تفسير سورة العصر(1)

العلامة محمود مشّوح

تفسير سورة العصر(1)

الجمعة 26 ذي الحجة 1396 / 17 كانون الأول 1976

العلامة محمود مشّوح

(أبو طريف)

إن الله مـع الذين اتقوا والذين هـم محسـنون ، أما بعـد أيها الإخوة المؤمنون :

فنحن اليوم مع سورة جديدة من القرآن المكي المبكر ، ولقد كنت في الماضي أحسب أن الحديث عن هذه البواكير أمراً هيناً لا يستدعي كد الذهن إلى درجة عالية ، حتى اكتشفت في هذه المسيرة أن المسألة لا يقوم بها إلا الأفذاذ من الناس ، وكنت أقدر أن هذا الاكتشاف يكون آخر شيء ، لكن الطريق مليئ بالمفاجآت ، ولقد كشفت أيضاً علاوة على أن هذا الطريق مسعِد هو أيضاً مؤلم ، والله يعلم وحده أنني أواجه هذه المواقف الأخيرة مما تحدثنا عنه قبل أسابيع وما نستأنف الحديث عنه اليوم وبعد اليوم وكأن السكاكين تمزق أحشائي تمزيقاً ، ليس شيئاً مهماً أنك تسـير وتخطئ ، فالخطأ من طبيعة الإنسـان ، وجلّ الذي لا يخطئ ، ولكن المؤلم حقاً أن تعرف أنك تخطئ ، ذلك شيء مؤلم .

إن هذه الأمة التي تعيش على هذا الكوكب والتي أكرمها الله بالإسلام وزانها وأعلى قدرها ونوه بذكرها بمحمد صلى الله عليه وسـلم ، ترث أمراً عظيماً ، ترث مسؤولية الجنس البشري برمته ، وإنه يكون قدراً لازماً أن تظل الإنسانية كلها تخبط في بيداء التيه والضلال والحيرة والضياع إلى أن يأذن الله لهذه الأمة أن تلتقط طرف الخيط لتسير مـع هداية الله مبتغية خير البشرية ، ومتى ؟ هنا موضع الألم ، إنه لا شيء مجهول ، فالإسلام بحمد الله واضح ، خاطب الناس يوم كان الناس يقرون على أنفسهم بالجهل والعجز فأفاد منه الناس وفهموه ، كان للعقول نور وكان للأخلاق زكاة ، وعدّل من مسار البشرية تعديلاً جوهرياً . والذي يُعَجّبك من هذا الزمان أن الناس بعد أن اتسعت معارفهم وارتقت مداركهم واستبحرت تجاربهم ما يزالون بعداء جداً عن الطريق ، لماذا ؟ أهذا الكلام الذي فهمته العرب يوم كانت على جاهليتها يُعجِز الناس أن يفهموه اليوم بعد أن انتشرت هذه العلوم ؟ لا ، وآية ذلك أنك تقرأ الجملة من آيات القرآن على الإنسان الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب فينفعل معها ويتحرك لها ويفهم عنك ، ثم إذا قلت له يا أخا الإسلام انهض وتحرك ، ربطته أثقال الشهوات إلى الأرض فأحس أنه لا يستطيع أن يستقل على قدميه ، إنها الشهوات إذاً ، إنه العمى أو إنه أخطر من العمى ، إنه الضيعة وراء ضلالة قريبة يمكن للإنسان بعزمة صغيرة أن يقضي عليها وأن يتجاوزها .

كلما وقفت أحدثكم شعرت بألم ، أَلَم الذي يدري كل شيء ، ألم الذي يتمثل بقول القائل في الخرافة المشهورة ( في فمي ماء وهل ينطق من في فيه ماء ) أعرف كل شيء ، وليس المصيبة أننا نحاول فنخطئ فتلك سنة الحياة ، لكن المصيبة أننا نحاول ونعرف أننا سنخطئ ، تلك مصيبة ضخمة ، تحتاج منا إلى أشياء كثيرة .

هدفنا كله من استعراض بواكير الدعوة أن نُلَوّح أمام أنظار الأمة بصورة الحركة التي قادها محمد صلى الله عليه وسلم فنجح وأفلَحَتْ ، لا نقول نريد أن ننقل تلك التجربة بحذافيرها وبحروفها بالحجم التي كانت به إلى هذا الزمان عبر القرون المتطاولة ، لا ، لكن من فضل الله على الأمة وعلى الإنسانية التي قادها محمد صلى الله عليه وسلم هي جملة قواعد يمكن أن توضع موضع التنفيذ والتطبيق في أية بيئة ، وفي أي زمان ، ومهما يكن المستوى العلمي والثقافي ومهما تكن درجة الحضارة التي توضع فـي قواعد الإسلام موضع التطبيق فتنجح وتثمر وتؤتي أكلها .

إننا نواجه اليوم سورة صغيرة ، وجيزة الألفاظ ، قصيرة الفواصل ، يقرأها القارئ فتخف على لسانه ، فيسمعها فلا تؤود سـمعه ، ولكنها فـي الميزان عظيمة ، إنها سـورة العصر ، يقول الله تعالى ( والعصر ، إن الإنسان لفي خسـر ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) إنها قصيرة ، لكن أمتنا يوم كانت أمة ، ولكن رجال الإسلام يوم كانوا رجالاً ، يوم كانوا يقدرون لهذه السورة قدرها ويعطون مكانتها حقها ، كان الإمام الشافعي يقول فيما صحّ عنه : لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم . أي لكفتهم ولأغنتهم عن سائر القرآن . وكان الرجلان من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يلتقيان إذا التقيا فيسلم أحدهم على صاحبه ولا يفارقه حتى يقرأ أحدهما على الآخر هذه السورة ، كالتذكرة والتنبيه على الواجب المترتب على الإنسان المسلم وعلى الأمة المسلمة . وهذا كله يكشف لنا عن درجة التقدير التي حظيت بها هذه السورة ذات الآيات القلائل والفواصل القصيرة ، لكن المثقلة بالمعاني ، الحبلى بالقضايا الخطيرة . هذه السورة لها جوها الخاص ، ومن الظلم لها أن نتحدث عنها معزولة عن جوها الخاص ، لا بد أن نعود إلى الوراء .

سبق أن قلنا ونحن نستعرض سورة الفجر وما قبلها بقليل إن ملامح الطريق التي تتجه نحوها حركة الإسلام بدأت تتضح ، إنه يطرح على بساط البحث عدد من الخيارات حينما تقوم حركة ما تجد نفسها أمام عدد من الطرق يمكن أن تسلك هذا أو هذا أو ذاك ، والإنسانية تعرف وعرفت من قبل وتجرب في كل يوم جديداً من هذه التجارب ، عرفت ما سبق من قبل أن أُلهمت عقولٌ كبيرة مرت في هـذه الدنيا ومضت كانت تتلمس الحق وتجهد من أجل الوصول إليه ، وقد توفق إلى بعض منه وقد لا توفق ، ليس هذا مهماً ، لكنها عقليات وتيارات فكرية ومذاهب فلسفية ونماذج وأنماط سياسية أو اجتماعية يتخيلها المتخيلون ممن أعفوا أنفسهم من مشقات الكفاح والكدح والمعاناة والصبر والمصابرة ، فكانت كلمات ضائعة في الهواء ، ليس لها رجع على أرض الواقع ولا أثر ، ذلك ما يعرف في التاريخ الإنساني بالمدارس والمذاهب الفلسفية ، وكانت أيضاً مع هذا وبعد تجارب النبوات السابقة دروساً غنية بالمواعظ تشير إلى مواطن الداء وتصف الأدواء وتشير إلى أسباب النهوض بالأمم وتصف الأسباب التي أدت إلى الانتكاس وعجز الأمم عن مجاراة الآفاق العالية التي كانت تتخاطب معها النبوات السابقة .

وجاء الإسلام فتحاً جديداً وكلاماً معجزاً ولكن معه أيضاً نبوة معجزة ، وكان من أول شيء هدي إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن حياة الإنسانية ليس كلاماً يقال ولكنه معاناة تعاش ، وليس تصورات يتخيلها الذهن ولكنه مجهودٌ يَوْمِيٌ موصول ، وأما ما وقع في أذهان الذين مضوا من قبل وما يقع في أذهان الناس تحت ضغوط متباينة ومتعددة من أن الفصل بين المعرفة وبين العمل ، بين العلم والممارسة اليومية شيء لا ينبغي أن ينزل في قاموس الإسلام ، إن العلم والعمل قرينان ، بل إن العمل هو المقصود لذاته ، والعلم مصباح ودليل وإشارة يكشف لك جنبات الطريق كي لا تضل ولا تضيع ، وهذا التفاعل المستمر والأخذ والعطاء بين والعلم والعمل هو قوام هذه العملية التي تستهدف اجتماعياً إغناء التجربة الإنسانية ورفع الواقع الإنساني من مستوى الحيوانية التي تدنت إليه هذه البشرية في سلسلة الانحدار المتسارعة يوماً بعد يوم .

ولكن هل هذه البداية تكفي ؟ قلنا إن الحركة الإسلامية كان أمامها عدة خيارات ، كان يمكن أن تسلك هذا الطريق أو ذاك ، ولكنها حركة قيدت من أول يوم بيد الله سبحانه وتعالى ، وكان الوحي حارسها الذي لا ينام ورقيبها الذي لا يغفل ، كل خطوة مسددة بأمر الله تعالى . كان يمكن أن يصرخ محمد صلى الله عليه وسلم في العراء لكي يخرجوا من تلك الحالة الزرية التي كانوا فيها قبل الإسلام ، ما معنى أن يكون آلاف الناس ضائعين في هذه الصحراء المؤلمة ؟ ما معنى أن تكون أمة برمتها ذات تجارب وأبناؤها أصحاب عقول وأرباب حساسيات ومشاعر عالية ؟ ما معنى أن تسخر هذه القوى وأن تجمد هذه المواهب والطاقات لتوضع في خدمة فارس أو توضع في خدمة الروم ؟ وإلى متى يظل العرب في بيدائهم وفي صحرائهم أجراء لدى فارس والروم ولدى الأقوياء من أمم الأرض ؟ كان يمكن أن يصرخ محمد عليه الصلاة والسلام بهذا النداء أن يا أمة العرب توحدي ، وأن يا أمة العرب عزي بعد ذل ، وارتفعي بعد هبوط ، وسودي بعد هوان . وممكن والله أعلم أن تستجيب له بعض القلوب والعقول ، ولكن لم يكن يخطط لشيء من هذا القبيل .

قلنا من قبل إن الإنسانية بلغت في نضجها الحد الذي أصبح جديراً بها أن تأخذ زمام مصيرها بين يديه ، وأن هذا الوحي الذي جاء به محمد صلوات الله عليه آخر شيء تسـمعه الأرض من السماء وبعد الآن فعلى الإنسان أن يعتمد على نفسه ، وعلى البشرية أن تحسن الإفادة من هذا الوحي الكريم ، والإسلام جاء بهذه المفادة .. رسالة ليس فقط لهذه الأمة التائهة الضائعة وإنما للناس كافة ( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السماوات والأرض ) وصدق رسول الله عليه الصلاة والسلام إذ يقول له ويشير إلى ما فرق الله به بينه وبين الأنبياء السابقين إذ كان النبي يبعث إلى قومه وبعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة .

لكن ، هنا يبرز سؤال : أليس من الجائز كأحد من الخيارات المطروحة أمام الدعوة أن نعتبر أن هذه الرسالة للناس عامة ، لا بأس ، ولكن ما الذي يمنع أن تكون هذه الأمة التي جاء الإسلام ونزل القرآن على رجل منها وكان الوحي بلسانها ولغتها وخوطبت قبل الناس كافة بهذا الخطاب ، ما الذي يمنع أن تتولى هذه الأمة قيادة البشرية جميعاً وأن تكون لها الريادة بالنسبة إلى الحضارة الإنسانية عامة ؟ وإذا رجعنا إلى مقررات الإسلام ولكي يُعرَف أن هذا الإسلام يقاد بالوحي يتبين للدارسين أن هذه الخطوات الأولى تتنافى مع النهايات التي انتهى إليها ، لكي يتبين هذا ، علينا أن نعرف أن الإسلام حين نظر إلى الواقع البشري وضع أصبعه على مرض خطير وداء فتاك يعذب البشرية ويقلقها بالفناء والدمار ، هو هذا التمايز ، التمايز بين أبناء الأمة الواحدة مرفوض في نظر الإسلام ومدان ، وهو أيضاً بين الأمم مرفوض ، كيف لا تقبل أنت أن يكون أخوك ابن أمك وأبيك متميزاً عليك ، كذلك أنت لا تقبل أن يكون ابن بلدك متميزاً عليك ، إلا بما ميّز الله وبما فضل ، وكذلك أنت لا تقبل أن يكون ابن وطنك متميزاً ، وكذلك غير مقبول في الساحة الإسلامية أن يتمايز الناس بعضهم على بعض وأن تعلو الأمم بعضها على بعض.

إن الإسلام يغلق الباب نهائياً ومن أول الطريق في وجه هذا النازع الخبيث أن تكون أمة هي أربى من أمة ، أن يستعلي فريق على فريق ، أن تستذل أمةٌ أمةً أخرى ، فالنبي عليه الصلاة والسلام لا يمكن فـي أية صورة أن يأخذ هذا الطريق . هذا شيء يجب أن يُعرف .

عرفنا الإسلام بغاياته العليا بأهدافه البعيدة ، ما هي الخطوات التي يجب أن نتبعها ؟ كذلك هنا خيارات متعددة ، ولكي يعرف إخواننا وأخص منهم المثقفين ثقافة عصرية أن الخيارات كثيرة ، ألفت نظرهم إلى الساحة المعاصرة ، كم من الأساليب والطرق موجودة بين يدي الناس ، إن الفقه السياسي اليوم وإن علم الاجتماع المعاصر ليزخران بالطرائق والأساليب التي يخطط بها الناس للوصول إلى الأهداف والغايات التي يريدونها ، لكن أمامنا طريقين واضحين ، سوف أشير إليهما مجرد إشارة فقط لأكشف للناظرين عمق التباين بين وجهة نظر الإسلام ووجهة نظر الناس .

عندنا طريق معروف ، في التراث الشرقي في الهند وما والاه ، وهذا الطريق تمثّل على أكمل ما يكون في سلوك غاندي ، هذا الرجل رأى أنه لا ضرورة للعنف ولا داعي لاستعمال السلاح ، ورأى كذلك أن المسألة هذه ليست مسألة مرحلية وإنما هي مسألة مبدئية ونهائية ، وكان سلوك الرجل إقراراً بالحقيقة واعترافاً بالواقع ، كان سلوك الرجل متطابقاً على أعلى ما يكون مع ما يؤمن به ، لقد قارع الاستعمار الإنكليزي في بلاده كما قارع الاستعمار في جنوب أفريقيا يوم كان محامياً هناك بهذه الروح وبهذه العقلية ، لقد أفلح في أن يهز دعائم الإمبراطورية البريطانية يوم كانت أقوى إمبراطورية عدوانية على وجه الأرض ، وطُرد الإنكليز من الهند ، وبالفعل يعود ذلك إلى هذا السلوك الفذ الذي سلكه غاندي وسار عليه ، ولكن ذهب هو ضحيته على يد شاب مجهول أرعن أطلق عليه النار وهو يصرخ بدعوة السلام .

هذا خيار من الخيارات المعاصرة كانت المدارس الماركسـية الرد المقابل له ، وطرحت شعاراً هو في ظاهره صحيح ولكن قيادته حتى النهاية مشكلة ومستحيلة ، إن الثورة لكي تكون ناجحة يجب أن تكون ثورة مسلحة لإسقاط السلطة المسلحة ، تلك موضوعة لا شـك أنها صادقة حينما ننظر إليها نظرة أولية ، وكلا الأمرين كان يمكن أن يُسلك في ذلك الزمان حينما اتجه محمد عليه الصلاة والسلام بالدعوة إلى الناس ، كان يمكن أن يسلك طريق السلام باعتباره مبدأً لا يجوز الإخلال به ، وكان ممكناً أن يسلك سبيل العنف وكان قادراً على ذلك ، كان سبيل العنف أقرب السبل وأدعاها إلى أن يفلح وأن يؤتي أُكله حينما ننظر إلى المسألة بمناهج قريبة ومبسطة إلى حد الابتذال والإسفاف ، يمكن ذلك ، ما زلنا حتى اليوم وفي القبائل العربية في الأرياف وفي البادية أنه حينما يحصل اعتداء على فرد من أفراد القبيلة فإن كل أقاربه يثورون من أجله ويدافعون عنه دون أن يسألوا أنفسهم لماذا هم يحملون السلاح ولماذا يريقون الدماء ؟ وكما كان الشاعر العربي في القديم يقول مادحاً قومه :

لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهان

كان يمكن أن يتحرّش محمد صلى الله عليه وسلم بقبائل قريش ولا سيما بعد أن دخل في دين الله أناس من قبائل متعددة كان يمكن أن يوعز إلى أتباعه بأن يسلكوا طريق العنف ، ويكفي أن يقع قتيل أو قتيلان في مكة لكي تتقاتل الأحياء مع بعضها ، ولكي تقع الدماء أنهاراً ، ولكن تكون في النهاية فتنة عمياء . أذلك كان يمكن أن يأخذ به محمد صلى الله عليه وسلم ؟ لا ، لماذا ؟ الإسلام غريبة مفاهيمه في هذه الأيام لأن قعقعة الدعاوي الحديثة بالمناهج والنظم المستحدثة أوقرت الأسماع فلم تعد تسمع إلا قعقعة السلاح ، والعصر الحاضر طرح على البشرية مشكلة من أخطر المشاكل وهي مشكلة هوان الإنسان .

إن الإنسان الثوري يتحدث عن الدماء والقتل وعن السفك وعن العنف بلذاذة وبنشوة دونها نشوة الخمر حين تلعب برؤوس الشاربين ، فمن أجل ذلك حينما نتحدث عن مناهج الإسلام وقواعده في العمل وفي التطبيق نجد هذه الغربة ونحس في نفوسنا هذا الألم العميق .

إن الإسلام يوم أن نظر أيها الأحباب إلى موضوع المستقبل الإنساني نظر إليه متسلحاً بشعور لا ينطفئ بضخامة الأمانة التي بين يديه ، إن مستقبلاً ممتداً في الزمان والمكان ينتظر الناس ، وإن أي خلل في البناء يوشك أن يقع البناء على رأس البناة وساكني البناء ، فمن أجل ذلك كان الإسلام دقيقاً منذ البداية في وضع لبناته الأولى ، وأخذ النفس الإنسانية من مقادها الصحيح . إننا نجد في العنف والقهر والسلطان ولا سيما في الزمان الذي وضع أيدي الدولة حوله حولاً وطولاً ما عرفناها من قبل وسخر لها إمكانات العلم وهي إمكانات مخيفة ، وأمكنها من أن تتغفل الشعوب وتقودهم في طرق لا تريدها ولا تحبها ، في هذه الأيام نعرف إلى أية درجة كان الإسلام حكيماً ، يمكن تحت قهر السلطة وقوة السلاح أن نبني الأمم وأن نشـيد البناء ونعليه ولكن عوامل السوس والدمار موجودة ، وهي نُذُر الفناء ومقدمات الموت موجودة ، إن إمكانية الانقضاض على السلطة والثورة في وجه السلطة قائمة ، والفكر السياسي المعاصر الذي يعرفه الشباب المثقفون اليوم أن السلطة مهما تتمتع به من طرق ورفعة وتجرد في الغاية فإنه مع الزمن يصيبها بما يُعرف في الفقه السياسي بتسلم السلطة كيف يدخل تسلم السلطة إلى الجسم فيقتله ويميته ، كذلك السلطة حينما تجد أنها تملك القدرة على كل شيء تصاب بالاستئثار الذي يجعلها تحتقر الشعب ولا تلقي له بالاً ، ترى أنه مجموعة من الأوباش والمغفلين والتافهين والمجانين وأنه سلعة رخيصة يمكن أن تشتريها بدريهمات معدودة ثم تسوقها سوق الأنعام كما يسوق الراعي بعصاه ، بل كيف يوضع فحل الغنم مربوطاً إلى ذيل حمار فيقود الغنم كلها ، كذلك يمكن للسلطة أن تفعل ، يتصورون هذا ، إلا أنه نجد أن حوادث التاريخ ، عِبَر التاريخ الصارخة جميعاً تكشف عن ثمة نقطة هي نقطة الانفجار ، لا يمكن أن تساس الإنسانية بالقهر ، لا يمكن أن تصبر الإنسانية على الغلبة بحال من الأحوال ، وتتحطم السلطة ولكن متى ؟ بعد أن تكون قد دمرت كل شيء وأفسدت كل شيء . ما هي الضمانة التي بحث عنها الإسلام والتي وجدها الإسلام والتي وضعها الإسلام كان كلمةً أولى في نهجه البنائي ؟ هي النفس الإنسانية ، ضمانتنا من أجل سلامة البناء في المستقبل البعيد والقريب على حدٍ سواء أن يستقيم الإنسان على طريق الله تبارك وتعالى وأن يربّى الإنسان هذه التربية التي تجعله قادراً على أن يرى وأن يعتنق الحق وأن يقف مع الحق وأن يضحي من أجل الحق وهذه تكاليف لا يستهين بها أحد من الناس .

فمن أجل ذلك رأينا في السيرة التي قطعناها من قبل ، أن الإسلام أضرب عن هذا الطريق ، ولكنه حين أضرب عن طريق العنف وإثارة الفتن والبؤر الثورية فإنما أضرب عنها نزولاً عند قاعدة أصيلة من قواعده في البناء ، وإنما أضرب عنها من أجل قاعدةٍ أخرى تربوية ، إنما ونحن نبني ونحن نسير ماذا ندري ؟ ندري في المراحل الأولى أن نعد ذلك الصنف من الرجال الذي يستحق أن يوصف بأنه أمين على مستقبل الإنسان ، نحن نعد ذلك الصنف من الناس الذي نثق أنه أمين على حقائق الوحي ، لقد رأينا من قبل في تجارب النبوات السابقة أن الكهنة والأحبار والرهبان خانوا مبادئ السماء فَحَرّفوا كلام الله واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون ، ونحن نرى أن مقاليد السلطة وضعت في أيدي رجال خُدع الناس بظواهرهم وخُدع الناس بما يبدو من لين قولهم ومعسول كلامهم حتى إذا ملكوا كل شيء طرحوا عن ظهورهم جلد الضأن ليلبسوا جلود الذئاب ، كل ذلك كان ، ما الذي يفتقر إليه هذا الصنف من الناس؟ هذه التربية الرائعة البليغة التي سلكها محمد صلى الله عليه وسلم ، كان عمله عليه الصلاة والسلام يتواكب ، حين كان يهذّب النفس البشرية ، كان يبني المجتمع الإسلامي .

قلت قبل اليوم كان من جملة ما يمكن أن يفكر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يزيد عن ذهن أحد أن يشـكل حزباً ، اسخروا ما شئتم أن تسخروا ، ما الذي يأتي بخاطر الحزب في ذلك الزمان ؟ لكنه كان وارداً ، ولكن المسألة لا تحلها الأحزاب ، إنها حينما نتصور تصوراً من هذا النوع فسوف ننتهي إلى نتائج راهنة نحن في غنى عن الإفاضة في شرحها ولكن نشير إلى أن الحزب قانونه الأساسي الذي يتحكم به هم القلة ، فالحزب في كل أمة قلة في وسط كثرة ، الحزب الشيوعي في روسيا في عام 1917 حينما نجحت الثورة الروسية كان يعد مائتي ألف إنسان منظم ملتزم بالحزب وسط مائة وخمسين مليون من الناس ، فهو قلة قليلة ، وهذا شأن كل حزب . حينما تتوفر ظروف الحكم ، ودعونا من التفسير المادي والحتميات التي لا معنى لها والكلام الفارغ الذي تفلسف به هذه الأمور ، دعونا مع الواقع ، إن فرصاً تعرض أثناء مسيرة المجتمع ينتهزها بعض الأذكياء فيقفزون على السلطة في غفلة عن الآخرين ، وحينما يضعون مفاتيح السلطة في أيديهم يفعلون ما يحلو لهم عند هذه النقطة تبدأ المشاكل إلى أن يكون الاستيلاء على السلطة فالأمر طبيعي ، ولكن الأمور تكون غير طبيعية والمشاكل تبدأ عند هذه النقطة . إن الحزب يعاني دائماً هذا الشعور الناتج عن إحساسه بأنه قلة في وسط كثرةٍ تعاديه ، ماذا يفعل ؟ إنه مضطر للمحافظة على ذاته والمحافظة على بقائه ، تلك غريزة المحافظة على الحياة والبقاء ، غريزةٌ مشروعة وحيوية يحس بها حتى حيوان الأميبيا ذي الخلية الواحدة حينما تحرضه يستجيب للتحريض دفاعاً عن نفسه .

فغريزة حفظ الذات تجعل الحزب حريصاً بل حساساً غاية الحساسية في هذه القضية إنه محتاج إلى أن يحافظ على بقائه ، إنه حين يفرّط في بقائه ينتحر ويموت ، فهو إذاً بحاجةٍ إلى البقاء . ماذا يفعل القليل بين الكثير ، يفرق ويمزق ويضرب صفوف الناس بعضها ببعض كي يوقع الناس في خبالٍ حتى يتبين خطوات أخرى ، يركز بها نفسه أكثر . وهكذا دوامة لا أفظع منها ولا أبشع منها ولا أخطر منها . كل الكرة الأرضية الآن تعاني من هذه الأزمة وهــي موجودة بحمد الله يعرفها القاصي كما يعرفها الداني ويعرفها المثقف كمـا يعرفها قليل الثقافة . فالإسلام لم يكن أمامه سبيل كي يختار هذا الخيار ، إطلاقاً ، لأن المسألة حينئذ تتصادم مع جلة المعطيات التي جاء بها الإسلام ، كل معاني الاخوة والمساواة والعدالة تذهب هباء حينما تكون القضية قضية دفاع عن الذات ، قضية محافظة على البقاء ، قضية حياة أو موت ، فأنا مضطر إلى أن أعطيك وأشتري ولاءك ، وأنا مضطر إلى أن أجاملك وأغضي عن سيئاتك ، وأنا مضطر إلى أن أتحمل منك ما يحتمل وما لا يحتمل . وتاريخنا الإسلامي بالذات في مراحله البعيدة مليئ بالشواهد على هذا ، لقد وجدنا في تاريخنا عدداً من الخلفاء يكسرون قواعد الإسلام ليشتروا الأنصار والأعوان ليسكتوا أفواه الخصوم . هذا شيء طبيعي فهل كان الإسلام يستطيع فعل شيء كهذا ؟ لا، إذاً ماذا ؟ هنا السؤال ، السؤال الذي حارت الإنسانية فيه فعلاً منذ كانت الإنسانية ، وجاءت النبوات جميعاً لتتمخض عن هذه التجربة العالية التي جاء الإسلام ليدعم بناءها ويشيد أركانها . ماذا يفعلون ؟ إن القوة الصغيرة ضمن المجتمع الكبير لا تستطيع أن تهيمن وتسيطر إلا على جبال من الأشلاء والجماجم وإلا على أنهار وسيول من الدماء . هذه موضوعة صادقة مائة بالمائة في تاريخنا المعاصر وفي التاريخ القديم ، ولكن كل الحركات التي بدأت بدايات من هـذا النوع انتهت إلى فشل ذريع وإلى عاقبةٍ محزنة ، لأنها أغفلت أن تبدأ منذ الأساس . إننا حينما نبني البناء بناءً صحيحاً سوف نصل إلى ما نريد ، أول شيء رأيناه يُطرح علينا أن نمسك بزمام أنفسنا فنعدّها عبر الآلام والمتاعب والصبر والمصابرة لكي تكون قادرةً على الوقوف في وجه الصعوبات مهما تكون هذه الصعوبات ، من أجل ذلك كانت مرحلة الدعوة الأولى ابتداءً من أول الوحي ، وانتبهوا يا إخواني من الشباب كي لا تزل بكم القدم في متاهات لها بداية وليست لها نهاية ، كان الإسلام يأخذ نفسه وأتباعه بأن يبني هذا خلال مرحلة الدعوة من أول النزول وإلـى أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم ، لقد كانت المسيرة تمشي وكان عدد المسلمين يزداد وكان الإسلام ينتشر وكان صوته يُعرف بين القبائل ، وكان المسلمون خلال ذلك يتحملون المتاعب ويتعرضون للآلام . وكثير ما جاء أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يقولون له : يا رسول الله أنت ترى كذا وترى كذا وأنت أنت الكريم على الله يصيبك من أذى أعداء الله ما يصيبك إئذن لنا لنقاتل ولندفع عن أنفسنا ، فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم حاسماً قاطعاً كالسيف : إن من كان قبلكم كان يؤتى به فيمشط ما دون لحمه وعظمه بأمشاط الحديد وكان يربط إلى الشجرة ويؤتى بالمنشار فيشق نصفين ما يصده ذلك عن دين الله والله ليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى مكة لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون . كانوا يطلبون منه أن يسمح لهم أن يردوا الاعتداء عن أنفسهم ، غريزة الدفاع عن النفس ، كان النبي صلى الله عليه وسلم يمسك عليها بيد من حديد ويلجمها إلجاماً لا يسمح لها أن تتحرك ويقول لهم : لم يأذن الله لنا بالقتال . أكانت عين الله نائمة عن هذا البلاء الذي يسلط على أحبابه ، الذين عبدوه ، هذه الفئة القليلة التي آمنت به ، على هذه الرقعة من الأرض التي لا يوجد غيرها تعبد الله وتوحد الله ؟ الله جلّ وعلا يراها ويسمع ويعلم وهم بعينه ، ولكن الله يعلم وأعلم نبيه صلى الله عليه وسلم أن هذه النفوس التي تُعدّ الآن في بحار من الدماء خلال الكوارث والأهوال ، خلال الصعوبات والمشقات ، خلال الأذى الذي ينصب عليهم في الصباح والمساء وما بين ذلك ، هذه النفوس تُعدّ لاستلام زمام الحياة ، وتُعدّ للقوامة على الجنس البشري برمته ، وأنها محتاجة لأن تطهر من الأدران وأن تطهر من الشوائب ، وأن القتال لا يؤذن به إلا للضرورة التي يحسها الطبيب حين يشعر أن العلة لا يجدي معها العلاج ولا بدّ أن يتدخل سكين الجراح . ولهذا نحن نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم منع منعاً باتاً من استعمال العنف ، وبعد الهجرة حين تكونت للمسلمين دولة وقامت لهم أمة أنزل الله عليهم ( أذن للذين يقاتَلون ) وليس ـ يقاتِلون ـ ( بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ) أذن الله جلّ وعلا بعد خمس عشرة سنة من هذا البلاء الواصب ومن هذا العذاب الشديد أذن للمسلمين أن يمتشقوا الحسام وأن يرفعوه في وجه القوة الباغية .

ونتساءل هنا : هل القتال ضرورة من ضرورات الدعوة ؟ لا ، بكل تأكيد ، إن الضرورة المطلقة في الدعوة هي البلاء ، وأي مجتمع وأي قوم فتحوا صدورهم وفتحوا بلادهم لسماع هذه الدعوة فإن استعمال السلاح محرم ، ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، لأن من مقررات الإسلام الثقة بالعقل الإنساني والثقة بالإدراك الإنساني بعد أن تمهد السبل أمامه لكي يرى وينظر ويفكر ويحاسب نفسه مفصولاً عن الضغوط التي تضغط عليه من كهنوت ورأسمالية ومن سياسيين يضغطون عليه ، إذا طُهرت الأرض من هؤلاء فالإنسان خليق أن يجد طريقه إلى الله تبارك وتعالى . ولكن مهمة من هذا القبيل ليست شيئاً هيناً ، إننا يجب أن نصل إلى الصيغة التي تستطيع الثبات أمام هذه الزعازع التي تثور من حولنا ، ما هي الصيغة ؟ إن الإسلام اهتدى إلى صيغة قريبة فعلاً وكان يجب أن يفكر فيها الناس ، والمؤلم الذي حدثتكم عنه أول هذا الكلام هو أننا في العصر الحاضر ما زلنا نتلمس هذه الصيغة تلمس العميان مع الأسف ، إن المسألة قريبة ، إن كل حركة يمكن أن تثور في وجه السلطة كفيلة بأن تفشل ، وإن السلطة قادرة على تحطيمها بتحريك قطعة صغيرة من قطع الجيش ، ولكن قطع الجيش جميعاً تفشل أمام الإرادة الشعبية المجمعة على أمر معين . إنك تستطيع أن تحطم يد الإنسان لكنك لا تستطيع أن تحطم قلبه ، إنك تستطيع أن تقيد يديه ورجليه ، ولكنك لا تستطيع أن تقيد إرادته ، إن تحرير الإرادة وتحرير العقل وربط الإنسان المسلم بالمجتمع الذي يفيء إليه هو الطريق الذي وضعه الإسلام حلاً لمعضلة الإنسان المزمنة . فمن أجل ذلك قلت لكم ارجعوا إلى الوراء قليلاً وانظروا ، فستجدون في الفجر وقبل الفجر أن الإسلام بعد أن مكّن عرى الإيمان بالله جلّ وعلا بين الناس طرح عليهم أموراً ذات أهمية ، طلب منهم حينما كانوا يسلمون فيلتفون حول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكون طاقاتهم في خدمة الدعوة مجندة لذلك ، ليس في المسألة انتساباً لحزب يدفع من أجل ذلك اشتراك ، المسألة أكبر وأخطر ، إن المسألة انتساب إلى مجتمع ، والانتساب إلى المجتمع يعني الفناء في المجتمع ، يعني هبة الذات للمجتمع برمتها دون أن يختزل منها شيء ، فمن أجل ذلك كان الإسلام من بواكيره الأولى يطلب من المسلمين إمكانياتهم جميعاً كل ما لديك من مال ، كل ما لديك من طاقة ، يجب أن توضع بين يدي رسول الله أي بين يدي الدعوة . والدعوة بذلك تقوم على أقدامها وتشكل مجتمعها وتحس أحاسيس ، وتحس ذلك الإحساس المؤلم أنها قلة في وسط كثرة ، وأنها ضعف إلى جانبه قوة ، وهذا إحساس مباشر وصحيح ، كل إنسان يشعر به ، لكنكم تدركون تماماً ما أثارته الآيات حينما ذكر الله شأن عاد وثمود وفرعون ، متى تموت الأمم ؟ تموت حين يسكن الرعب في قلوبها ، نحن انهزمنا في العصر الحديث أمام إسرائيل ونحن جيوش كبيرة وأعداد كثيرة ، أمن قلة ؟ لا ، أمن نقص فـي التسلح والتدريب ؟ لا ، ولكن لذلك الرعب والخور الذي يسكن في القلوب ، كنا نتصور الجندي الإسرائيلي كائناً لا يُغلب ، وجندينا يدخل المعركة وهو واثق بالهزيمة ، يعرف أنه يقاتل ولكن وجهه إلى الوراء ، يفتش عن مواطن أقدامه حين يفر من المعركة ، من أجل ذلك انهزمنا . وحينما نقلب صفحات التاريخ فنحن نجد أن التتار حين تغلبوا على العالم الإسلامي ما تغلبوا عليه خرقاً لقوانين الوجود أبداً ، وإنما تغلبوا عليه تساوقاً مع قوانين الكون ومع سنن الاجتماع ، إنما الأمة باقٍ بها التمزق والعصف الحالة التي أطمعت بها الأعداء وجعلتها تعيش هذا الرعب الذي تحس به تجاه السلطات الحاكمة وتجاه الأمم المجاورة ، فمن أجل ذلك لا نستغرب حينما نقرأ في تاريخنا أن الجندي التتري كان يأتي إلى المسلمين فيجمع ثلاث مائة أو أربع مائة من المسلمين ولا يكون عنده خنجر ولا سيف ، يقول لهم : قفوا صفاً واحداً ، وانتظروني حتى أجلب السيف لأذبحكم ، وبالفعل يذهب التتري وهذه البغال واقفة في مكانها ويعود بالسيف ويقتلها واحداً واحداً ، لو أن واحداً منهم ضربه بقدمه لقضى عليه ، ولكنهم لم يفعلوا ، لماذا ؟ لأن الرعب في قلوبهم .

