سورة القلم (3)

العلامة محمود مشّوح

سورة القلم (3)

الجمعة 29 من شعبان 1395هـ5  من أيلول  1975 الحلقة الثامنة

العلامة محمود مشّوح

بسم الله الرحمن الرحيم

يقول الله جل وعلا بعد الآيات التي تلوتها في الجمعة الماضية:

)إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنّها مصبحين ولا يستثنون، فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم فتنادوا مصبحين أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين، فانطلقوا وهم يتخافتون أن لا يدخلنّها اليوم عليكم مسكين وغدوا على حردٍ قادرين فلما رأوها قالوا إنا لضالون بل نحن محرومون قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبّحون قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون قالوا يا ويلنا إنا كنّا طاغين. عسى ربّنا أن يبدلنا خيراً منها، إنا إلى ربنا راغبون. كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون(.

هذه الآيات تليت على مسامع النبي صلى الله عليه وسلم فأدرك معناها، وتلاها النبي صلى الله عليه وسلم على مسامع المسلمين فعرفوا مراد الله منها، وتلاها على المشركين من أهل مكة فكانت استجابة المشركين على المعهود من جميع المعاندين والفاسقين قلما يتفطن الإنسان إلى مكامن الخطر، وهو ينعم في بحبوبة العيش ورغد الحياة، قلما يستطيع الإنسان أن يستشف نذر الخطر وهو يشعر بالدعة وبالأمن وبالطمأنينة.

ساق الله لأهل مكة المعاندين هذه القصة التي أفترض أنها كانت معروفة ومتداولة بين العرب، قصة رجل له جنة أي بستان فيه من الأثمار وفيه من المحاصيل الشيء الكثير، وكان صاحب الجنة رجلاً صالحاً عارفاً بحق المجتمع عليه، فكان إذا حضر الحصاد أو صرام النخل أو جني الثمر عرف للفقراء حقهم في نعمة الله التي ابتلاه بها فيأخذ من ثمر الجنة ثم يترك للمساكين سائر ما تبقّى، ومضى ذلك دأبه ما يأتي موسم جني وحصاد إلا يدع للمساكين نصيباً معلوماً ومجزياً فكان بعمله هذا قرير العين راضي النفس مطمئن القلب إلى أنه يعطي حق الله جل وعلا لعباد الله وخير الناس أنفع الناس لعباد الله، وكان الفقراء معه كذلك شاكرين ممتنين يدعون له بالنماء والبركة.

ولما حضرته الوفاة استعجل وراثه وضع أيديهم على تركة أبيهم ولكنهم كانوا طرازاً آخر كانوا من الذين يعتدون ويظلمون، وكانوا من الذين يجمعون ويكنزون، وكانوا من الذين يذكرون أنفسهم وينسون عباد الله فما إن انتقل أبوهم ومورثهم إلى جوار ربه حتى انطلقوا نحو الجنة نحو البستان يريدون أن يجنوا ثمره وأن يجمعوا محصوله في عتمة الليل قبل أن يفطن المساكين والفقراء إلى همهم وإلى نيتهم فيلحقوا بهم.

ليلاً يذهبون إلى الجنة ويبالغون في إخفاء مرادهم فهم يتحدثون وهم منطلقون نحو الجنة ولكن لا حديث الجهر المنبعث عن الأمن والاطمئنان ولكن حديث السر والمخافتة المنبعث عن الريبة وعدم الرغبة في إعلام الفقراء بمسيرهم إلى الجنة، فانطلقوا وهم يتخافتون أي يهمس بعضهم لبعض بماذا يتخافتون بماذا يهمسون أن لا يدخلنّها اليوم عليهم مسكين، وفائدة النص بقوله جل وعلا –اليوم- أن لا يدخلنها –اليوم- للتفريق بين نيتين وهمَّين وإرادتين، بين نمطين من السلوك نمط الأب الذي كان يجمع المحصول نهاراً ويبعث في طلب الفقراء والمعوزين والمساكين ليشتركوا معه في جني خيرات الله جل وعلا التي بثها على الأرض بلاءً ومحنة واختباراً ليبلو الناس أيشكرون أم يكفرون.

(ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني حميد)

هَمُّ الوالد ونيته شيء، وهمُّ ورثته.. أبنائه.. شيء آخر..

هنا اليوم- اختلف الحال وتبدلت النوايا وأصبح هناك خاطر متعمد هو خاطر العدوان على حق المجتمع في الثروات الموضوعة بين أيدي الناس ماذا كانت العواقب؟

(فانطلقوا وهم يتخافتون أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين وغدوا على حرد قادرين) الحرد بقطع النظر عن بعض التأويلات التي لا تساعد عليها حقائق اللغة ولا يؤازرها السياق.. الحرد: في لغة العرب التي نزل بها القرآن هو أشد المنع وأعنفه وأغلظه وأقساه؛ (غدوا على حرد قادرين) امتلؤوا، امتلأت نفوسهم وقلوبهم، بهذه النية الخبيثة نية منع الفقراء حقوقهم التي قررها لهم الباري جل وعلا في الأموال التي بين أيدي الناس.

فلما رأوها - وقد شارفوا الوصول إلى جنتهم؛ بلغوا حدود بستان أبيهم، ولعمري إن خواطر من الزهو والطرب، وخواطر أخرى من الكزازة والجشع والبخل لتتلعب بهذه القلوب التي أقبلت تريد أن تضع يدها على مال المورث؛ فلما رأوها عجبوا... عهدهم بجنتهم خضراء يانعة، أثمارها تتدلى أشجارها باسقة، نوَرْهُا فاقع، فما بالهم ينكرون مرآة هذه الجنة ويستغربون المنظر، الذي هجموا عليه، (فلما رأوها قالوا إنا لضالون) أي أضعنا طريقنا وليست هذه الجنة هي الجنة التي ورثناها عن أبينا؛ لكنهم استدركوا وعرفوا الأمر الواقع، عرفوا أن الله جل وعلا قلب عليهم مرادهم، وعكس عليهم نيتهم، نية الحرمان التي كانوا يضمرونها للفقراء؛ انقلبت حرماناً عليهم هم، (فلما رأوها قالوا: إنّا لضالون) -واستدركوا فقالوا: (بل نحن محرومون) - حرمنا خير الجنة التي كنا نُمنِي أنفسنا منها بالجنى الطيب، وبالخير الكثير، (قال أوسطهم -أعدلهم طريقة- ألم أقل لكم لولا تسبّحون) كان يأمرهم في بعض الأحيان بأن ينيبوا إلى الله وأن يخففوا من نوازع الجشع والطمع والكزازة والبخل في بعض الأحيان.

ولَكِنْ هنا –دقيقة- لابد من كشفها والتنبه إليها؛ لأنها تمثل القانون العام الذي يحمي الأفراد والمجتمعات، هذا الذي هو أوسطهم وأعدلهم وخيرهم والذي كان بين الآن والآن يأمرهم بفعل الخير، وينهاهم عن خاطرة السوء، وارث كهيئتهم له نصيب في جنة المورث كأنصباء الباقين، ومع ذلك فحين نزل البلاء دمر عليهم نصيب الفاجر ونصيب البر، على حد سواء؛ لماذا هل في ميزان الله جور وحيف، أم أن ذلك يمشي وفاقاً لقانون العدل الذي قامت به السماوات والأرض إن ذلك هو محض العدل، لسبب بسيط، إن الإنسان العدل الخيّر التقي النقي مأمور، بأن يأمر وينهى، يأمر بالبر والمعروف وينهى عن الشر والمنكر، ولكن هذا الأمر وهذا النهي يجب أن يكون تعبيراً عن إرادة وعن سلوك؛ لا كلمة تنطلق من اللسان؛ فهذا الوارث الطيب الذي أمر بالبر والمرحمة أصابته الجائحة كما أصابت سائر إخوانه لأنه أمر ونهى، ولكنه رضي أن يبقى ملابساً للقوم الظالمين وربما في بعض الأحيان، رضي ببعض حالهم وهنا الخطر الكبير الخطر الماحق، لابد في ميدان الحق والباطل من أن يحكم الأمر كله القانون الأساسي لهذا الصراع.

لهذا الصراع، لابد من تمايز المعسكرين؛ لمجرد أن يرضى الحق بمعايشة الباطل وأن يستنيم تحت كنفه؛ فلابد من أن يدمر لا ريب ولا شك ولا شبه. النبي صلى الله عليه وسلم وآله فيما روت عائشة رضوان الله عليها قالت:

"يغزو جيش الكعبة وذلك من آخر الزمان حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بأولهم وآخرهم. قالت عائشة رضي الله عنها يا رسول الله يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم، يعني خدمهم وعبيدهم ومن ليس منهم، أناس صحبوهم في الطريق.

قال يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم".

