن ، والظن سخيف متهاوي ، فالإنسانية قديمة لم يشهد أحد من الناس خلقها الأول ، وكل ما في الباب ظنون ، وما يقال من أن ذرارية كثيرة وُجدت على الأرض وبادت ثم وُجدت سلاسلات أخرى بادت وهكذا ، كل ذلك لا صحة فيه ، إن الله جل وعلا يخبرنا بذلك على لسان الصادق المصدوق في الوحي المنزل منه تبارك اسمه ( خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها ) وإذاً فثمة اب واحد وأم واحدة ولا داعي بعد ذلك للتساؤل حول أي شيء آخر ، إن الضلال الذي يتسرب إلى عقول الناس شيء يشوش ، ولا أقول إنه خطر ، لأن الإنسان لا يقبل الظن ولا يقبل أن يجعل الظن حاكماً على كلام الله جل وعلا ، ومن قبل شاعت حتى بين المسلمين فكرة متسربة من أمم أخرى وثنية تقول : إن سلاسلات كثيرة نشأت على الأرض ومرت ، وهذا البشرية هي آخر حلقة في هذه السلسلة الطويلة ، ولقد عبّر أبو العلاء عن هذا الكلام بقوله :

 وما آدم في مذهب العقل واحد ..... ولكنـه عند الصحيح آوادم

كل ذلك ضلال ، وحكمة إيراد الكلام هنا أن يتعرف الناس على حقيقة النشأة الأولى وعدم وجود ما يبرر أية تمايز بين الناس في هذا المجال ( خلقكم من نفس واحدة وخلق منه زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً ) بالتناسل والتوالد وبالهجرة وبالاتحاد تكاثر الناس وتفرقوا أمماً وقبائل وشعوباً ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شـعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) .

 ( واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً ) المسألة هنا مسألة أصل من ثابت من أصول افسلام ، إن الإسلام يدعو إلى تمتين الروابط الطبيعية بين الناس ، معنى الوصية بالأرحام أن لا تقطع الحفاظ على الأواصر البشرية الطبيعية الجبلّية بين الناس ، فالأرحام هي صلات القرابات بين الناس ، وصلات القرابات بين الناس يجب أن لا تقطع وأن لا تضيّع ، إن النبي عليه الصلاة والسـلام يذكر فيما يرويه عن ربه جل وعلا في الحديث القدسي : يقول الله : أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسماً من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته . هذه هي القضية التي يعرضها ، ما علاقة هذه القضية بالواقع الذي واجهه هذا القرآن ؟ حينما نرجع إلى أمور أصبحت في ذمة التاريخ لم يبقَ المجال إلى إنكارها ولا للتغاضي عنها نجد الآتي : إن العرب الذي خوطبوا بهذا القرآن لم يكونوا بالتأكيد منسجمين مع هذه التوجيهات ، لا ، بل كانوا على الضد من هذه التوجيهات ، العرب كأمة كانوا يرون أنفسهم خير الناس وأفضل الناس وأشرف الناس وأكرم الناس وأشجع الناس ، والعرب كانوا يُسـمون مَن ليس بعربي أعجمياً ، ومعلوم أن الأعجمي في لغة العرب هو الحيوان ، يقولون : هذه العجماوات ، يعني الحيوانات . ففي لغة العرب ما يؤكد ويقطع بأن العرب يرون أنفسهم هم الناس وسائر الناس ليسوا أهلاً لأن يكتسبوا شرف الآدمية ، وإنما هم أعاجم . هذا من حيث هم أمة ، وطبيعي أن الخطأ يبدأ بنقطة لكن حين يؤذن له أن يستمر ما تزال زاويته تنفرج باستمرار ، إن الاستعلاء وشعور التميز الذي كان سائداً عند العرب كأمة انعكست آثاره لتمارس دورها الرهيب المخرب على نفس المجموعة العربية بالذات ، فالقبيلة العربية الفلانية ترى أنه لا أشرف منها ين العرب ، والعشيرة الفلانية ترى أنها الرأس وأن غيرها الذنب ، يقول الشاعر :

 قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ...... ومَن يسوي بأنف الناقة الذنب

وكذلك داخل العشيرة الواحدة انعكست الآثار المدمّرة الرهيبة المخربة ، فالبيت الفلاني من العشيرة الفلانية بيت الصدارة والرياسة ، لا يزوّج بناته من غيره ، ولا يتزوّج لأولاده من سواهم ، لأنه يضن بالدم الشريف الأزرق أن يلوّث بالتزاوج مع أسر أخرى وإن كانت من نفس العشيرة . قل مثل ذلك في البيت ، الأفراد في البيت الواحد يتمايزون ويتنافسون الرياسة ويتجاحشون عليها .

