وكان بطلا

م. محمد حسن فقيه

[email protected]

ما زالت عباراته ترن في أذني ، وكلماته تتردد في ذاكرتي ونبراتها تقرع مسامعي ، وحركاته وإشاراته مطبوعة في خيالي، كأنما شخصه صورة حية تتراقص أمامي ، وهو يروي عن عمليته تلك ، حين انقض مع إخوانه البواسل يتصدون لسيارة تقل عناصر المجرمين من جنود الإحتلال ، المدججين بالسلاح والعتاد ، لمحاربة الحق وخنق الحرية ،  ولجم الأفواه وكتم الأنفاس ، ودوس الكرامة وسيم الذل والهوان ، وانتهاك الحرمات ، تحت نير احتلال عنصري بغيض .

ما زال الموقف جاثما في خيالي كأنما أشهده اللحظة ، لقد نسيت كل شيء ، حتى اسمي قد نسيته وغبت عن الدنيا وما فيها ، لم أعد أرى أحدا أمامي ولم أعد أسمع من كل أصوات الضجة التي تلتف من حولي ، غير ذلك الحداء الشجي الذي ينطلق من داخلي :

 (غدا نلقى الأحبة ، محمدا وصحبه ) .

لم أعد أرى ما حولي وأحس بكل ذلك الزحام ، والكتل البشرية المتراصة والمتدفقة من الناس الغادين والرائحين ، ولم يعد بصري يميز شيئا من خلال ذلك الثقب الضيق ، إلا نوعا واحدا من البشر ، أولئك الذين يلبسون تلك البذات المبرقعة وعلى رؤوسهم الخوذ الحديدية ، وهم يشهرون بنادقهم والشرريتطاير من أعينهم ، وأصواتهم المرتفعة بلكناتهم المميزة ، وهم يبحثون عني في كل اتجاه.

لم يعد تفكيري مشغولا ، إلا بكيف ؟ ومتى ؟ وكم لحظة بقيت حتى انكشف أمامهم فأفرغ رصاص مخازني في صدورهم الحاقدة ؟ ثم أرمي بتلك القنابل اليدوية لتنفجرحمما وشظايا في أجسادهم ، ليأتي أخيرا دور ذلك الحزام الناسف بعد أن يقتربوا مني ......

وأنتقل بعدها إلى جوار الحق رب السموات والأرض ، وألحق بإخواني الذين سبقوني على هذا الدرب اللاحب .

وبدأت تتوارد في مخيلتي وكأنها مطبوعة داخلها ، صور وأسماء  مصعب وعمار ويحي وخالد وعمر ....  و .....

لكن الله أغشى أبصارهم وأعمى بصائرهم ، فانطلقوا همجا كالمجانين مبتعدين عن مكاني ، وما إن غربت أشباحهم عن بصري حتى زالت تلك الصور من تفكيري ، وبدأت أشعر بتلك النشوة السماوية التي جللتني من لحظات تتبدد شيئا فشيئا ، وأهبط إلى واقعي الأرضي الموحل .

بدت حركة الناس أمامي واضحة جلية ، وعاد عقلي يفكر في أمور الدنيا وسفاسف الحياة .

كل هذا دار في خلدي عن صديقي القديم سريع ، لحظة مروري من أمام ذلك القصر المنيف ، والذي انتشر حوله أعوان الطغاة المحتلين ، والمدججون بالسلاح ، في كل زاوية وركن وشبر ، ليراقبوا كل صغيرة وكبيرة ويمنعوا حتى العفاريت من الإقتراب منه ! .

تابعت سيري وأنا أسرح في شرود طويل وأتذكر تلك الأيام الخوالي .

لا تتهور يا سريع وتتعجل في تصرفاتك ، لتكن تحركاتك محدودة ، لا تخرج من البيت إلا لضرورة قصوى ، لا تتردد على الأماكن المزدحمة والتي يتردد عليها زملاؤك وأبناء حيك .

كن حذرا ويقظا حيثما كنت ، انتبه جيدا وافتح عينيك وأذنيك حيثما حللت وتحركت ، لا تستغب عدوك أوتقلل من شأنه ، إحرص على نفسك رحمة بها وبإخوانك الذين ستدمرهم بالتأكيد بدون مقابل لو حصل لك مكروه لا قدر الله .

لم يلتفت سريع إلى كل تلك النصائح التي قدمها له إخوانه الأكبر منه سنا وقدرا ، ولم يعرها أي اهتمام وضرب بها عرض الحائط  وركبه الغرور ، واستغبى الظلمة من الأعداء المحتلين وأعوانهم ، خاصة بعد أن نجا من تلك الورطة بقدرة قادر ، يوم شك الأعداء المغتصبين بأمره وتلك الأموال المكدسة في حقيبته ، حين عزم على شراء بعض العدة والعتاد لزملائه ، لكنه أخرج للضابط المفتش بطاقة شخصية بغير اسمه بكل هدوء وضبط أعصاب ، بعد أن عمم اسمه على جميع مراكز القلق ، ونقاط التفتيش والحواجزالطيارة ، وعندما قام الجلاوذة بتفتيشه لم يجدوا بحوذته حتى سكينا صغيرة من تلك التي تستخدم في تقطيع الخضار، وأما عن الأموال التي كانت بحوذته فقد ادعى أنه ابن تاجر ، والاسم والكنية المثبتة على البطاقة تؤيد ذلك ، وهو في طريقه لشراء بعض البضائع لمحل والده .

وزاد غروره وانتفش أكثر ، حين نجا من الموت بإعجوبة ، عندما كان منطلقا مع رفيق دربه إلى بيته ، وفجأة انقض عليهم الكمين الذي كان يرابط داخل البيت من الجلاوذة العتاة وفتحوا عليهم أبواب جهنم برشاشتهم ، فخر شقيق روحه أبو مصعب ، مضرجا بدمائه ، بينما أطلق سريع ساقي غزال يسابق بهما الريح ، والرصاص ينهمر من حوله كالمطر العاصف من كل مكان ، ونجا سريع أخيرا ، فطار خبره وانتشر ذكره ، واشتهر أمره ، وذاع صيته ، ورصدت مكافأة مغرية لمن يدل عليه .

فطار صوابه ، وبدل أن يختفى ويتوارى عن الأنظار، ركبته الحماقة فوق الغرور، فتمادى في فوضويته أكثر، ختى أصبح يرى الأمور من فوق جبل شامخ مشوهة ممسوخة ، واستكبر على نصائح إخوانه ، وتمرد على الأوامر والتعليمات ، وسخر من مقولة (حكمة الشيوخ وتهور الشباب ) ورددها مرارا بتبجح سافر أمام الكثير : (بل هي  بسالة الشباب وجبن الشيوخ) .

وأخيرا وقع ما لا بد منه بد أن يقع .

لقد أكد لأولئك المجرمين العتاة ، ذلك المراهق الشقي - ابن حيه - حين كان يجوب معهم في سيارتهم العريضة ، بعد أن خان دينه وباع ضميره ، وداس كرامته بحذائه وانضم إلى طابور أبي رغال ، فقطع كل أواصر القرابة والمودة والجيرة بدريهمات قليلة .

أكد لهم أن ذلك الذي يسير متبخترا على يمين الشارع ، أنه سريع بدمه ولحمه وشحمه ، وإلا فهو مستعد لينفذوا فيه حكم الإعدام شنقا .

تقدمت السيارة باتجاهه وبادره قائد الدورية بلكنته المميزة وبصوت مرتفع عبر مكبر الصوت : قف وارفع يديك ، في الوقت الذي كان فيه الآخرون يصوبون فوهات بنادقهم إلى صدره ورأسه .

وكعادة سريع وقف وهو لا يعير الأمر اهتماما ، ضابط الأعصاب رابط الجأش ، ثابت القدم ، لم يتلعثم بكلمة ولم تهتز له شعرة واحدة ، حتى التقت نظراته بعيني ذلك الولد الشقي الذي يجلس معهم في السيارة .

وفجأة تغيرت نظرة سريع ، وتلونت سحنته ، وانقلبت الدنيا في ناظريه ، وأطلق ساقيه للريح ، لكن الرصاص إليهما كان أسرع ، فخر على الأرض مغشيا عليه .

  *                      *                      *

تأمل يا سريع تلك العينات التي أمامك ، وأنعم النظر فيها جيدا ، وما كان سريع بحاجة ليرفع بصره نحوها ليرى ، فقد سمع الكثير عن هذا المكان قبل أن يدخله ، ويصحب في جولة استطلاعية فيه ، سمع عن كل وسائل التعذيب الهمجية والوحشية ، من "الدولاب "، إلى السوط الحديدي اللين المجدول ، والذي ينزل على الجسد البشري العاري بلا رحمة ولا هوادة ، من حيوانات تدب على رجلين وقد عطل فيها كل إحساس ، وتبلد منها كل تفكير ، وتحجرت لديها كل عاطفة ، واندثرت منها كل قيمة وضاعت ، ومات فيها أدنى شعور بالإنسانية.

سمع عن أقفاص الرأس الحديدية ، وحقن القبل والدبر الكهربائية ، والمنفاخ الشرجي ، وحوض الماء المكهرب ، وخوازيق قوارير المياه الغازية .

سمع ورأى بعينه كيف تكسر العظام وتحرك من مواضعها ، وكيف ينتف الشعر ويحرق ، وكيف تقلع الأظافر وتخلع من جذورها ، وغلاية الكهرباء للجلوس عليها عند الإعتراف ، والطائر البشري التعيس المعلق في الهواء مشدودا من أطرافه الأربعة .

 رأى بعينه السل والجرب والهزال وفقر الدم ، وعايش أصحاب الأدمغة المغسولة ، وحالات الجنون والهوس والإنفصام والهلوسة والنكوص و......

ولاحظ العاهات الدائمة من الطرش والعمى والشلل .......

لكن أشد ما تأثر به وتكهربت له نفسه واتقبضت منه ، وارتعد له جسمه ، واعتصره الأسى حين تبادر إلى ذهنه ، دوس الكرامة وانتهاك الشرف ،  والإعتداء على الأعراض والحرمات .

سأله المحقق بلكنته العوجاء علام ترتجف وقد تغيرت ملامحك ؟ إننا لم نبدأ المشوار بعد يا عزيزي ليست تلك المناظر التي رأيتها غير المقدمات .

لقد قالوا عنك في الشارع الكثير ، وصنعوا منك بطلا خرافيا ، وها أنت تجلس أمامنا كالقط الأليف ، لكن يبدو أنك إنسان طيب وقد غرر بك الإرهابيون ........ هذا ما قاله سيادة المقدم عنك .

وأنا شخصيا لا أصدق الشائعات وأخبار الشوارع ، كل ما نسجوه عنك ودبجّوه خرافات وأوهام ، وإلا كيف أصدق الشائعات وأكذب نفسي  وأنا أراك أمامي ؟ .

وبعد أن رشف من الكأس الذي أمامه أضاف : إن لي بصيرة نافذة ، ونظرة لا تخيب في الرجال .

فما رأيك يا سريع؟ هل يليق بهذا الطول الفارع والشباب النضر ، والمحيا الوسيم ، والأيدي الناعمة ، أن تتعذب وتشقى وتلقى ضروبا وألوانا من التعذيب ما سمعت بها ولا خطرت لك ، وبعد كل ذلك  الذل والهوان وصنوف التعذيب ستقدم لنا كل ما نريد وزيادة ! تحت السوط ، وفي "الدولاب "، وداخل الحوض ، وفوق الغلاية .

أم ترى أنه من الأصلح  والأنسب والأمثل أن تقدم لنا ما نطلبه منك على طبق من فضة ، وأنت تجلس في غرفة المدير معززا مكرما ، أمام المدفأة الكهربائية ، وفوق الكرسي الوثيرالدوار ، ورجلا تلتف على الأخرى ، وكوب الشاي الساخن بيدك .                

ثم تأكد تماما يا سريع بأننا نعرف عنك كل شيء ، نعرف كل أعمالك الإرهابية والتخريبية التي غررت بها ودفعك إليها العملاء الحاقدون ، والتي خططت لها بتوجيهاتهم .

إننا نعرف كل تحركاتك ، وأماكن تنقلاتك ، والأشخاص الذين كنت تتصل بهم ، والتجار الذين منحوك الأموال ، والمخابئ والبيوت التي ترددت عليها واختبأت بها ، وأين كنت تنام ، وكيف تنام ....  ومتى تزور زوجتك وأولادك .

إننا نعرف عنك كل شيء ، فلا تحاول إخفاء شيء عنا ، وسنختبرك في ذلك ، ولوتبين لنا بأنك قمت بتمويه أو احتيال أو تورية أو إخفاء أي شيء عنا فلا تلومن إلا نفسك ، ويا ويلك عندها يا سريع ، وقد أعذر من أنذر! .

ومضى سريع في تفكير عميق واجما  ، دون أن ينبس ببنت شفة . نظر إليه المحقق ، وهو يهز برأسه : إنها معادلة صعبة على كل حال، لقد غررت كثيرا ، وغسل دماغك حتى النهاية مع أولئك الإرهابيين ، معك الحق في أن تفكر، إنها نقلة بعيدة وقفزة عالية ، لكن المعدن الأصيل لا بد أن يعود إلى طبعه ، ويكفّر عن أخطائه ، ولوقدم نفسه قربانا لذلك !!

لا.... لا ترتعد هكذا يا سريع لن نمسك بأدنى سوء ، ولن تمد يد إليك إن صدقتنا وطاوعتنا وعدت إلى رشدك وأخبرتنا بكل ما تعلم .

لديك يوما كاملا للتفكير ....والندم ....والتكفير، لتلتقي بعدها بسيادة المقدم وجها لوجه ، ولا أظنك تريد إيضاحا أكثر من هذا ، فالمعلومات تقول عنك : نبيه ولمّاح .

وقبل انتهاء مهلة اليوم وبينما كان سريع في شرود طويل وتفكير عميق ، وتقليب معادلات معقدة ، قام أحد الجنود بسحبه من زنزانته الإنفرادية إلى صالة صغيرة للإنتظار ، لا يعرف من ينتظر وإلى متى سيكون الإنتظار، وفجأة وبينما كان سارحا في تفكيره العميق ......      

- من أتى بك يا امرأة ؟ وكيف دخلت ؟ هل اعتقلوك  ال....؟ 

- لا ... لا تنطقها يا سريع ، إطمئن أن والدي معي وهو في انتظاري، إنه يجلس مع سيادة المقدم ، لقد ذهب بنفسه وشخصه إلى بيتنا وطلب منا الحضور لنطمئن على حياتك بعد أن ألححنا بالسؤال عنك ، وقد أكد لنا أنك بخير وصحة جيدة ..... وسنعود إلى البيت بسيارتهم إذا صدقت معهم وقدمت لهم ما طلبوه منك .

التفت إليها سريع بنظره دون أن يرد جوابا .

وبلهفة الزوجة الحنون سألته : طمئني عنك وعن أحوالك ، صحتك ، أوضاعك ، نفسيتك ؟ هل ضربوك ؟ هل عذبوك ؟ هل أهانوك؟ هل منعوا عنك الطعام والشراب يا زوجي الحبيب ؟ إنطق يا سريع ، ماذا دهاك ، تكلم بالله عليك .

رفع إليها بصره وهمّ بالكلام ، لكنه وقبل أن يبدأ أطبق فمه وجمدت نظرته فوق عينيها ، بينما كانت تصغي إليه بكافة جوارحها وجميعها آذان صاغية .

مالك يا سريع لماذا صمت ثانية ؟

أجاب بصوت ضعيف : لا .... لا تقلقي يا امرأة إن أحوالي ما زالت بخير ..اطمئني .

- إسمع يا سريع إن سيادة المقدم قد أخبرنا بأن مصيرك بيدك ، فأنت بكلمة واحدة تقرر حياتك أو موتك ، سعادتك أو شقاءنا ، كرامتنا أو ذلنا ، عزتنا ونعيمنا  أو بأسنا وفقرنا !! أصحيح هذا يا سريع ؟ علام تتردد إذن ؟ أخبرهم بكل ما يطلبوه منك ، بل إنهم يعرفون كل شيء ، ولا يطلبون منك إلا من باب التأكد والتمحيص ، لقد غرروا بك وعانيت من أولئك ما عانيت ، وأشركتنا في كل ذلك الشقاء ، ولا طاقة لنا لأكثر من ذلك .. إن الأولاد بانتظارك ، وجميعنا بحاجة إليك.

 شخص سريع إليها ببصره شاردا وهو يغوص في تقكير عميق ، وموازنة قاسية ، ومعادلة صعبة ، ثم هز برأسه هزات خفيفة دون أن يتفوه بحرف واحد .

أمسكت به ، هزته من كتفه بعنف ..... إسمع يا سريع : إن سيادة المقدم قد يضطر لاستضافتي عندهم إن بقيت صامتا هكذا ، وهو لا يريد ذلك - هكذا أخبرنا - فلا تجبره يا سريع .... إياك أن تنسى هذا ، نحن بحاجة إليك .... إن أحمد وماجدة بانتظارك ، لقد وعدتهم بأن أحضرك معي فلا تتأخر في الرد ، لقد أخبرتهم أنك في سفر بعيد وسوف تعود معي .... فلا تحرج سيادة المقدم أن يمسحك من وجه البسيطة ، ويحرم أولادنا مني ومنك .... ومن العائلة جميعا ....لا بد أن تعود إلينا ، إياك أن تنسى هذا ياسريع ، لا بد أن تعود إلينا .

ومضت تغادر الغرفة ، بعد أن انتهى وقت الزيارة ، والدموع تغرق خديها ، وهي تردد عبارتها الأخيرة بهستيرية وصوت مرتفع : لا بد أن تعود إلينا ، نحن بانتظارك ، كلنا بجاجة إليك ، ولو استضافوني عندهم ، لضعت أنا ، وأنت ضائع ، وضاع الأولاد ، إياك أن تنسى هذا يا سريع .   

جلس سريع وحيدا واجما ،  بعد أن أعادوه إلى زنزانته الإنفرادية ، كان مطرق الرأس يقلب الأفكار وقد بدا القلق على وجهه، والهم يطبق عليه  ، وغابت عن سريع في تفكيره مسلمات وحقائق ، وتركز تفكيره على النتائج الأرضية  العاجلة ، متناسيا حقيقة الوجود ، غافلا عن عدالة السماء وخلود الآخرة ، وإرادة الله العليا التي لا يعلوها شيء ، ولا يبدل قدره قيد أنملة قوة الأرض قاطبة .

وهوى العملاق الشامخ في الوحل والطين ، يدوس تلك المبادئ السامية التي تربى عليها ، وعاش في رحابها سنين طوالا، حتى صنعت منه ذلك البطل المرحوم .

وتم الإجتماع المنتظر مع سيادة المقدم وجها لوجه ليقدم له كل ما بذاكرته ، ويبدي أسفه وندمه وتوبته  تكفيرا عن كل ما قام به ! ويتناسى تلك المبادئ السامية التي تمسك بها وصاغت منه بطلا في السابق ، ويسخر من نفسه ، ويستخف من تفكيره السابق ، ويبدي استغرابه كيف غرروا به وضللوه ، حتى بدت له الأمور مقلوبة ، لا شك أنهم سحرة ، بل هم أشد من السحرة !.

 وتتالت الإجتماعات وبعد كل اجتماع كان يهوي إلى الحضيض أكثر فأكثر ، وكان دماغه يحشى بالسفاسف والمغالطات.

وبعد أن غسل دماغه وحشي بالزيف والأوهام ، وأفرغ كل ما بجعبته ، وترتب على ذلك ما ترتب من إعدام الرجال ، وتشريد الشباب ، واعتقال الأحرا ر ، وتيتيم الأطفال ، وترميل النساء ، وخراب البيوت العامرة .

لم يخطر له حين ذلك أن يسأل نفسه ، وما دار بخلده علام يعدم الرجال ، وتخرب البيوت وتنتهك الحرمات ، وتهتك الأعراض ، ويدنس الشرف ، وهو السبب في كل ذلك .

إن الحلم الذي أملوه به قد أنساه كل شيء وأعمى بصيرته.

ولم يسأل نفسه ؟ إنه قدرهم ، أليسوا مؤمنين موحدين ؟ وهذا قدر الله عليهم ..... ! .

ولم التفكير في هذا الأمر، وكدّ الذهن ، وقد دنا تحقيق الأمل المنتظر والوعد المنشود في إطلاق سراحه ، ليتنسم عبق الحرية .

وانتقل سريع بعدها إلى مرحلة انتقالية ، من السجن المظلم والزنازين الضيقة ، التي تعج بالقمل والبراغيث وهوام الأرض، وتنطلق روائح العفن والصنان من جميع أرجائها ، إلى سجن كبير فخم لكنه كان يعج بالألفاظ النابئة ، والشتائم القبيحة ، والكفر البواح ... والسكر والعربدة بين جميع عناصره ، في مبنى مركز الأمن نفسه في المدينة ، ومنح سريع غرفة مستقلة في جناح وثير مع أمثاله الذين سارواعلى شاكلته ، وسقطوا سقطته .

لقد أكد لهم سيادة المقدم بأن هذه المرحلة ليست إلا فترة انتقالية لإطلاق سراحهم بعد أن تتطهر نفوسهم ، وتسمو أخلاقهم ، ويعودوا إلى تفكيرهم السوي ، ويتخلصوا من السفاسف والترهات ، التي حشا به المخربون أدمغتهم بعد أن غسلوها .

وما عليهم إلا أن يثبتوا الجدارة في هذا المضمار، وليس مقياس الجدارة والتقدم في هذا المضمارنحو إطلاق الحرية ، إلا بمقدار ما يتفاعل كل منهم مع يدعى الأجهزة الأمنية لهؤلاء المحتلين الظلمة  لتحقيق الحرية والديموقراطية  المنشودة كما يزعمون ، والتي لا تتحقق إلا بالإخبار والكتابة عن الإرهابيين وتحركاتهم ، وطبائعهم وأعمالهم ، والمتعاطفين معهم ، وأن الوطن ما يزال بخير ما دامت سلطات أمن المحتلين وشلة أبي رغال معهم ، تداهم أوكارالمخربين ، وتدك قواعدهم ، وتقتل شبابهم ، وتيتم ، أطفالهم ، وترمل نساءهم .

ولن يتم الإفراج عن سريع وزملائه ، إلا بعد أن يتحولوا إلى مواطنين صالحين ، شرفاء يسعون إلى مصلحة الوطن وأمنه ، وملاحقة المجرمين والمخر بين من الإرهابيين القتلة - على حد تعبيره - لتتطهر منهم البلاد جميعا ويعم الأمن والاستقرار في ربوع جميع أنحاء الوطن ... المغتصب ! .

لقد كان كل ما تحتويه الغرفة التي ألقوه بها - عدا جدرانها الأربعة - طاولة خشبية صغيرة ، وكرسي خيزران ، وإبريق ماء ، وكوبا زجاجيا ، ودفترا صغيرا ، وقلما جافا ، ونوافذ مفتوحة تطل من خلف القضبان الحديدية الغليظة ، والفتحات الصغيرة على شوارع المدينة البائسة المنكوبة .

وما على سريع وأضرابه ، إلا أن يجلسوا ليتذكروا أسماء وشخصيات وأحداثا ، ثم يزدادوا تذكرا ، ثم يتخيلوا، ثم يحلموا ، ثم يتوهموا ، ثم يفتعلوا، ثم يختلقوا ، ثم ينسجوا، ثم يدبجوا ، ثم يحبكوا الحوادث ، ثم يركبوا عليها الأسماء ويلبسوها لأشخاص ما عرفوهم أو سمعوا بهم ، والحاذق الألمعي فيهم المرشح للإفراج عنه قبل غيره ، من يتفوق على أقرانه في النسج والحبك والإيقاع بالأبرياء العزل .

واستطاع سريع بذكائه المتميز وألمعيته الفذة ، أن يتفوق على أقرانه بيسر ، ويحظى بمرتبة عالية وثقة كبيرة عند سيادة المقدم ، بفضل تقاريره الطويلة المنسوجة ، وأخباره الهامة الثرة ، الممتلئة بالشخصيات والأسماء والحوادث الكبيرة .

وأصبح من حق سريع - وليس لغيره ذلك - أن يدخل على سيادة المقدم في أي لحظة شاء إذا تذكر اسما أو شخصا ، أو حدثا ليخبره حالا وتتخذ الإجراءات اللازمة في حينها ، ولا يتأخر الأمر ، ولا يبيت الخبر ، كما أصبح من حقه أيضا أن يستقبل زوجته وأولاده لزيارته كل أسبوع .

لا بد لكل بداية من نهاية ، ولكل سلسلة من خاتمة .

فكر سريع طويلا كيف يخرج من هذا السجن الضيق ليتنفس عبق الحرية ، ويتحرك بين أهله وخلانّه ، كما يحلو له ويهوى ،  وكاد أن يحار في أمره ، ويسقط في يده ، ويطبق عليه الهم ، لولا أنه اهتدى أخيرا إلى طريقة ذكية للخروح من هذا السجن بعد أن نفد كل ما عنده، وأفرغ كل ما في جعبته .

