نظرة منصفة إلى الامتحانات

محمد نجيب بنان *

الحمد لله الذي أعزنا بالإسلام , وأكرمنا بالإيمان , ومنَّ علينا ورحمنا بأن جعلنا من أمة خير الأنام , سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأكمل السلام .

أما بعد :

تختلف أحكام الناس على الأشياء باختلاف الزاوية التي ينظرون منها إلى الأشياء , فإذا كانت النظرة صحيحة معتدلة كان الحكم صحيحاً , وإذا كانت النظرة قاصرة كان الحكم غير صحيح , والعلماء يقولون الحكم على الشيء فرع عن تصوره , فكلما كان تصورك صحيحاً وشاملاً كان حكمك صائباً ودقيقاً , وبعض الناس أو أغلبهم تكون أحكامهم على الأشياء مرتبطة بترسبات وأفكار ماضية , والأصل أن يحكم الإنسان على الأشياء بتجرد فميزانه الشريعة دون هوى أو ميل , فقد تحدث مشكلة ما لإنسان فتجعله يحكم على الأشياء بطريقة خاطئة نتيجة تلك الحادثة , ومن الطبيعي أن تتحكم الحالة التي عليها الإنسان في حكمه , يقولون كن جميلاً ترى الوجود جميلاً , لأن النظر بعين الرضا يريك الإيجابيات والنظر بعين السخط لا يريك إلا السلبيات

وعين الرضا عن كل عيب كليلة                   وعين السخط تبدي المساويا

لو ملأنا نصف كأس ماء ثم قلنا لرجل صف لي هذه الكأس فإن الناس تدور أجوبتها حول إجابات ثلاث لا رابع لها , البعض ينظر إليها ويقول هذه كأس نصفها ممتلئ , وهذا يسمى إنساناً متفائلاً , والبعض ينظر ويقول هذه كأس نصفها فارغ , وهذا إنسان متشائم حيث أنه رأى النصف الفارغ ولم ير النصف الممتلئ , والبعض ينظر إلى الكأس ويقول هذه كأس نصف ممتلئة ويحاول ملأ النصف الآخر فهذا هو الطموح وهكذا يجب على المسلم أن يكون .

بعد كل هذه المقدمة ومن هذا المنطلق قررت أن أتحدث إليكم عن الامتحانات وعن إيجابياتها , فللأسف كلنا يعرف السلبيات , بل ربما لا نعرف غيرها , فالقلق والخوف والضجر والتعب والرعب سلبيات نعرفها جميعاً لكن هناك إيجابيات يجب أن لا نغفلها بل وأن تستفيد منها فلن نستطيع التعامل مع الامتحانات بطريقة صحيحة إلا إذا نظرنا إليها بحياد بإيجابياتها وسلبياتها إن وجدت .

والنفس البشرية فطرها الله عز وجل على حب المنفعة , فهي تحب الأشياء التي تجلب لها نفعاً , وهذا أمر طبيعي أن تحب النفس من الأعمال ما له مقابل سواء أكان المقابل دنيوياً أو أخروياً , انتبه إلى هذه الآية الكريمة قال تعالى : "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة" لاحظ أن الله عز وجل ذكر عملية البيع والشراء ثم أتبعها بالمقابل ألا وهو الجنة , ومن هذا المنطلق عندما ننظر إلى الامتحانات على أنها شيء جيد وعلى أنها أمر فيه نفع , فإن النفس تألفها وتحبها بل ولا تشعر بثقلها , وإليك بعض الإيجابيات :

أول الإيجابيات هو الرجوع إلى الله فما أن تقترب الامتحانات حتى يقبل الطلاب على الله ربما بتوبة صادقة نصوح , وربما لفترة الامتحانات فقط , وأسأل الله أن لا يكون منهم أحد بيننا فهؤلاء "يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون" من تخدع وعلى من تحتال على من "يعلم السر وأخفى" "وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفوراً" وقال صلى الله عليه وسلم : "تعرف إلى الله في الرخاء , يعرفك في الشدة" وليس معنى هذا أن تترك اللجوء إلى الله بعد أن كنت مقصراً بل إن صدقك لجوئك سيكون كافياً إن شاء الله .

أما الإيجابية الثانية : فهي مذاكرة العلم , فالامتحانات فرصة للمذاكرة والمراجعة , ولا فائدة للعلم بدون مذاكرة , وإن كان من الواجب على المسلم أن يتعلم العلم للعلم لا للامتحانات لكنها فرصة طيبة , وتصوروا لو أن طلابنا يدرسون طيلة العام بنفس الوتيرة , وبنفس الهمة , وبنفس الجد , لو كان الأمر كذلك لكانت حالنا أفضل بكثير .

فالطبيب أو المهندس أو حتى الشيخ الذي تخرج منذ عشرين سنة ولم يفتح كتاباً بعدها هذا لا يحق له أن يعالج الناس , أو يضع المخططات للعمارات , أو أن يتصدر الناس للفتوى , فكل يوم هناك أشياء تستجد سواء في الطب أو في الهندسة أو حتى الدين , فكثير من معاملات اليوم لم تكن موجودة في عصر ازدهار الفقه , وبالتالي لو أن طالب العلم أو حتى العالم اكتفى بما عرفه قبل عشرين سنة فإنه لن يجد حلولاً لأشياء حديثة , وكذلك الأطباء كل يوم تظهر أمراض جديدة , وأدوية جديدة وإذا لم يكن الطبيب على علم بها واطلاع لأضاع نفسه وغيره .

أما الإيجابية الثالثة : فهي تنظيم الوقت واغتنامه والوقت هو من أغلى ما يملك الإنسان , والناس عنه غافلون , و به زاهدون , وهذا مؤشر خطر فما أنت إلا أيام وليال , وساعات ودقائق

دقات قلب المرء قائلة له                           إن الحياة دقائق وثواني

ولو نظر الإنسان إلى العبادات لفهم أن الله عز وجل يعلِّم العبد قيمة الوقت وينظمه له حتى دون أن يشعر , فمن مواعيد الصلوات الخمس , إلى موعد الحج , إلى موعد الصيام الدقيق من حيث الإمساك و الإفطار , كل هذه الأشياء إشارات واضحة لقيمة الوقت ولو لم يكن للوقت قيمة لما كان هناك مانع شرعاً من جمع الصلوات الخمس في وقت واحد .

والطلاب في أوقات الامتحانات يحرصون على أوقاتهم ولا يضيعون منها شيئاً وهذا  أمر إيجابي , ولكن الإيجابية الحقيقية أن يستمر هذا الحرص إلى ما بعد الامتحانات , بل على الإنسان أن يكون حريصا على الوقت دائماً.

أما الإيجابية الرابعة : فهي التعب لا تستغرب التعب أمر مفيد لأن من تعب في البداية ارتاح في النهاية ويقولون "من لم تكن له بداية محرقة , لم تكن له نهاية مشرقة" فتعب اليوم ستجني ثماره غداً , ليس عندما تصبح موظفاً بل عندما تلقى ربك وهو  عنك راض , بل من الخطأ أن تدرس للوظيفة ويجب أن تكون طموحاتك أكبر بكثير من مجرد كرسي تجلس عليه سواء أكان كرسي موظف , أو حتى كرسي مدير , ادرس للعلم فالعلم من أشرف الخصال والعلماء من أشرف الناس ولا أدل على شرفهم من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "العلماء ورثة الأنبياء" ولا شرف فوق شرف النبوة , ولا شرف فوق شرف وراثة أولئك الأنبياء , إياك أن يكون طموحك صغيراً , إياك أن ترضى بالقليل .

إذا غامرت في شرف مروم                        فلا تقنع بما دون النجوم

فطعم الموت في أمر حقير                         كطعم الموت في أمر عظيم

لتكن نيتك من وراء علمك رضا الله أولاً , وإنقاذ أمتك مما قد يصيبها إذا خيم عليها الجهل ثانياً  وقديماً قالوا

العلم يبني بيوتاً لا عماد لها                        والجهل يهدم بيت العز والكرم

قال ابن كثير رحمه الله : "لاينال العلم براحة الجسد" .

أما الإيجابية الخامسة : فهي تمرين العقل يشبه العقل في صعوبة استعداده لتقبل المعلومات بعد طول غيابها عنه الأدوات الميكانيكية التي تهجر فترة من الزمن ثم يعود الإنسان إلى استعمالها فستعصي عليه في البداية , وكذلك العقل كلما مرنته صار أفضل وصار استعداده لتقبل المعلومات أسهل  أسرع , وهذا يشعر به كل إنسان ترك العلم أو القراءة فترة من الزمن يشعر بتعب وثقل في البداية , لكن التعب والثقل يتلاشى مع الزمن فصبر ساعة في العلم أفضل من تجرع ويلات الجهل بقية حياتك , ومخطئ من يظن أن العلم يقتصر على الطلاب في مدارسهم , إنه يشمل الجميع , وليس العيب أن تتعلم وقد تقدمت بك السن ولكن العيب والخطأ أن تستمر على عدم المعرفة .

أما الإيجابية السادسة : القرب من الله فأنتم تعلمون أن كل عمل عادي يتحول إلى عبادة إذا صححت فيه النية , فإذا صححت نيتك نلت الأجر والثواب من الله .

وإليك أخي بعض التنبيهات :

1 راقب الله في سلوكك فالغش حرام وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك معروف مشهور قال صلى الله عليه وسلم : "من غشنا فليس منا" ولا يحملك غش البعض وخيانتهم على أن تجاريهم في فعلهم فوجود طالب غشاش أو أستاذ يسهل مثل تلك الأمور لا يجعل الأمر مباحاً لك , فلن يسأل أحد عوضاً عن أحد , والامتحانات إنما تجرى لكي ينال كل مجد حقه فإذا ما غش البعض ضاعت الحقوق واختلطت الأمور , وببساطة ربما تأخذ بغشك ما لا يحل لك فلا تفعل واعلم بأن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه .

الغش في الامتحانات يجعل البعض في مراتب لا يستحقونها وهذا مؤشر خطر قال صلى الله عليه وسلم : "إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة" .

2 كن واثقاً بالله واستعن به ولا تستعن بسواه , لا بنفسك , ولا بغيرك , واعلم بأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً , وإذا حصل ما لا تريد بعد أن بذلت جهدك فقل قدر الله وما شاء فعل , واسمع ما قاله ابن عطاء الله السكندري في حكمه : "سوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار" وهذا ليس دعوة إلى الكسل بل هو دعوة إلى الرضا عما قدر الله وقضى بعد أن تبذل جهدك .

3 احرص على أن تريح نفسك قبيل الامتحان , حتى يصفو ذهنك , ويقولون في الأمثال العلف عند الغارة لا ينفع , وهذا ينطبق تماماً على الدراسة .

4 بالتأكيد أغلب الحضور ليس عندهم امتحانات وقد يظنون أن الخطبة لا تعنيهم , أؤكد على أننا جميعاً إما عندنا امتحانات , وإما نعرف أحداً عنده امتحانات , وشيء جميل أن ننقل ما سمعناه في خطبة اليوم إليهم ليستفيدوا منه فالدال على الخير كفاعله .

5 وهذا التنبيه الأخير موجه لأهالي الطلاب بأن يهيئوا لهم الجو المناسب لكي يمضوا امتحاناتهم على خير إن شاء الله , شجعوهم ساعدوهم شدوا على أيديهم .

أسأل الله عز وجل أن ييسر لإخواننا امتحاناتهم وأن يجعل التوفيق حليفهم وأخيراً كن مع الله ولا تبالي واستعن بالله ولا تعجز , أقول هذا القول وأستغفر الله .

              

*جامع البشير

سوريا حلب