أول خطبة لمسجد أبي بكر(5)

الجمعة 8 شعبان 1395هـ -

أول خطبة لمسجد أبي بكر

(5)

العلامة محمود مشّوح

بسم الله الرحمن الرحيم

من يهد الله فلا مضلَّ له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، اللهم صلّ على هذا النبي الكريم وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أوصيكم عباد الله وإياي بتقوى الله، إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون فبفضل الله تعالى وعونه وبجهود المحسنين من أبناء هذه الأمة تم بناء هذا المسجد وإنا لنرجو إن شاء الله تعالى أن يواصل رسالته التي قام من أجلها، وإن هذا المسجد لآية على ما يفعل الجهد المشترك بين أبناء الأمة فمن القروش القلائل أمكن بعون الله جل وعلا أن يشاد لله بيت يذكر فيه اسمه، وكلي رجاء إلى المولى القدير أن يضاعف هذه الجهود ويبارك عليها وأن يزيد المسلمين والمؤمنين حرصاً على التمسك بشعائر دينهم.

أيها الإخوة في هذا المسجد لا نبدأ بداية جديدة وإنما نواصل نهجنا الذي اختططناه فالخطبة هنا وصلٌ لما كان في غير هذا المسجد، وعليه فنحن إذن بصدد إكمال الحديث عن سورة العلق من حيث فاتحة الوحي الإلهي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، في الجمعة الفائتة كان من توفيق الله جل اسمه أن تحدثنا عن صدر:

)اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى(.

وأظن أننا وقفنا في الحديث عند هذه الآية وفي ختام السور الأربعة سنحاول أن نعطي تلخيصاً دقيقاً للأغراض والمهمات التي كلف المسلمون بها في أوليات الدعوة.

أما الآن فنتابع.. قال الله جل وعلا بعد ذلك:

(إن إلى ربك الرجعى).

هذه الآية جاءت بعد إشارة بليغة عما يصد الناس عادة عن الهدى، ويردهم عن سبيل التقوى.

)كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى(.

الإنسان يتجاوز حده وينسى مقداره ويظن في نفسه غير الحق حين يشعر بنازع الاستغناء عن أية معونة خارج ذاته تسنده وتعينه وتسدده، ونسيان الإنسان لقدره مصيبة من المصائب الكبيرة فيرحم الله شيخ المعرة فلقد كان يقول:

وإذا النفوس تجاوزت أقدارها     حد البعوض تغيرت سجراؤها

لمجرد أن يجاوز الإنسان قدره ولو جناح بعوضة تتغير السجراء يعني تتغير الطبيعة إن الإنسان الذي يطغى ويبغي ما حصيلة ذلك؟ شعوره بأنه غير صائر إلى يوم يحاسب فيه عما قدمت يداه، لو أن الإنسان علم أن بعد هذه الدار داراً يقف فيها الإنسان بين يدي حكم عدل وبين يديه كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وأنه مسؤول ومُشَدَّدٌ عليه في المسألة. بقيت حقيقة البشرية ماثلة أمام عينيه فالآية:

(إن إلى ربك الرجعى).

مجرد تذكير بهذه الحقيقة الضخمة التي يراها الإنسان دائماً وأبداً حين يودع الأب والأخ والولد والصديق والقريب والبعيد يودعهم إلى دار لا عودة منها إلى هذه الدنيا ولكن الإنسان ربما يشعر وهو يسير خلف جنازة بهذا الشعور الذي يستولي على الإنسان في أوقات الشدائد شعور النقلة والرحلة من هذه الدار. لكنه ينسى هذا لمجرد أن يهال التراب على الميت.

كلا (إن إلى ربك الرجعى) مهما طال الأمر فالموقف غداً بين يدي الله تبارك وتعالى واعتقاد بعض الناس من الملاحدة والكفار أنه لا مرجع ولا مآل ولا آخرة ولا قيامة ولا حشر ولا نشر ولا حساب؛ لوثة تصيب العقل الإنساني فتخرجه عن حد السلامة والاستقامة لكن الإنسان الذي يستقيم طبعه، يدرك دون ريب -من مجرد الحوادث الدنيوية- من سياق الأحداث اليومية، أن بعد هذه الدار داراً.. دعك من كل هذا وخذ المسألة مسألة حساب رحم الله أبا العلاء لقد كان يقول بيتين يحملان معنى الطرافة والنكتة لكن تعبيرهما عميق، يقول:

قـال المنجم والطبيب كلاهما      لا تحشر الأجساد .. قلت إليكما

إن صـح قولكما فلست بنادم      أو صح قولي فالخسارُ عليكما

حسب المسألة حسبة مادية، إن قلت ليس بعد هذه الدار داراً ثم كان بعد ذلك دار وكان حساب وكان ثواب وعقاب؛ فمن الخاسر ويحك ألست أنت الذي أنكرت بغير سند من حجة ولا برهان وبغير سند من قضية العقل السليم. وإن قلت بعد هذه الدار دار، وثمة حساب وثواب وعقاب ثم لم يكن شيء بعد ذلك، فأية خسارة تكون عليك؛ الأمر لديك سواء، مخرج القضية عند أبي العلاء مخرج الطرفة والنكتة لكن دلالتها عميقة.

هذه الآية تنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخاطب بها قوماً، ضَلَّ معظمهم عن هذه الدار، وطغت أكثريتهم الساحقة وتجاوزت أقدارها فقال لهم بهذا الجزم والحسم والقطع (إن إلى ربك الرجعى) صِيْغَةُ إخبارٍ مُؤكدٍ -غاية التأكيد- لأنها قضية لا تحتمل نقاشاً ولا أخذاً ولا رداً، ثم قال الله جل وعلا بعد ذلك:

)أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى؟ أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى؟ ألم يعلم بأن الله يرى(.

تلاحظون أن هذه الآيات، صياغتها معجزة في البساطة. أرأيت الذي ينهى..؛ يخبر الله جل وعلا عن واقعةٍ. روت بعض كتب الحديث وكتب السيرة إجمالاً، أن أبا جهل فرعون هذه الأمة -لعنه الله تعالى – لقي النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو يصلي فانتهره ونهاه عن الصلاة فأغلظ له النبي صلى الله عليه وسلم في المقال فقال أبو جهل للنبي عليه السلام:

يا محمد لِمَ تتوعدني وأنا أكثر أهل هذا الوادي نادياً؟

فأنزل الله جل وعلا هؤلاء الآيات؛ هؤلاء الآيات معانيها عميقة، بالرغم من بساطة التعبير. تشترك حتى الصياغة، حتى أسلوب الأداء، يشترك في تأدية المعنى المراد لاحظوا، افتحوا أذهانكم. واقرؤوا:

)أريت الذي ينهى(؟.

هنا انتهت الآية وجاءت الآية الأخرى:

(عبداً إذا صلى).

ماذا نستنتج من قطع الكلام بقوله ينهى. انتهى الكلام عند ينهى انتهت الآية هنا، ثم جاءت الآية الأخرى (عبداً إذا صلى) لاحظوا أننا ندرك جميعاً حينما نقول نهى فلانٌ فلاناً. عن أي شيء يكون النهي، النهي يكون عادة عن الفعل المنكر والقبيح.

أما عن المعروف من الأفعال، عن الخير عن البر، عن التقوى، ففي العادة، لا يكون ثمة نهي، وقفت الآية عند قوله (ينهى) ليأخذ الفكر استراحة يسحب فيها النفس ثم يهجم بعد ذلك ما هو هذا الشيء المنهي عنه؟ ينهى عبداً إذا صلى.

يا سبحان الله هل إذا قام إنسان ببر وبمعروف وخير يستحق أن ينهى وأن يُقَّرعَ وأن يرد، لا ما هكذا عَهِدَ البشرُ ولا هكذا يتصرف العقلاء، فصياغة الآية بهذا الشكل ماذا أدت، أدت إلى تشنيع الصورة وتغليظ الأمر الذي قام به أبو جهل، ويقوم به من هم على شاكلة أبي جهل حين يكون ثمة نهي، فمن المعقول أن يكون النهي عن المنكر وعن القبيح، أما عن الطيب من الأفعال، وعن البر والتقوى، فالنهي هنا شيء يدعو إلى الدهشة ويدعو إلى الاستغراب، بل يدعو إلى الإنكار أيضاً.

الصياغة تؤدي معنى آخر.. الله جل وعلا يقول:

(أرأيت الذي ينهى، عبداً).

 لماذا لم يقل ينهى رسوله أو ينهى محمداً، ثمة لطيفة. هذه اللطيفة هي أن الناهي عبد والمنهي عبد وفكرة الإسلام الأساسية. تحرير الإرادة الإنسانية، بحيث يشعر كل مخلوق من بني البشر أنه مساو لكل مخلوق من بين البشر، لا سادة ولا عبيد ومن هنا حُصِرت الأوامر والنواهي، بالآمر الناهي وهو الله جل وعلا، والعبد مهما يكن شأنه ومهما يعلُ مقامه، فليس له أن يأمر وليس له أن ينهى، إلا أن يكون أمره ونهيه تبعاً لأمر الله جل وعلا ونهيه، حتى النبي عليه الصلاة والسلام، إنما يطاع لأن الله جل وعلا أمر بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فالطاعة ليست لشخص النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنها امتثال لأمر الله جل وعلا وإلا ففي الحقيقة أن العباد كلهم متساوون والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:

(أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة).

ومن مقتضيات الأخوّة بين العباد؛ عدم استعلاء بعضهم على بعض، لماذا يفعل الإسلام هذا. ويأتي بقضية يطرحها في المجتمع الإنساني. قبل ألف وأربع مئة سنة يوم كانت الدنيا تعرف الآلهة من الفراعين وتعرف السادة من المتحكمين في رقاب العباد، وتعرف وتعرف من التفرقات التي ما أنزل الله بها من سلطان قال ذلك ربنا. وجاءت هذه القضية بهذا الحسم وبهذا التشديد لكي يبقى الناس شاعرين بمعان الأخوة والمساواة فيما بينهم لأن الأخوة والمساواة هما الدعامة التي لا سبيل إلى إنهاض أية دعوة وأية رسالة بدونها تصوروا مجتمعاً ينقسم إلى فئات وينقسم إلى طوائف وينقسم إلى طبقات وينقسم إلى سادة وعبيد، هل يمكن أن تشيع الأخوة والمحبة والتضامن بين أفراد هذا المجتمع. لا.

إن هذا المجتمع. بالصورة التي قلنا عنها الآن. مجتمع مُتَعادٍ، مُتَنافرٍ، متخالف، يفتقر إلى أقل المقومات التي ترشحه لأداء رسالة كبرى في هذا الوجود، الإسلام حريص على أن يشعر الجميع، أن لهم رباً واحداً، وأنهم تحت هذه الربوبية، عبيد يتكافئون لا ريب، أما حين تنتكس الأحوال، ويتعبد الناس بعضهم بعضاً فثمة شذوذ ينبغي أن يصحح في الحال، الإسلام في الحقيقة حريص على هذه الناحية، غاية الحرص حتى الرسول صلى الله عليه وسلم بما له من جلال وكمال وبما يحتل في قلوب المسلمين من منزلة. لم يكن يسمح لأحد من أصحابه أن يذيب شخصيته في شخصيته صلى لله عليه وسلم مع بعد الفارق بين المستويين.

تصوروا إنساناً مثل محمد صلى الله عليه وسلم بمكانه من الله ومكانته من عباد الله، يرفض أن يسير أحد خلفه كان يفضل أن يسير بين أصحابه، ويفضل أن يسير في الساقة خلف الأصحاب. هو في مقام يرفض أن يقوم له أحد من الناس، ويقول:

(من أحب أن يمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار).

كان يحرص عن تنمية الشخصية الإنسانية لأن الشخصية الإنسانية النامية، هي عماد الحركة الإسلامية لا غير أما الإمعات والتافهون والأذناب. فهم عبء على الإنسانية، وعبء على هذا الإسلام لاحظوا مدى الحرص.

شهد الفضل بن الربيع وزير الخليفة هارون الرشيد في عز الأمة وسيادتها عند شريح القاضي عفواً شهد عند أبي يوسف القاضي، فرد شهادته فعاتبه الخليفة هارون الرشيد، قال له:

يا أبا يوسف لمَ رددت شهادة الوزير؟

قال يا أمير المؤمنين سمعته يقول لك أنا عبدك فإن كان صادقاً في هذا الكلام فلا شهادة للعبد، وإن كان كاذباً فلا شهادة لكاذب. وَرَدَّ شهادةِ الوزير، هذا التصرف مبني على ماذا..؟ مبني على حرص أبي يوسف ومن على شاكلة أبي يوسف بالحفاظ على معالم الشخصية الإنسانية أن لا تزول.

هنا حينما نقرأ:

(أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى).

يعظم الله جل وعلا من شأن هذه الواقعة كيف يجيز عبد لنفسه أن ينهى عبداً مثله. أليس في هذا اعتداء على اختصاصات الرب جل وعلا. الله فقط هو الذي يأمر وهو الذي ينهى:

(أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى).

يكون هذا الخطاب مساغاً حينما يُصرفُ إلى أبي جهل صاحب الواقعة ويكون تأويل الكلام: أرأيت أيها الكافر وأنت تنهى هذا العبد عن طاعة الله، أرأيت إن كان هذا العبد على هدى وعلى تقوى أرأيت لو كان هذا العبد يأمر بتقوى الله والصلاح والإصلاح، أنت بَعدُ مصرٌ على أن تظل تنهاه؛ هنا تعظيم المسألة وفيها أيضاً لفت نظر إلى أن الإنسان حين يأمر وينهى عليه أن يتذكر شيئاً شديد اللصوق بإنسانيته حينما ننهى عن الشيء لمجرد أن نريد ذلك دون أن نفقه ودون أن نتبين ودون أن نعرف فذلك عدوان.

أنا لا أستطيع أن أتهجم عليك وأنهاك دون أن أعرف الأمور على حقيقتها فأبو جهل يهجم على النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن العبادة، وعن البر والتقوى دون أن يعرف حقيقة الدعوى التي يدعو إليها هذا النبي الكريم فكلف نفسك وانظر في جملة ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسم إن رأيت منكراً فانْهَ عنه وإن رأيت معروفاً فخذ به، ويحك فذلك هو كمال الإنسانية.

من هذا الباب تهجم كثير من المغاليك الذين لا يعقلون والجهلة والسخفاء والمغرورين والممرورين على هذا الإسلام دون أن يقرؤه، دون أن يعرفوه، دون أن يكلفوا أنفسهم مشقة النظر فيه نحن نسمع من أبنائنا الذين تربوا في حجورنا والذين يحملون أسماء إسلامية عداء مراً لهذا الإسلام، وصداً عنيفاً عن سبيل هذا الدين، ولو أنك سألت أحدهم هل يحسن أن يقيم الصلاة لوقف حائراً مبهوتاً، ويحك انظر في هذا الدين تَعرَّف على مناهجه، تعرف على شرائعه فإن رأيت أمراً مُنْكراً فانْهَ عنه، وإلا فما شأنك ألست بهذا تحطم إنسانيتك وتسيء إلى معنى البشرية، فيك:

)أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى ألم يعلم بأن الله يرى(.

الله الذي خلق هذا الخلق ناظر ومطلع على طاعة الطائع ومعصية العاصي وأمر الآمر بالمعروف وأمر الآمر بالشر والمنكر مطلع على كل هذا ومحصيه، وسوف يجازي كل إنسان وفقاً لناموس العدل الذي لا يحيد عنه قيد شعرة ثم يقول الله جل وعلا:

كلا لئن لم ينته - يعني أبو جهل عن عناده واستكباره- لنسفعاً بالناصية. الناصية مقدم شعر الرأس وكلمة سفع في لغة العرب تدل على معنيين تدل على اللفح البسيط بالنار الذي يترك شيئاً من السواد كما تدل على الجذب والشد بقوة، وكلا المعنيين مراد في هذه الآية. كلا لئن لم ينته أبو جهل عن مراغمته للنبي عليه السلام. لنَجُرنَّه من ناصيته والجر من الناصية يرمز إلى منتهى الإذلال لأن أعلى ما في الإنسان ناصيته. فحين يجر من أعلاه ليمرغ بالتراب يذل غاية الإذلال فإن كان الأمر أمر جر وجذب وتمريغ بالتراب فقد ذاق أبو جهل ذلك في بدر حينما جندل بسيوف المسلمين وسحب برجله وألقي في القليب قليب بدر.

وإن كان المراد بالسفع النار فذلك ملاقيه لا محالة لأن أبا جهل وأمثاله مصيرهم إلى النار، كلا لئن لم ينته عن عُتُوه واستكباره لنسفعاً بالناصية ناصية كاذبة فيما تقول وتدعي، خاطئة فيما تأتي من العمل، هنا عندنا فرق بين قول القائل خاطئ ومخطئ، المخطئ لا عقاب عليه؛ قال عليه الصلاة السلام.

رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان.

ولكن الخاطئ يقال للذي يتعمد الخطيئة وهو مسؤول ومحاسب عن عمله ومن هنا جاء البناء في الآية؛ ناصية كاذبة خاطئة آي أنها خاضت بالباطل خوضاً ووصلت إلى هذا الخطأ الذي ستحاسب عليه، وتعذب من جرائه، كلا لئن لم ينته لنسفعاً بالناصية، ناصية كاذبة خاطئة فليدع ناديه.

قلنا لكم قبل قليل إن أبا جهل قال لرسول الله صلوات الله عليه وسلامه:

بمَ تهددني يا محمد وأنا أكثر أهل هذا الوادي نادياً.

فليدع ناديه. سندعو الزبانية، النادي: هو منتدى القوم، المكان الذي يجتمعون فيه، ولا يسمى المكان نادياً إلا إذا كان القوم مجتمعين فيه أما إذا كان خالياً من البشر فلا يسمى المكان نادياً فالنادي هو مجتمع القوم.

)كلا لا تطعه واسجد واقترب(.

سنقول كلمتين حول هؤلاء الآيات الله جل وعلا يحرض أبا جهل فليدع ناديه سندعو الزبانية هذا تهديد لأبي جهل لكن بالنسبة لنا نحن المسلمين ماذا يعني، يعني أمراً في غاية الخطورة. يعني أن علينا نحن معاشر المسلمين أن لا ننسى لحظة واحدة. أن المعارك التي نخوضها مع أعداء الله لا نخوضها بجهدنا وحولنا وقوتنا هنالك الله هنالك قوة الله التي لا تغالب والتي رمز الله إليها هنا في كلمة الزبانية وهم الملائكة الغلاظ الشداد الذين يدُّعون المشركين دعاً عنيفاً إلى نار جهنم.

حينما نتصور أنا نلقى أعداء الله بالجهد البشري وحده نلغي تجربة الإسلام بالكامل ماذا كان قوام جيش المسلمين في بدر، ثلاث مئة، كم كان عدد المشركين؛ ألف أو يزيد، ماذا كان سلاح المسلمين في بدر؟ سيوف ملفوفة بالخرق، ماذا كان رَكُوبهم فرسان كانوا حفاة وكانوا عراة وكانت أجسامهم فرائس لسوء التغذية والشروط المعاشية التعيسة كان تسلحهم أهزل ما يتصور الإنسان، ولقوا جيشاً معداً مدرباً سميناً دهيناً ومع ذلك ما تحملت المعركة أيها الإخوة إلا ضحوة من نهار فإذا المشركون يعطون أمتعتهم للمسلمين. وإذا المسلمون يقتلون المشركين كيف يشاءون بقوة الساعد أم بقوة السيف الملفوف بالخرق، لا.. بل بقوة الله العلي القدير.

الله جل وعلا حين يعرف منك أيها المسلم استقامةً مطلقةً على الطريق، وصدقاً كاملاً للرغبة فيما عنده والتوجه إليه فأنت تضرب بيد الله، وتمشي برجل الله، والله جل وعلا يقول:

(وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى).

النبي صلى الله عليه وسلم لِيَقلْ من شاء أنها خرافة حين اشتد القتال في بدر حمل كفاً من الحصى واستقبل بها المشركين، وحصبهم في وجوههم وقال:

شاهت الوجوه.

فما بقيت عين مشرك إلا ودخل فيها من هذا التراب.

الله جل وعلا أنزل رُعْبَه على المشركين، وأمر ملائكته بتثبيت المؤمنين وكان ما كان من نصر مؤزر، كل معارك الإسلام كانت بهذا الشكل؛ اقرءوا إن شئتم فتوح العراق تجدوا أن جيش المسلمين كان يساوي واحداً إلى عشرة بالنسبة إلى جيوش الكافرين.. ثلاثون ألفاً أو سبعة وعشرون ألفاً فقط هم الذين دوَّخوا العراق ودوَّخوا فارس وشردوا كسرى وأنهوا كل هذه الخرافة وحققوا قول النبي صلى الله عليه وسلم إن مات كسرى فلا كسرى بعده، بأية قوة كان ذلك، بقوتهم لا ولهذا كان عمر رضي الله عنه يكتب دائماً إلى قادة الجيوش كلاماً يردده باستمرار يحذرهم فيها من الذنوب، ويأمرهم بالطاعة ويقول لهم بصريح العبارة:

إننا لا نقاتل الناس بقوتنا نحن، ولكنا نقاتل الناس بهذا الدين، مهما استمسكنا بعرى هذا الدين أعزنا الله وإذا نحن تخلينا عن هذا الدين أذلنا الله.

أقول هذا الكلام وأنا أشعر في حلقي بغصة وأشعر أن قلبي يكاد يُعْتصر بين جنبي، أقول هذا الكلام وبين عيني أمتي وقومي وعشيرتي، تعد 800 مليون من المسلمين تدمرهم وتحطمهم شراذم اليهود، فلا يجدون مفراً في هذه الأيام العجاف أيام الذل، وأيام الخنوع، إلا أن يدعو إلى السلام، أي سلام يا مجرمون؛ سلام يقوم بيننا وبين اليهود. كيف يكون ذلك، كيف يستقيم أن يجتمع الماء والنار؟

أيها المنكح الثريا سهيلاً      عمرك الله كيف يلتقيان

هي شامية إذا ما استقلت      وسهيل إذا استقلّ، يماني

أي سلام يكون بيننا وبين هؤلاء القوم وقد انتهكوا المحرمات وداسوا المقدسات ودمروا مساجد المسلمين ولم يخفوا في يوم من الأيام أضغانهم أمن أجل أن تحفظوا مراكزكم؟ أمن أجل أن تبقوا على كرسي مهتزة مهترءة قد نخره دود العفن، تفعلون هذا يا مسلمون أمن قلة؟ كلا والله، اليهود مليونان ونصف مليون وأنتم ثمانمائة مليون، ولكنكم فشلتم وتنازعتم وغرتكم الأماني وضللتم الطريق كنتم ذات يوم تريدون من الشرق أن ينصركم على إسرائيل وكنتم قبلها تطرقون أبواب الغرب وتبين لكم أن السم الزعاف في الشرق والغرب على حد سواء.

وقلتم نحن عرب والقضية عربية وتذرعتم بعالم عربي مستطيل مستعرض يعد اليوم مئة وأربعين مليوناً من البشر، فذهبت الخلافات بكل هذه القوة، ولكنكم لو أدركتم لعلمتم أن قضية العدوان على ديارنا هي قضية الإسلام، وقضية المسلمين وأن المعركة فيها ينبغي أن تخاض تحت راية الله، وأن أية راية أخرى ستعود بكم إلى الدمار، وستقودكم إلى الهزيمة ومن يعش يره.

ثم يقول الله جل وعلا:

(كلا لا تطعه واسجد واقترب).

هذا الخطاب لمن لمحمد صلى الله عليه وسلم حينما تكون داعياً إلى الإسلام وتجد في وجهك الصد والعناد والحرب والشراسة في العدوان فماذا تفعل هل تستخذي هل تذل هل تحاول أن تجد لقاء بينك وبين أعداء الله هل تمد الجسور بينك وبين هؤلاء الخصوم؟ لا هنا قضية قاطعة كلا يعني ما ينبغي لك يا محمد أن تطيع أبا جهل ومن على شاكلته ولكن اسجد واقترب اثبت في المواقع التي وضعك الله فيها أَدِمْ طاعة الله نفذ ما طلبه الله منك تقترب من الله وتقترب من نصره.

في قوله جل وعلا (اسجد اقترب) دلالتان: الأولى هذه الدلالة التي قلناها قبل قليل. وهي أن الخطة المثلى للنصر الكامل على أعداء الله هي المزيد من التمسك بأوامر الله جل وعلا وعدم المهادنة مع أعداء الله تبارك وتعالى.

والدلالة الأخرى أن وسيلة القرب من الله جل وعلا هي إدامة الصلاة وإطالة السجود بين يدي المولى جل وعلا، جاء أحد الأصحاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال:

يا رسول الله ادع الله أن يجعلني رفيقك في الجنة.

تعجب النبي صلى الله عليه وسلم رفيق الرسول عليه السلام يا رجل أين أنت وأين هذه المنزلة قال له النبي صلى الله عليه وسلم.

أو غير ذلك؟

يعني هل تريد أن أدعو لك بغير هذه الدعوة.

قال لا شيء غير ذلك ادعُ الله أن يجعلني رفيقك في الجنة.

قال له: لا بد.

قال: لا بد.

قال: إذاً أعني على نفسك بكثرة السجود.

المنزلة عالية منزلة النبيين والمرسلين منزلة خير البشر محمد صلى الله عليه وسلم؛ رجل من الأصحاب يطلب نفس المنزلة أن يكون رفيق الرسول عليه السلام في هذه المنزلة ما هي الوسيلة؛ كثرة التقرب إلى الله تبارك وتعالى بإدامة السجود هذه الدلالة عسى أن تنفعنا جميعاً في إكثارنا من الصلوات والعبادات لا سيما أيها الإخوة وقد أظلتنا شهور مباركة نحن الآن في شعبان وعما قليل يأتي رمضان مواسم رحمة وخير وبركة الشقي فيها والمحروم من حرم الخير في هذه الأيام.

في الأسبوع القادم وما يليه إن شاء الله سوف نمر على بقية السور الأربعة آملين أن نعطيكم بعدُ تلخيصاً أميناً ودقيقاً لجملة المهمات التي كلف بها النبي صلى الله عليه وسلم محاولين في الوقت نفسه قياس ردود الأفعال التي كانت تصدر من المجتمع المشرك والتعرض على وسائل المجابهة التي سلكها المسلمون بقيادة نبيهم صلى الله عليه وسلم عسى أن يكون في ذلك لنا تبصيرٌ بالطريق الذي يجب أن نسير فيه وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.