إن لم يعمد أهل الحق إلى عزل أنفسهم عن معسكر الباطل؛ فالعذاب الواقع على المبطلين حالٌّ بهم لا محالة، وأما الحساب الأكبر فعند الله تبارك وتعالى هو يعلم النوايا وهو يرسل بهؤلاء إلى الجنة، وبأولئك إلى الجحيم، أما هنا فالله جل وعلا يقول:

(واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب).

هذا الرجل قال لهم (لولا تسبّحون) اذكروا الله وذكرهم لله يتمثل في معرفة المنعم تبارك وتعالى وفي أداء الحق المفروض إلى أرباب الحقوق ومع ذلك رضي أن يؤاكلهم وأن يشاربهم وأن يساكنهم فَحَلَّ به ما حل بإخوانه والنبي عليه الصلاة والسلام يُحَّذِر من هذا السلوك الملتوي الذي قد يتصور بعض الناس في بعض الأحيان أنه ينجي فيقول:

"إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أن الرجل كان يأتي فيجد القوم فيهم مقيمين على المعصية فيقول يا هذا يا هؤلاء اتق الله وذر ما أنت عليه فإنه لا يَحِلُّ لك، ثم لما مضى قليل زمان وآكلوهم وشاربوهم ونكحوا إليهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم ثم تلا قول الله جل اسمه (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون).

الله جل وعلا حين وضع هذه الواقعة أمام قريش وأمام النبي صلى الله عليه وسلم وأمام.. كانت قصة تتلى.. لا ليذوقها.. ذواقو الأدب، وإنما سيقت للموعظة وللذكرى:

(وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبّت به فؤادك).

وقصص الماضين عموماً سيقت في القرآن ليتعظ المؤمنون، لأن الناس أسواء يجري عليهم قانون واحد والله جل وعلا رب الكل لا يحابي أمة ولا يجامل شعباً على حساب شعب وإنما يجري الناس كلهم على سياق واحد، فالأمم الماضية التي جاءتنا في القرآن أقاصيصها جاءت لكي نقرأها ونتعظ بها ونتدبر معانيها لنعرف من أين أتيتْ هذه الأمم فأُهلكت، وأبيدتْ لنتجنب مواطن ذلك ولنعرف كيف قويت هذه الأمم ونمت وازدهرت لنستمسك بأسباب القوة والنماء والازدهار.

أصحاب الجنة هؤلاء، بين أيديهم خير من خير الله جل وعلا، خير الله جل وعلا مائدة ممدودة، نعمة الله غطت البر والفاجر وابن آدم والحيوان وكل ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما؛ الكل يتقلبون في نعمة الله جل وعلا وفضله، هل نحن الذين صنعنا النعمة لأنفسنا أو للآخرين، أم الله هو الذي مدَّ لنا هذه المائدة..! ما صنعنا نحن شيئاً، ما خلقنا السماوات ولا خلقنا الأرض ولا أجرينا الأنهار ولا أنبتنا الأشجار ولا حملناها بالأثمار؛ ذلك كله صنع الله الذي أتقن كل شيء هذه النعم كما أنها من عند الله، فالله جل وعلا قادر على سحب نعمته من بين أيدي الناس في اللحظة التي يشاء وعلى الطريقة التي يختارها الله جل وعلا.

النعمة.. بماذا تدوم؟ بشكر الله جل وعلا وبمعرفة حق الله تبارك وتعالى في هذه النعمة وقبل ذلك وبعد ذلك بطاعة الله المتمثلة في العقيدة الصادقة المستقيمة لاحظوا.. الكفار والمنافقون وعبدة الأوثان وفسقة المسلمين، بين أيديهم نعم، يخيّل للرائي، وهم يرونهم يصنعون المبرات وينفقون النفقات الكثيرة، يرون أنهم يفعلون خيراً ويفعلون معروفاً وأنهم من أجل ذلك وبناءً على ذلك حقيقون، بالشكران والعرفان وبأن الله إن لم يعرف لهم فضلهم هذا فقد جار وظلم تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، ولكن هل هذا صحيح؟ لا. إن الله جل وعلا لا يقبل من الفاسق شيئاً ولا يقبل من الكافر شيئاً ولا يقبل من المعاند شيئاً. يقول الله جل اسمه:

(وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً).

لو أن الكفار والمنافقين والفاسقين أنفقوا ملء الأرض ذهباً ما تقبّل منهم أبداً. بلى إن نفقاتهم لتكون عليهم حسرة يوم القيامة؛ وإن قائلهم ليقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً فلابد من العقيدة الصادقة المستقيمة قبل أي شيء وبعد أي شيء وبعد ذلك يأتي دور المجتمع وتأتي حقوق الناس هؤلاء أصحاب الجنة ما ندري لعل عقيدتهم زاغت فعوقبوا بمثل هذا العقاب ولكنهم في أي حال لاقوا جزاء النية السيئة نية الحرمان للفقراء والعدوان على حق المجتمع بأن دمر الله على جنتهم فأصبحت كالصريم يعني كالليل المظلم أصبحت سوداء محترقة طاف عليها طائف من أمر ربك الذي له جنود السماوات والأرض فإذا الخضرة اليافعة تنقلب إلى سواد كالليل البهيم.

لماذا؟ لأنهم نسوا شكر الله، ونسوا حق المجتمع عليهم، وكذلك كل إنسان وكل أمة خولت من نعم الله نعمة إن لم تحصنها بالشكر والعرفان وإن لم تؤسس شكرها هذا وعرفانها على إيمان سليم بالله جل وعلا فأمرها لاشك إلى فناء وإلى دمار لابد من ذلك.

لماذا وضعت هذه الحقيقة أمام المؤمنين؟ لكي يتعظوا لكي يعلموا أن هذا الخير العميم الذي جاءهم به الله بطريق محمد صلوات الله عليه إن لم يقوموا عليه بالشكر وبالعرفان وبالتآزر والتكاتف وبالذود عنه والمحافظة عليه فإن الله جل وعلا قادر على أن يسحب نعمته من بين أيديهم، وقادر على أن ينزع منه شرف الانتماء إلى هذه الدعوة، وقادر على أن يلقي العبء كله على عاتق أمة أخرى، فخلق الله عظيم وواسع وخلق الله كثير والله جل وعلا ما به من حاجة إلى أحد من الخلق وكذلك قيلت هذه القصة للمشركين ليدركوا أن الله وضعهم في بلد تموج من حوله أمواج الرمال السافيات، وتنصب عليه أشعة الشمس كالحمم اللاهب، وَتَنْبَثُ من حواليه قبائل هي لصوص الصحراء، تصطو وتغزو وتنهب وتسلب.. كل شيء، في الصحراء ثمين، إلا هذا الإنسان، ما أرخص الإنسان في صحراء الجزيرة العربية التي ينطق بل تنطق كل ذرة رمل فيها بالبؤس والمسغبة، وبالشدة وبالقسوة رماهم في تلك الصحراء في بلد يجبى إليه ثمرات كل شيء بلد وسط تمرُّ به القوافل الجائية من الشمال ذاهبة إلى الجنوب، وتمر به القوافل الجائية من الجنوب آخذة نحو الشمال، وهم في ما بين ذلك ينعمون بالخرج الذي يأخذونه ويعيشون في بحبوحة من العيش.

وهم يرون أيضاً كيف أن القبائل يعدو بعضها على بعض، ويقتل بعضها بعضاً وهم في حرم الله في جوار الله آمنون مطمئنون لا يعتدى عليهم، بل تعرف العرب كلها لهم مكانهم من جوار الله جل وعلا، والله تبارك اسمه امتنّ في القرآن عليهم بهذه النعمة السابغة فقال:

(أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم).

يشملهم الرعب ويعمهم الخوف وهم وحدهم آمنون مطمئنون. أوليست هذه نعمة في بلاد كل ما فيها يخيف السالك والسابل والمقيم، بلى وهم أيضاً سماسرة التجارة من أمم العالم القديم وامتن الله عليهم بذلك فقال:

(لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا ربّ هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف).

برغم هذه النعمة فإن قبيلة قريش من العرب.. بطرت النعمة عوضاً عن أن تلفتها إلى الحقوق التي تترتب عليها.. هذه النعمة زادتها قسوة وزادتها بخلاً وزادتها شحاً وزادتها بعداً عن الله جل وعلا جاءهم هذا النبي عليه السلام في مجتمع يزداد فيه الغني غنى ويزداد فيه الفقير فقراً حتى ينسحق تحت أرجل الأغنياء والأقوياء، فدعاهم إلى المعدلة ودعاهم إلى المرحمة، فجعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا، وجاءهم يدعوهم إلى صراط الله رب النعم كلها ويدعوهم إلى منهج الله الذي اختاره للناس ليعيشوا عليه، فكفروا بنعمة الله جل وعلا، ساق لهم هذه القصة وهي قصة ما أشك أنهم يعرفونها ويتداولونها بينهم في الجاهلية ليعلمهم أن نهاية الاستهتار والبطر والقسوة والتمرد معروفة، نهايتها التدمير لابد من أن يدمر الله جل وعلا على كل أمة تنسى قانونه الذي لا يتخلف.

يا إخوتاه:

أحدنا يسيء إساءة بسيطة فيقدم إلى القضاء، واضع التشريع الذي هو المجتمع يطلب الجزاء، لمجرد أن نكون قد رضينا بالانتماء إلى المجتمع، فنحن إذاً تحملنا مسؤولية هي مسؤولية الخضوع لمقتضيات المجتمع وأوامر المجتمع، فحين نشذ وحين نخرج على هذه الأوامر فالعقوبة لابد منها هذا على الصعيد البشري القاصر، فما بالكم بالأمر حين يكون على صعيد الله جل وعلا...؟

إن الله خلق الكون ووضع له شريعة بلّغها الأنبياءُ والمرسلون، وجاءت متبلورة في نصها الكامل الشامل على لسان النبي الخاتم محمد صلوات الله وسلامه عليه، ونحن رضينا بأن نكون من جملة حملة هذه الشريعة، والمنتمين إلى هذا الإسلام، أفيبلغ هوان الشريعة على رب الشريعة منزلةً دون منزلة القانون، على صانع القانون؟ من الذي يظن هذا إلا المجنون والأبله، أفيظن العاتي والمتمرد أن الله جل وعلا سوف يَدَعه يفعلُ كيف يشاء دون أن يعرضه للعقاب الصارم؟ لا.

ذلك وهْمٌ، ذلك خطأ في التفكير بل غفلة ما بعدها غفلة، الله جل وعلا أنزل على محمد هذه الشريعة ومن جملة حقائق قوانين هذه الشريعة زبدة القصة التي قلناها لكم الآن والتي قيلت لمشركي قريش وقيلت لمسلمي ذلك الزمان أيضاً. قالت لهم بلسان الحال:

كل نعمة، سواء أكانت مادية أم كانت معنوية فلابد من أن تحاط بالشكر والعرفان، فما بين أيدينا من خيرات ومن نعم يجب أن نعرف حقوق المجتمع فيها، دون مداورة ودون محاولة لتغفل المجتمع واللعب من وراء ظهره وما بين أيدينا من نعم ومتع، فثمة أفواه جائعة لابد أن تشاركنا في هذه النعم وهذه المتع فإذا نحن منعنا وإذا نحن بخلنا فعلام يدل هذا؟ هل هذا يدل على قلوب مرتبطة بالله الذي أنعم بهذه النعم أم على قلوب انقطعت صلتها بالله؟

تذكروا ما سبق أن قلناه ونحن نتحدث عن سورة العلق:

(كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى).

حينما يشعر الإنسان بالأموال والمتع والخيرات تفيض من حوله غالباً ما يشعر بأنه في حالة لا يفتقر معها، لا إلى الله ولا إلى عباد الله، وهذه هي حالة الاستغناء التي حذر الله منها والتي شرحناها من قبل والتي يهمني أن ألفت نظركم إلى أن القصة هنا مردوده..

عن تلك الآية الفاذة الجامعة التي قالت (إن الإنسان ليطغى) أي يتجاوز حده وينسى مقداره أن رآه استغنى حينما يشعر أنه قد استغنى بماله أو بجاهه أو بسلطانه أو بأتباعه، هذا على صعيد الأشياء المادة، وعلى صعيد الأشياء المعنوية على صعيد الشريعة فلمجرد أن ننتمي إلى الإسلام لا نأخذ حصانة، ولا نأخذ صكاً من الله أن يدخلنا الجنة قولاً واحداً ، الإسلام ليس مانعاً للإنسان من أن تلعب فيه كل العواطف وكل الغرائز لا يمنعه ذلك.. والخذلان والتوفيق بيد الله جل وعلا فنسأله تبارك اسمه أن يجعلنا من الموفقين لا من المخذولين. إن نحن أخذنا هذا الإسلام على أنه جد، وعلى أنه شريعة رب قادر وقاهر وعليم بخفيات النفوس؛ فلابد من أن نراعي دقائق هذا الإسلام لابد من أن نذكر الله، وأن نستحضر خشية الله مع كل فعل ومع كل شخص ومع كل قول ومع كل صمت؛ إذا قمنا على ديننا هذه القومة حفظ الله علينا ديننا وحاطنا وحرسنا من عدونا، بل نصرنا على عدونا دون أدنى شبهة:

(كتب الله لأغلبنّ أنا ورسلي إن الله لقوي عزيز).

(ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إن جندنا لهم الغالبون).

فالله جل وعلا تكفّل للذين يُمَسِّكون بالكتاب بالنصر والتأييد والتمكين في الأرض ولكن احذروا، لا يقل أحد أنا ابن محمد فإن محمداً صلى الله عليه وسلم وقف يعلن:

يا فاطمة يا بنتَ محمد سليني ما شئتِ من مالي لا أغني عنك من الله شيئاً، إن الله ليس بينه وبين أحد من خلقه سبب ولا نسب، وإنما يتفاضل الناس عنده بالتقوى والعافية، ويتمايزون عنده بالوفاء لهذا الإسلام.

لعلكم تظنون يا معاشر المسلمين أن ازدحامكم في المساجد، وسجودكم بين يدي الرحمن مانعٌ عنكم عذاب الله وأنتم ترون الأخطار تتآكل الإسلام من كل جانب لعلكم تظنون ذلك.. إن ظننتم فما أشد غفلتكم وما أعظم شرودكم عن الله جل وعلا.

إن هذا الإسلام عقائد ينبغي أن تحفظ، وشرائع ينبغي أن توضع موضع التطبيق، وسياسة وحكم ينبغي أن تساس وأن تدار المجتمعات على أساسها، وأخلاق ينبغي أن تكون هي العاملَ الحَكَمَ بين الناس، إن هذا الإسلام سَعَةٌ بسعةِ الحياة وأكثر، وما لم يكن المسلم قلبه متسعاً لهذا الإسلام كله، فاستمساكه بجزء من أجزائه لن ينجيه من عذاب الله جل وعلا، ألفت أنظاركم، أنتم اليوم تُصلّونَ كما كان يصلي آباؤكم وأجدادكم، كما صلى محمد والذين آمنوا معه، ومع ذلك ما أبعد الفرق، بين الاثنين، ما أبعد الفرق بين أمة الإسلام في هذه الأيام، بِذُلِها وانهزامها وهزالها، وهوانها على الناس، وبين تلك الأمة التي كانت قليلة العدد، ولكنها استطاعت أن تثلَّ عروش الظالمين لِترسي على أنقاضها دعائم كلمة الله تبارك وتعالى، من أين جاء الفرق، من ضحكنا على أنفسنا، ومن صدق أولئك مع أنفسهم، كان أولئك الأسلاف الميامين صادقين في يقينهم بأن الله اختارهم لحمل هذا الدين. ونشر هذا اليقين. وإبلاغ هذه الأمانة بصدق وعزيمة، ونحن نرفع هذا الدين اسماً وشعاراً وإعلاناً.. وندع الإسلام بحقائقه الأولى، بشرائعه المستقيمة، بعقائده النظيفة، بأخلاقه العالية، ندعه للفاسدين والمفسدين، والفاجرين والمتجبرين، يوسعونه تمزيقاً، ويبعدونه عن قيادة المجتمعات وعن سياسة الشعوب، ومن هنا، فنحن يجب أن نقف، لأننا نمشي إلى غاياتنا برجل عرجاء، ما لم نعلن إسلامنا كله، فلن تستقيم خطانا على الجادة التي ترضي الله جلَّ وعلا، واعلموا أن الله إذ يسوق لكم هذا النبأ في القرآن، فلكي تذكروا أن النعمة المتمثلة في محمد صلى الله عليه وسلم، والنعمة المتمثلة في شرع محمد إن لم تؤخذْ بجد وإن لم تؤخذ بقوة، وإن لم يهبها الإنسان كل وجوده، فسوف تسحب منه ليُترك هو هناك بين أرجل الظالمين يدوسونه كما يدوسون أي قذر..

الله الله يا إخوة في هذا الإسلام احرصوا عليه، ودافعوا عنه، وأعطوه من أنفسكم كل ما تملكون يحقق لكم الله مثل الذي حقق لآبائكم وأجدادكم وأسلافكم والله سبحانه أسأل أن يوفقنا وإياكم للتمسك بهذا الدين، اعتقاداً وعملاً وأخلاقاً وسلوكاً،إنه المسؤول، وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وآله وأصحابه أجمعين.