بوح القصبة 2

فصل من رواية «بوح القصبة»

محمد الهجابي*

[email protected]

يحسبُ من حظيَ بمجالستها، قبل هذا الزمن، أنّه في حضرة امرأةٍ خارجةٍ من عباءة الحريم السلطاني. لا تتكلّم إلاّ بمقدارٍ معلومٍ. في كلامها غير قليلٍ من التلميح. لا تصرح سوى فيما ندر، ساعة اللزوم بخاصةٍ. قلّما أكثرت من الإجابات. من تحادثه يظنّ أنّها بأسرار اللغة العربية فقيهة، فيما هي لم تجترح فصيح الألفاظ التي تتداولها إلاّ من السماع. تعشق الإنشاد والتلاوات، وتهوى الأمداح والتراتيل. تظلّ داخل مقصورتها تصغي، اللّيل كلّه، إلى القوم، وهم في حال من الغيبة والسّكر. تجعلها الترانيم المترددة والمتكررة، إلى ما لانهاية، غائبةً عن نفسها، تنشد مع المنشدين. وتغلبها قوة الحال، أحياناً، فتنهض من موضعها، وتأتي بحركاتٍ كالجذبة، وما هي بها، ولعلّها لا تزيد عن الترنّح بالرأس ذات اليميـن وذات الشمال.

 كان سيدي التهامي قد حبس الغرفة السفلية الباذخة، بالدار الكبيرة، لتنظيم ليالي السماع. فالرجل منتسب إلى الطريقة الناصرية، التي مبنى سلوكها على الذكر بالجلالة، وإقامة السماع بشروطه اللاّزبة. وكان جده صديقاً حميماً للشيخ المكي بن الشيخ ابن سودة، قاضي البيت السودي بهذه القصبة، وعنه أخذ الطريقة. ولهذا الغرض كان ينتخب فطاحلة الإنشاد، وجهابذة الترتيل.

 جوار الغرفة، في المقصورة ذات التزاويق، والنقوش البديعة، كانت لالة هيبـة تقيـم، لوحدها، في انتظار انطلاق إنشاد الأوراد. يعرف سيدي التهامي أنّ المرأة لن تفارق المقصورة دون أن تكون قد أصابت بغيتها، فهي لا تملّ المقام، فتهجر. هذا الولع لم يجئ بفعل الدأب، بل نشأ معها بالفطرة. كلّ الألفاظ اللغوية التي تتخلّل أحاديثها، إنّما وردت من هذا العشق. ثمّ إنّها تستظهر مقاطع طويلة من الأوراد عن ظهر قلب، حتّى أنّ المرء لا يكاد يصدق الخبر القائل إنّ لالة هيبة لم تلج المسيد، وما ماثل، أبداً. وحقاً، فالمرأة لم تداعب قلماً، ولم تناوش حرفاً، وهو شيء حزّ في نفسها كثيراً. لكنّ، كلّ ذلك، لم يمنعها من امتلاك أذن ترى، وعين تسمع، فضلاً عن ذهن فطن، وذاكرة ثاقبة، وحس مرهف. تنصت إلى اللّفظ بكامل جوارحها، تحتفي به دخيلتها. وعندما ينحت له مستقراً في ذاكرتها، فلكي لا يغادرها بالمرة.

 كلّما وسعت السعدية في سرد شمائل المرأة زدت أنا بشخصها إعجاباً. الإعجاب المشمول بالرهبة. بيد أنّني، في الوقت ذاته، ألفي نفسي مجبراً على استفسار السعدية عن مصادر خبرها. تقول إنّ كلّ ما تسرده إنّما أفضت به إليها لالة هيبة عينها، ومنه ما أفضى به إليها الـزلفة، وأنّ ما تحكيه عن المرأة ليس بسرّ وجب كسفه، مثلما ليس بمعرّة ينبغي تحاشي النطق بها. فكنت، من جهتي، أنصت إلى مرويات السعدية، وأصدق.

 وللحقيقة، أقول إنّ ما خصتني به السعدية من روايات عن لالة هيبة لا يختلف، من حيث الروح، عمّا ذكرته لي الزهراء، ولاسيما حينما رحت أطلب ودّها تكفيراً منّي عمّا اقترفـت، في حقّها، من ذنوب. وصحيح، أنّني تفاديت مجالسة لالة هيبة في العديد من المناسبات. وعلى ما للمرأة من هوى في نفسي، فقد وجدتني أبحث، دوماً، عن رائزٍ، أو مسـوغٍ، أو مبررٍ، أتعلّل به لتحاشي التحادث معها.

 عقدُ النكاح وحده، على ما أظنّ، هو الذي جعلني أفتّش عن مسربٍ إلى الجلوس إليها. قد يكون في هذا بعض من المبالغة، ولربّما بعض من مجانبة للصواب حتّى. بيد أنّه، مع ذلك، ففي ما أزعم غير قليلٍ من الحقيقة. ومن ذلك، أنّ العقد يبطن خبراً بزواج سيدي التهامي من لالة غيثة. ومن ذلك، أيضاً، وجود رسالة أسرت فضولي، من الوهلة الأولى، موجهة من مرسل يحمل اسم يحيى بن التهامي الفاسي إلى مرسل إليه هو سيدي التهامي بن الحسن الفاسي. مضمون الرسالة إخبار بالوصول إلى ديار باريز، والتسجيل بجامعة السربون. لكأنّ الرسالة جاءت لتسند حدوسي في أنّ الرجل أخفى عن لالة هيبة وجود ابن من صلبه، ومن امرأة أخرى. أذكر أنّ لالة هيبة قالت يوم سلمت إليّ المفتاح إنّ الصندوق، إيّاه، لم تطأه يدٌ، ولا نبشت فيه عينٌ منذ وفاة المرحوم، وأنّ الرجل أوصى بمحتوياته خيراً، وألحّ على أن لا يفتح الصندوق إلاّ غريب ذكر. لعلّي الآن فقط، أدرك مغزى الوصية. الغريب عابر، في حين يظلّ القريب لابداً. ومن ثمّة، فهو مبعث إزعاج، ومنفث افتراضي للأباطيل، وترهات الصحاصح. الغريب يكشف، ثمّ يحمل السرّ في صدره، ويغرب، فهو مأهول بالرحيل. لكنّ القريب، بالمقابل، قد يسكن السرّ في بطنه، لردحٍ من الوقت، ثمّ لا يبطئ أن يجريه على لسانه، فيرتسّ الخبر في الناس على وفق الخبر المأثور.

 ليلة انفردت بلالة شافية، سألتها إن كان بمكنتها إعلامي بما تعرفه عن الدار الكبيرة. وكنت أعني استجلاء غوامض من سيرة حياة سيدي التهامي. كنت متيقناً من أنّ لالة شافية تعلم الكثير من الأسرار التي تتحصّن بها الدار، فللمرأة قدم راسخة بالقصبة. ولعلّها استطلعت أخبار الدار معاينةً. وليس الخبر كالعيان. ثمّ، وبحكم جنسها، وتجربتها، فهي أقدر على فكّ عقد ألسنة النسوة والرجال، معاً. شخصت إليّ ببؤبؤي حدقتيها البراقين طويلاً، وقالت محذرةً: لا تسبح في المزجور عنه، فهناك حدود تأبى التجاوز. وبعد أن رشفت من كأس الشاي، أردفت مبتسمةً: هات ما في جعبتك، أقول لك. ولمّا لم أخبر أنا بشيءٍ، أقفلت بالرفض باب الدار الكبيرة، لتفتح باباً أخرى، كما لو أنّنا لم نطرق الباب إيّاها قط. متأكد أنا من أنّ لسان الأنثى سبيل إلى ذاكرتها. وليس أمضى من ذاكرة أنثى. كلّ ما في الأمر هو أنّني مضطر إلى تحيين صبري، وترقب اللّحظة المواتية. فلم أغفل عن إشارة الرغبة في الكلام تلك من لالة شافية، حتّى وإن غطّت عليها بالإطباق المباغت، إنّما عددت ذاك الصنيع من الحاجة إلى حديث ليس له أن يستقيم كيفما اتفق، بل لابدّ له من مقدمات للتليين والتوظيب. ويكفيني، الساعة، أنّني ألقيت بالحصاة على صفحة الماء.

 كان الصيف في معمانه. وكانت القصبة قد بدأت تكتظ بمئات الزوار الأجانب والمغاربة. أحجام الكتل الآدمية، بمختلف السحنات والألوان، ومن الجنسين معاً، تجوب الدروب والأزقة، وتشغل كراسي الأرصفة والساحات، فيما هي ترطن، وتلغط. ولكأنّ القصبة خلعت عنها رداءً، ولبست آخر. جميع مرافقها المرتبطة بهذا الفصل جعلت تنشط أكثر. الفنادق. الدور المكتراة. المقاهي. المطاعم. المحلات التجارية. باختصار، مسالك القصبة، ظاهرها وباطنها، على السواء.

 حلا لي أن أمتشق منشفةً، وأنحشر ضمن الأفواج المتوافدة على الشاطئ، صباح يوم حرارته أقلّ من كاويةٍ، وأكثر من معتدلةٍ، ثمّ أغير على الرمل. على امتداد البصر استوى المصطافون فوق الرمل يزخون أجسادهم بأشعة الشمس، أو يستظلّون بالمزولات الشمسية، بينما راق للآخرين الاحتفاء بلطشات الماء المتماوج، ولسعاته الحيية. تعريت، وفرشت المنشفة على بسطة الرمل الدافئ، وتشبّحت عليها. علّقت عينيّ في السماء، وصرت أتتبع تشكلات سحابة فالتـة، لولا وجودها لكانت السماء صافية الأديم. ما تزال أمام الشمس ساعتان، على الأقل، لكي تتمركز في البهرة، فوق جبهتي مباشرة. حينها سيكون عليّ أن أغيّر من وضعتي، أو أطوي منشفتي تحت الإبط، وأنصرف. لكن، وفي انتظار أن يأزف أوان الحسم، باستطاعتي أن أختلس نظراتٍ إلى الأبدان الأنثوية، وهي تشيع البهجة في المكان. وتهيّج حيويات الجسد الذكوري. تفكّرت نساء عبرن جسدي، ورقمنه بخدوش أظفارهنّ، وأنشاء أرياقهنّ، فأغمضت جفني متلذذاً بصورهنّ إذ تقتحم الحواس جميعها. ثمّ لم أعد أرى شيئاً. وعند حدٍ معينٍ، انتصبت واقفاً. كانت الشمس فوق رأسي. وعلى الكرنيش، وأنا ألاحق بمجساتي تضاريس الجسد الأنثوي، خيّل إليّ أنّني سمعت اسم فاطمة. التفتت، فلم أشاهد رسماً لها، ولا مناد ينادي بها. ثمّ عاودت سيري، لكنّ الاسم بقي يطرق مسمعي، كأنّه لا يكف يأتي. يخترق حجب باقي الأسماء، ويجيء مطمئناً إلى كونه أحكم الختم عليّ إلى الأبد. تفكرت فاطمة، ومشيت في اتجاه القصبة أبحث عن مليكة لعلّها تسكن حمم باطني التي طفحت. لا، ولا حتّى مليكة أظهرت أثراً.

 سأل ناصر: أين كنت يا رجل؟ قلت: بالشاطئ، كنت. كان يقتعد كرسي خشب بالصقالة، وقد أرسل رجليه ما بين قوائم الطاولة، حتّى أنّك لتلحظ عن بعدٍ أصابع قدميه تطلّ من مداسيه الجلديين، كما الحلزونات من صدفها. لم يكن يحمل سيجارة بين أصابعه، في حين خلا سطح الطاولة من أيّ مشروبٍ. هناك ما ينبئ أنّه يرغب في كأس قهوة وسيجارة. سامتته في القعدة، ثمّ ناديت على كأس وفنجان قهوة، وسجائر تقسيطٍ. كرع من كأسه، ودخن. ثمّ تهالك على مسند الكرسي، وخاطبني كما لو كان يكمل كلاماً لم ينقطع حبل وريده البتة: إنّها تودّ لو تزورها في أقرب فرصة ممكنة. سألت: من هي؟ أجاب: هي، لالة شافية، قبل يومين سألت عنك.

 هل كنت أتوّقع أن تطلبني؟ طبعاً. كنت أراهن على أن تفعل، وأنا أنصب الشراك تلك اللّيلة التي جمعتني بها. انتظرت حصول دعوتها لي. ولا يهمّ إن جاءت بعد عشرة أيام. وفي ضحوة اليوم الموالي، وقفت بوصيد باب الدار. وما إن طرقت طرقتين، حتّى أتاني، من الداخـل، صوت أنثى يمهلني، فأمهلته. ولشدّ ما دهشت لما وجدتني وجهاً لوجه مع مليكة. اللّعينة سطت عليّ، وقبلتني قبلة غميقة، ومشبوهة. ليس على خدي تماماً قبلت، وليس على فمي بالتحديد كذلك. ثمّ نمشت في أذني بأنّها استوحشت لي. وحينما مشت، تتقدّمني، تعيّلت، وتمعّجت داخل تنورتها، فاعترتني رعدة، وأحسستني أخطو فوق جمراتٍ حارقةٍ، فيما دمي النازف يبعث من تحت قدمي شواظاً له رائحة الفواجع.

 في الغرفة رأيت لالة شافية تحف بها حلقة من الإناث. توجست، من حضورهن على ذاك النحو، أنّ مؤامرةً نسويةً تحاك هنا، والآن. وجوههنّ، وهنّ يبصرنني، يفصح عن مخبرهنّ. تلكأت إلى الوراء، قبل أن أنكفئ راجعاً إلى الباب، تتعقبني لالة شافية، وهي لا تكفّ عن الاعتذار. قلت مقاطعاً: هذا خطئي أنا. وأردفتُ: سأعود بعد ساعة. الساعة التي أنفقتها هائماً على وجهي بين الدروب. ولمّا رجعت كانت لالة شافية قد صرفت البنات، حتّى مليكة غادرت. بالواقع، قضيت أكثر من الساعة في الخارج، لعلّي زدت نصف ساعة تقريباً. النصف ساعة بددتها بمقهى شعبي، أحتسي كأس شاي منعنع، وأتفرج على لاعبي الورق. المرأة طلبتني. والأصح، طلبت رؤيتي. وعليه، فمن المنطقي أن تكون هي من يبدأ الكلام. بيد أنّها لم تنبس ببنت شفة. وكان عليّ لكي أستميلها إلى الحديث أن أسأل. فسألت: أحقاً كان سيدي التهامي صاحب صناعة وزهو؟ حكت، يقال إنّه أصبح أمين حرفيي صناعة خشب العرعار غداة الحرب الكونية الثانية. تعلم الصنعة بمعمل المعلم عمر ولد العلج. وكان أبوه قد صاحبه معه، وهو لم يتجاوز السن الخامسة بعد، إلى معرض أقيم بالدارالبيضاء سنة 1915. وهناك وقف على أهمية الحرفة، التي حذق فيها فيما بعد، وأبهر. وقيل إنّ جملة تحفٍ عجيبةٍ، وفاتنةٍ، كان قد انقطع إلى صنعها قسطاً من الزمن، هي، اللّحظة، حبيسة إحدى غرف داره. وأشاع البعض أنّها تضاهي في جمالها وجودتها، رباب المعلم سلام ولد العلج، وخزانات المعلم عبد الله أحماد أوحماد، وصندوق المعلم أبو بكر بن عبد الوافي، والمائدة الفخمة للمعلم إدريس العنطري. فقد طعم الرجل مصنوعاته بعرق الليمون، وعود الطلح الأسود، وأصداف البحر ذات اللون الفضـي، تماماً مثلما فعل معلمه عمر ولد العلج. ويحكى أنّه سعى إلى خلق مائدة بديد مائدة "دوشايلا" التي عرف بها معلمه، لكنّه لم يفلح، إذ جاءت في قالبٍ مغايرٍ. على أنّ الرجل ظلّ وفياً للصنعة، لم يرض عنها بصنعةٍ بديلةٍ. ويذكر أنّه لم يبخل عن متعلميه بمعلومةٍ قط، وكذلك، متى استجار به أحد في فهم ما استغلق في الحرفة، واستبهم. وإلى ذلك، كان صاحب علم، ومعرفة، وقناءً كتبٍ، حافظاً للعتيق منها بخاصة.

 وحدّثتني لالة شافية عن طقوسٍ داوم سيدي التهامي على ممارستها. ومنها إقامة ليالي سماعٍ، وأخرى لطرب الآلة. وبدا لي أنّ جلّ الأخبار التي ساقتها لالة شافية عن الرجل فات لي أن سمعتُ بها الشيء الكثير من عند آخرين كإبراهيم، والطاهر، وعدد من الحرفيين. ثمّ إنّ تقاييـد ورسوماً، عثرت عليها، تؤيّد صحة هذا الجزء من السيـرة. فقـد حصلـت على شهادة تنويه سلمت إلى الحاج الحسن الحياني الفاسي على إثر مشاركته في معرض سنة 1915، ممضاة من قبل وزير الخارجية الفرنسي، وكذا المقيم العام المحلي. كما وقفت على رسائل متبادلة بين سيدي التهامي ومعلمين من عدّة مدنٍ، تهمّ جوانب تجارية. ومنها أيضاً رسوم ضرائب، وأخرى بمشترياته من عود العرعار، تعلّق الموضوع بالكايزة أو الكدرة أو ما شابـه.

 الذي أطلعتني عليه لالة شافية، على أهميته، لم يكن من الأنباء التي تغري فضولي. فقد رُمتُ أن تكلّمني عمّا يشغل بالي، فإذا بها تفيض بأخبارٍ تزيغ عن جادة هدفي. على أنّ ما أفضت به إليّ إنّما يشي بأنّ المرأة تلوب على مستورٍ. وكنت أثناء ما كانت، هي، تحكي، أروز في ذهني السؤال الموالي. السؤال الذي إن أحكمت عليه جمع كفي، تيسّر لي بلوغ وكدي. فسـألت: وكيف هي علاقته بالنساء؟ سددت إليّ نظرةً مقتحمةً، أجهرتني حدتها، ثمّ قامت من مكانها، وخرجت إلى الصحن. ومن قومتها الخاطفة، أدركت أنّني لامست بالسؤال الغاية. وتهيّأ لي أنّني أمسيت أقرب ما يكون إلى جلاء المحجوب. عادت تحمل كوبين، وقنينة بلاستيك بماء شروب. وهي تجلس، قالت: ألم أقل لك إيّاك والعوم في المحذور. وها أنت تلجّ، وتهفت. وعندما سوّت قعدتها، وتجرّعت جرعات ماء، رجمتني بعينٍ لاسعةٍ، وقالت: ليس باستطاعتي أن أقول أكثر ممّا قلت. حينها أيقنت أنّ المرأة إنّما تخمر أسراراً في كنّها لا تريد أن تكشف. لكن ما عتمت أن تداركت، وقالت: ألا فلتعلم أنّ زوجه لم تكن لتقبل شريكاً لها فيه.

 وأنا أخلف دار لالة شافية ورائي، أسلست العنان لخيالي. وظهر لي أنّ الطريق التي سلكتها في الفهم ستظلّ عصيةً على الطرق.

 لم تكن روابطي بالحرفيين بتلك المتانة الحميمة لكي يدروني بحقيقة الأمر. ثمّ إنّ القوم يحذرون جانب الأغراب في مثل هذه الشؤون. ولم يكن بإمكاني مفاتحة ولا واحدٍ ممّن تجسّرت علائقي بهم، لاعتبار أساسي هو صون عرض من ائتمنوني عليه.

 انتقيت إحدى الرسالتين اللتين تفيدان بوجود ابن من صلب سيدي التهامي، وقرأت: «الحمد لله الذي إذا دعي أجاب، ومتى سئل أعطى. فلقد قصدنا بمسطورنا هذا إعلامكم بما جد من أمر ولدنا الأرضى يحيى وهو في الديار البرانية بمصر فرنسة، إذ بلغنا أنه نازل في كنف صاحب لنا هناك يضمر لنا الاحترام لما كنا قدمناه له من جليل الخدمات آن كان بين ظهراننا بهذه الحاضرة، وجعلناه في منزلتنا منه، ينوب عنا في إسداء النصح والمشورة لولدنا وفلذة كبدنا، وقد قامت بيننا وبينه فراسخ وأميال لا تحصى. وورد إلينا من هذا الصاحب كتاب ينطوي على عسل بعض البشارات والإشارات ومنها أن الولد آخذ بالجد والاجتهاد، حافظ لما يملى عليـه، عارف بما يرسم لديه، حال لمقفل العلوم، فاتح لمشكلها، وأن المال الذي صرفناه له ليجبر به حاجته، ويفي به بغيته، من مأوى، وملبس، وكراريس، قد سلم إليه باليد على الوجه الأكمل. وإن هذا لمما يثلج الصدر، ويبهج الفؤاد. وعسى أن تسر هذه الأنباء لالة غيثة، ويكون جواباً شافياً لغليل أشواقها، وعليل قلقها. فصبر جميل والله على خلقه ساهر.».

 الرسالة تحمل تاريخ 26 نونبر 1960، أي عامين قبل وفاة سيدي التهامي. وهي غير الرسالة التي توّصل بها من لدن ابنه يحيى، التي يعلمه فيها بأنّه حل بباريز، وأدّى رسوم التسجيل بإحدى جامعاتها. والرأي عندي أنّ الرسالة التي خطها سيدي التهامي لم تصل إلى المبعوث إليه، بدليل وجودها في الصندوق بين باقي المراسلات والتقاييد، سليمة من أيّ خربشـة، مطوية على أربع. فلربّما كان الرجل ينوي إرسالها. لكن، لسبب ما، ارتأى الاحتفاظ بها لوقت. ولعلّه تردّد، في آخر ساعةٍ، فثناها، وضمّنها خزان أسراره، وأقفل. لا أحد يقطع بما جرى. على أنّ الرسالة، وإن لم تشر إلى الجهة المرسل إليها، فقد حوت معطيات لا ريب في أنّها تميط اللثام عن خبرٍ لست أدري حجم وقعه على لالة هيبة. هذا إذا لم تكن المرأة على سابق معرفةٍ به.

 قد أكون ممدداً فوق الشرشف، ساه أو غاف، وإذ تلكز نبرة صوتها طبلة أذني بواسطة أنصالٍ متفدرةٍ، ومهشمةٍ أحياناً، ومن خلل حواف ألفاظ ناتئة، أقرب هي إلى الحروف منها إلى الكلمات أحياناً أخرى، ألفاني أتلوى، لا أطيق وضعاً بعينه. تقول الزهراء إنّ هذه الوجوه إن تلبّستها، فلكي لا تبارحها إلاّ عندما ينهك منها الحلق، أو يجفّ منها الرضاب. لكأنّ المرأة تقاول أحداً، أو تنابز مجمع أشخاص. لا تكفّ عن الكلام. تشعر، وأنت تـرى إلى شفتيـها، كأنّما تختلجان على الدوام. ثمّة ذبذبةٌ تتعاور الشفتين لا تبصر بالعين المجردة. ومن داخل تلك الذبذبة تنبثق كلماتٌ كالدندنة، أو التجمجم. وإذا جاهرت، فإنّ أحاديثها تبطن فزاعاتٍ تهشّ بها على قوى تعدها ملموسة تنبض بحيويات الحياة. ولعلّه من حسن حظي أنّني قلّما تكافحت مع لالة هيبة بالدهليز. وحتى عندما أصادفها، كنت أكتفي بالتصبيح، أو الإمساء، ثمّ أنحجر في الغرفة كالجرذ. كنت أتهيّب من المرأة. في الحقيقة، لا أستطيع الإفصاح عمّا كان يجعلني أستعجل الانسحاب من أمامها. كنت اجلوذ، لكما لو كنت أخشى أن تحاصرني بسؤالٍ، ولا أجد له جواباً عندي، فيخبو نجمي عندها، وربّما استوصفتني ما تحصّلته من معلوماتٍ عن التقاييد والطـروس، وقد أضطر إلى مصارحتها بما أعلمه، وقت لا أزال غير واثقٍ بما أعلم، فتضجر هي، فيما أكون أنا قد أفسدت الحكمة من هذه المأمورية.

 أتخيّل المرأة، وقد خلت الدار الكبيرة من ترانيم الأوراد والآلات، وفرغت من حركات سيدي التهامي، ورائحة ابنتها حسناء، منتميةً إلى عالم أشباح. ثمّ إنّ داراً، بهذه الرحابـة، وصيتاً بسعة صيت الزوايا، لا شك أنّها منذورةٌ للمخفي، إن هي بارت، وتيببت. وأتصوّرني، كلّما استغورت الدار شبحي القسمات، هلامي الملامح. وعندما أركن إلى مطرحي أنزع عنّي دثار كائنات الكتل لأتقنع بدثار كائنات الهباء، وأنام. وهل حقاً كنت أنام؟.

                

*محمد الهجابي، بوح القصبة، ندا كوم، 2004، الرباط، المغرب