 هذا الواقع الذي واجهه القرآن وكلماته تتنزل على محمد عليه الصلاة والسلام ممَ كان ينبع ؟ هنا لا بد أن نساعدكم شيئاً ما مع التفكير . اعلموا أيها الإخوة أن أي نظام اجتماعي هو انعكاس وترجمة لعقلية معينة عند الناس . العرب الجاهليون كانوا يرون أن الاعتبار الإنساني إنما يكتسبه الإنسان من غناء وبلاء وسيطرة وقوة ، والواقع أن الرجل الشجاع لا يسوّى بغيره من الرجال ، ومعلوم لدى كل الناس مما أصبح حديثاً معاداً ومكروراً أن كثيراً من حروب العرب في الجاهلية إنما ثارت واستمرت عشرات السـنين لأن كلمة مهينة وُجّهت إلى شخص ، أو أن شخصاً قُتل ، وقانون الحق والعدل يقضي بأن يُقتل القاتل في مكان المقتول ( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والسن بالسن ) إلى آخر الآية الكريمة ، لكن العرب الذين يعتقدون أن الاعتبار يستمد من الغناء ومما مظاهر القوة والسلطة سواء كانت مالية أو جسدية أو عقلية أو ما أشبه ذلك كانوا لا يرضون بالتسوية بين الناس .

 في الحروب التي دارت بين العرب قُتل كليب بن وائل من قبيلة تغلب ، وقُتل القاتل وجيئ إلى أبي كليب وقيل له : لقد قُتل القاتل . فقال : وهل هذا مثل كليب ؟ هذا بشثع نعل كليب ، أنت يا من قتلتَ كليباً لا تساوي كليباً ، لا ، ولا تساوي نعل كليب ، لا ، بل أنت تساوي الخيط الذي يربط به نعل كليب . هذه الخزوانة الرديئة ، هذه العنجهية التي لا سند لها شيء يستند إلى واقع اعتقادي قائم في الحياة العربية .

 ولهذا فالإنسان إذا كان ذا مكانة فقُتل فينبغي أن يُقتل في مكانه العشرات والمئات ، ولا بأس أن تقوم الحروب والوقائع ، وأن تسيل الدماء أنهاراً لعشرات السنين .

 كذلك هذا الاعتقاد بالذات الذي جاءت الآيات تقضي عليه هو الذي أملى للعرب وحتّم عليهم أن لا يسوّوا بين الذكر والانثى ، لماذا ؟ لأن الانثى لا تدافع عن العشيرة ولا تحمل السلاح ولا ترد ّ الغارة ولا تسبي السباء من العدو ، أبداً . وكذلك لا يورّثون الأطفال ، لأن الأطفال ليسوا من أهل الغَناء . فالحياة الجاهلية كانت مبنية على الظلم والعدوان ، لأن القاعدة الاعتقادية غلط ، القاعدة الاعتقادية أن الإنسان يستمد قيمته واعتباره ويرتفع في المجتمع من غَنائه وقوته وثرائه وسلطته ، لكن الإسلام له وجهة أخرى ، إن الله جل وعلا ذكر أنه أسجد ملأه الأعلى لأبي البشر آدم صلوات الله عليه ، وإن الله جل وعلا يقول ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ) فكرامة الإنسان في الإسلام اعتقادياً إنما تُستمد مباشرة من إنسانيته ، كونه إنساناً وحسب بلا بطاقة وبلا أي شيء آخر يعطيه كامل حقوق الإنسانية ، لا حاجة إلى المال ولا حاجة إلى المركز ولا حاجة إلى الثروة ولا حاجة إلى السلطان ولا حاجة إلى القوة ولا حاجة إلى العشيرة ولا حاجة إلى المنعة ، كونه إنساناً يمنحه كل القمة الإنسانية .

