الحلقة الرابعة من سورة التكوير

العلامة محمود مشّوح

الحلقة الرابعة من سورة التكوير

الحلقة (34) ج الجمعة 23 رمضان 1396 / 17 أيلول 1976

العلامة محمود مشّوح

 (أبو طريف)

       إن الله مـع الذين اتقوا والذين هـم محسـنون .. أما بعـد أيها الإخوة المؤمنون :

       إن شأن الناس مع القرآن شـأن عجيب ، نزل إليهم من الله ليتلوه وليتدبّروا آياته ، فكانت الغفلة غالباً نصيب هذا الذكر الحكيم ، وأظن أن الأمة لو أعطت من ذات نفسها لكتاب الله تعالى بعض ما تعطي لصغائر الأمور وسفاسف الحياة لاعتدلت حالها وصلح بالها . فقد أودع الله في هذا الكتاب ما هو عبرة لأولي الألباب ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ) ونحن محتاجون بين الآن والآن إلى أن نقول كلاماً كهذا ، استنهاضاً للهمم وابتعاثاً للرغبة في معاودة النظر في كتاب الله تعالى ، وإنما يحفزنا إلـى ذلك الآن أننا في آخر أسبوع من أسابيع رمضان لهذا العام ، ورمضان كما لا يخفى شهر القرآن ( شهر رمضان الذي أُنزل في القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ) .. فمن كان قصّر في كتاب الله وتدبّر آياته فيما مضى فقد بقي أسبوع ، يحسن بالإنسان المسلم أن ينظر في كتاب ربه ، وأن يحاول الفهم عن الله فيما أنزله إلى الناس ، فربّ ساعة صفاء يكون القلب فيها موصولاً بالله تعالى ، والعقل خلالها خالياً من شواغر الدنيا وجواذب العيش تنقدح للإنسان فيه أفكار وتصورات تزيده قرباً من الله والتصاقاً بهذا الدين .

       وإنما هـي كما قلت ذكرى ، الهدف منها أن لا يضيع الواجب في زحمة العيش ، وأن تظل الحاجات العليا لهذه الأمة على ذكر منها لا تغيب عن بالها ، ولسنا ذاهبين بعيداً فمن التذكير بالقرآن إلى القرآن بالذات .

       سلخنا أيها الإخوة فيما مضى بعضاً من الوقت ونحن نتملى سورة التكوير ، وبغير مبالغة أقول لكم : لو شئت أن أتحدث لكم عن هذه السورة إلى مثلها من العام القابل ما فرغت ، وهي سورة من قصار السور ، ومن أوائل ما نزل ، ولعل معظم القارئين للقرآن يمرون عليها في تلاوتهم دون أن تترك في نفوسهم شيئاً ذات بال .

       قضينا ما مضى ونحن في النصف الأول من السورة ، وها نحن نحاول بنظرات سريعة أن نلمّ بالذي تحدثت عنه السـورة في نصفها الثاني ، ويحسن أن نعود ، لأن السورة في الحقيقة مقسومة إلى شطرين ، ومن الخير للإنسان المسلم وهو يقرأ الشطرين أن يعرف جواءهما ، وأن يدرك هذا التناسق الذي يحكم كل شطر من الشطرين ، تناسقٌ في اللفظ وتناسق في المعاني التي يتأدى بعضها عن بعض ويتنزل كل معنى منها في جوه الخاص الذي رشّحت له مجموعة الأمور التي أحاطت به . في النصف الأول من السورة سمعتم الله تبارك وتعالى يقتص على العالمين مشهد الهول الهائل الذي يكون قبيل اليوم الآخر وففي فواتح هذا اليوم ، كيف يتمخض الكون كله عن اضطرابٍ يتبعه خرابٌ هائلُ وشامل ، ثم يقدم الناس في اليوم الآخر على السؤال والحساب ، فيقول عزّ من قائل ( إذا الشمس كورت ، وإذا النجوم انكدرت ، وإذا الجبال سيرت ، وإذا العشار عطلت ، وإذا الوحوش حشرت ، وإذا النفوس زوجت )  أي أعيدت أرواحها إلى أبدانها فكانت زوجاً ( وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت ، وإذا الصحف نشرت ، وإذا السماء كشطت ، وإذا الجحيم سعرت ، وإذا الجنة أزلفت ) ما هذا الجو ؟ جو قيام العالمين بل الكون كله لله رب العالمين ، لماذا ؟ لكي يقدم كل أحد الحساب عما قدم في دار الامتحان والبلوى .

