بداية سورة العلق (3)

الجمعة 24 رجب 1395هـ 1 آب 1975 بداية سورة العلق

(3)

العلامة محمود مشّوح

أما بعد أيها الإخوة المؤمنون:

فقد تحدثنا إليكم في الجمعة الفائتة عن النموذج الأمثل: النبي صلى الله تعالى عليه وآله وصحبه وسلم. وتبينا من خلال الحديث الآثار التي نجمت عن هذه الفطرة والطبيعة الصافية. وعرفنا له صلى الله تعالى عليه وآله وسلم مواقف يصعب على أبناء اليوم تصورها لأنها لو صدرت عنهم في ظل الظروف التي تحكم الإنسانية اليوم لعُدَّت هذه الآثار، وهذه التصرفات سفهاً بعيداً عن الصواب، لكننا متمسكون بأن الإنسانية لا رجاء لها بالخروج من هذه الفوضى التي تعم العالم شرقاً وغرباً ولا أمل لها مطلقاً في أن تتخلص من هذا الاضطراب وما يرافقه من كبت وإرهاب إلا حين تتسلم قياد الإنسانية طبائعُ على النحو الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إن الدعوة إلى الله ليست أمراً هيناً كما قد يتبادر إلى البعض، إنها صراع مع الذات بالدرجة الأولى وصراع مع ما هو خارج الذات، وإنها نمط في معاملة الأحياء لا يطيقه ولا يقدر عليه إلا الذين وطّؤوا أنفسهم على احتمال المكاره والمشقات، ومرنوا أنفسهم على العطف والإشفاق على صَغَار الإنسان وعلى سفه الإنسان، إن سياسة المجتمعات البشرية لا تكون بالعنف ولا بالقسوة لأن المجتمعات الإنسانية حصيلة أفراد، وهؤلاء الأفراد جهاز إنساني عجيب لا يطيق أن يسار به نحو الغايات المرسومة فوق الألغام وإنما هو يأخذ سبيله إليها بعد الاقتناع بها وبعد الإقرار بصحتها وبصوابها وهذه القضية البدهية تفترض حقاً القاعدة التي أشرنا إليها في الجمعة الفائتة فالحب والحب وحده وبالتعالي عن الصغائر والتغاضي عن السيئات، وبإسقاط حظوظ النفس وعدم التأثر الذي يقع داخل حدود الذات، بهذا فقط يمكن أن تقاد المجتمعات.

فالعنف سلاح يرهب ويحطم صاحبه قبل أن يحطم الآخرين، العنف سياسة فاشلة لأنها دليل على إفلاس الحجة وسقوط في العقل لأن الإنسان لو ملك الحجة ما كان محتاجاً أبداً إلى العنف، ولهذا فنحن في منطق الإسلام نرفض ما يسمى بالعنف الثوري. ونرى أن هذا الأسلوب يدمر الحياة الإنسانية ولا يبنيها، ونرى إن شاء الله تعالى أن الحب الغامر والإشفاق العظيم والرغبة الأكيدة في إيصال الخير إلى الناس وإدخال القناعات إلى نفوسهم هو، وهو وحده، الذي يكفل السير السليم والعاقبة السليمة بإذن الله.

من هذا المنطلق نستطيع أن نفهم بسهولة وبوضوح ذلك السلوك العجيب الذي كان يسلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هؤلاء الذين يدعوهم إلى النجاة ويرفضون إلا تعلقاً بالوثنية وأوهامها وخرافاتها، ومن هنا نستطيع أن نفهم سر التربية العالية التي اكتسبها الأصحاب رضوان الله عليهم من قائدهم ومعلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا نماذج تحتذي هذا المعلم وتنهج على منواله.

يا إخوة خلاصة ما انتهينا إليه في الجمعة الفائتة أن الله تعالى فطر نبيه صلى الله عليه وسلم على طبيعة خيرة مستقيمة وأنه بأثر من هذه الطبيعة النادرة، واجه قومه بأسلوب حطم مقاومتهم وأنه حين ظهر عليهم وألقوا أزمة أمورهم بين يديه لم يعاملهم معاملة بشرية وإنما عاملهم معاملة ربانية لم يثربهم ولم يلمهم ولم يعنفهم، ولم يوقع بهم العقاب، ولو فعل لكان له في ذلك واسع العذر، ولكنه كان يتصرف بمقتضى قانون القدوة التي ضربها الله للناس إلى أن تقوم الساعة حتى يجد فيها العاملون متعلقاً سليماً يفيئون إليه عند اختلاط الآراء والنظريات. هذا الأسلوب كما قلنا نتيجة طبيعية معينة وأريد من غير تعقيدات أن أشرح لكم جوانب بسيطة من نظرة الإسلام إلى هذه الواقعة.

الإسلام يرى أن الأصل في الإنسان أنه خيِّر، وأنه طيب ليس شريراً بالطبع ولا فاسداً بالطبع، وإنما الشر والفساد جاءا من معاملته مع المحيط الفاسد، لكن إذا كنا نطلق هذه النظرية إطلاقاً فثمة مخاطر. إذا قلنا أننا نعطي للمحيط كل هذه القدرة على الإفساد والتشويه والتخريب فنحن نسقط مبرر الدعوات جميعاً، لأنه إذا كان المحيط يملك القدرة على كل هذا التخريب فمعنى ذلك أنه لا فائدة من العمل ما دمنا نعيش في محيطات فاسدة، لكن الأمر على خلاف ذلك، على خلاف ما يظهر للنظرة المتعجلة قلت إن الأصل أن الإنسان خير، وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى "إني خلقت عبادي كلهم حنفاء" أي على فطرة الإسلام مائلين عن الشر والفساد ثم اجتالتهم الشياطين، والشياطين اسم يمكن أن يجمع كل عوامل الشر والانحراف التي توجد في المجتمعات الإنسانية، مع ذلك فنحن نلخص أن طبائع الناس هنالك طبائع قوية وهنالك طبائع ضعيفة، الطبائع القوية تستطيع أن تحافظ على نقائها وعلى طهرها وعلى استقامتها وعلى شرفها في ظل أسوأ الظروف. سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الناس فقال:

 (الناس معادن كمعادن الذهب والفضة فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا).

الطبيعة الخيرة، الفطرة القوية لمجرد أن ترى شعاع الحق تحنُّ إليه وتلتف من حوله وتأخذ بأسبابه، الفطرة المنهارة الضعيفة الهابطة الملوثة لا تستطيع أن تنفك من أغلال هذه القيود التي يفرضها المجتمع. في كل مجتمع إنساني يكون للمجتمع سلطان ولكن على من؟ على أصحاب الفطرة التي لا تكاد تتماسك، على الضعفاء على الذين يلوون إرادتهم ويعطلون عقولهم.

لكن باستمرار هنالك دائماً فئة من الناس تتمتع بهذه القدرة الغريبة على خرق ستار هذا الوهم الكبير الذي يسمونه المجتمع. على عاتق هؤلاء الناس تقع مهمة التغيير، على أكتاف هؤلاء الناس تقع مسؤولية الإصلاح، عليهم أن يحدوا الركب أحراراً لكي يفيئوا إلى الحقيقة وذلك لن يكون باستعمال العنف لن يكون إلا بضرب القدوة والمثل على الصبر والتحمل ورفض استعمال العنف وإبداء المحبة والشفقة على خلق الله.

ولن يأتي زمان كبير حتى تجد أرباب العنف وأصحاب الأنوف التي شمخت بالأمس استفاقوا وألقوا أسلحتهم ووضعوا مقادتهم في أيدي دعاة الحق، الشيء الذي يربك بكل صراحة أيها الإخوة، الشيء الذي يضلل ويربك أن الذين دعوا إلى الله ولم تنجج دعواتهم، لأنهم لم يسلكوا الطريق الصحيح مئة بالمئة، ما ينفكون حتى يخسروا وحتى يملوا وحتى ينساقوا مع النازع الإنساني وهنا بداية الفشل.

ما دام الداعي إلى الله متمسكاً برغبته العارمة في إيصال الخير إلى الناس محمولة على وعاء من الحب الصافي رافضة أن تحتكم إلى نوازع النفس واندفاعاتها، فالعاقبة لها دون ريب والمسألة ليست سوى مسألة زمن، وبعد ذلك كل شيء سينتهي إلى قراره الصحيح. وهكذا فعل محمد صلى الله عليه وسلم، كانت تبدو بين أصحابه رضوان الله عليهم ظواهر الألم والمرارة، تبدو عليهم ظواهر فقدان؛ الضبط. إلى متى نحن نُعذَّب في الله؟ إلى متى ونحن نتلقى اللطمات ولا نرد هذه اللطمات، إلى متى لا نستعمل قوة الساعد والعصى والسيف، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكفكف من غلوائهم، ويرد هذه النفوس التي تكاد أن تتردَّى في مزالق خطرة يردها إلى القاعدة الإيمانية الصحيحة.

جاءوه يوماً وهو مسند ظهره الشريف إلى جدار الكعبة فقالوا:

يا رسول الله (ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا)؟ونظر النبي الكريم إلى هذه الوجوه الطافحة بالألم التي تفيض مرارة لما لقيت من أعداء الله، نظر إليها نظرة العاطف المشفق الودود وقال:

"إن من كان قبلكم كان يؤتى به فيربط إلى شجرة ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على مفرقه فيشق نصفين. وكان يمشط ما دون عظمه ولحمه بأمشاط من حديد ما يرده ذلك عن دين الله، والله ليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراعي من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه. ولكنكم تستعجلون).

كان يستعمل الحكمة الإلهية في ردِّ هذه النفوس عن الاندفاع مع النزوات، الأمر ليس أمراً شخصياً لكي أسمح للنازع الشخصي أن يتصرف فالأمر أمر دعوة لم أضعها وإنما جاءت من قبل الحكيم الخبير، وهو يضع قوانينها، وهو يخط قواعدها وهو يبين شرائعها ليس لي أن أتصرف في هذه القواعد والأمر بعدُ ليس أمرَ مجتمع محصور وإنما هو أمر إنسانية طويلة عريضة، والأمر من بعدُ ومن قبلُ ليس أمر لحظة زمنية محدودة وإنما هو أمر الإنسانية إلى أن يرث الله الأرض وما عليها وهو خير الوارثين، فالمسؤولية حين تصور أمام الداعية على هذا النحو ليست مسؤولية هينة لا يجوز له قط أن يسمح لنفسه بالاندفاع أكثر مما ينبغي هنالك حدود حينما تبلغ دعوة الدعاة إلى الله بالجهد، بالمصابرة، بالتضحية عبر الآلام والدماء مرحلة النضج والاكتمال. فسوف يكون بمقدورهم أن يتحكموا بمصائر الأخيار، قبل ذلك لا. قبل ذلك لا. قبل ذلك لا.

ما يروج له في هذه الأيام في معسكرات الشيوعية والمتأثرين بها من استعمال مناهج العنف الثوري وسيلة إلى التغيير خطأ ولا ريب، ودمار محقق لا يوصل إلا إلى البغضاء والشحناء وتدمير الإنسانية رأساً على عقب، منهجنا غير ذلك لكن حينما نصل بالأمور إلى هذا الحد وللذين سألوا خلال الأسبوع الفائت فيجب أن نفرق بين أمرين يجب أن نفرق بين وضعية الداعي ضمن مجتمع جاهلي، وبين وضعية الداعي المجتمع الكامل السائر على منهاج الله.. الداعي في مجتمع جاهلي لا يسوغ له بتاتاً أن يتورط بالعنف وإنما سبيله الحب والمودة وعدم هز المجتمع أكثر مما ينبغي، والداعي ضمن مجتمع قائم على قاعدة الإيمان وضعه يختلف، أنت في مركز المسؤولية عليك وجائب غير الوجائب التي عليك وأنت لا مسؤولية أمامك.

حينما تكون في مركز المسؤولية يتوجب عليك أن تحمل مَنْ وراءك.. كذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ما رفع يداً بأذى على مخلوق طيلة الفترة المكية، ثلاثة عشر عاماً مرت بالحرمان، بالجوع، بالعطش، بالمعاركة، بالآلام التي لا حدود لها آلام فوق التصور؛ ومع ذلك لم يسمح لنفسه عليه السلام أن يرفع يداً بأذى إلى مخلوق حتى إذا هاجر إلى المدينة، ووجد المجتمع المسلم كانت له أيضاً مهمة واضحة ومحددة هنالك الأمانة العظمى التي يجب أن تبقى أبداً أمام نظر الدعاة وأمام نظر المجتمع المسلم؛ نحن لا غرض لنا بموت الناس وليس حبيباً إلينا أن نريق دماء الناس، وليس هيناً علينا أن نمس بالسياط ظهور الناس، كل ذلك لا نريده لكن حينما يرادُ الكيان كله بالأذى وحينما تعترض الأمة كلها بالعدوان فلا سبيل إلا أن يرد العدوان بمثله.

حينما تكون هنالك مجتمعات مسلمة كاملة الإسلام فإن لها مطلق الحق في أن تدفع الأذى عن نفسها، إلا أن الأمر حينما يكون أمر أفراد ضمن مجتمع جاهلي فالأمر مختلف دون أدنى ريب هذه الطبائع القوية التي حدثتكم عنها في الجمعة الفائتة هي الكفيلة فقط بإيصال الإنسانية إلى بر السلام، هي الأمينة على سياسة الشعوب لأنها هي الأيدي النظيفة فقط. هذه الطبائع القوية لم يكن منها ما نشهده اليوم في الساحة الدولية من تخريب ودمار وإنما كانت تعامل الناس بالحسنى وكانت تفهم ضعف البشرية ومن ثم تعقب على هذا الضعف ولا تريد أن تدمر الإنسان.

شخص الداعي محمد صلى الله عليه وسلم في حياته الخاصة وفي حياته العامة كان مثالاً على هذا الذي نقول: أغضبته ذات يوم جارية في بيته عليه السلام فأعتقها، هل ضربها، هل انتهرها هل شتمها لا وإنما قال لها وهو يستاك بالسواك "لولا أنني أخاف الله لأوجعتك بهذا السواك".

شخصه الكريم جاءه رجل يطلب منه ديناً فاستمهله واعتذر بعدم وجود شيء فجذبه من ردائه وكان يلبس رداء من الصوف حتى احمر موضع الرقبة من الرداء فقال له: أعطني حقي يا محمد فإنكم قومٌ مُطْلٌ يا آل عبد المطلب، وتكاثر الأصحاب يريدون أن يفتكوا بهذا المتطاول على مقام النبوة، ولكنه ردهم وقال: دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً.

في الحياة العامة ماذا كان يفعل، كان دائماً يردّد على آذان أصحابه:

لا يُبَلّغني أحد منكم عن أصحابي شيئاً فإني أحب أن ألقاهم وأنا سليم الصدر.

كان يكره التشكي، وتتبع عورات الناس ونقل الكلام الفاسد ويريد للمجتمع أن يكون مبناه على الصدق، أي مجتمع إنساني خلا من الفساد؟ أي مجتمع إنساني خلا من التخريب في بعض الجوانب؟ أليس أمامنا إلا أن نرفع العقاب، وأن نكمم الألسن، أليس من الممكن أن هذا الإنسان التبست عليه الأمور وفهم الأمور على نحو غريب، أليس من حقه علينا أيها الإخوة أن نلفته إلى جادة الصواب، بلى ذلك كان شأن النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا كان من توجيهاته الحاسمة أن الحاكم إذا ارتضى الغيبة في الناس أفسدهم.

إن الحاكم إذا تجسس على المواطنين أدخل الفساد إلى المجتمع، لأن القانون الذي ستعامل به الناس بعد ذلك قانون الشك والارتياب وسوء الظن لا غير وهذا يجر إلى فساد عريض.. من هنا قلت لكم إن الطباع القوية هي فقط موطن الإنسانية، هي التي تستطيع أن تقود الإنسانية إلى بر السلامة لأنها تملك أولاً الطبيعة الخيرة التي لا تعمل من أجلها وإنما من أجل خير البشرية. وتملك أيضاً النظام المتكامل المتوازن توازناً دقيقاً يعني تملك المجتمع الذي يملك قوة ضاغطة نحو الخير لا نحو الشر والفساد.

إن الإسلام حينما وضع موضع التطبيق كان دعامة لهذه الطباع أن تأخذ سبيلها نحو الخير والبر والمعروف ولم تكن تلك الشرائع تسمح بأي حال من الأحوال بأي نازع إنساني أن يتسرب إلى جسم المجتمع بالفساد وبالفوضى، شيئان يجب أن لا يغيبا عن البال متكاملان متعاونان على أداء الرسالة: طباع مستقيمة، وفطر سليمة، وتشريع وقانون اجتماعي يهيئ الجو الملائم لتفتح عوامل الخير في النفس الإنسانية، هذا الشيء الذي عرفناه حتى الآن، هل هو أمر هين؟ لا صور لنفسك أيها الأخ أبسط الأشياء، في عبادتك والعبادة جانب من جوانب هذه الدعوة لو أنك حاولت أن تعبد الله حق العبادة أية آلام أية متاعب سوف تقاوم؟ أنت حينما تريد إرضاء الله مطالب بأن تؤدي الصلوات لأول أوقاتها وأن تؤديها في المسجد مع الجماعة أية مشقة تلك التي تتعرض لها من أجل التردد خمس مرات في اليوم والليلة على المسجد، أنت مطالب مع الفريضة بسنن ومطالب بأذكار أية مشقات هذه التي يتقاضاك إياها قيامك بهذا العمل أنت في تعاملك مطالب بالصدق مطالب بالاستقامة، كم من الجهود يجب أن تبذل من أجل أن تستقيم من أجل أن تتغلب على نوازع الطمع والشره في نفسك أنت كداعٍ إلى الله مطالب بأن تقول الحق لا تخاف في الله لومة لائم كم يكلفك ذلك من مشقات ومجهودات، ضع أمام ناظريك قائمة بوجائب الإسلام في الحياة الخاصة فقط، وتصور كم فيها من مشقات هذه الدعوة.

هذا الإسلام ليس سلوى، ليس تسلية وإنما هو عملية ممارسة تغيير في ذات الإنسان وفي واقع المجتمع، تتطلب اليقظة الكاملة من الإنسان، والنظر المحيط الشامل الذي يضم تحته كل العوامل المؤثرة في سير الإنسانية، كم يكلفك هذا وأنت تدعو إلى الله تبارك وتعالى هل تتصور كما قلت لكم في الأسبوع الفائت أن مجرد تغيير الشرط الاقتصادي يمكن أن يؤدي إلى تغيير المجتمع، وإلا أيها الإخوة فإنّ التجربة السوفيتية فقط، أكلت عشرين مليوناً من الناس ذهبوا، قطعاً للرقاب أو قتلاً في ثلوج سيبيريا فقط، وما أشبه ذلك من وسائل الإفناء، والتدمير، عشرون مليوناً قامت الحرب الكونية الثانية لم تأكل مثل هذا الرقم..!

إن تغييراً وإصلاحاً يكلف إجهاض مثل هذا العدد المخيف، وهو تغيير وإصلاح لا خير فيه. إن تغيير الشرط الاقتصادي لا يفعل شيئاً مع إغفال بقية الشروط، نحن أمام إنسان وإن قال الشيوعيون إن الإنسانية تزحف على معدتها يعني أنها تفكر بوحي الحاجة المادية، وتعمل بوحي الحاجة المادية هذا كذب وهذا تضخيم للأمور لا يجوز أن يستمر لأن في استمراره دمار البشرية كلها، الإنسان له عقل، وله غرائز وله حاجات وله علائق لا يمكن أن تقع تحت حصر، والنظام الناجح هو النظام الذي يأخذ بالاعتبار كل هذه الأمور ويبني سياسته على أساس من هذه الحسابات.

بظني أنه لا سبيل لمجهود بشري -مهما كانت العقول القائمة على تنفيذه وتقريره كبيرة- أن تحيط بكل هذه الأشياء، باعتقادي أنه لا ينجح إلا النظام الرباني ومن هنا نضيف إلى مبررات أخذ الإنسان بالإسلام التي سبق أن قلناها في الماضي هذا المبرر الواضح، وهو الشعور بأن الإنسانية كلها محتاجة إلى هذا الإسلام، فإذا شعرنا بهذا الشعور واجهنا مسؤولياتنا ومن مواجهة المسؤوليات ننفذ إلى حكمتين نريد أن نقولهما عن سالفة الملاحظات إلى ذكرناها من قبل حينما قال ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم:

"يا ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك".

قال: أو مخرجي هم.

قال: نعم لم يأت أحد قومه بمثل ما جئتهم به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً.

هذا الكلام يكشف عن هذه الحقيقة التي قلناها لا بد من ثمن يدفع من أجل نجاح الدعوة، لا بد من متاعب لا بد من آلام لا أريد أن أشرح هذا الأمر لأن حديثي عن المرحلة المكية كلها سيكون إلقاء الأضواء على هذه الحقيقة الكبيرة، ولكني أكتفي بأن أقول إن بداهة العرب حين ووجهوا بالدعوة فأخذوا بها هدتهم إلى هذه الحقيقة، هدتهم إلى أن الأخذ بمنهاج الله يعني تضحيات، يعني آلاماً يعني متاعب قال ابن اسحق في السيرة وهو يتحدث عن بدايات الوحي وما كان من موقف النبي صلوات الله عليه، تجاه هذا الوحي:

ثم تكامل الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مؤمن بالله مصدق بما جاء من عنده قد قبله بقبوله وتحمّل منه ما حمله على رضا العباد وسخطهم قال والنبوة – ونضيف نحن وكذلك الدعوة إلى الله – والنبوة أثقال ولا يقدر عليها ولا يستطيع النهود لها إلا أصحاب القوة والعزيمة من الرسل بعون الله تعالى وتوفيقه.

قال ابن إسحق: ثم قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر الله على ما يلقى من قومه من الأذى وخلافه هذه الحقيقة إذاً مدركة في أقدم وثائق الدعوة عندنا على الإطلاق، حقيقة مدركة يحاول بعض الذين يدّعون خدمة الإسلام أن يفروا من مواجهتها لأن في مواجهتها تكاليف ومتاعب لا يطيقونها أو لا يريدون أن يدربوا أنفسهم على إطاقتها وتحمَّلها.

العرب الأولون قلت لكم اهتدوا إلى هذا.. اسمعوا. يقول ابن إسحق: إن القوم – الأنصار- حين اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قام العباس بن عبادة بن نضلة أخو بني سهل بن عوف فقال:

يا معشر الخزرج هل تدرون على مَ تبايعون هذا الرجل؟

قالوا: نعم.

 قال إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون له إذا ذهبت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلاً أسلمتموه، فمن الآن فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم نُهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلاً أسلمتموه، فمن الآن فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعمتموه إليه على نهكة الأموال ومصيبة الأشراف فخذوه فهو والله خير الدنيا والآخرة.

قالوا بل نأخذه على مصيبة الأموال وعلى قتل الأشراف.

ثم التفتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قائلين:

فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا البيعة بهذه؟

قال الجنة.

قالوا: أبسط يدك.

فبسط يده فبايعوه.

الأصحاب الذين جاؤوا مبايعين دخل الإسلام إليهم حديثاً وجاءوا يبايعون رسول الله ويستخرجونه من بين أظهر المشركين هل تصوروا أن هذا الإسلام تمر يأكلونه أو شربة ماء عذبة يجرعونها؟ أبداً.. تصوروا أنهم بمجرد التزامهم بالإسلام أهدروا نحورهم للناس جميعاً وأعلنوا الحرب على كل الفاسدين والمفسدين في كل مكان على وجه الأرض ومع ذلك أخذوه صلى الله عليه وسلم. أخذوه من أجل ماذا؟ هل سألوه ماذا لنا من الغنائم؟ هل سألوه هل ستحقق لنا الرخاء الاقتصادي؟ هل سألوه: هل سوف تُعِبَدنا أهل مكة أو ما شابه ذلك؟ لا. إنما سألوه ماذا لنا؟ قال: الجنة.. لا ثواب على الأرض لأن أحداً لا يستطيع أن يعد بثوابٍ على هذه الأرض.. الثواب على الأرض عند الله متى أراده الله كان وإن شاء أن يمنعه عن عبد من عباده لم يكن وإنما يستطيع الداعي أن يعد بشيء واحد: الجنة – رضوان الله إشباعُ هذه النفس الخيرة ربطُها بأسمى ما في النفس الإنسانية من نوازع الخدمة العامة بلا منٍّ وبلا استعلاء وبلا طلب أجر وبلا طلب المثوبة من الناس.. طلب الجنة والأجر من الله تبارك وتعالى.

 وإذاً بهذا نستطيع أن نعلم علماً واضحاً أن الإسلام هو: هذا متاعب وآلام ومشقات وتعريض الرقبة للقطع والتعليق على المشانق وجلدٌ وضرب بالسياط وركض وراء الإنسان، وعبث به، وتشويه لسمعته.. كل هذه النوازع السافلة التي تحرك الإنسانية اليوم ستهيج مثل الزنابير على الذين يدعون إلى الله تبارك وتعالى هذا خير هذا هو بغير مداورة، وبغير مجاملة وبغير وعود مكذوبة ليس عندنا ما نقدمه للناس إلا الآلام، ليس عندنا ما نعد به النفس إلا الدم، ليس عندنا ما نعطيه للناس إلا التضحية بغير حدود بهذا فقط يمكن للداعي إلى الله أن يتعرض للدعوة وأن يتفوق في هذه المهمة الكبيرة، لا يمكن إلا من طريق الآلام أن تنجح الدعوة إن الله جل وعلا بَيَّن ذلك في محكم الكتاب بياناً شافياً لم يترك لإنسان أن يتصور غير هذا لا شيء إلا الألم، ولا شيء إلا المتاعب لكن النتائج دائماً وأبداً مضمونة بإذن الله تبارك وتعالى.

أيها الإخوة هذه -كما قلت- من قبل مقدمات وضعتنا في الصورة الصحيحة لخصائص الداعين إلى الله جل وعلا على ضوء سلوك النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هذه مقدمات وضعت بين أيدينا أيضاً خصائص الدعوة بالذات وسوف نحاول بدءاً من الأسبوع القادم بإذن الله تبارك وتعالى، أن ندخل إلى صميم الموضوع فنرى بكل تدقيق وبكل أمانة علمية ورصانة فكرية، سنرى حين جهر محمد صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى أي شيء دعت الناس، أوليات الوحي هذه السور التي نزلت أول ما نزل من القرآن سورة العلق، سورة القلم سورة المدثر سورة المزمل سور أربعة سوف أحاول في الأسبوع القادم والذي يليه أن نتعرف إلى المهمات الرئيسة التي وضعت على كاهل النبي صلى الله عليه وسلم من جهة، وإلى المطالب الأساسية التي طلب إلى المجتمع الجاهلي المشرك أن يعتقد بها وأن يعتنقها ثم نشاء من بعد أن نقيس حجم رد الفعل كيف كانت استجابة المشركين تحت أية قوانين، تحت أية عوامل كانت المواقف الجاهلية ترجح وكيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يواجه هذه المواقف.

من هذه المقايسات والموازنات ومن محاولة التعرف إلى الوقائع بحجمها الصحيح سوف نصل إلى استخلاص القوانين الأساسية التي توصل المجتمع المسلم إلى بر الأمن والسلامة راجياً من الله تبارك وتعالى أن يعيننا جميعاً على هذه المهمة الصعبة الثقيلة آملاً منكم جميعاً وقبل الجمعة القادمة أن يحاول كل منكم أن يفتح المصحف وأن يقرأ هذه السور الأربعة بعناية بتركيز وأن يحاول أن يفهم لماذا لأنني أريد منكم أن تشتركوا معي في هذه المهمة الصعبة.. أعترف بكل صراحة أنني لو كنت أقدَّر أن البحث هذا يصل إلى هذه النقاط، لأضربت عنه من أول الحديث لكن تورطت وما دمت قد تورطت، فتحملوا المسؤولية معي، فكروا أعينونا بآرائكم بتفكيركم ما أقوله كما قلت من قبلُ ليس هدفاً من غير خير ما نقدر عليه اجتهاد شخصي محاولة سبر غور قضية بطريقة عقلية بحتة ليس في أيدينا وحي ولا في أشخاصنا عصمة ونحن وإياكم نقف على أرض مشتركة إن قرأتم هذه السور وفكرتم بها وسمعتم ما أقول وفكرتم بما نسمع فسوف تنتج عندكم آراء أرجو أن أنتفع بها وتنتفعوا بها أنتم أيضاً والله جل وعلا ينفعنا جميعاً بما نقول وبما نسمع وألا يجعل ما نقول وما نسمع حجة علينا يوم تسقط جميع الحجج وصلى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه أجمعين.