 من هنا جاءت آيات الكتاب الكريم تشير إلى ضرورة تعديل الموازين ، الحياة الجاهلية التي واجهها القرآن لو سُمح لها أن تستمر لأدّى انفراج الزاوية إلى دمار الحياة البشرية ، لماذا ؟ لأننا ما نزال أمام مد وجزر يظهر اليوم قوي ليدّعي حقوقاً على الناس ليست له ، وإنما هي مجرد كلمة وادّعاء وغرور فارغ لا يسنده شيء من الحقيقة . وهكذا حتى تخرج حياة الناس من الاعتداد إلى الاختلاف ، وحتى تصبح حياة الناس مسبعة ، يعدو فيها القوي على الضعيف ، والغني على الفقير ، والسيد على المسود ، والله جل وعلا وصف نفسه فيما تقرأون بأنه الرؤوف الرحيم ، وأنتم تبدأون كل أمر ذي بال من أموركم بقولكم ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فمن المنافاة للرحمة ، ومن المجافاة لها ، ومن إعدام الرحمة إلا بما فضّل الله بعض الناس على بعض ، بمَ يتمايز الناس إسلامياً ؟ يتمايزون بتقوى الله وبالعمل الصالح ، وبغير هذا لا ينماز بشر عن بشر ، فالحياة التي خاطبها القرآن وهدف إلى تدميرها لإقامة حياة هي أنظف وأكرم وأعدل .. حياة ليست مؤهلة بطبيعة تكوينها بأن تسهم أي إسهام جدي ومنتج ونافع في حياة الناس ، ولكنها كانت ـ أي الجاهلية ـ تشكل باعتقاداتها وبالنظم والعادات والأعراف والتقاليد المنبثقة عن هذه الاعتقادات تشكل تهديداً خطيراً يستدعي المعالجة السريعة .

 ورأيتم أن الإسلام لا ياتي بكمادات من الماء البارد ليضعها على الجسم الساخن كي يزيل الحرارة ، لا ، للإسلام طريقة يجب أن تُعرف ، الإسلام لا يقف من الانحراف موقف الخانع الذليل المستجدي ، أبداً ، وغنما يقف الإسلام بشموخه وبعزته وصلابته ليقول للواقع الفاسد : أنت فاسد وأنت لا تصلح ولا خير فيك ، وأنا بدون ان أضع على وجهي أي قناع اريد ان أدّمرك وان أجتثك من الجذور ، لا مكان على الأرض لأي انحراف ، ولا مكان على الأرض لاي ظلم ، وكل ما عدا الإسلام فهو انحراف ، وكل ما عدا الإسلام فهو باطل ، وكل ما عدا الإسلام فهو ظلم . وإذاً فالمسلم اليوم كما خوطب بالجاهلية عليه أن يقف الموقف الصلب الرجولي الشامخ في وجه الباطل والطغيان والانحراف والظلم ، مطالب اليوم أن يقف نفس الموقف .

 إن الحياة الغنسانية برمتها مهددة بهجمة جاهلية شرسة ، بل إن الحياة الإنسانية برمتها تعيش تحت كابوس هذه الجاهلية ، وإن أمل الغنسانية كلها ينعقد اليوم على المسلمين ، فاعزموا عزمتكم بإذن الله علـى ان تكونوا أوفياء لهذا الدين ، بصراء بحقائق هذا القرآن ، عازمين على تمدوا يد العون لهذه الغنسانية المعذبة بعد أن تصلحوا من انفسكم ، وبعد أن تؤطّروا أنفسكم على الحق أطراً ، وبعد أن تستقيموا على امر الله تبارك وتعالى ، ذلك طريقنا ، ذلك منهجنا ، ذلك هو ما ندعو إليه الناس ، بلا جمجمة وبلا دندنة وبلا استخفاء وبلا مواربة ، كل شيء غلط ، والصحيح في القرىن ، وكل شيء باطل ، والحق في القرآن ، وكل شيء جور وظلم ، والعدل والقسط في القرآن ، فإلى القرآن رحمكم الله ، وإلى الدرس القادم .. آمل أن ألقي أضواء مجددة على هؤلاء الآيات تعين على مزيد من الفهم إن شاء الله ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين .