موقف الإسلام من الأحزاب

العلامة محمود مشّوح

2/ 11 / 1979

العلامة محمود مشّوح

 (أبو طريف)

 إن الله مع الذين اتقوا والذين هـم محسنون .. أما بعـد أيها الإخوة المؤمنون :

 في الجمعة التي مضت عرضت عليكم بعضاً من الأحاديث النبوية الشريفة في موضوع يكتسب أهميته الفائقة من الظرف الاستثنائي الذي يمر به المسلمون ، إضافةً إلى قيمته الذاتية ، وهو موضوع الاعتصام بالكتاب والسنة ، وكما أتذكر فقد رويت لكم ما أخرجه البخاري رحمه الله تعالى في الصحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه من حديث الملائكة الذين جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم فقال بعضهم لبعض : إن لصاحبكم هذا مثلاً فاضربوا له مثلاً .. إلى آخر الحديث . ومن هذا الحديث تبيّن لكم أن الموضع الذي وضع الله فيه رسوله صلى الله عليه وسلم من دينه وشرعه موضع الإبانة عما أحكم فرضه في كتابه الكريم ، والتفصيل لما أُجمل في هذا الكتاب ، وإحلال أو تحريم ما سكت عنه الكتاب .

 ولهذا كان واجباً كما تبين لكم أن يُعظَّم ويوقر ويُطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن هذا التعظيم والتوقير والطاعة هي سـمة المسلمين ووصفهم الأول ، وأنه لا خيار لأحد من الناس إلا أن يطيع رسول الله . وكما جاء في آخر الحديث الذي أشرت إليه فإن محمد صلى الله عليه وسلم فرق بين الناس ، فمن أطاعه أطاع الله ومن عصاه عصى الله تعالى . وهو فرق أيضاً بين المؤمن وبين الكافر ، فمن لم يؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم فلن ينفعه إيمانه بالله ولا إيمانه برسله جميعاً إلا أن يؤمن بسيدهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم . وهذه كما ترون طاعة لا رخصة فيها لأحد من الناس ، والطلب لخصوصها جازم لا تساهل فيه ، ومع ذلك فقد رويت لكم أيضاً حديثين آخرين فـي الجمعة الماضية ، وكلاهما من أعلى درجات الحديث في الصحة وسلامة النقل وصحة النسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أما أحدهما فحديث أنس الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما ، وأما الآخر فحديث عائشة رضي الله عنها كذلك من رواية البخاري ومسلم .

 والحديثان يدوران حول إعطاء وصف أساسي لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فهي ليست مما يشقّ على الناس ، ولا مما يصعب الإتيان بها ، لأنها السنة المنزلة على مثال الفطرة ، أي على النحو الذي تستقل به قدرة الإنسان . ففي حديث أنس وفي حديث عائشة رضي الله عنهما بيان لإنكار النبي صلى الله عليه وسلم على المتشددين وعلى المتنطعين في الدين ، لأن السنة هي ما وافق الفطرة وأطاقته الطبيعة البشرية ، فهي ليست عبادةً قاسية وليست حملاً للنفس على ما لا تطيق وليست سوقاً عنيفاً يقطع الإنسان في أول الطريق أو وسط الطريق ، ولكنها أخذٌ بالميسور وإعطاء النفس كفايتها مما شرع الله تبارك وتعالى ، فلا رهبانية ، أي لا اعتزال للنساء ، ولا سهراً موصولاً ، وإنما نوم ويقظة وصلاة وراحة وعبادة وتصرف في شؤون الدنيا .

 ثم جاء البيان في كلام النبي صلى الله عليه وسلم يقرع الذين يتشددون تشدداً لا مبرر له ، ويبيّن لهم أن ما هم عليه فهو خلاف السنة ، وأن ما يتصورونه من محاولتهم لإرضاء الله تعالى بحمل النفس على المشقات شيء موهوم ليست له حقيقة . فقد بيّن عليه الصلاة والسلام أنه هو أعلم الخلق بالله وأشد الناس خشية لله وأحرصهم جميعاً على مرضاة الله ، ومع ذلك فهو يصلي ويرقد ، يعني ينام ، ويصوم ويفطر ، ويتزوج النساء ، وكلما عُرض له أمران اختار أيسرهما ما لم يكن فيه إثم ، وأن هذا السلوك هو السنة الكاملة ، وقال القول الفاصل الجازم : ومن رغب عن سنتي فليس مني .

