حول تجديد الخطاب الديني

خطبة الجمعة 24/ 7/ 2015م

8 شوال/ 1436هـ

من القضايا التي تثار كثيراً اليوم تجديد الخطاب الديني.

فكرةٌ تدغدغ العواطف وتثير العقول وتستهوي قطاعات من الناس، وتخيف قطاعات أخرى.

وبين يدي ذلك فقد جاء الحديث الذي أخرجه أبو داود بسنده عن أبي هريرة : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا»

ولا بدَّ أن يفهم هذا الحديث في ضوء الآية الكريمة: ﴿... اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [المائدة: 3]

فديننا من حيث هو تمامٌ وكمالٌ ولا معقِّب لأحدٍ عليه فهو الدين الذي ارتضاه الله للإنسانيةِ جمعاء، إنما يُتصوَّر التجديد في فهم بعض النصوص على ضوء المعطيات وتحرير نقد بعض نصوص الرواية، ويٌتصوَّر التجديد في الوسائل وتلبية مستجدات العصر، كما يُتصوَّر التجديد في تجديد واقع الدين في حياة الناس، وتجديد بعض المفاهيم وإحياءها، وكل ذلك ضمن ضابط المرجعية العليا الكتاب والسنة، والحفاظ على الأصول والثوابت، وأن يكون التجديد صادراً عن أهله العلماء المخلصين، لكنَّ فكرة تجديد الخطاب الديني تطرح اليوم بأسلوبٍ آخر.

وحتى تكون النظرة موضوعية لهذه القضية نطرح تساؤلات:

السؤال الأول: من الذي يروج لهذه الفكرة اليوم؟

السؤال الثاني: ماهي دوافعهم؟

السؤال الثالث: ما هو مفهوم تجديد الخطاب الديني عندهم؟

السؤال الرابع: ما هي أهدافهم النهائية؟

 بدايةً نقول لا نخاف من تجديد الخطاب الديني وفق أصوله ومن أهله؛ تجديد في الوسائل ودراسةٌ لمستجدات العصر، ومواكبةُ العصر من خلال الحفاظ على الأصول والثوابت، وبالاعتماد على الكتاب والسنة بحيث تكون مرجعيتنا هو الإسلام بمفهومه الشامل الكامل، لكننا عندما نطرح تلك التساؤلات ونجيب عنها يتبين حقيقة تلك الدعوات المشبوهة

السؤال الأول: من الذي يروج لهذه الفكرة اليوم؟

الجواب: لو كان الذي يروج لذلك أعلام الأمة ومراجعها المعتمدة، وممن عرفوا بالصفاء والنقاء والعلم والتقوى، وحمل همّ الأمة وحمل همّ هذا الدين؛ لكان لك أن تطمئن لهذا الطرح، ولكننا الذي نجده إن أكثر الذين يروجون لهذه الفكرة سياسيون مستبدون أو إعلامييون خدمٌ للمستبدين ولا علاقة لهم بالتدين في حياتهم الخاصة فضلاً عن العامة، وكذلك أقوامٌ فصلوا بين الدين والحياة أو أولئك الطائفيون الذين يعيثون في هذه الأمة فساداً، ويجعلون من قيم الإسلام هدفاً لهم؛ لأن قيم الإسلام الحق هي التي تواجه طائفيتهم أو فسادهم أو ظلمهم أو إجرامهم، فإذا كان الذي ينادي بهذه الفكرة من لا يحمل الإسلام شاملاً كاملاً أو ينادي بهذه الفكرة من كان مغتصباً وغالٍ ومستبداً وقاتلاً أو من يدور في فلكه، قد فقَدَ أسّ الأخلاق في التعامل فهل يحق له أن يتحدث عن الخطاب الديني فضلاً عن تجديده؟

ويأتي السؤال الثاني: ما هي دوافعهم؟

التأمل في دوافعهم هو إدعاؤهم أن الخطاب الديني السائد يولِّد الإرهاب ولا يستجيب لمستجدات العصر، ولنا أن نتساءل أيضاً من الذي ولَّد الإرهاب؟ ومن الذي صنع الإرهاب؟ ومن الذي يحمي الإرهاب؟ لماذا ينشأ الإرهاب؟

أليس ما يمارسه هؤلاء المستبدون من قهر وظلم وتضييع لمصالح الأمة الحقيقية، وفسادٍ ونهبٍ لثرواتها، ومحاربة للإصلاحيين المعتدلين؛ هو الذي يولد الإرهاب وليس الخطاب الديني.

ثم يتحدثون أن الخطاب الديني لا يساير المستجدات؟!

عندما يُمنعُ الإسلام من التطبيق العملي في الحياة، وعندما يُسلَّط على الإعلام الديني فئة من الناس تخدم مصالح المستبدين وتمنع الإصلاحيين وتمنع حرية الفكر والبحث، فلك أن تتصور لماذا لا يكون هنالك مسايرةٌ للمستجدات إن سلّمنا أن ثمَّة تقصيرٌ في هذا الجانب.

الثالث: ما هو مفهوم تجديد الخطاب الديني عندهم؟

لو كانوا يتكلمون عن العدالة وتوزيع الثروة بحق، وتطوير الصناعات والنهوض الحضاري للأمة، ولو كانوا يتكلمون عن الإصلاح ومحاربة الفساد، ومواجهة تكالب الأعداء، وتقرير شمول الإسلام لكل مناحي الحياة، وتعميق علم المقاصد الذي يحفظ الدين والعقل والنسل والمال والنفس؛ لقلنا إن وراء ذلك دعوات طيبة، لكن عندما تجد أن الخطاب الديني الذي يدعون إليه هو التشكيك بالسنة كلياً، بل بعضهم يجترأ على القرآن، ويدعو إلى تحطيم المذاهب الفقهية ويدعو إلى تحلل  المجتمع والمرأة، ونقض الحجاب، ونقض أحكام الميراث، والدعوة إلى إخراج كل شيء له علاقة بمناهج الحياة من الإسلام؛ فالإسلام عندهم لا علاقة له بالسياسة ولا الاقتصاد، كما يدعون إلى نقض أحكام الجهاد كلياً أو تسويغ الربا وحصر العبادات في معاني طقوسية، هنا تدرك ما مرادهم من تجديد الخطاب الديني.

السؤال الرابع: ما هي أهدافهم الحقيقية النهائية؟

لا يمكن أن يكون وراء ذلك إلا هدف التشكيك والتشويه وإضعاف روح التدين في نفوس الناس، وفقد الثقة بدين الله كلياً.

وعليه نقول: إن الإسلام دين الله الخالد وكلمته إلى العالمين الخاتمة الكاملة، وهو حافظ دينه سبحانه ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً ﴾ [الفتح: 28]

﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ ، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ ﴾ [الصف:8- 9]

﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ [آل عمران: 55]

ولئن رأينا أن هنالك صراعات سياسية دموية تستغل الدين كثيراً استغلالاً سيئاً ولا علاقة للدين بها، فتمكين الإسلام في الأرض ليس محصوراً في هذا الجانب؛ بل جوانب تمكين الإسلام في الأرض أعمق وأبعد من هذا كله.

فهم يحاربون الإسلام بوسائل شتى، لكنهم يمكرون يمكر الله والله خير الماكرين ﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ ﴾ [يوسف: 110]، لكن البعض يستعجل قطف الثمرات.

الإسلام في وجوده لا يتوقف على سقوط دولة ونهوضها ولا يتوقف على حزبٍ أو هيئة أو جماعة أو مجموعة وتصفية أعلامٍ من أعلام المسلمين أو عاملين للإسلام لن يوقف مد الإسلام الحقيقي وتعمقه وتعمق جذوره، بل والتدين في فطرة الناس وفي أعماقهم، لكننا مكلفون بالعمل لهذا الدين العظيم وبالنصح وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتخطيط والتدبير والأخذ بالأسباب، والسعي لنهضة الأمة ومحاربة الفساد والفاسدين، والأخذ بأسباب العلم ﴿ فَأَتْبَعَ سَبَباً ﴾ [الكهف: 85]

 (قصة ذي القرنين درسٌ عظيم في ذلك).

ولنا من تجديد عمر بن عبد العزيز الذي ظهر على رأس المائة الأولى نوذجاً من التجديد المشروع إذ جدد في مفهوم الحكم في الإسلام، وإقامة العدل، ودعا إلى تدوين السنة، ورد الحقوق إلى أصحابها.

كما لنا من الإمام الشافعي الذي ظهر على رأس المائة الثانية مظهرٌ آخر من مظاهر التجديد المشروع إذ قعَّد قواعد علم أصول الفقه استنباطاً من الكتاب والسنة، وهكذا عبر التاريخ كان تجديد صلاح الدين الذي وحَّد الأمة وحرر المقدسات، وتجديد محمد الفاتح الذي حرر القسطنطينية كما وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

التجديد وواقعنا السياسي:

 نعم قد تسقط دولٌ وتتعمق صراعاتٌ وربما نظن في ذلك حالة سلبية للأمة؛ لكن من يدري من أين يأتي الخير، اليوم الناس خائفون من التمدد الإيراني وزاد خوفهم الاتفاق الإيراني الغربي الأمريكي الذي يرون فيه خللاً جوهرياً في موازين القوى لصالح إيران (التي تعتدي على الأمة، ووحدتها واستقرارها وعقائدها)، ويرون أن الشراكة الإيرانية الغربية الأمريكية ستعمل على تمزيق الأمة أكثر، وأنه يُتعمَّد إنهاك بعض الدول العربية من خلال تسليط المستبدين فيها وتغيبها عن الفعل الاستراتيجي، ويرون أن العرب جسدٌ منهكٌ وعقلٌ محبطٌ، ويخترعون للعرب معارك داخلية ليحطم بعضهم بعضاً باسم محاربة الإرهاب، ويخوفون العرب من بعضهم بعضاً ليبقى العربُ ممزقين لا يتصالحون مع أنفسهم ولا مع القوى الحقيقية في المجتمع؛ بل ويوكلون إلى المستبدين محاربة القوى الحقيقية الفاعلة في المجتمع خوفاً من سقوط دولهم.

هذه الأجواء الخطرة الجاثمة في المجتمع العربي الأصل أن تدفع إلى التفكير العميق في المخرج والتصالح مع ربنا والتصالح مع أنفسنا وتغليب المصالح العليا على المصالح الخاصة، وأن تقدِّم الأمة شرفاءها والأطهار فيها، وأن تتخلص من الفساد بكل أنواعه، وأن تعمل على تحقيق العدل والعدالة والحق والحرية والكرامة لشعوبها؛ فإن لم تفعل فسنن الله ماضية في الاستبدال.

وسوم: العدد 626