       في هذا الجو الذي توحي كل نأمة من نأماته ويوحي التعبير عنه بكل حرف من حروفه بهذه الرهبة وبهذا الموقف تأتي الخلاصة الجامعة المركزة فيقول الله تعالى ( علمت نفس ما أحضرت ) لو رجعتم إلى معطيات الإسلام وإلى قضاياه الأساسية لوجدتم الإسلام يعلق أهمية عظيمة وحاسمة على حيوية هذا الشعور واليقين في نفس الإنسان المسلم بأنه قادم على الله ، وأنه محاسب على ما قدمت يداه . وإذ تحاول الآيات في نصف السورة الأول أن تطبع وتثبت القناعة بحتمية اليوم الآخر ، ففي ذات الوقت تتركز الخلاصة الجامعة الشاملة بشيء يتعلق في اليوم الآخر وهو الحساب الذي لا محيص منه ولا محيد عنه ، فكل ما في النصف الأول سواء نظرت إلى دلالات أو نظرت إلى تساوق السور وتوالي المعاني فأنت تتهدى وتتأدى إلى الوصول إلى هذه النتيجة التي رُكّزت ثم أُعطيت لك في كلمات ثلاثة ( علمت نفس ما أحضرت ) .

       والإسلام يعوّل أبلغ التعويل على استقرار هذا المعنى في نفوس الناس ، فالإنسان بغير يقين كامل بحتمية الأوبة للخالق الجبار وتقديم الحساب الكامل لن يكون أفضل مما بثّ الله على ظهر هذا الأرض من حيوانات شرسة مفترسة . وإنما تؤتي وسائل التربية أوكلها وتنتج ثمارها حينما تستخدم هذه الوسيلة الفعالة بإحياء الشعور بحتمية الرجوع إلى الله تعالى ، وحتمية الحساب بين يديه .

       إذا تركنا هذا النصف الذي قضينا معه أوقات ممتعة جميلة وذهبنا إلى التعرف على النصف الثاني فنحن أمام حشد من المعاني يتوجب علينا أن نكون متحلين بالأناة والصبر ونحن واجهها .

       يقول الله تعالى ( فلا أقسم بالخنس ) والخنس هي الكواكب التي تخنس أي تختفي ، ويقال في كلام العرب خنس على معنيين ، الاختفاء الكامل والتضاؤل ، الاختفاء الكامل معروف ، وأما التضاؤل فمحاولة الشخص أن يصغّر من جرمه وشخصه ، ومن ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه حينما لقي الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض طرقات المدينة وكان أبو هريرة جنباً ، فكره أن يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو على تلك الحالة ، قال : فذهبت أنخنس منه . هما في الطريق يتقابلان ، ولكن أبا هريرة حاول أن يضائل شخصه ويصغّر جرمه كي يضيع بين المارة فلا تقتحمه عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأياً كان فإن المتبادر من الانخناس هنا هو المعنيان جميعاً ، فالكواكب في حالة اللمعان والإشعاع تراها تارة عند شدة الوهج يكبر جرمها ويمتد شخصها ، وتارة عند القبض تضؤل حتى تكون نقطة من ضياء ، فهذا انخناس . والكواكب كذلك في دورة الفلك ما كان منها طالعاً يغيب ، وهذه الغيبوبة هي انخناس أيضاً .

       ( فلا أقسم بالخنس ، الجوار الكنس ) والجوار أيضاً هي الكواكب ، والكنس هي التي تدخل كنسها ، والكنس جمع كناس ، والكناس مأوى الظباء والغزلان في لغة العرب . وذلك معناه قسم بالكواكب التي تختفي اختفاء الظباء في كنسها وذلك حين يكون النهار وتغيب النجوم عن أعين الرائين . ( فلا أقسم بالخنس ، الجوار الكنس ) ما زلنا ضمن المشهد الكوني العام ، ما زلنا لم تغب عنا مشاهد القدرة ، لكن مشاهد القدرة هنا كما يجب عليكم أن تحاولوا معرفتها وتتأملوها جيداً ، تختلف عما كانت عليه في نصف السورة الأول ، هناك في النصف الأول عوالم تصطدم ، نجوم تنكدر وشموس تنطفئ وجبال تسيّر وما إلى ذلك من مظاهر التخرب العام الذي يعتري هذا البناء الكوني قبيل يوم الآخر . وهنا الأمر يختلف .. هناك مشهد يُرسم على النحو الذي رُسم عليه ليؤدي إلى خاتمته المنطقية وهي وقوف الناس للحساب ومعرفة كل أحد ما قدم في الدنيا .