 اليوم أريد أن أعرض عليكم أيضاً نماذج أخرى من الحديث ، قلت لكم إن مسألة الاعتصام بالكتاب والسنة هي لبّ الإسلام وجوهره ، لها قيمتها الذاتية في دين الإسلام ، ومعنى الدين ليس هو المعنى الذي ترسّخ في أذهان البعض ، لا سيما أولئك الذين نشأوا على الثقافة الحديثة التي هي سموم الأجانب نُفثت في عقول أبنائنا وقلوبهم ، ليس الدين هو ذلك المعنى الروحي والصلة الفردية بين الله والإنسان كما تعرف ذلك بلاد الغرب بعد ثورتها على الدين وبعد إقصائها إياه وبعد عزلها له عن شؤون الناس ، وإنما الدين الذي يعرفه الإسلام هو المنظومة الفكرية والعقائدية والعملية والأخلاقية الناظمة لحركات الإنسان وسكناته صغيرها وكبيرها ومنذ الولادة وإلى أن يموت . فالدين في نظر الإسلام طريق ومنهج ، وإذا كان الأمر كذلك فكل دين يُفترض فيه أن تكون له معالم وحدود ، إذا اختلطت وتداخلت بغيرها ضاعت معالم الدين وضاعت حدود الدين . والإسلام ينظر إلى الدين بهذا المنظار ، فما من نفس يشذ عن سلطان الدين ورقابة الدين ، كل شيء خاضع للدين ، والدين مضمن عندنا في الإسلام في أمرين : في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . كتاب الله هو الدستور ، وسنة النبي عليه الصلاة والسلام هي الشرح والبيان لهذا الدستور من جهة ، وهي أيضاً التجسيد والتطبيق العملي لما جاء من عند الله تبارك وتعالى .

 بهذا يتبين أن الإنسان إذا استمسك بالكتاب والسنة فقد استمسك بالإسلام ، وإذا هو تهاون بالكتاب والسنة فقد تهاون بالإسلام ، وهذا هو المعنى الذي قصدته حين قلت قبل قليل إن للاعتصام بالكتاب والسنة قيمة ذاتية ، فقيمتها الذاتية هي هذه ، وأما القيمة الاستثنائية التي يكتسبها موضوع الاعتصام بالكتاب والسنة في هذه الأيام فهي من الظرف الاستثنائي الذي تمر فيه الأمة . يُفهم مثلاً أن يكون الإنسان مسلماً ، ويُفهم أن يخل ببعض سنن الإسلام ، ويُفهم أن يتهاون حتى بالفرائض ، لكن مع اعتباره واعتقاده أن الحق في الإسلام وأن الخير في الإسلام وأن العدل في الإسلام وأن سعادة الدنيا والآخرة في الإسلام ، إلا أنه مغلوب على أمره بشهوات النفس أو بالتهاون أو بالكسل أو ما أشبه ذلك . هذا مفهوم ، لكن الشيء الذي لا يمكن أن يكون مفهوماً وأذكّر أنني أنطلق من المنظور الإسلامي الصرف ، الشيء الذي لا يمكن أن يكون مفهوماً هو التحلل جملة من أحكام الإسلام واستبدال هذه الأحكام بغيرها مما لم يأذن به الله ومما لم ينزل به سلطاناً . هنا يكون الخطر ، لأن المسألة في هذه الحالة ليست مسألة الكسل الذي يعالج بالجد والنشاط ، وليست مسألة الشهوة التي تعالج بالرياضة والتمرين على العبادة وتحمل تكاليفها ، لكنها مسألة الجحود الكامل ، أي هي قرينة الشرك بالله تبارك وتعالى وقرينة التكذيب لما جاء من عند الله ولما جاء من عند رسوله صلى الله عليه وسلم .

 إذاً عندنا حالتان ، يجب أن تكون الحالتان واضحتين كي لا تختلط علينا الأمور ، حالة موجودة عند جماهير متكاثرة من المسلمين ، حالة التفلت من القيد الإسلامي تحت داعي الشهوة ، تحت داعي المطمع القوي ، تحت داعي الكسل ، تحت داعي غلبة الهوى .. هذا الأنموذج من الناس يُرجى ، لا يُقطع منه الرجاء ، بل هو مأمون الأوبة إلى الله تبارك وتعالى ، والحوادث اليومية تثبت باستمرار هذا الشيء ، فنحن نرى كثيراً من الناس ينغمسون في الشهوات والموبقات إلى أذقانهم ، مع ذلك تراهم بعد أيام أو شهور أو سنين رجعوا إلى الله تائبين منيبين مخبتين له تبارك وتقدس . الحالة الثانية هي الحالة التي يمكن أن نُطلق عليها حالة الرسميين في عالمنا الإسلامي ، أي أنها حالة أولئك الذين حكموا على الإسلام بأنه منهج الجمود والرجعية والتخلف وعدم مواكبة التقدم والمصادمة الظاهرة مع الحضارة ومعطياتها ، وأنه يُشكّل عائقاً في طريق تقدم البشرية ، لذلك حكم هؤلاء على الإسلام بضرورة أن يُعزل ، والإنسان طبعاً فرداً وجماعة لا يمكن أن يعيش في فراغ لا بد منه من منهج لا بد له من طريق لا بد له من مجموعة أفكار ، لا بد له من أفكار مكوّنة عن الأحياء وعن الأشياء وعن الحاضر وعن المستقبل وعن المصير ، ذهبوا يستوردون هذا ويتقممونه ، تعرفون معنى تتقمم ، افهموا لكي تعلموا ماذا أعني ، معنى يتقمم : تصوّر الحمار وهو على المزبلة يأكل القمامة ، هذا معنى يتقمم . هؤلاء يتقممون الأفكار من كل مكان ويُعرضون عما جاء من عند الله وعن بيان محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم . هؤلاء لا نقول إنا لا نأمل أوبتهم ، لا ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث شهراً كاملاً يدعو على قبائل من قبائل العرب الذين قتلوا رسله الذين ذهبوا ليعلموا الناس القرآن شرائع الإسلام ، ومع ذلك فإن الله أدّب نبيه بغير هذا وقال له وللمؤمنين ( كذلك كنتم من قبل ) لولا هذه النعمة المتمثلة بالقرآن والمتمثلة بالإسلام لكنتم مثل هؤلاء الناس ، فاحمدوا الله الذي هداكم للذي أنتم عليه ، وارجوا الله أيضاً لهؤلاء أن يهديهم إلى الجادة .

 نحن أيضاً نرجوهم ، لكن المسألة كما أحب أن يكون واضحاً ليست مسألة أن نرجو لهم أو لا نرجو ، إن المسألة مسألة الخطر الذي يجب أن أزيله من الطريق ، هؤلاء يشكلون خطراً مباشراً ويومياً ومواجهاً بالنسبة للإسلام ، لستَ أمام قوم يقولون لك : الإسلام دين ودين صالح وراقٍ وسامٍ لكننا لا نستطيع أن نتحمله . أنت أمام قوم يقولون لك : إنك حينما تدعو إلى الإسلام وتلتزم بالإسلام فإنما تحاول أن تحيي انتماءات بالية ، كما جاء ذلك بكل صفاقة وقلة أدب وقلة دين في بيان القيادة المركزية للجبهة الوطنية التقدمية . مفهوم ؟ إنك أمام خطر ، خطر الكفر الصريح ، خطر الرفض المطلق جملةً وتفصيلاً بكل ما جاء من عند الله ولكل ما بيّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم . نحن إذاً يمكن أن نستوعب أن يتعلل الإنسان لنا بتركه لشرائع الله في الكف والتفريق والتهاون ، ويمكن أن نرجو أيضاً حتى الكفرة الأصليين ، فنحن من باب أولى نرجو أبناءنا وإخواننا ، لكن المسألة ليست رجاء وعدم رجاء ، المسألة مسألة خطر يجب أن يُقتلع من الجذور لكي يُسمح لقافلة الإسلام أن تأخذ مبدأها ومداها رغماً عن أنف الكبير وأنف الصغير .

 هؤلاء الناس يقال لهم ما روى أبو هريرة رضي الله عنه كما جاء في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : سيكون في آخر الزمان كذابون دجالون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا أباؤكم فإياكم وإياهم لا يضلونكم ولا يفتنونكم . أكرر سيكون في آخر الزمان كذابون دجالون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمع أنتم ولا أبائكم فإياكم وإياهم لا يفتنونكم ولا يضلونكم . تساءلْ الآن : هل سمع محمد صلى الله عليه وسلم بالمادية الديالتيكية ؟ هل سمع محمد صلى الله عليه وسلم بصراع الطبقات ؟ هل سمع محمد صلى الله عليه وسلم بالبرجوازية ؟ هل سمع محمد صلى الله عليه وسلم بالرأسمالية ؟ هل سمع محمد صلى الله عليه وسلم بالاشتراكية ؟ هل سـمع محمد صلى الله عليه وسلم بالشيوعية ؟ هل سـمع محمد صلى الله عليه وسلم بالرسـالة الخالدة للقومية العربية ؟ هذه هي الأشياء التي حذّر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يكتفِ حين القراءة الجادة لكلام النبي صلى الله عليه وسلم بالتحذير منها وإنما وصف أصحابها بحاقّ وصفهم وبما يستأهلون فقال عنهم إنهم من نبات آخر الزمان وإنهم كذابون دجالون وأنهم مضلون ومفتنون ، كذلك حكم عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .

 فهذا التحذير واضح ، ليس مني ، لا تستغربون ، أرى الوجوم على وجوه البعض ، كفى كفى ، إما أن يكون المسلمون رجالاً وإما أن يدفنوا أنفسهم ، عيب عيب ، أمور لم تعد قادرة على الاحتمال ، هذا ليس مني ، هذا من محمد ، فالذي لا يعجبه هذا فليقل بصراحة إن محمداً كذاب ، الذي لا يعجبه هذا الكلام ليتّهم محمداً بالكذب والتزييف والضحك على عقول الناس ، هذا كلام الصادق المصدوق أمين السماء في الأرض المؤتمن على الدنيا والآخرة جميعاً محمد صلى الله عليه وسلم ، إنه لم يقله إلا وهو ينظر إلى الغيب من وراء ستر رقيق ، لقد حذرنا شفقةً منه وهو الرحمة المهداة إلى الناس ، حذرنا مما سيكون ، لكي نشم روائح الخطر ، لكن الأسف يحز في النفس إذ نرى حاسة الشم وهي القوية عند الكلاب والقطط ضعيفةً جداً عند المسلمين ، حذرنا من هذا المصير الذي يُعزل فيه الإسلام ويتقمم الناس فيه قاذورات الدنيا ، ليُفصّلوا منها مرقعةً وسخة يلبسوها للمسلمين .

 أروي لكم أيضاً أحاديث في هذا المعنى ، في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه الذي رواه الشيخان أيضاً قال : قال رسـول الله صلى الله عليه وسلم : إنما مثلي ومثل ما جئت به كمثل رجل جاء قومه فقال : يا قوم إني رأيت الجيش بعيني فالنجاء النجاء فإني أنا النذير العريان . أشرح لكم ، العرب سابقاً وسائل الاتصال عندهم لم تكن معروفة ، كانوا حينما يرحلون من مكان إلى مكان يُرسلون واحداً أو أكثر يسمونه الرائد يرتاد لهم المكان الذي فيه الخصب والذي تكون فيه بعض المياه ، ثم يكون من وظيفة هـذا الرائد أن يتحرى المنطقة المحيطة ، يحاول أن يتعرف هل هناك خطر هل هناك قبيلة أخرى نازلة هل هناك احتمال لقيام غارة من قبيلة معادية على قومه ؟ إذا وجد شيئاً من هذا القبيل يرجع إلى قومه ويعلمهم وينذرهم ، أحياناً هذا الرائد الذي يُرسَل يصعد على ثنية جبل ويرى الخصم مواجهاً إياه ويكون قومه بعيدين عنه ، لو صاح بهم لا يبلغهم صوته ، المسافة بعيدة ، ماذا كانوا يفعلون ؟ اللباس لم يكن كلباسنا وإنما كان عبارة عن ثوب يُفرغ على البدن فقط ، كان هذا الرائد إذا طن أنه لو صاح بقومه محذراً ومنذراً لن يسمعوه يرمي ثوبه ويلوّح لهم به إذا كان الصوت لا يبلغهم فإنهم يرون العلامة ، حينئذٍ يتخذون الاحتياطات اللازمة . هذا هو الذي تسميه العرب النذير العريان ، أي الذي ينذر بشيء شديد الخطر وينذر بشيء يوجب على الناس أن يتلافوا أمرهم بسرعة ، كي لا يداهمهم الخطر وهم غافلون .

 قال : مثلي ومثل ما جئت به كمثل رجل أتى قوماً فقال يا قوم إن رأيت الجيش بعيني . لم يخبرني به أحد وإنما هي معاينة ، فالنجاء النجاء ، أي اطلبوا لأنفسكم النجاة ، فإني أنا النذير العريان ، أي أنا الذي أبلغكم بقرب الخطر ووشك وقوعه قبل أن أصل إليكم . كناية عن مداهمة الخطر إياهم . قال عليه الصلاة والسلام فأطاعه طائفة منهم ، يعني من هؤلاء القوم ، فأدلجوا ، والإدلاج هو السير من أول الليل أو هو سير الليل كله ، فمضوا على مهلهم غير مستعجلين فنجوا ، وكذّبه طائفة أخرى منهم فأصبحوا نكالاً فصبّحهم الجيش فاجتاحهم وأهلكهم ، ومعنى صبّحهم الجيش أغار عليهم صباحاً وتلك هي عادة العرب في كل غزواتها وحروبها أن تشن الغارة مع شروق الشمس . ومن ذلك حينما قال النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر : الله أكبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرَين . فصبحهم الجيش فاجتاحهم وأهلكهم ، ومعنى اجتاحهم استأصلهم وأفناه . فذلك مثل من أطاعني وصدّق بما جئت به ، ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من الحق .

 لاحظتم التقسيم في كلام النبي صلى الله عليه وسلم ؟ الناس كلهم إذاً منذرون وأمام خطر ، والإسلام يمثل النجاة ورسول الإسلام يمثل النذير الذي ينذر الناس بقرب الخطر ، لكن موقف الناس إزاء الخطر والإخبار به والإنذار به ينقسم إلى قسمين أساسيين ، قسم يثق بهذا النذير فيطيعه ، هؤلاء بالإمكان إذا كان العادة ألا تشن الغارة إلا في الصباح فأمامهم ليل طويل ، بإمكانهم أن يدلجوا ، أي يسيروا ويرحلوا من أول الليل ويقطعوا الليل كله بالسير والسرى فيمضون على مهلهم ، لن يتعبوا أنفسهم ولن يرهقوا دوابهم ، لأن النجاة لهم مضمونة .

 والقسم الآخر هو المكذب الذي يكذب بالنذير ، هؤلاء تسيطر عليهم الغفلة ولا ينظرون للعاقبة فينامون ، كأنه لا خطر وكأن هذا النذير عندهم كذاب ، فينامون ، حتى إذا استيقظوا استيقظوا على الغارة تشن عليهم وعلى الاستئصال وعلى الاجتياح وعلى الهلاك .. هل هناك قسم ثالث ؟ لا ، في الحديث ليس لدينا قسم ثالث أبداً ، إما مطيع ومصدق ، وإما عاصٍ ومكذب ، فالذي يطيع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم يستطيع كما مضى هؤلاء الناس على مهلهم فنجوا ، لم يتعبوا أنفسهم ، يستطيع ـ الذي يطيع ويصدق ـ أن يمضي حياته بالعز والسيادة والرخاء والنعيم ولا يُصيبه في هذه الدنيا وصب ولا نصب ولا يمسه في الآخرة عذاب . والذي يكذب عليه أن ينتظر عاقبة المكذبين وجزاء العصاة ، وهو العذاب الواصب في الدنيا والنار الجاحمة يوم القيامة . هذا مؤدى حديث النبي صلى الله عليه وسلم .

 سأروي لكم حديثاً آخر هو أيضاً من رواية الإمامين العظيمين البخاري ومسلم ، وهو حديث يرويه أبو هريرة رضي الله عنه ، لكي تتبينوا موقع النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الأمة . الله تعالى يقول في الكتاب مذكراً المسلمين بهذه النعمة بإرسال محمد إليهم ( لقد جاءكم رسـول من أنفسكم ) يعني من خياركم وأشـرافكم وكرامكم ( عزيز عليه ما عنتم ) يصعب عليه ويؤلمه عصيانكم ( حريص عليكم ) كيف يكون الراعي يدور حول غنمه كي لا تشذ منها دابة فتكون طعمةً للذئب ، كذلك محمد صلى الله عليه وسلم ، يحرص الأمة ويحوطها ( حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ) شديد الشفقة على عيال الله ، شديد البر بخلق الله ، فهو النبي الرؤوف النبي الرحيم . الحديث هذا يبين لنا فعلاً هذا الوصف للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، يُبيّن لنا حرصه على نجاتنا وعلى سعادتنا ، يقول فيما روى أبو هريرة : إن مثلي ومثلكم ـ يخاطب الأمة ـ كمثل رجل استوقد ناراً ـ أشعل ناراً ـ فلما أضاءت ما حولها ـ وهذه النار كما يُفهم من سياق الحديث استوقدت ليلاً ـ فلما أضاءت ما حولها جعلت هذه الهوام والفراش التي تقع في النار يتقحمن فيها ، أي يتساقطن في النار ، وجعل هو يذبهن عن النار ـ يطرد الفراش عن النار ويطرد الهوام عن النار ـ فذلك مثلي ومثلكم أنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقحّمون فيها . وحجزة الإنسـان هي وسطه ، تصوّر هذا التصوير ، هذا التخييل ، هذا التشبيه ، هذا التمثيل ، تصوّر شدة اندفاع الإنسان للتساقط في النار ، أن يبيّن النبي صلى الله عليه وسلم وضعيته من الأمة بوضعية الرجل الذي يمسك آخر من وسطه ويطوقه تطويقاً تاماً كي لا يلقي نفسه في النار . كذلك مكان محمد صلى الله عليه وسلم من الأمة .

 إن مثله كمثل رجل سرى بليل ، وجاءه السرى على مكان اضطر فيه أن يوقد ناراً فاستوقد ناراً ، وفي الليل حينما توقد النار وتضيء تتساقط فيها الهوام والحشرات والفراش ، الناس ، المسلمون ، كل الناس ، بدافع الشهوات والرغبات وتحت ذرائع أخرى لا تعد ولا تحصى يتساقطون في هذه النار التي تمثل نار الآخرة التي أُعدت للكافرين ، يتساقطون وهم لا يعلمون ، وظيفة النبي ما هي ؟ هي أن يكون سداً منيعاً وحاجزاً قويا بين الناس وبين تساقطهم في النار ، فهمتم الحديث الآن ؟ فهمتم الحديثين اللذين رويتهما الآن ؟ أما الأول فيوجب على المسلمين ان يختاروا الذي هو الارشد وأقرب على القعل وهو الوقوف مع كتاب الله ، الوقوف مع سنن رسول الله ، أي التمسك بالكتاب والسـنة والقوف مع الاسلام .

 وهناك فريق آخر يرفض هذا ، هذا مصيره معروف ، هو من أهل جهنم ، وليس له إلا البلاء والزلازل والإذلال في هذه الحياة الدنيا .

 والحديث الثاني يبين لكم أن هذا النبي الكريم الذي اختاره الله من صفوة خلقه ، وكما ذكرت لكم في حديث مضى أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : إن الله خلق الخلق فاختار منهم العرب واختار من العرب كنانة واختار من كنانة قريشاً واختار من قريش بني هاشم واختارني من بني هاشم فأنا خيار من خيار من خيار . إن هذا النبي الكريم المفضل المبجل المعظم الذي هو خيار من خيار من خيار لم يجلس على عرش ولم يرفع نفسه فوق الناس ولم يرَ لنفسه على الخلق حقوقاً ، وإنما بيّن أنه خادم الناس وحارس الناس ، هو يأخذ بحجز الناس ويمسك بأوساطهم ويبعدهم عن النار لكي لا يحترقوا فيها ، والنار هنا هي نار الشهوات التي تصوّر للناس المصلحة في غير المصلحة ، وتصوّر للناس الحق في معسكر الباطل ، كلا ليس الأمر كذلك ، إن الإسلام قد فصل في كل شيء ، وقطعت جهيزة قول كل خطيب ، جاء الاسلام وبيّن الهدى من الضلال وبيّن الحق من الباطل ، وماز الظلمة من النور ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده ما تركت من شيء يباعدكم من النار ويقربكم من الجنة إلا أمرتكم به . وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم : لقد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك . هنا يأتي أوان التفكير الذي بدأت به وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند الإمام مسلم : يكون في آخر الزمان كذابون دجالون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسـمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم لا يفتنونكم ولا يضلونكم .

 يأتي هذا لكي نختم كل شيء ونقول : في تقديرنا أن الأمر بالنسبة إلى المسلمين واضح ، وأن باب الخيار مفتوح ، والإنسان حر ، يريد أن يقف مع المسلمين ضماماً لسعادة الدنيا والآخرة فذلك حظه من دينه ، ويريد أن يقف مع الشهوات ومع أوباشها ومع دعّارها ومع فساقها ومع فجارها وله في الدنيا زلازل وآلام وفي الآخرة عذاب شديد ، فهو حر ، لكن الشيء الذي يجب أن يكون محذوراً ومعروفاً أيضاً أن التفريش في الإسلام ممنوع ، يد في الشرق ويد في الغرب ، يد في الدنيا ويد في الآخرة ، لا ، هذا دجل وهذا كذب ، وهذا سلوك المنافقين ، إما أن تكون مع الله ورسوله ومع المؤمنين فأنت من أمة محمد ، وإما أن تكون مع الآخرين فأنت مع فرعون وهامان وقارون وأبي لهب وأبي جهل ، لا مجال لأن يقف الإنسان موقفاً وسطاً . الأمور أصعن مما تظنون ، وأصعب مما يتراءى لكم ، والشيء المزعج بالنسبة للناس التافهين أنهم يرون ما لا يرون سائر الناس ، هذا الشيء المزعج . نحن نرى أن الأخطار شيء لا يمكن أن يقف في وجهه إلا مجموع الأمة بكل ما لديها من طاقة وبكل ما تملك من موهبة وإمكانية وعلى مختلف الأصعدة وبمختلف الإمكانات ، ماديةً ومعنوية ، الأخطار كبيرة ن لأن الهجمة على الإسلام ليست هجمة فـي هذه الأيام على فئة ولا على شخص ، لا ، هجمة على الإسلام من حيث هو إسلام ، والهجمة على الإسلام ليست نابعة من مكان محدود ، لا ، الهجمة عالمية ، الصليبية العالمية ، الشيوعية العالمية ، اليهودية العالمية ، الاستعمار العالمي ، نظاهرهم جميعاً ، فسقة المسلمين وأوباش المسلمين كلهم يضربون الإسلام عن قوس واحدة ، فالواجب الآن محدد ، وقوف حازم وجازم مع الله ومع رسوله ومع جماعة المؤمنين ، وأما التخفي ودفن الرؤوس في الرمال فسوف يُطعن الإسلام في الخلف ، فإياك أن تكون ضحية من الجانبين ، مفهوم ؟ هنا منبر ، وإلا تكلمنا الكلام الذي لا يليق ، لأن الناس أصبحوا في هذه الأيام لا يفهمون إلا أن تقشر لهم العصا ، قفوا مع إسلامكم فأنتم مسؤولون ، إنكم تقومون على تركة محمد صلى الله عليه وسلم ، أنتم المسؤولون عنها ، لا النصارى مسؤولون ، ولا اليهود مسؤولون ، ولا الملاحدة مسؤولون ، المسلمون هم المسؤولون ، هم ورثة محمد ، وكما قال النبي عليه الصلاة والسـلام : إن الأنبياء لم يورّثوا درهماً ولا ديناراً وإنما ورّثوا هذا العلم ـ الذي هو الدين ـ فمن أخذ منه فقد أخذ بحظ وافر .

 فأنا أسال الله في هذه الأيام المباركات أن يشرفنا جميعاً بوسام الإسلام وأن نكون من جنوده الأوفياء ومن أبنائه البررة وأن يحيينا على الإسلام وأن يميتنا على كلمة الإسلام وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين .