من ثمرات مجالس العيد

خطبة الجمعة 16/ 9/ 2016م

14 ذو الحجة/ 1437هـ

 

الخطبة الثانية: آداب نبوية يوم الجمعة

كانت مجالس العيدِ فرصة للقاءات كثيرة، وربما في بعضها خيرٌ كثير وتذكرة، وفي بعضٍ آخر صلة أرحامٍ وتجديد علاقاتٍ؛ وهذا خير، وفي بعضٍ آخر لغو، فنسأل الله المغفرة. لكن كانت تثار تساؤلات مما يتصل بالهمِّ العام وشأنِ الأمة، وقد شعرتُ أنَّــها تساؤلات عامة فعلاً؛ ومن ذلك:

-       لو كنَّـــــا نحن المسلمين على حق فلماذا كل هذه الابتلاءات، وعلى وجه الخصوص لماذا ينزلُ ما ينزلُ من شدة وبلاء بأهل العراق وسوريا؟

-       وهل منهج الدعوة الإسلامية صحيح؟ فتجد البعض يطالب بتغيير المنهج؟

-        بل بعضهم يتجاوز في أسئلته حدود الإيمان فيقول لك: ما ذنب هؤلاء الأطفال أن يعذَّبوا؟

-       وما ذنب هؤلاء النساء والأطفال المشردين؟ فأين الله؟!

جذور التساؤلات:

لعلنا إذا عدنا إلى جذر هذه التساؤلات فهي تتصلُ بمفهوم سنن الابتلاء وحكمتها وثمارها وآثارها، وموقف المؤمنين حالَ الابتلاء، كما تتصل بمفهوم النصر والتغيير وسنن النصر، كما تتصل بحقيقة الإيمان بالله ومقاييس الإيمان، وآثر الإيمان. حقائق: ولعلَّ من أهم الحقائق التي ينبغي أن نشير إليها:

1-             أنَّــه إذا نزل ابتلاءٌ فواجب المؤمن أن يحاسب نفسه أولاً، لا أن يحاسب ربه، فتجد البعض كأنما يريد أن يحاسب ربه أو يعترض عليه أو يناقشه بدلَ أن يرجع إلى نفسه، وينسى قوله تعالى: ﴿ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ﴾ [البروج: 16].

 ﴿ لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 23].

إذن الواجب أن نرجع إلى أنفسنا بالمحاسبة لا أن نشكك بالإيمان والمنهج ﴿ أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 165].

﴿ وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30]

2-             ولا بدَّ أن نؤكد أنَّ لله حِكَماً عظيمة في كل شيء قد تدرك وقد لا تدرك، ولعلَّ قصص سورة الكهف تعطينا نموذجاً من ذلك، وكذلك قصة يوسف، بل وسائر الأنبياء؛ فالابتلاات إما رفع وإما دفع وإما قلع كما قال أهل العلم، فهي رفعٌ للدرجات تطهيراً وارتقاءً وأجراً كما في حق الأنبياء والأولياء والصالحين، وهي تطهيرٌ في حق من سواهم، كما قد تكون دفعاً أي دفعاً لما هو أعظم مما لا ندركه، وقد تكون قلعاً للإجرام وللشر والخبث.

3-             لا تقاس الأمور في الدنيا بالزمن العابر ولا المظاهر ولا المـــــتع ولا التحكم الدنيوي

﴿لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي البِلادِ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المِهَادُ ﴾ [آل عمران:196- 197] ﴿ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لُهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ [آل عمران: 178] ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾[الحج: 47].

4-             ولا يكون مقياس التغيير من خلال جيلٍ واحد أو حقبةٍ واحدة؛ فآثار التضحيات لا تظهر مباشرةً، ألا ترَ إلى قصة أهل الأخدود استُشهِدوا جميعاً لكنَّــه ما مرت سنوات إلا ودخل جميع القوم في الإيمان بعد ذلك.

ألا ترَ إلى قصة أهل الكهف هم بأنفسهم لم يستطيعوا التغيير ولكن مرت سنوات فإذا قومهم جميعاً يغدون من أهل الإيمان. وانظر إلى سيرة الأنبياء ربما يأتي النبي يوم القيامة ليس معه أحد أو يأتي معه الآحاد القليلة فقطعاً إنما دلَّ هذا على فساد الناس لا على خطأ المنهج.

قصة سوريا والعراق:

وإذا نظرنا إلى أهلنا في سوريا والعراق على وجه الخصوص، فليسوا وحدهم في هذا الشأن، ونحن اليوم في ذكرى صبرا وشاتيلا التي كانت 1982 التي قادها الصهاينة وعملاؤهم في لبنان ضد أهلنا في فلسطين، ولا تكاد المجازر تعد وتحصى ضد شعوبنا الإسلامية، فيمكن أن نفهم الأحداث في ضوء:

1-             في ضوء سياقاتها التاريخية والحضارية، وأنَّــه لما كانت هذه الشعوب الإسلامية هي العمق الاستراتيجي للأمة الإسلامية، وهي منارُ التغيير الحضاري، ولما كانت الأمة يهيئها الله لدورةٍ تاريخية جديدة، ولما كانَ لا بدَّ من التطهير والتمحيص والتمييز فليس غريباً أن تقع هذه الشدائد خاصةً أنَّ هذه المناطق فيها عواصم العالم الأهم تاريخياً (دمشق، بغداد، استانبول).

2-             يجب أن نفهم كل ذلك في ضوء آيات القرآن العظيم، ومنها قوله تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ ﴾ [الملك: 2]. وفي ضوء قوله تعالى: ﴿وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنفال: 42].

وفي ضوء قوله تعالى: ﴿ لِيَمِيزَ اللَّهُ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ ﴾ [الأنفال: 37]

وفي ضوء قوله تعالى: ﴿ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [آل عمران: 140].

3-             ثم إن هذه الدنيا عموماً دار تكليفٍ وابتلاء فلو كانت فردوساً وراحةً ونعيماً للمؤمنين أو لجميع الخلق لأصبحت جنة وما عادَ للحياة الدنيا فرقٌ عن الحياة الآخرة.

4-             إذن أمام دورةٍ تاريخية ونهوضٍ حضاري، كذلك فإنما يحدث هو تعريةٌ للحضارات الأخرى، وفضحٌ لها، وكشفٌ لماديتها، وكشفٌ لانهيارها الأخلاقي؛ لئلا يخدع بها أحد، كشفٌ لحقيقة الزيف والخداع، كما هو تكوين جديد للأمة وللأجيال، وتطهير وتمحيص.

5-             ومن الطبيعي أن يكون صراع بين الحق والباطل ﴿ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴾ [محمد: 4].

الأطفال والأبرياء:

1-             أمَّــا أنَّ أطفالاً يقتَّــلون ويذبحون وما ذبنهم فهذا اللوم يوجه إلى الإنسانية و إلى من يزعمون أنهم من بني الإنسان.

2-             هذا اللوم يعرّي هؤلاء الناس وتلكم الحضارات، ويكشف تقصير الإنسان في حق الإنسان بل ظلم الإنسان للإنسان.

3-             ويحملنا المسؤولية أمام الله جميعاً.

4-             ثم إن هؤلاء الذين يقتَّلون ظلماً أطفالاً كانوا أو نساءً جزاهم الخيِّــر عند الله ولا يضيرهم ما يحدث ولكنَّ الظلمة المجرمين القتلة جزاؤهم الخطير ينتظرهم ﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ، مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ﴾ [إبراهيم:42- 43].

﴿ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ﴾ [يونس: 53] ﴿ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾ [الشورى: 31].

تغيير المنهج:

أمَّـــا إذا تأخر النصرُ أو وجِدَ أناساً ينحرفون عن المنهج فليس هذا معناه أن نغيّر منهجنا وفقه الدعوة وثباتنا على الحق، فإنَّ الذين يكتبون منهجهم في ضوء الهزيمة النفسية والثقافية والمعنوية وفي مرحلة الضعف لن يكتبوا منهجاً سوياً ولا صحيحاً، ولن يكونوا منطلقين من منطلقات سليمة ﴿ وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ﴾ [المائدة: 49]. ﴿ وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً، وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ﴾ [الإسراء:73- 74].

المشككون والمعرضون عن الله: أمَّـــا أولئك الذين يتناولون الأمور بمنطق الشك والإعراض عن الله، بل والإلحاد أحياناً فليس غريباً هذا المنطق، وقال الله في حق بعضهم: ﴿ وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ﴾ [الجاثية: 24]. وقال الله في حقهم: ﴿ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَناًّ وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ، وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [الجاثية:32-33]

وحال هؤلاء كما قال الله في حق أمثالهم: ﴿ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ﴾ [الأحقاف: 17].

فسيعلمون أن الله حق ﴿ وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ العَذَابِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ، وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [الزمر:47- 48]. فإذن نحن أمام اختبار الإيمان والثبات على الحق، والصدق مع الله، وحسن الظن بالله، ومراجعة النفس، ووجوب الأخذ بالأسباب، والنظر فيما يجب من تخطيط وتدبير، لا استسلام ولا تغيير.