سيدي المقدم : إن الحياة الرتيبة التي أحياها داخل هذه الغرفة ، وما أراه أمامي من جدران ومنضدة وكرسي  وكأس وإبريق ماء و.... ، إنه يتكرر أمامي في كل لحظة  ، لقد تذكرت كل ما استطعت تذكره من خلال هذا الجو، وداخل هذه الغرفة ، وأرجو أن تسمح لي سيادتكم، بإبداء الرأي وتقديم وجهة النظر، آملا أن تلقى القبول منكم ، وأحقق من خلالها المصلحة العامة العليا ، للحفاظ على أمن وطننا المشترك واستقراره ، وملاحقة المجرمين الإرهابيين في كل مكان .

- تفضل يا سريع ، وهل رددت لك طلبا منذ حللت ضيفا  كريما علينا في هذا المبنى ، وصدقت معنا .

- عفوك يا سيدي ، لقد أخجلني لطفك ، ولكن مقترحي هو مجرد رأي ووجهة نظر وأرجوا أن ينال القبول منكم ، وإلا فانسوا الأمر من أصله .

- تفضل يا سريع ..... تفضل ! .

- سيدي المقدم : لدي اقتراح بمتابعة المخربين في بيوتهم ، والتجول في الشوارع بينهم ، حتى يتسنى لي تذكرهم عندما أمر بأحدهم ، أو أجلس في مكان يذكرني بشخصيات وحوادث واجتماعات ، أو أرى حالات وهيئات تذكرني بهم ، فلقد خبرت أسرارهم ، وعرفت أشكال الكثير منهم وهيئاتهم ، وأماكن ترددهم ، بل وطبيعة سيرهم في الشارع ...... إني أشم رائحتهم من بعد ميل .

ربت سيادة المقدم على كتفيه وهو يبتسم ، ثم التفت إليه قائلا : أحسنت يا سريع لو صبرت علي  ساعة لبلغتك بأكثر من هذا الأمر رسميا .

لقد صدرت الأوامر من الجهات العليا الأمس بالموافقة على طلبي شخصيا ، وقرروا الإفراج عنك بعد أن اجتزت كافة الاختبارات وتخطيت كل العقبات ، وأثبت جدارة فائقة ، وحظيت بثقة مطلقة عند الجميع ، وبذلت كل ما بوسعك لتحقيق المصلحة العامة العليا للوطن ! .

ولكن أنّّى لك أن تتنقل وتتابع الإرهابيين بعد أن نفرج عنك ، هل ستتفرغ للبحث عنهم في المحلات والشوارع ؟ ثم ماذا سيقول عنك الناس ، وكيف ستعيش ؟ نحن تهمنا سمعتك وكرامتك ! لقد أصبحت واحدا منا ، بل إن خدماتك فاقت كثيرا بعض ضباطنا ورجالنا ، إسمح لي في أن أفكر لك في طريقة مناسبة لتخرج بها من ضيافتنا ، ثم تلتفت إلى عمل محترم تحقق من خلاله مصلحة الوطن ! وتساهم في ترسيخ أمنه  ، والحفاظ على وحدته من عبث العابثين والإرهابيين .

  كان اسم سريع في رأس القائمة ، التي أصدرالقائد العام لجهاز الأمن  مرسوما بالإفراج عنهم بمناسبة العيد الوطني لتأسيس الدولة ، والذي هو في حقيقته يوم دخول القوات المحتلة للبلد ، والذي أعتبر اليوم الوطني للبلاد ! .

واستقبل سريع من أهله وزوجته استقبال الفاتحين ، وشارك في هذا الإستقبال كل المنافقين والدجالين والمداهنين ، والنافخين في كل بوق، والسائرين مع كل ركب ، لكنه لم يحظ بكلمة ترحيب واحدة من جميع الناس الشرفاء ، أصحاب المبادئ والقيم الإنسانية ، وإن كان بعضهم لا يستبعد أن ينسج عنه سريع  ويدبج تقريرا ، يتهمه فيه بالإرهاب والتخريب ، أو الخيانة والعمالة لجهة خارجية ، ويصوره لأسياده بأنه مجرم ومخرب ، أو جاسوس وعميل للأنظمة الرجعية ، أوينتسب لمجاميع إرهابية تشكل خطرا على الانسانية ، أو يدبر محاولة انقلاب لتطيح بالنظام الديموقراطي الحر الجديد القادم من بعيد من خلف البحاروالمحيطات ! .

وأمام سمع الناس ، وكما تم الاتفاق مع سيادة المقدم ، تظاهر سريع بحمله مبلغا من المال استلفه من والده ليشتري به سيارة أجرة يعمل بها داخل المدينة ، وعاد سريع في نفس اليوم وهو يقودها وعقد البيع معه .

 ولو تأملها  وأنعم النظر فيها المداهنون والمنافقون لعرفوا كما عرف الحاذقون ، أن السيارة التي أحضرها سريع ليست إلا سيارة زميله السابق فواز سعيد ، من قرية المنصورة المجاورة لقريتهم والتي استولى عليها أسياد سريع كما استولوا على جميع أملاكه ، بعد أن خانهم الحظ في اعتقاله ، وفشلوا في محاولة قتله ، ولم يتغير في السيارة غير الدهان الجديد الذي صبغوها به بعد تغيير اللون ، ورقمها الخصوصي الذي تحول إلى رقم سيارة أجرة .

وعاش سريع بعد ذلك مع زوجته وأهله  وأولاده ، كئيبا حزينا ، تلازمه عقدة الخوف من المجهول ، والشعور بالذنب ، وعذاب الضمير، يظهر أمام الناس بابتسامة شاحبة صفراء ، ويخفي في نفسه تعاسة وشقاء ، وبخاصة عندما تلتقي عينه بأولئك الذين عرفوا عنه كل شيء، ولا ينظرون إليه غير نظرة الإزدراء والإحتقار، لا يحفلون به ، ولا يعيرونه أدنى اهتمام ، أو أقل وزن ، ويتجاهلون وجوده  تماما ، رغم كل كلمات المجاملة والنفاق والمداهنة ، والتمسح التي كان يغدق بها عليه أولئك الفارغون .

وإن كان ينتقم بين الحين والآخر من أولئك الرجال - عندما تأخذه العزة بالإثم - بتقرير يرفعه إلى أسياده ، ويدبج وينسج عنهم ما يشاء وما تسول له نفسه الحاقدة وخياله المريض .

لقد فرغت جعبة سريع تماما ، ورمى بكل أسهمه ، ولم يبق في تقاريره إلا الأخبار التافهة السخيفة ، والكذب الواضح الرخيص ، والإفتعال المكشوف ليوقع ببعض خصومه ، ولدى سيادة المقدم من هؤلاء الكثير .

وقد فهم سيادة المقدم وأسياده تماما طبيعة سريع وتقكيره ، وواقع شخصيته وحقيقته ، في الوقت الذي لم ينسوا فيه بعد ، ما قام به سريع من أعمال فيما مضى ، بما في ذلك سيارتهم التي دمرها مع زملائه السابقين ، وزميلهم النقيب الذي قتل فيها إضافة إلى الذين جرحوا ، وغير ذلك الكثير .

لا أمان لعدو ، وقد آن للمسرحية أن تنتهي .

استيقظ الناس ذات يوم مبكرين على أصوات السيارات الحكومية بحراسة سيارات الإحتلال ، وإطلاق الرصاص في الهواء ، ليشاهدوا موكبا ضخما من السيارات الممتلئة بالجلاوذة ، تتقدمها سيارة إسعاف، فوقها صندوق ملفوف بالعلم الجديد الذي غيره المحتلون ، وقد نقش على التابوت : سريع عايد ، وداخله بعض أشلاء سريع .

أما سيارته ، فقد أصبحت كومة من حديد ، على يمين الطريق العام المؤدي إلى المدينة  ، بعد أن سحقتها سيارة شحن ضخمة ، بعد منتصف الليل ، حين كان سريع عائدا من المدينة ، بعد حفلة سمر طويلة وعميقة مع سيادة المقدم وزملائه ! .

وللأسف الشديد ، لم يعرف صاحب سيارة الشحن التي دهسته ، أويتبين رقمها حسبما دون في ملف التحقيق للحادث .

 وما زالت الحادثة مقيدة في المحضر الذي أقفل ضد مجهول !.