نفحات طاغوتية 3و4

نفحات طاغوتية

م. محمد حسن فقيه

[email protected]

( 3 )

وقبل اكتمال بهجة الشعب وأهازيجه بالحرية المزعومة ، والديموقراطية المنشودة ، بدأت نفس الأعراض السابقة  تظهر على جميع من حضر التظاهرات ، إذ بدت عليهم علامات الكسل والخمول والبلادة ، وتخلوا عن مبادئهم السامية ، وأفكارهم المتقدة ، ودفاعهم المبدأي و المستميت عنها ، ونقاشاتهم الحادة ومطالبهم الجادة .

وتمر الأيام والدولة تترنم بالحرية المتاحة ، والديموقراطية الممنوحة للشعب والأحزاب ، والمقابلات والندوات في الصحف والإذاعة والتلفزيون لقادة  الأحزاب ، وأصحاب المبادئ ، ورجال الفكر، بل وعامة الجماهير وأبناء الشعب تنشر يوميا ، وجميعهم يغدقون على النظام والحكومة إطراء عجيبا ، وثناء غريبا ، ما عهد فيهم من سابق ، ويعزون سبب هذا التحول إلى استجابة الحكومة إلى مطالبهم ، وفرحتهم الكبرى بتحقيق الحرية وتجربة الديموقراطية ، ودعم الدولة وتأييدها للتظاهرات التي عمت العاصمة وجميع المدن الأخرى .

لكن هذا التناقض قد أثار حفيظة البسطاء من الناس والمواطنين العاديين ، وحرك هذا الشعور عندهم تلك المفارقات العجيبة التي طرأت على قادة الأحزاب، بين معارضتهم السابقة ، وانتقادهم لسياسة الحكومة ، وتعريتهم حقيقة النظام ، وكل ذلك بالأمس القريب ، واليوم الإطراء العجيب والثناء الغريب على الحكومة ، مع أنه وفي حقيقة الأمر لم يطرأ أي جديد في سياسة الدولة ونهجها ، اللهم إلا الكلام المعسول ، والوعود الخلبية التي تملأ الصحف والمجلات  وشاشة التلفاز كل يوم ، وقد ساعد في إثارة هذا الشك وإذكاء ناره وتأجيجه ، بعض المفكرين من أهل البلد والذين لم يحالفهم الحظ للمشاركة في تلك المظاهرات المزعومة ، وبدأ لغط جديد في البلد ، وإشاعات تتردد هنا وهناك حول الهلوسة والبلادة والخمول...... وغيرها من هذه الطباع والشواعر التي حلت بجميع المشاركين في التظاهرات .

أو لعل أحدا من أولئك المستشارين السياسيين أو العلماء قد أنبه ضميره ، أو فكر في الإنتقام بعد أن رأى أقرب المقربين إليه من أهله وخلانه ، من أصحاب الفكر ، والرأي الحر السديد ، قد تحول إلى كتلة من الكسل والخمول ، وأصبح ببغاء يردد ما تمليه عليه الحكومة وتتبناه ، ليدافع عنه ويتمسك به ، بل ربما يكون الدورالقادم  والدائرة تدورعليه ، فليس هناك من أمر مستبعد ، في دولة سيادة الوالي .

وكأن أمر المعارضة بدأ ينتظم شيئا فشيئا ، وبمنتهى الدقة والسرية ، بعد الإستفادة من عبر الماضي ودروس الحاضر ، والخوف من غدر الحكومة ، كانت ردة الفعل عنيفة تجاوزت المألوف والمنطق ، خاصة ما دعم ذلك من تحريك بعض الأيدي الخارجية من الدول المجاورة التي تضررت من هذه التجربة المزعومة، وحركت عليها شعوبها ،   فبدأوا مباشرة بالتوجيه للتدريب على السلاح ، ورصد تحركات المسؤولين الضالعين في هذه اللعبة .

لكن أجهزة أمن الدولة لدى سيادة الوالي لم تكن مغمضة العينين ، وغافلة عما يحدث ، فقد تمكنت من شم الرائحة ، كما تشم القطط الجائعة رائحة الفئران الشهية ، واكتشفت بعض ما يدبر بشكل تقريبي وما يتم من تحركات في الخفاء ، ومن يقف وراءها ، وحجم التهديد لوضع النظام الحاكم .

وما إن تتم أول عملية اغتيال لمسؤول كبير في الأمن القومي ، حتى يقع النظام في حيرة من أمره ، وترتعد فرائص الوالي ، ويسرع بالدعوة إلى إجتماع طارئ جديد كالعادة .

 أيها السادة العلماء والمستشارون ، مرة أخرى تقعون في خطأ أقبح من سابقه ، فتظنون الشعوب نوقا ، ويكفي أن تغيروا أفكار رجال الأحزاب ، وقادة الفكر ، متناسين أن الشعوب قوة كامنة ، لا يمكن إهمال حسابها ، كما أنها طبقة دهماء وعوام قابلة للتغير والتبديل ولإنتكاس واللعب بها من الخارج ، لأنهم غوغاء ، لا يعرفون حقيقة الأمور، ولا يقدرون مصلحتهم ،ولا يفهمون أغراض الأجنبي وأجندته في توجيههم واستغلالهم ! .

 ولن أطيل عليكم فكلكم تتابعون الأخبار وتعلمون التطورات الأخيرة مع الأسف الشديد ، واغتيال أحد مسؤولينا في الأمن القومي ، وأرجو أن يبدأ الحوار ، وطرح الآراء ، لاستخلاص رأي مقنع سديد ، أو مشورة ملهمة حكيمة ، لإصلاح الأمور في البلاد ، بعد أن تردت الأوضاع إلى هذا المنحدر الخطير ، وأصبحتم جميعكم مهددين في أي لحظة بالقتل أو الإغتيال من الهمج الرعاع ، أصحاب الفكر الإرهابي  والنهج الظلامي . وأرجو الدخول في صلب الموضوع مباشرة ، بدون ديباجة ومقدمات ، فالوقت أثمن من هذا الهراء .

تكلم أحد المستشارين :  سيدي الوالي ذكرت في معرض حديثك أن الشعوب قوة كامنة ، ولا يمكن إهمال حسابها ، وهي نقطة هامة وجديرة بالوقوف عندها ، لذا فإني أرى يا سيادة الوالي أن نستمر في تجربتنا السابقة ، وأن الإنسحاب منها أو تغييرها ٌ قد يعود بالضرر علينا  ، مع الأخذ بعين الأعتبار ما تفضل به سيادتكم من  استخدام الأسلوب السابق مع الشعوب ، فهو خير وسيلة لإعادة الأمن والإستقرار  في البلد.

- ولكن كيف سيتم لنا ذلك يا حضرة المستشار ، إن الشعب لم يعد يسمع كلمتنا ، أو ينفذ رغباتنا ، ولا يثق بنا ، فكيف سنقنعه أو نحشره بتظاهرات جديدة ؟

 - عفوا يا سيادة الوالي ...... ليس هذا ما قصدت .

 - وماذا قصدت إذن أيها الملهم؟

 - أقصد استخدام (إكسير الوطنية ) بإسلوب آخر مختلف .

-  وما هو الأسلوب الجديد الذي تقترحه يا حضرة المستشار؟

-  نضيف (الأكسير الجديد ) إلى مياه الشرب في كل قرية ومدينة لمدة ثلاثة أيام كاملة ، بعد قطع الماء تحت ذريعة إصلاح المحطة المركزية لتحلية المياه وتعقيمها ، أو إصلاح المضخات ، أو تجديد الشبكة الرئيسية ، أو تحت أي ذريعة أخري يراها زملاؤنا في الأمن أو الإعلام مناسبة مع عمل التهيئة والإعدادات اللازمة لذلك .

وأشدد على ضرورة وصول الماء المعالج إلى جميع القرى والأرياف والبوادي ليقدم إليها ماء باردا زلالا.

-  وماذا سيكون مصيرنا نحن يا سيادة المستشار؟

-  نتزود جميعا بالماء الصحي لمدة اسبوع كامل بل وليكن شهرا يا سيادة الوالي .

- هل توافقون على هذه الفكرة أيها السادة العلماء والمستشارون ؟

رفع  جميع الحضور أيديهم علامة الموافقة على الخطة الجديدة .

إنها فكرة هائلة حقا ولن يفلت منا في هذه المرة أحد ، ولكن إياكم والبوح بهذا السر إلى الأحباب والأصحاب ، فمصلحة الوطن فوق الجميع ، وأنتم تعلمون جميعا أن كل ما نقوم به ونخطط له ، هو أولا وأخيرا لمصلحة الوطن ، وإن خروج هذا الخبر ، أو أي تلميح عنه للخارج سيودي بنا إلى مأزق  آخر أشد وقعا من المآزق السابقة ، لأن العدو يراقب كل حركة تصدر عنا ويتربص بنا ، وإلا فإنها الخيانة العظمى لأمن الوطن ، وجميعكم تعلمون ما عقوبتها أيها السادة !

 كما أنني أنبه إلى تغطية الحدث إعلاميا بشكل لا يلفت النظر وإلا فإننا نكون قد وضعنا أنفسنا في دائرة الشك ، وأما أنتم أيها السادة المستشارون والعلماء فإني أخشى عليكم من عدم احتياطكم لتناول الماء الصحي بشكل منتظم وتام وسليم ، لذا فإني أقترح أن أستضيفكم في قصري ، حفاظا عليكم من الماء المعالج وتأثيراته ، فأنتم ذخر الوطن ، وثروته التي لا تقدر بثمن ! هذا من جهة ومن جهة اخرى ، اعتبروا أنفسكم في حالة طوارئ واستنفار عام لمتابعة التطورات التي تواكبنا خطوة خطوة ، فأنتم في ورشة عمل دائمة ولا أظن أحدا منكم لا يقدر حجم الأخطار التي تحدق بنا ، والمسؤولية المناطة بكم للتصدي لهذه الأخطار وإنقاذ الوطن من عبث العابثين ، وأيدي الحاقدين .

صاح الجميع بصوت واحد :  كلنا فداء الوطن .

قال رئيس الحكومة :  إشاراتك أوامر يا سيادة الوالي .

أجاب الوالي :  هذا عهدي بكم دائما ، ولن يخيب ظني فيكم أبدا ، وأذكر وزير الإعلام للعمل مع لجنته لتغطية الحدث إعلاميا بما يلزم .

تمخضت اللجنة الإعلامية بعد اجتماعها ومناقشتها للموضوع  عن وضع الخطة المناسبة لذلك وتم تبليغها للوالي .

قام الوالي بخطبة   في الجماهير المحتشدة ، والتي بثت مباشرة عبرمختلف وسائل الإعلام لتصل إلى كل بيت :

أيها الإخوة المواطنون..... أيها الشعب الكريم المعطاء ...  لا يخدم هذا الوطن إلا أصيل ، ولا يخرب فيه إلا كل ( موتور) حاقد عميل ، ودخيل على شعبنا .

إن ما أقدمنا عليه من منح الحرية ، وخلق أجواء ديموقراطية ، وإصلاحات عامة إقتصادية واجتماعية وسياسية ...  وفي جميع المجالات ، كان له الصدى الواسع على مستوى الرأي العام المحلي ، والإقليمي ، والعالمي ، كما لقي الرضا والتجاوب والتفاهم الذي لمستموه جميعا من قادة الأحزاب ، وأصحاب المبادئ ورجال  الفكر ، وسنمضي قدما على هذا الطريق :  طريق الحرية والديموقراطية  ، حتى نكون نموذجا حيا لسكان المعمورة قاطبة من بعدنا .

إن الحساد والأعداء من مرضى النفوس في الداخل والخارج ، والتي لم يسرّها ما منحنا شعوبنا من حرية ، وقدمنا لها من إصلاحات ، لن يهنأ لها بال ولن يقر لها قرار، حتى تعيد بلادنا إلى عهد الفوضى والشغب ، وعدم الإستقرار ، وقد كان كما رأيتم إغتيال مسؤول في الأمن القومي ، بيد غادرة ، خائنة وأثيمة.

إنها مؤامرة كبرى تحاك ضد شعبنا ، من القوى الرجعية والظلامية ،المرتبطة بذيول الإمبريالية العالمية ، تتلقى تعليماتها من الخارج ، من أولئك الذين يخافون تصدير تجربتنا الرائدة إلى شعوبهم المقهورة ، والتي ستؤثر بدورها على مصالحهم الشخصية ، ونزعاتهم الأنانية ، وتحد من تسلطهم  ودكتتوريتهم على شعوبهم ، وتحجم أنظمتهم الطاغوتية المستبدة ! .

إنهم أشبه بالحشرات التي التي اعتادت العيش في الظلام ، فهي  تخشى على نفسها وحياتها من النور ، لذا علينا أن نقف لهم بالمرصاد ، وقفة راسخة ، تحبط كل مؤامراتهم ، وتسحق خططهم التخريبية ، وترد كيدهم في نحورهم ، ولا بد من انتصار إرادة الشعوب في النهاية .

الخزي والعار ، للقوى الرجعية الظلامية ، والإمبريالية العالمية ، ولجميع أعداء الشعوب ، والإنسانية ، التي ضاقت ذرعا بخطوتنا الجبارة ، نحو المزيد من الحرية والديموقراطية ، واحترام الفرد والسعي لرفاهية الشعب ، فجنّ جنونها ، وجندت جنودها ، ووجهت جهودها ، لتحريك السذج والمغفلين ، بعد أن وعى رجال الأحزاب ، وأصحاب الفكر والمبادئ ، قيمة تجربتنا الرائدة وتميزها في العالم أجمع .

كما أنني أطمئن جميع أبناء شعبنا العظيم بأننا سنبقى سائرين على هذا الهدي مهما حفّ بالأشواك ، واعترضته العقبات ، مهما كادوا ومكروا ، شاؤوا أم أبوا ......  فلن يفت في عضدنا ولن يوهن من عزيمتنا ، إشاعات المغرضين وتحركات الحاقدين ، من الأعداء والحاسدين .

كما أني أطمئن جميع المواطنين ، وأعدهم بتقديم الجناة إلى العدالة لينالوا جزاءهم ، وبسحق الإرهاب واسئصاله من جذوره ، والضرب بيد من حديد على كل من يساعد الإرهاب وأعمال التخريب من الداخل والخارج   .

 وختم خطبته بالوعود المغلظة بتقديم حزمة أخرئ من الإصلاحات ، وإفساح مجال أوسع من الحرية ، ليفضح الحكومات المستبدة ، التي تدعم المخربين لإفشال تجربة الإصلاح والديموقراطية الرائدة في المنطقة كلها .

وفي نهاية الختام حيا الجماهيرالمحتشدة  جميعا والمتابعة عبرجميع وسائل الإعلام المختلفة قائلا :

لتحيا شعوبنا حرة أبية ، مكسوة برداء العز، محلاة بتاج الكرامة ، شامخة بإكليل الغار.

النصر والشموخ لشعبنا الحر المعطاء ، والموت والعار لأذيال الرجعية ، والقوى الظلامية ، والإمبريالية العالمية ، أعداء الحرية والإنسانية والديموقراطية .

كما نشطت وسائل الأعلام ، لحث الشعب إلى تقديم جميع مطالبه ، عبر وسائل الإعلام المختلفة ، لما يضمن له حريته ، وتهيئة الأجواء الديموقراطية ، والإصلاحات الإجتماعية والإقتصادية ، وكل ما من شأنه مصلحة الوطن  والمواطن،أما العناوين التي تصدرت  الصحف في اليوم التالي :

-  ( سيادة الوالي سيحقق حميع مطالب الشعب )

 ) - الحاكم الحقيقي هو الشعب ، والحكومة وسيلة للتنفيذ وفي خدمة الشعب )

-  (لا قيمة لحكومة بدون شعب حر أبي )

-  ( حرية الرأي وديموقراطية المنهج ، واحترام الإنسان وكرامة المواطن أساس حكمنا المتين)

في نفس الوقت كان (الإكسير) الجديد قد تم تجهيزه بالكميات اللازمة ، وتم ضخه مع مياه الشرب إلى جميع المدن والأرياف والبوادي ، بعد قطع الماء ثلاثة أيام متواصلة تحت دعاوي وإشاعات متعددة ، منها ما يدعي أنها استهدفت من قبل المخربين الإرهابيين لتدمير منشآت البلد الإقتصادية والبنى التحتية للدولة ، ومنها أن محطات المياه كانت هدفا لتسميمها من قبل المخربين ، أعداء الوطن والمواطنين ، وأخفها ما يقول أن المحطة المركزية تحتاج إلى إصلاحات وتحديث وتوسعة ، حرصا على مصلحة المواطن ورفاهيته .

ويتم تنفيذ ( السيناريو (كما رسم له بدقة متناهية ، وتعمّ جميع الأعراض السابقة على جميع أفراد الشعب ، من الكسل والخمول ، والإستهتار واللامبالاة ، من كل ما كانوا يسمونه بالأمس :  مبادئ ، صدق ، واجب ، وطنية .....   وغيرها ، وتنشط وسائل الإعلام ، بإجراء مقابلات مع زعماء الحركة الأخيرة ، بعد تقديم الضيافة المعسلة ( بالإكسير) زيادة في الأمان .

ويعلن الزعماء الجدد للأحزاب المستحدثة عن قصر نظرهم ، وضيق أفقهم السياسي ، وسوء تقديراتهم وخطا حساباتهم السابقة ، ويعترفون بسوء ظنهم ونواياهم ، ويعتذرون عن كل ما ارتكبوه من أخطاء سابقة في حق الحكومة الرشيدة ، ويبدون أسفهم الشديد وندمهم عما قاموا به من تأليب ضد الحكومة ، والتشكيك بمصداقية الإصلاحات التي قامت بها ، واعترفوا باشتراكهم لتنظيم أعمال العنف التي حصلت ، واغتيال مسؤول الأمن القومي ، ورصد سيادة الوالي ، وأبدوا استعدادهم لتقديم أرواحهم رخيصة في سبيل الوطن تكفيرا عما قاموا به من أعمال آثمة يندى لها جبين الحر خجلا، وبالمقابل فإن الوالي الأب الكبير وصاحب القلب الرحيم قد عفا عنهم ، وأصدر مرسوما أميريا بذلك.

وتستقر الأوضاع ويستتب الأمن ،  وتسير الأمور على ما يرام ، وينتفخ الوالي مزهوا مبتهجا ، وتعيش الدولة في احتفالات واسعة ، وآيات من السعادة والإبتهاج والهناء .

وقبل أن تكتمل تهنئة المسؤولين لبعضهم بعضا ، بعد أن هنأوا سيادة الوالي على هذا الفتح العظيم ، عبر جميع وسائل الإعلام ، المسموعة والمقروءة ، وبعد أن أصبحت هذه التجربة معلما حقيقيا رائدا ، وأنموذجا فريدا أمام العالم والرأي العام ، وقدوة لجميع الشعوب المقهورة .

بدأت الأوضاع تتردى في الدولة بشكل غير متوقع ، فساد إداري ، بطالة في العمل ، هبوط في كمية الإنتاج ، زيادة في الاستهلاك ، كسل وخمول وتواكل ، جيش محطم نفسيا لا يفكر في غير بطنه وشهوته ، وغير قادر للدفاع عن أمن بلاده أو أدنى حقوقه .

نفحات طاغوتية ( 4 )

شعرت حكومات الجيران كأن في الأمر لعبة ، وإن لم تدرك حقيقة السر المكنون ، إلا أنها أيقنت بحاسة شمها ، وأجهزة تجسسها ، أن الأمر تم بإسلوب أو بآخر لأبناء الشعب قاطبة ، كما تم لرجال الأحزاب ، وقادة الفكر من قبل ، وإن أخفقت في معرفة حقيقة الخطة ، لتستفيد منها في تدجين شعبها المقهور.

وبدأت الدولة الجارة ، في حبك خطتها ، وحياكة مؤامراتها ، لللاستيلاء على دولة الوالي ، وطرد حكومته الملهمة ، والتي لم يسلموا من نفحاتها ، مما أثار لهم المنغصات والشغب هنا وهناك ، نتيجة شعاراتها البراقة ، وديموقراطيتها المزعومة وحريتها المزيفة .

لم يكن الوالي وأجهزة أمنه في غفلة عن هذا ، فقد أحس بأطماع الجيران ، ومؤامراتهم للانقضاض عليه ، والاستيلاء على ملكه وكرسيه ، ولعله الأمر الوحيد الذي لا يقبل أي مساومة ، ودون ذلك الموت الزؤام ،وكل الموت ، ولجميع الناس .

 وفيما كانت الدولة الجارة تعد عدتها وتحشد جنودها حول حدود دولة الوالي ، أسرع والينا المعظم وكالعادة إلى عقد اجتماع طارئ ، مع علمائه ومستشاريه ، وكيف لا وعنده خيرة علماء العالم ومفكريه ، ودهاقنة المكر وأساطين السياسة   .

أيها السادة العلماء والمستشارون ليس عليكم من سر يخفى ، فأنتم عقول هذا البلد ، ومفكريه وسادته ، ولذا فليس عيبا أن أخبركم بأن أطماع الجيران قد بدأت تمتد إلينا ، حتى حشدت جنودها على حدودنا ، تفكر بالهجوم والانقضاض علينا ، بعد أن استطعنا تحويل كافة أفراد شعبنا إلى مواطنين مسالمين ، و أصبحوا قدوة لشعوب العالم ، وأنموذجا حيا فريدا للمعمورة كلها .

لقد ضاقت أعين الحساد ، وألهب الطمع والجشع مشاعرهم الحاقدة ، واستنفروا قواهم للاعتداء عيلنا ، بل وربما يفكرون -  لفرط  غبائهم - باحتلالنا ، وهم الذين كانوا بالأمس ينافقون لنا ويرجون رضانا ، ويتمسحون  ويتذللون لنا في كل مناسبة وحين .

ولنكن في نقاشنا صريحين كل الصراحة ، ماذا دهى أولئك الأغبياء السفلة ، حتى يتجرأوا علينا ، ويعدوا الهجوم لسحقنا ؟ .

استأذن أحد المستشارين بالكلام :  سيدي الوالي إنّ الكمال لله وحده

قاطعه الوالي  : دعك من الله وتكلم بالمفيد !

-  سيدي الوالي أقصد إن لكل أمر إيحابي بعض الجوانب السلبية  وإن دقت ، كجرعة الدواء تعطيها للمريض لتنقذه من مرض عضال أو خبيث قد يؤدي به إلى الموت ، فيشفى بهذه الجرعة ، لكن بعض الأعراض البسيطة والآثار الجانبية ، من مغص هنا أو حساسية هناك ، أو ارتفاع نسبة السكر في الدم أو انخفاض الضغط ، أوخمول أو كسل لا بد أن تحدث .

سئم الوالي من هذا الدورا ن والتحويم حول الموضوع ، فقاطعه مرة أخرى :  تكلم من الأخير يا سيادة المستشار .

سيدي الوالي لقد كان من بعض أعراض ) الإكسير) الذي قدمناه للشعب الكسل والخمول واللامبالاة ، وهذا ما أدى بدوره إلى تسيب واستهتار ، وفساد ...  لا...... لا... ليس تسيبا وفسادا بمعنى الكلمة .... إنه بوادر بعض التسيب والفساد .

-   كن شجاعا أيها المستشار وتكلم بصراحة عما تعتقد ، وعبر عن وجهة نظرك بشفافية ! ولا تنسى أننا جمبعا في خطر .

- إنه كما ذكرت يا سيدي أولا ، إن التسيب والاستهتار مع الكسل والخمول وتردي الأوضاع في البلاد ، والفساد في أجهزة الدولة ومؤسساتها قد فتح أعين الحساد الطامعين والمتربصين بنا ، ليفكروا بالنيل منا والتجرؤ علينا ، ولكن هيهات هيهات ، ودون ذلك الموت الزؤام لكل الطامعين والحاقدين ، وإن نجوم الظهر أقرب لهم من أن يتطاولوا على أظفرنا.

-  وكيف سيكون هذا ؟ هذا ما نريد معرفته .

استلم أحد دهاقنة السياسة ناصية الحديث :

سيدي الوالي إن الذي أعطى الشعب )إكسيرا) فحوله إلى شعب مسالم ، وديع كالخراف ، لا أظنه عاجزا عن إعطائه (إكسيرا(  آخر ليحوله إلى ثور هائج ...... أو نمر جائع ...... أو ذئب ضار..... أو أسد مفترس ، وهذه مهمة زملائنا العلماء .

-  وما رأي كبير العلماء في هذا المقترح ؟

 - الفكرة ملهمة ووجيهة يا سيدي الوالي ، ولكن تحتاج إلى جهد ووقت .

إن عهدي بك أقل غباء من هذا يا كبير العلماء .... أتقول الوقت ؟ كأنك لا تقدر حقيقة ما يحيط بنا من أخطار، أم الجهد ؟ فأين ومتى يكون الجهد إذا غاب الآن  ونحن نعيش أحلك الظروف وأشد الخطوب ؟  .

-  عفوك سيدي الوالي سنبذل قصارى جهدنا ليل نهار لنتمكن من تجهيز هذا (الإكسير) الجديد .

-   كأنك لم تستوعب بعد ما أقول يا كبير العلماء ؟ أقول لك الخطر يحدق بنا ، والخطب شديد ، وأنت تقول ستبذل الجهد ليل نهار ، كأنك تفكر في تحضير هذا ) الإكسير(  بعد أن تجتاحنا جيوش الأعداء ونصبح في خبر كان .

- عفوك يا سيدي الوالي ، والمعذرة عما بدر مني ، لقد أخطأت التعبير مرة أخرى ، أقصد هذا النهار والليل الذي يتبعه فحسب .

- ما رأي السادة القادة والوزراء والعلماء والمستشارون بهذا المقترح ؟

رفع الجميع أيديهم علامة الموافقة ، وصاح بعضهم :  إن ما تقوله هو لب الحكمة وعين الصواب يا سيدي الوالي .

- إذن فليكن هذا وباقصى سرعة لتحضير ) إكسير) الشجاعة ولديك ثلاثة أيام يا كبير العلماء ، للتحضير، والتجريب، والتجهيز ، ولتقم جميع الأجهزة واللجان ، الإعلامية ، والأمنية ، والسياسية ، لاتخاذ التدابير اللازمة لذلك وتهيئة الجو إعلاميا وسياسيا ، داخليا وخارجيا ، كما على اللجنة العسكرية اتخاذ الترتيبات والتدابير اللازمة ، والاستعدادات المطلوبة ، لاستيعاب واستقبال ، جميع أفراد الشعب والقادرين على حمل السلاح كمقاتلين أشداء من الدرجة الأولى .

تكللت مساعي السادة العلماء بالنجاح إذ حالفهم الحظ لتحضير)  الإكسير ( الجديد للتنشيط والشجاعة ضمن المهلة المحددة من سيادة الوالي ، فهو يخلق في النفس همة ونشاطا عجيبا ، ويحرك كوامن المشاعر حتى يهيجها تهييجا غريبا ، وبعد تجربته على الفئران البيضاء ليوم كامل ، وإعطائه النتائج المطلوبة من حركة الفئران الدائمة ، وقفزهم المتواصل ، وتواثب الذكور فوق الإناث ، والإناث فوق الذكور.

تم اعتماد ( الإكسير) الجديد المنشط وتم تسجيله ، كما تم تحضير كميات كبيرة منه ، ضخت مع مياه الشرب لثلاثة أيام إلى جميع الأنحاء ، وبعد قطع الماء -  كالعادة-  عن جميع المدن والأرياف والبوادي.

أما ما يخص الجيش ، الدرع الواقي ، فقد تعمدوا أن ينقلوه إلى جميع الثكنات والقطع العسكرية ، بنشاط منقطع النظير ، وقدم ماء باردا زلالا، أومضافا للمياه الغازية أو العصير .

وأما وسائل الإعلام فقد قامت بدورها خير قيام ، من تأليب للرأي العام الشعبي ، ضد أطماع الدولة الجارة ونواياها العدوانية ،  فقد ملئت الصحف بالمقالات التي تتحدث عن مصلحة الوطن ، وعزة المواطن ، والدفاع عن تراب الوطن ، والتضحية للدفاع عنه ، وتفضح النوايا العدوانية للدولة الجارة ، بسبب نظامها الشمولي ، وحكمها الإستبدادي ، وخوفها من تأثير تجربة الإصلاح والديموقراطية التي تتبناها دولة الوالي على مواطني الشعب للدولة الجارة المستبدة  ، وخوفهم من الإنفتاح على العالم الحر ، والعيش تحت النور ، لأنهم قد تعودوا العيش بعيدا عن النور والحرية ، تحت نير الظلم والإستبداد.  

 وتصدرت الصحف عناوين بارزة بخطوط عريضة ملونة حمراء وزرقاء ..... ومن كل الألوان:

 (حب الوطن من الإيمان )

 ) -  من مات دون أرضه فهو شهيد (

 - (الدفاع عن الوطن حق شرعي ، وواجب وطني(

) - جميعنا فداء للوطن (

- ( ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله)

في حين كان الجيش قد بدأ إعداداته وتجهيزاته بسرعة مذهلة ، واستقبل أفواج المتطوعين من المواطنين الأشداء الذين عمل مفعول ( إكسير) النشاط  فيهم مفعوله المرجو ، وقبل أن تكمل الجارة الطامعة إعداداتها ووضع اللمسات الأخيرة على خطتها في الهجوم ، كان الجنود قد عادوا إلى نشاطهم ، ثم ازدادوا نشاطا وشراسة وعنفا عما كانوا عليه ، وتحركت في نفوسهم مشاعر الوطنية الهائجة ، والتي دعمت بمسلسلات التوعية السياسية ، سواء في الإذاعة أو التلفاز ، أو كمحاضرات في الثكنات والمواقع ، فتولد في نفوسهم حب الموت في سبيل الوطن ، والذود عن حياضه ، والحفاظ على أرضه ، وصون شرف ابنائه .

لم يمض أكثر من أ سبوع على تلك التحولات الجديدة ، حتى قامت الدولة الجارة باعتدائها المرسوم ، مستمرة في خطتها ، مصرة على تنفيذ أهدافها من الاعتداء على دولة الوالي .

 وبدلا من انتهاء المعركة في عاصمة دولة الوالي وقتله ، انتهت في عاصمة الدولة المعتدية ، وهزم جيشها شر هزيمة ، وفر حاكمها إلى مكان مجهول .

وقد ساعد جيوش الوالي في هذا الانتصار الساحق ، بالإضافة إلى (إكسير) الشجاعة الذي حول الجنود إلى ثيران هائجة ، ما قامت به طائرات جيش الوالي برش الغازات النفسية المثبطة من )إكسير الوطنية ( السابق فوق جنود الأعداء مما ثبط الهمم ، وتسبب بهبوط المعنويات القتالية  بينهم ، وأدى بالنتيجة إلى التقهقر والاستسلام .

 واندفعت الثيران الهائجة من جنود دولة سيادة الوالي  ، إلى عاصمة الدولة المعتدية ، لاتدع طفلا أو شيخا إلا قتلته ، ولا محلا أو متجرا إلا نهبته ، ولا امرأة أو بنتا إلا وثبت عليها واغتصبتها ، حتى أحالوا المدينة إلى دمار ، وجللوا أهلها بالعار والشنار ، مذكرين بعهد هولاكو ونيرون .

وتناقلت جميع وكالات الأنباء الأخبار بحذافيرها ، وإن تباينت وانقسمت في التحليل والتعليق على ماحدث :

فمنهم من يرى أن كل ماقام به الجنود من قتل وخراب ، ونهب ودمار واغتصاب ، هو حق مشروع ما دام الأمر دفاعا عن النفس ، ورد اعتداء الدولة المجاورة ، والبادي أظلم .

ومنهم من يرى أن هناك حدودا يجب ألا يتعدوها ويتجاوزوها مهما كانت النيات ، ما دامت العبرة بالنتائج  هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ماذنب الشيوخ والأطفال حتى يقتلوا ،  وأصحاب المحلات والتجار من المواطنين العزل حتى تنهب محلاتهم وتحرق وتدمر مصالحهم ومصادر رزقهم ، والذين قد يكونون ضحية نظام أهوج ربما كانوا غير راضين عما قام به ، وهم في حقيقة الأمر مغلوبون على أمرهم ، حالهم حال جميع  المواطنين المقهورين في أنظمة الحكم المستبدة  ، وكذلك ماذنب النساء والبنات اللاتي اغتصبن ومثل بهن أو سيقت مع بعض الجنود كإماء وجوار، وما علاقة هؤلاء جميعا برأس النظام ، وسياسة البلد وتوجهاته ، أو نواياه العدوانية .

ولم تقف المشكلة في ماحصل وحسب عند هذا الحد ، ولكن الأهم في الأمر ما آلت إليه الأوضاع ، ومن هو القادر على كبح جموح هذه الثيران الهائجة ، وردعها عن أفعالها إن اقتنع بذلك .

ووصلت الأخبار بدقة متناهية مع جميع التفاصيل إلى الوالي ، وقبل عودة الجنود من أرض الجارة المعتدية بعد نصرهم المؤزر - والعاقل من اتعظ بغيره فكيف لا يتعظ بنفسه -  فدعا الوالي وكعادته عند الملمات والخطوب ، والأمور الجسام إلى اجتماع طارئ للسادة العلماء والمستشارين والقادة والوزراء . 

أيها السادة  العلماء والمستشارون والقادة والوزراء :  أهنئكم جميعا بهذا النصر المؤزر،  كما أهنئ نفسي وجميع أبناء وطننا الغالي وابنائه الأسود الميامين  ، وليكن ما حصل مع جيراننا المعتدين عظة وعبرة للعالم كله ، فإن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله  ، وإن السحر قد انقلب على الساحر .

ولكن ما أود قوله أيها السادة إن ) إكسيركم ) المنشط الجديد قد كان له الدور الأول والأساسي في دحر الأعداء وهزيمتهم ، لكنه لا يخفي عليكم مافعل جنودنا من فظائع في أرض العدو ، وليست المشكلة في هذا فهم يستحقون ما حصل لهم نتيجة بغيهم وعدوانهم ونواياهم الشريرة وأهدافهم التوسعية ، ولكن المشكلة في حالة جنودنا النفسية ، وكيف سيعودنا إلى أرض الوطن ، ومن القادر على كبح جماحهم ، وضبط تصرفاتهم ؟ .

لقد كان )إكسيركم ) المنشط فعالا ومركزا للغاية ، حتى حول جنودنا إلى وحوش مفترسة ، وقد حققت لنا كل ما نصبو إليه من رد أطماع الحاقدين ، وتلقين جميع المعتدين ، درسا لن ينسوه طيلة حياتهم .

لكن الهمجية التي زرعت في تصرفاتهم ، والشراسة التي تجلت في طباعهم ، والفوضوية التي أصبحت واقعا لهم ، والقتل ....والسلب .... والنهب ..... والتمرد .... والعصيان  .... كلها ستكون وبالا علينا إذا عاد الجنود إلينا وهم على هذه الحالة ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى فإن العنف والشراسة أصبحت ظاهرة جلية بل طبعا بين مواطنينا ، كأننا لا نخرج من مأزق حتى نقع في مأزق آخر ، كأن علمكم وتكنولوجيتكم ، أو  (إكسيركم ) هذا لا يعالج ألا حالة مرضية واحدة ، ويولد بعدها حالة مستعصية جديدة ، أو معضلة أخرى .

-  سأل أحد المستشارين المسنين المخضرمين ممن حنكته التجارب ، وعلمته الأيام ، بأدب جم وأسلوب مهذب :  وبماذا يأمر سيادة الوالي ؟

- أريد (إكسيرا ) يجمع بين الأمن والأمان ، إذ نريد شعبا مسالما وديعا ، حتى تستقر الأوضاع الداخلية ، ويبقى وضع البلد هادئا مستقرا ، ليتسنى لنا إكمال تجربتنا الديموقراطية وإصلاحاتنا الداخلية ! .

في نفس الوقت نريد جيشا قويا على أهبة الإستعداد للدفاع عن أرض الوطن وصون مقدساته ، والحفاظ على أبنائه .

هل أصبح طلبي واضحا يا سيادة المستشار العتيق؟ وهل تراه صعب التحقيق ؟

- لا يصعب علينا شيئ ياسيدي الوالي ما دمنا في ظل ولايتك الملهمة الرشيدة ، والإمكانيات والصلاحيات الواسعة التي منحتنا إياها ، وجود كرمك الذي يغمرنا .

-  فما تقترح من حل يا سيادة المستشار؟

- سيدي الوالي لقد استخدمنا (إكسيرنا ) الجديد بأكثر من أسلوب لمعالجة حالات الطوارئ التي صادفتنا ، وبغض النظر عن الآثار الحانبية التي حدثت فقد تم معالجة أصل المشكلة وتم إنهاءها ، ولكننا  كنا نستخدم لكل حالة نوعا واحدا من (الإكسير) للمعالجة ، وما أقترحه اليوم ، أن نقوم باستخدام أكثر من ( إكسير) لمعالجة الحالة الواحدة.