قال: هذا فراق بيني وبينك

 زهير سالم

مايزال الإنسان يتأمل سر تلك الرحلة القصيرة، والرفقة التي صعب أن تستمر بين رجلين صالحين أحدهما نبي من أولي العزم، والآخر موصول قد تفجرت في قلبه ينابيع العلم اللدني والحكمة الربانية..

ولعل الكثير من تباينات المواقف، واختلافات التقويم، ينبع من اختلاف أساسي بأداة العلم (العقل) و وسيلة الرؤية (الباصرة). ولعله أحياناً يتعـلق بمنهـج الإدراك ذاته، وقصة العميان الذين وقعوا على الفيل فجزؤوه فرأى فيه أحدهم جذع شجرة، ورأى فيه آخر حبلاً غليظاً، تُوفي على المطلوب بين الرؤيتين الكلية والجزئية، البعيدة المتعلقة بالمآل والصيرورة والقريبة المتعلقة بالآن واللحظة.

قال الرشيد لأحد علماء عصره بعد أن أخرجه من السجن في غضبة غضبها عليه: ما أشد ما مر بك؟ ـ يقصد في السجن ـ فقال العالم: حكم جاهل على عالم يا أمير المؤمنين. فوجد الرشيد في نفسه، وظن أنه يقصده، فقال العالم على رسلك يا أمير المؤمنين! إنما هو سجانك فلان، سمعته يوماً، وقد كان يكرمني ويحترمني في سجني ذاك، يقرأ (فساء صباح المنذرين) ويكسر الراء، فقلت له يا أخي إنما هي (صباح المنذرين) بفتح الراء. فقال لي: هكذا تلقيتها عن شيخي، ومازلت أسمع أنك زنديق، ولذا حبسك أمير المؤمنين، وأخذ يضيق علي ويسيء معاملتي!!

وعدا الخلل في الأداة أو الخلل في المنهج اللذين يثمران أحيانا المفارقة بالرؤية.. تمتلك روح (الأستاذية ) بعض الناس وهي شعبة من شعب الاستبداد والكبر الذي وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه (بطر الحق وغمط الناس) فإذا بالمشرئب إلى مقام الأستاذية يرى أن ليس لأحد من الناس الحق في المرور إلا من بين إصبعيه..

فإذا انضمت إلى هذه الروح أضمومة حسد، وسخيمة نفس كان الهدم عند أصحاب تلك النفوس مقدم على البناء، وكانت كل أزاهير الرياض وعطرها غير قادرة على أن تغطي على عوار حفرة هنا أو شوكة هناك..

تشترط المرافقة حدوداً دنيا من الموافقة، ومن الجسور المتصلة بين الأطراف، وإلا فإن كل من ساء سمعاً أو ساء فهماً ساء (جابة) كما تقول العرب.

وتقتضي حدودا دنيا من الإستواء النفسي الذي يعرف كيف يتلمس مواطن الإحسان قبل مواطن القصور، ويجيد مد الجسور لا تقطيعها، إذ حين تتقطع الجسور، وتتعطل منطلقات الفهم المشترك يقول الرجل الصالح (هذا فراق بيني وبينك).

           

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية