الطابع الدعوي في تضرعات النورسي

أديب إبراهيم الدباغ

أديب إبراهيم الدباغ

وهذه النماذج من تضرعات "النورسي" وأدعيته التي استعرضناها آنفاً، وإنْ كانت تبنئُ عن ذاتية فردية في انبعاثها الأول، غير أنها ـ وبدون تمحل ـ يمكننا اعتبارها ذات طابعٍ دَعَوِيٍّ عام، وبقدر ما هي تضرع ودعاء فهي كذلك ذِكْرٌ وثناء، ودلائل بينات تعزِّزُ مواقع الإيمان لدى المؤمنين، وتنعي على الجاحدين والشّاكّين المترددين ما هم عليه من ظلمة القلب وجفاف الروح، وأمَّا ما تتركه على أنسجة الروح والفكر من آثار مهدئة وشعورٍ عَذْبٍ لذيذٍ فأمرٌ مجرّب يكاد يبلغ درجة التواتر كما هو في مصطلح الحديث.

فَالمُعْتَزَلاتُ، سواء منها تلكم المفروضة عليه، أو تلكم التي كان يروح إليها بإرادته، ساعدته كثيراً، وألقَتْ به على مشارف روحيةٍ عاليةٍ المرتقى، وهيأته لتلكم المكتشفات العلوية لأعمق حقائق الإيمان، فالصمت والسكينة في المُنْعَزَلِ يحفلانِ دائماً بالحكمة، ويساعدان على التأمل، ويرهفان مشاعر القلب البشري، فيهتزُّ بِحِدّةٍ لأدنى ما يَمَسُّهُ من تنـزلات عوالم الغيب، حتى إنّه ليَشُمُّ روائح النفوس المُغيّيَةِ ويستلهم منها دروس الإيمان كيما تساعده للعبور من مرحلة "علم اليقين" الذي هو فيه، إلى مرحلة "حق اليقين" الذي صار إليه. وبسبب هذه اليقينية يقول ويكرر: إنَّ رسائل النور ـ ولكونها انعكاسات قرآنية ـ ليست بتصورات عقلية قابلة للخطأ والصواب. ولا هي إلهاماتٌ حَدْسِيةٌ قد تختلط بها الأوهام والخيالات، وإنَّما هي يقينيّات مجرّبة عانى صاحبها للتحقق من صدقها أهوالاً فوق ما يمكن أن تحتمله أصلاب الرجال، ولا حتى أصلاب الجبال [1].

فحزنه المديد المتقد لم يستطع أنْ يَمَسَّ أغواره الإيمانية البهيجة، ولا أن يعكر صَفْوَ أفراح روحه بمكتشفاتها الماورائية المُحَجَّبَةِ.

ففي خلواته ومنافيهِ القصية فوق سفوح الجبال، وحين يبلغ الليل عنفوانه، ويَعُمُّ الهدوء وتشيع السكينة، تأتيه الحكمة في موكب مهيب من الجلال والجمال وتَحُطُّ على لسانه وتستوي على عرش فكره وقلبه، فما من ليلة من لياليه تموت خاويةً جوفاءَ تحت سنابكِ خيولِ النّهارِ البُلْقِ قبل أنْ يضمخها بعبير أذكاره، ويستودعها كنوز مواجيده وتضرعاته، فالثرثرة ولغط الحديث يصيبه بالقرف، ويملأه بالذُّعْرِ، ويحِسُّ وكأنَّه يريد أن يسحق روحه حتى الموت، من اجل ذلك فإنّه قلّما يأذنُ لأحد في الدخول عليه من أولئك الذين يهمهم الاستمتاع بمجالسته ومبادلتهم إياه الحديث، أو من أولئك الذين يتجشمون عناء سفر طويل بنية التبرك بولي من أولياء الله الصالحين.

وحتى أولئك الذين يأتون متعطشين لدروسه فإنه يحيلهم إلى "رسائل النور" باعتبارها النائبة عنه، والمتكلمة بلسانه، فمن أجل الحفاظ على نقاء الحكمة وصيانتها من التلوث بفضول القول اقتصرت لقاءاتُه على قِلّةٍ من خُلّصِ تلامذته، الذين هم في الوقت نفسه بَرِيْدهُ إلى العالم خارج خلوته أو منفاه، ينقلون إليه رسائل محبيه وتلامذته واستفساراتهم وأسئلتهم عن قضايا تشغل بالهم ويريدون أن يعرفوا رأيه فيها، ثم ينقلون ردوده عليها إليهم.


 

[1]  يقول النورسي في المثنوي العربي النوري ما يأتي: "لكن أقول تحديثاً بالنعمة وأداء للأمانة بأني لا أخدعكم، إنما أكتب ما أشاهد أو أتيقن عين اليقين أو علم اليقين" إفادة مرام ص 312.