إن الإسلام عالج هذه القضية ، وحين أثار قضية عاد وثمود وفرعون والأمم التي بادت من قبل والتي عاشت كانت لها حضارات وسلطات وصولة ودولة تهمدت وتحطمت ، فلا ينبغي لأحد أن يسأل عن الكثرة والقلة ، وإنما ينبغي أن يسأل عن الصحة وعدم الصحة ، عن الصواب وعن الخطأ ، مجتمعك حين يكون سائراً على طريق صحيح وقائماً على قواعد سليمة فلا تسأل ، إن المستقبل معك ، ولكنك حين تقوم مركزاً على قواعدك الخاطئة فمهما يكن لك من أساطيل ومن جيوش ومن طائرات فأنت لا بد فاشل ومنهزم ، إن الإسلام ثبّت هذه القضية في عقول المسلمين ، فمن أجل ذلك رأيناه تبارك وتعالى يذكر نبيه صلى الله عليه وسلم في مواطن الشدة بعد أن ذكر له أنباء القرون الخوالي ( ألم نشرح لك صدرك ) كان محمد عليه الصلاة والسلام يعيش هذه الزعازع المتلاطمة كموج البحر المظلم وهو منشرح الصدر واثق من المستقبل قانع بأن الله الذي أوحى إليه هذا الدين سيقوده إلى النصر لا محالة ، كان عليه الصلاة والسلام يقود الأمة بهذه العزمة التي لا تبلغها عزمة ، ومن الخير أن نتذكر أن هذه العزمة التي وجدت في نفس محمد عليه الصلاة والسلام وشحن بها قلبه كانت عدوى تسللت إلى قلوب الأصحاب رضوان الله تعالى عليهم ، وما من أحد يجهل أن الإنسانية بمفكريها اليوم يعجبون كيف أمكن لهذه الأمة الضعيفة المستضعفة أن تسيطر على العالم القديم كله في أقل من قرن واحد من الزمان ؟ كيف أمكن ذلك ؟ ولكن إذا عُرف السبب بطل العجب . إن المسألة واضحة ، بناء المجتمع كان منذ البداية كي يفيء إليه الناس ويلتزمون به التزاماً مصيرياً بدل الانتساب إلى الحزب انتساب إلى المجتمع ، بدل انتساب إلى المنظمة الانخراط في حياة المجتمع اليومية وممارسة للشعارات والقضايا والوقائع التي يضعها الوحي في أيدينا . بهذا نجح الإسلام ، وبهذا حُق لنا أن نقابل الآن سورة العصر لنرى أنها لا تخاطب أفراداً ، ولكنها تخاطب كينونة معينة بلغها المجتمع المسلم ، تخاطب المجتمع الذي أرسى قواعده محمد صلى الله عليه وسـلم ، وقاد خطواته شيئاً فشيئاً ، ووضع لبناته لبنة بعد لبنة ، كم كان يطيب لي أن أعفي نفسي من هذه المقدمة الطويلة وأن لا أثقل على عقولكم . أنا أعرف أن ما يثار من قضايا ونحن نواجه أوليات الوحي قد يكون صعباً على كثير من العقول لكن من زمن بعيد قلت لكم أنني قررت أن أدخل معكم من الباب الضيق ، لقد تعودنا على الرخاوة والطراوة ، تعودنا على لين العيش وإعفاء النفس من التكاليف وعلى تعطيل ملكات الفكر والرأي والنظر ، وذلك كله ضلال بعيد ، وآن لنا ونحن نخطو طريق مستقبلنا أن نعرف خطوات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين .