تتمة بداية الوحي وسبيل الداعية إلى الله (2)

تتمة بداية الوحي وسبيل الداعية إلى الله (2)

25/7/1975

العلامة محمود مشّوح

بسم الله الرحمن الرحيم

أما أيها الأخوة المؤمنون

فلقد كنا قد وقفنا في الأسبوع الماضي عند شهادة خديجة رضي الله عنها لمحاسن خصال النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك من حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وتبينا من خلال التتبع لكثير من الوقائع أن هذه الصفات العالية هونت على رسول الله صلى الله عليه وسلم متاعب الطريق ووعدنا أن نأتي بالحديث على بقية الملاحظات التي أردنا إبرازها في الحديث الشريف.

وأولى الملاحظات التي تحدثنا عنها كانت قول خديجة رضي الله عنها للنبي عليه الصلاة والسلام في معرض التثبيت والتطمين.

"كلا والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق".

وثانية الملاحظات التي لم يَنْفَسح لنا مجال القول فيها والتي نأمل أن نأتي عليها اليوم بعون الله وتوفيقه تلك الدهشة التي أبداها رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما سمع كلام ورقة بن نوفل، فمعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما أخبر خديجة رضي الله عنها بخبر ما رأى وما سمع، من بدايات الوحي، أخذه الروع، فذهبت به إلى ورقة، وورقة هذا كان رجلاً قد تنصّر في الجاهلية وأخذ علماً من علم أهل الكتاب ويبدو، والله أعلم، أن خديجة رضوان الله عليها التمست عند ورقة قطع اليقين فيما أحسته في نفسها من أن هذا الإنسان الذي هو زوجها كان له شأن عظيم، وبعد أن بشّر ورقةُ رسولَ الله صلوات الله عليه تمنى أمنية قال:

"يا ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك".

فدهش النبي صلى الله عليه وسلم وقال:

أوَ مخرجيَّ هم؟ قال: "نعم. لم يأت أحد قومه بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزّراً".

ربما يكون الوقوف عند مظهر الدهشة هذا أمراً غريباً على كثير من الإخوة، وسنحاول بإذن الله ونحن في معرض التقصي لخصائص النبي الخاتم محمد عليه السلام أن نستكشف أسباب هذه الدهشة وآثارها.. آثارها في النفس وآثارها في الآخرين، وما ينبغي أن يكون عليه الدعاة إلى الله من احتذاء لهذا المثل الرائع المتمثل في رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير تحليلات طويلة، أحب أن أضرب لكم مثلاً يقرّب الأمر إلى الأذهان.. تصوّر أنك أمام عشرة أشخاص ثم تتكلم أمامهم بكلام فاحش ولاحظ تعابير الوجوه من هؤلاء.. من يتلوّن وجهه وتتأذى نفسه وتصدم أحاسيسه ويرى أن هذا القول لا يليق ليس هذا وحسب وإنما هو لا يتصور أن يخرج هذا الكلام الفاحش البذيء من إنسان يحترم معنى الإنسانية في نفسه، لاحظ الآخرين تجد بعضاً منهم لا يهتزون من كلمةٍ عوراء، ولا من قولٍ فاحش، فالأمر عندهم طبيعي للغاية. علامَ يدل هذا؟ يدل هذا على اختلاف طبائع الناس وعلى تباين فطر الناس وعلى تباين استعدادات الناس، ما كل إنسان يرى أن الحق أمر معقول بل هو واجب، وأن الأخذ به لا محيد عنه، وأن الإعراض عنه سَفَهٌ في النفس وخسّة في العقل، ما كل إنسان يتصور هذا التصور، هذا الشيء يحتاج إلى ناس على مستوىً عالٍ من الطهارة والكمال. أصحاب الطهارة ومن سلمت فطرهم واستقامت طبائعهم، يرون أن الأمر الطبيعي هو أن يكون الشيء المعقول هو السائد، وأن اللامعقول شذوذ ينبغي أن لا يحدث، وإن حدث فينبغي أن يطارد في المجتمع حتى يُجلى عن المكان الذي هو فيه.

حينما أخبر ورقةُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بأن قومه سوف يخرجونه وسوف يؤذونه، استغرب أومخرجيَّ هم؟ لو كان غير محمد صلى الله عليه وسلم لكان استغرابه بغير معنى؛ لاشك أن الإنسان الذي ينادي الناس إلى غير ما عرفوا، وإلى غير ما ألفوا، سوف يطارد، وسوف يعادى، وسوف يخرج، وسوف تبذل الجهود من أجل إثباته أو قتله، لكن محمداً صلوات الله عليه سمة أخرى، الإنسان المستقيم بيننا في عرفنا يعرف هذا الشيء يعرف أن حامل الحق لابد أن يلقى البلاء ولكن أحاسيسه وتصوراته لا تعدو هذا التصور أما محمد عليه الصلاة والسلام فكان من مستوى آخر.

محمد صلوات الله عليه حين دهش لهذا الكلام الذي قاله ورقة، فتش في أطواء نفسه.. ما يدعو إليه الناس صحيح، ما جاء من عند الله ليس من عند نفسه؛ وإنما هو من فاطر الأكوان. هل انتهى الأمر عند هذا الحد؟ لا.. فتش في أطواء نفسه: هل له في هذا الذي يدعو إليه طمع ومنفعة؟ غرض شخصي؟ غاية ذاتية، شفاء غل وحقد، طلب منصب ووجاهة، جمع مال وحطام. لاشك أن كل هذه النوازع البشرية والأحاسيس الذاتية غريبة عن تصور محمد صلى الله عليه وسلم، وعن فكره. وإذا كان الأمر كذلك أمر قضية موحىً بها من السماء لا شيء فيها من عند الإنسان الداعي وهي أيضاً أمر قضية لا يرجو صاحبها من ورائها جاهاً ولا مغنماً ولا أجراً، (إنْ أجريَ إلا على الله) ما سألتكم عليه من أجر فهو لكم، إذا كان الأمر كذلك فلمَ يقف الناس في وجه هذا الشيء؟ الداعي في ذاته ما يدعو إلى التنفير وبالتالي إلحاق الأذى بشخصه، ولا الدعوة فيها ما يدعو إلى الرد والطعن، فلماذا يقف الناس ضدها، ولماذا يواجهونها بالعداء؟

دهشة النبي صلى الله عليه وسلم إذاً مبعثها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طينة لا أقول خاصة فهي من طينة البشر (قل إنما أنا بشر مثلكم)، ولكنه عليه السلام كان يتمتع بالفطرة الصافية المشعة، فالله جل وعلا ليس معقولاً أن يختار لحمل رسالته وأدائها إلى الناس إنساناً من ذوي الطبائع الملتوية أبداً، وإنما يختار أصحاب الفطر السليمة، والطبائع المستقيمة والله جل وعلا يخبرنا عن موسى عليه السلام فيقول مخاطباً إياه: (واصطنعتك لنفسي)، ويقول: (ولتصنع على عيني).

فمن رُشِّح للنبوة فهو بعين الله جل وعلا -قبل النبوة وبعد النبوة- هو مجبول على أن لا تعلق به شوائب الدنيا، وعلى أن لا تهبط به نوازع النفس الخاصة المفعمة بالشهوات، لهذا، فالنبي صلى الله عليه وسلم حين كان على هذا الشكل كان يستغرب أن يأتيَ قومَه بدعوة الحق من عند الله، فيقابل عليها بالأذى والصد.

هذا تقرير المسألة من حيث المبدأ من غير شروح وتحليلات زائدة عن الحد، وإن كان المجال واسعاً للقول فيها إلى غير نهاية لكني أريد أن أتتبع معكم آثار هذه الفطرة لأخلص إلى نتيجة أقررها سلفاً أنه في مجال الدعوة إلى الله لا يصلح لحمل هذه الأمانة الثقيلة والرسالة العظمى إلا إنسان حصل أمرين:

أولهما: ضغط هائل على النفس يخدعها عن شهواتها وأغراضها ويلزمها بالتمسك بمنهاج الشريعة منهاج الحق.

وثانيهما: شعور صادق يستغرق النفس ويخالط اللحم والعظم والعصب بأنه يحمل إلى الناس الدواء، ومهما لقي منهم من عنت وإرهاق، ومن صد وتكذيب فلا ينبغي أن يلفته ذلك عن الغاية التي ندب لها نفسه ولا ينبغي له هو أيضاً أن يلتفت إلى صَغَار النفوس لكي يسمح لها أن تحول بينه وبين مواصلة الطريق.

نأتي إلى الأمثلة، نأتي إلى الوقائع من واقع السيرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم حينما بدأ عليه الصلاة والسلام يدعو الناس إلى الله كانت المواجهة في مبدأ الأمر مواجهة الريبة والتوجس والترقب من أجل استكشاف هذا الشيء الذي يدعو إليه محمد صلى الله عليه وسلم، وحينما واجه رسولُ الله عليه الصلاة والسلام قومَه بتسفيه أحلامهم وعيبهم وعيب آبائهم وشتمهم وشتم أصنامهم، وشجب قواعد الحياة الاجتماعية التي يعيشونها، قامت ثائرتهم ورأوا أن الأمر أعظم من أن يطاق، أو أن يمكن الصبر عليه بحال، فبادروه بالعداء فماذا كان موقف النبي صلى الله عليه وسلم، لو كان رجلاً من الناس كسائر الرجال لثار لكرامته. ولثأر لنفسه ولكنه عليه الصلاة والسلام كان يتحمل ما يلقى من قومه بصدر رحب، كان شأنه كشأن الطبيب الذي يسمع من المريض قَارِصَ القول ولكنه يحمل له في أعماق قلبه كل الشفقة وكل الحب وكل الرجاء في أن يُشفى من هذا الداء العضال الذي يعاني منه.

لم تتحرك نفس النبي صلى الله عليه وسلم للانتقام لنفسه قط، وفي حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما انتقم لنفسه قط برغم كل ما رأى وبكل ما سمع، ولكنه إذا انتهكت حرمات الله كان لا يقوم لغضبه شيء؛ بهذه النفس الطيبة والفطرة الخيّرة كان يقابل مساءات قومه كان يعفو ويصفح ويغفر، يدعوهم إلى الله فيشتمونه ويضربونه ويتربصون به حتى يسجد لله جل وعلا فيلقون على رأسه وعلى ظهره سلى الجذور والأوساخ والأقذار فإذا فرغ من صلاته قال: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".

ذهب ذات يوم بعد أن يئس أو كاد من قومه قريش، ذهب إلى الطائف يلتمس للدعوة متنفساً بين رجالات ثقيف، فَرُدَّ أقبح الرد فرجع، رجع مُفَوِضاً إلى الله أمره يقول:

"إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي".

وحين كان في الطريق جاءه ملك الجبال فقال: يا محمد، إن ربك أرسلني إليك يقول لك: إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين. والأخشبان جبلا مكة.

قال: لا إني أرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله تعالى.

لو فرضنا أن هذا الجيل لا فائدة منه، فالرجاء معقود بالأجيال القادمة ولهذا فنبي الله عليه السلام لم تنازعه نفسه بدعوة كدعوة نوح التي قال فيها:

(ربِّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديّارا، إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفّاراً).

وإنما دائماً وأبداً:

اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.

أيضاً أُخْرِج من بلده، بلد الصبا والطفولة والشباب، أرْضِ الذكريات الحلوة والتصورات العذبة، أرض الآباء والأجداد والاخوة والأخوات والأعمام والعمات، أخرج كرهاً وذهب وكانت له مع قريش صدامات وكانت موقعة أُحد بلاءً ابتلى الله المسلمين به وتمحيصاً محّص الله بواسطته قلوب المؤمنين وانجلت المعركة عن خسارة فادحة في صف المؤمنين.

سبعون من خيار المسلمين ضمن شهداء بواكير الدعوة ممن عاشوا أيام العذاب والبلاء والآلام مع محمد صلى الله عليه وسلم.

سبعون لو وزنوا بأهل الأرض لوزنوهم جميعاً.

سبعون لو قلنا إنهم وزنوا بمن يدرج على الأرض إلى يوم القيامة لرجحوهم.

سبعون يجندلون على الأرض قتلى في سبيل الله بينهم حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم ممثلاً به مجدوع الأذنين، مجدوع الأنف، مشقوق البطن، مستخرج الكبد، حالته لا يطاق النظر إليها، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم، أي بشر لا يهتز لهذا المنظر الشنيع الذي يدل على فساد في الفطر والطبائع تمتعت به قريش وجنت ثماره حصاداً مراً وعاقبة وخيمة وأليمة، تغيّظ النبي صلى الله عليه وسلم وقال:

"ما وقفت موقفاً أغيظ عليّ من هذا الموقف والله لأن أمكنني الله من قريش يوماً من الدهر لأمثلنّ بهم مِثْلَة ما سمعت العرب بمثلها قط".

ذلك الموقف الرهيب موقف الخسارة الفادحة، الموقف الذي يحتاج إلى العزاء، ويحتاج إلى مداراة النفوس. أترون النبي صلى الله عليه وسلم تُرِكَ لينساق وراء هذه العاطفة الجارفة التي تجر إلى انحراف في الدعوة. لا.. في ذلك الموقف تنزل قول الله جل وعلا.

(ليس لك من الأمر شيء).

أي ما عليك إلا البلاغ، وأما ما يحدث فبعين الله وبعلم الله تبارك وتعالى ولغاية وحكمة يريدها الرب جل وعلا:

(ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون).

وأنتم يا إخوة تلاحظون جفاف اللهجة التي خُوطب بها النبي صلى الله عليه وسلم في بدر حينما اختلف المسلمون في الغنائم عاتبهم الله جل وعلا عتاباً رقيقاً في مواقع أخرى قال الله لنبيه:

(عفا الله عنك لمَ أذنت لهم).

في هذا الموقف لا مجال للمهادنة ولا مجال للإغضاء عن أي انحراف لأن طريق الدعوة إلى الله تبارك وتعالى لا يتحمل أي انسياق وراء النازع البشري، وإنما هو ارتباط مطلق بحقائق الشريعة، وبأخلاقيات الدعوة وقوانينها الثابتة في الحركة ولهذا خاطبه الله تعالى بجفاف:

(ليس لك من الأمر شيء، أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون).

ومضت الأحداث، ليتجهز النبي صلى الله عليه وسلم لفتح مكة وبدأت ثمار هذه الأخلاق العالية تؤتي أكلها في نفوس المشركين من قريش العقلاء، وأقبل في الطريق عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد رضي الله عنهما حتى دخلا على النبي صلى الله عليه وسلم مسجده في المدينة المنورة، ماذا يكون الموقف؟ تصوروا لو أن إنساناً فعل الأفاعيل وارتكب المآسي ثم جاء مقبلاً واضعاً يده بين يدي دولة من الدول في هذه الأيام ماذا يكون الصنيع؛ ألقوا به في السجن؛ دعوه سنة وسنتين حتى نرى وحتى ننظر، لكن مسلك النبوة غير مسلك الناس استقبلهما النبي صلى الله عليه وسلم باسماً ضاحكاً مرحباً ماذا قال لخالد بطل مأساة أحد الرجل الذي قتل الرماة في أُحد وكسر المسلمين شر كسرة وجندلهم قتلى على الأرض ماذا قال لخالد؟

هل فكر في الانتقام منه؟ لا وإنما التفت إليه وقال يا خالد:

"لقد ظننت أن لك عقلاً سيجيء بك إلى الإسلام".

قال خالد رضي الله عنه: فوالله ما عدل بي رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً من الناس منذ أسلمت. في أمرٍ حَزَبَه قط؛ لمجرد أن جاء مسلماً مذعناً منحه النبي عليه السلام كل ثقته ولمجرد أن جاء ولاه جانباً من الجيش الذي قاده لفتح مكة، بالأمس أسلم من يثق بإنسان جاءه فقط بالأمس وهو -قبل ذلك- خَصمٌ لدودٌ وعدوٌ شديد العداوة مستحكم العداوة من يثق بإنسان من هذا النوع إلا النبي الذي يعامل الناس بمقتضى قوانين الإله لا بمقتضى نوازع النفوس، وكذلك فعل مع عمرو بن العاص سفير قريش الذي ذهب إلى الحبشة لكي يعيد المسلمين من هناك حتى يضعهم فرائس هينة بين يدي الطغاة من قريش أيضاً.

يا إخوة أيضاً ذهب النبي صلى الله عليه وسلم متوجهاً إلى مكة لفتحها.. مكة التي أخرجته، مكة التي طاردته، مكة التي لفظته كما يلفظ الضعيف الهين عليها. ذهب فدخلها فاتحاً منتصراً، كيف دخلها؟ بالطبل والزمر؟ بالمهرجانات؟ بإطلاق المدفعية؟ لا.. دخلها راكباً على ناقته، خاضعاً خاشعاً لله مطأطئاً رأسه حتى إن لحيته الشريفة لتمس عنق راحلته من شدة تواضعه لله تبارك وتعالى. دخل كما يدخل العبد الطائع لله الذليل بين يديه العالم بأن النصر من عنده لا بحوله ولا بقوته، وجاء فوقف إلى الكعبة آخذاً بعضادتي الباب والتفت إلى قريش.. ظني بتلك النظرة كانت تحمل الذكريات الأليمة، ذكريات عشرين سنة من العذاب والإرهاق، من المطاردة التي لا تعرف كللاً ولا مللاً وقريش على منازلها تنظر إلى هذا الذي أخرجته بالأمس ويجيل الفكر.

بماذا يفكر محمد، ما الذي سينزلُ بهم محمدٌ من العقاب، تالله لو صلبهم على جذوع النخل لكان ذلك عقاباً حقاً لا يلومه عليه أي مؤرخ منصف من المؤرخين؛ التفت إلى الناس وقال:

يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم؟

قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم.

قال: أقول كما قال يوسف عليه السلام:

"لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين".

أين الانتقام ألم يكن في مكنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينتقم من خصومه وأعدائه؟ بلى كان ذلك ممكناً ولكن صاحب الدعوة لا يفهم هذا المنطق تعالوا إلى القرآن نستنطق القرآن حقائق الطريق في هذه الزاوية التي نتحدث عنها، نحن نقرأ في سورة غافر أو سورة المؤمن موقفين متقابلين يَشِّفان عن تبادل الفطر لدى المعسكرين المتقابلين:

(وقال الذي آمن يا قوم اتبعوني أهدكم سبيل الرشاد. يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار، من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب).

 لاحظوا اللهجة الرقيقة الطاهرة السامية العالية:

(ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار، تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم، وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار لا جرم أنّ ما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردّنا إلى الله وأن المشركين هم أصحاب النار، فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد).

بهذه الروح الطيبة بهذه الطبيعة الخيرة يتجه الداعون إلى الله إلى الناس فماذا يكون جواب المشركين والمعاندين عن أمر الله في نفس السورة نقرأ قول الله جل اسمه:

( ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلا في ضلال. وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد).

لاحظتم؛ الفرق بين الموقفين فريق يدعو إلى الله على هدى وبصيرة وبيّنة في منتهى الحب بمنتهى الشفقة لا يريد أجراً ولا شكوراً ولا مغنماً من الناس (إنْ أجري إلا على الله)، وفريق آخر؛ بمَ يقابل الدعوة؟ بالتي هي أحسن؟ بمَ يقابل الفطر السليمة؟ بمَ يقابل الحق الذي لا يتزعزع؟ بهذه اللهجة الرعناء بهذا التعالي بالقهر والسلطان اقتلوهم اصلبوهم اسحلوهم اشنقوهم ذلك هو منطق الفاسدين ذلك هو منطق العاجزين عن التصدي لدعوة الله تبارك وتعالى.

أين -يا أخوة- رأيتم في تاريخ الإسلام لحظة لم تكن مفعمة بالحب كانت توجه إلى الناس دعوة الله تبارك وتعالى بلا مَن وبلا استعلاء، بمنتهى الحب، بمنتهى الشفقة بمنتهى نكران الذات، وكانت تُقابل دائماً من أعداء الله ومن الذين يقتلون الذين يأمرون الناس بالقسط. كانت تقابل بهذه اللهجة العنيفة القاسية: اقتل، اصلب، اشنق، اسحل وما شاكل ذلك طبيعتان متغايرتان، طبيعة المؤمنين التي لا تعرف الثأر ولا تعرف الانتقام، وإنما هي حب مطلق ورغبة في الخير مطلقة وطبيعة الفاجرين والمعاندين والظالمين تلك التي لا تعرف إلا البغي والعدوان لا جرم أن هاتين الطبيعتين تُنْتِجان آثاراً متباينة وقد كان وما زال النبي صلى الله عليه وسلم يلقى الأذى من قومه حتى أذعنت له نفوسهم، ودخل معارك نعم دخل معارك، وكان فيها قتلى، نعم كان فيها قتلى ولكن نحن بين يدينا إحصاءات كاملة عن عدد الذين قتلوا في معارك الإسلام طيلة حياة النبي صلى الله عليه وسلم من الفريقين من المؤمنين ومن المشركين ثقوا يا أحبائي أن عدد الذين قتلوا في كل معارك الإسلام في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لا يتجاوز عدد قتلى يحصدهم رشاش واحد في مظاهرة يقوم بها بعض الناس،  في معارك اليوم.

من أين تَنْتُج، تنتج من الطبائع الملتوية والفطر الوسخة، ولذلك فهي تدمير كلها وهي عبث وفساد في الأرض، ومعارك الإسلام على غير هذا الطراز، ماذا أريد من ذلك باختصار ولكي لا أطيل عليكم أريد أن أقول كلمتين لكل إنسان تحدثه نفسه بخدمة هذا الإسلام:

-يا إخوة- حينما نَصفُ أقدامنا على الطريق إلى الله ينبغي أن نميت نوازع الذات في نفوسنا، لا ينبغي لأحد أن يفكر في مطمع ولا في مغنم ولا في جاه ومنصب ولا محمدة بين الناس، عليه أن يتجه إلى الله فالله عنده خزائن كل شيء وبيده إثابة الطائعين العاملين. يترفع عن سفاسف الأخلاق؛ التي يقاتلك بها الناس واعلم أن هذا المظهر الذي تراه مظهر لا يمكن أن يستمر بهذا الشكل فطاقة الإنسان على العناد والمكابرة طاقة محدودة ولابد أن يأتي اليوم وتأتي اللحظة التي يذعن فيها أشد المعاندين لله ولرسوله وللداعين إلى شريعة الإسلام لكن بشرط لمجرد أن يتحرك في قلبك النازع الذاتي لمجرد أن تنساق بعامل بشريتك! اعلم أنك قد أفسدت كل شيء، عليك أن تكون رابط الجأش في وجه الزعامة، عليك أن تكون ثابت الجنان في وجه التهديدات. عليك أن تكون واثقاً من أنك بعين الله تبارك وتعالى، عليك أن تكون واثقاً بأنك تحمل رسالة على كفيك لم تصنعها أنت وبالتالي فلست أنت المسؤول عنها وإنما أنت مسؤول عن نفسك أن تأطرها على الحق الذي أراده الله جل وعلا، أما متى يأذن الله بالنصر متى يأذن..؟ فليس من شأنك.. إنه من شأن الله، ينصر من يشاء حين يشاء..