       ( والليل إذا عسعس ، والصبح إذا تنفس ) والصبح إذا تنفس يعطيك من جهة معنى الحركة التي هي ملازمة للنهار ، ولكنه يعطيك من جهة أخرى هذا المعنى الرقيق الشفاف الذي تلمسه عند أول مظهر من مظاهر الحياة ، كما تلمسه عند أول شعاع ينشق عند الفجر .. ما هي المناسبة التي نجد المشهد الكوني فيها هنا في النصف الثاني من السورة ؟ يمشي من الموات إلى الحياة ، بينما كان المشهد الكوني في القسم الأول من السورة يمشي من الحياة إلى الموات عكس المشهد الثاني . هناك استخدم السياق كما قلنا ليؤدي إلى خاتمته المنطقية ونتيجته التي لا بد منها حينما ينتهي هذا البناء الكوني لينقلب الناس إلى دار أخرى ضمن عالم آخر يقدمون الحساب عن أعمالهم . وهنا يأتي هذا الكلام توطئة وتمهيداً وترشيحاً للحديث عن النبوة ( فلا أقسم بالخنس ، الجوار الكنس ، والليل إذا عسعس ، والصبح إذا تنفس ، إنه لقول رسول كريم ) هنا يتساوق هذا الجزء وهذا المقطع من هذا المشهد مع كل الأجزاء التي مضت ، كيف تكون هناك ظلمة والنجوم مشتبكة وأطباق الظلام متراكبة ثم يأتي الفجر يتنفس تنفسه الهادئ الوديع ، ثم ينشر أشعته البيضاء فيبدد غياهب الظلمات ، ويحيل الظلام إلى نور ، ويبدل الهمود بالحركة ، كذلك تفعل هذه الرسالة الخاتمة الهادية ، وكذلك هو وضعها .

       فما كان في الجاهلية فـ ( ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ) وما كان في الجاهلية فاشتباك في شئون هذه الحياة غير قابل للحل ، وما كان بعد ذلك فهذا الشفق وهذا الفجر فهذه الأنسام فهذه الأنفاس التي تمنح الناس أملاً متراحباً في الحياة الجديدة ، كذلك رسالة محمد صلى الله عليه وسلم .

       ولو أنك أعطيت الريشة أمهر الفنانين وأعظم المصورين ليصور لك الأمر على نحو مغاير لعجز ، لا يمكن للمشهد أن يخرج مستجمعاً كل أسباب الروعة وكل مقومات الجمال إلا أن يكون مرسوماً على هذا النحو . تلك ظاهرة أنا مضطر إلى أن أشرحها مع علمي بعجز الكثيرين عن استيعابها ، ولكني أشرحها وأطرحها بين يدي كلام سبق أن قلته في الجمعة الماضية ، إن طرائق الأداء وأساليب التعبير عامل أساسي في معركة الحجاج والنقاش التي كانت تدور بين المسلمين وخصومهم ، وإن طرائق الأداء وأساليب التعبير عامل مهم في تكوين القناعات وتثبيتها ، وإذا كنا نحن بما بعد علينا العهد بإحساسنا باللغة ففقدنا بذلك سلائقها وإشعاعاتها وقدرتها على التأثير ، إذا كنا نحن كذلك لا نملك أم نحس بهذه الجواء الإحساس الذي أحسه العربي قبل أربعة عشر قرناً فانفعل به وتأثر وتكونت لذلك قناعاته ، وتحددت لذلك أنماط سلوكه وتحددت تبعاً لذلك غاياته التي يسعى من أجلها ويهدف إليها ، فإن ذلك لا يقلل بتاتاً من الأهمية البالغة التي تأخذها طرائق الأداء في سياق الدعوة إلى الله تبارك وتعالى .

       وإن من الظلم البيّن لهذا القرآن الكريم ولهذه اللغة الشريفة أن يُحمل عليهما جهل الأخلاف لتحركات اللغة حينما تتحرك داخل الأفئدة والقلوب . يقيناً إن الإنسان العربي الذي خوطب بهذا الكلام قبل أربعة عشر قرناً كان يحس من غير تأمل ومن غير حاجة إلى الشروح بكل هذه الجواء التي شرحناها ، بل بما هو أكثر منها . ولأقرب لكم الأمر ، فأنتم تتكلمون اللغة العامية ولو أراد الله بكم خيراً لأجرى على ألسنتكم الفصحى ، تتكلمون اللغة العامية ولكم في العامية تعبيرات ، ولكم في العامية مصطلحات ، حينما تسمعون تعبيراً من التعابير العامية الجميلة فأنتم تتصورون عالماً كاملاً من المعاني يتداعى إلى أذهانكم ، لماذا ؟ لأن هذا اللسان وهذه اللغة مرتبطة بأصل الوجود بذات الكيان الإنساني ، فالإنسان حين يتكلم ليس معقولاً بل ليس صواباً أنه يلقي كلمة من طرف لسانه في الهواء ، أبداً ، وإنما هو حينما يتكلم يقتطع ويحتز بَضعةً من كيانه ليلقيها إلى الناس . من هنا تأخذ اللغة أهميتها ، وتأخذ أهميتها بصورة خاصة من حيث كونها سلاحاً في المعركة لا يبارى ولا يجارى .

       ندخل الآن إلى ما نحن بسبيله .. فالله تعالى بعد أن قال ( فلا أقسم بالخنس ، الجوار الكنس ، والليل إذا عسعس ، والصبح إذا تنفس ) قال ( إنه لقول رسـول كريم ) ولتوضيح شيء من مدلول القسم ، الله جلّ وعلا ينفي القسم ، وهذا على غير السياق المعهود ...

                             إلى هنا انقطع الشريط