رانيا 6

ياسين سليماني

[email protected]

غير أنه أخبر بإستماعه المطول إلى زميلتي كريمة , اللائي يعملن معها منذ فترة , و كانت بعضهن يعرفن فيصل و يحضرن أحيانا للبيت , فعلم من بعضهن أن زوجته تغيرت كثيرا في طريقة العمل , و كن شعرن بما يشبه مرض ألم بها , أو مشكلة ما إعترضتها , دون أن يعرفوا منها شيئا محددا .

هذه المشكلة أرهقت رانيا كثيرا , كانت لا تخرج من البيت بسبب أمها , و بصعوبة تذكرت رقم هاتف حسام , فهو كان منذ مدة محفوظا في ذاكرة الخلوي , فلا حاجة لأن تحفظه , و إنما تبحث عن الإسم و تتصل مباشرة , و لقد إستغرب منها إتصالها من هاتف المنزل , و أخبرها بأنه قلق عليها كثيرا , دون أن تخبره بأمر أمها , فقط ذكرت له أن محمولها سقط في الماء و ستقتني آخر قريبا .

و رغم حرص رانيا و أبيها على إخفاء تلك الصحف عن والدتها إلا أنها علمت بما كتب عنها حين عثرت عليها في المكتبة بينما كانت تبحث عن أمر يخصها , فثارت ثائرتها , و أخذت تصرخ فأسرعت إليها رانيا و بصعوبة أدخلتها الغرفة لترتاح .

حين إتصل والدها من الصحيفة ليسأل عن أمها , أخبرته بالأمر فأسرع بالمجيء و بقي معها .

ذهبت رانيا إلى الصحيفة على حين غرة , منذ فترة طويلة لم تزر والدها في العمل و أحضرت معها نماذج من الرسوم التي كانت قد أنجزتها في الفترة الأخيرة نزولا عند رغبة والدها .

كان قد صدر منذ أيام العدد الثالث من مشروعه الجديد "صحيفة الكتاب" و بلغت أرقام مبيعاته رقما ممتازا و اعتبر فاتحة نهضة أدبية كبيرة في الجزائر مما جعله يفكر في جعله نصف شهري حتى يعطي للمشروع حيوية و سرعة في الوصول إلى الناس و إنتشار أكبر و كما وجدت رانيا أنه اهتم في هذه الأعداد بإبداعات شبابية سواء من حيث المضمون أو من حيث الغلاف الخارجي و أبدى رغبته في نشر بعض رسومها على واجهة بعض الأعداد أخذت تختار من بين العديد مما رسمته شيئا ما تطمئن لجماله فتعطيه لوالدها .

جلست أمامه في ذلك المكتب الواسع , يتحدثان عن المشروع , و عن إزدياد القراء مدة بعد أخرى و النداءات الكثيرة التي وصلته ليقدم هذا الغذاء الشهري ليصبح أسبوعيا , غير أنه إستبعد هذا و إعتبره مخاطرة , على الأقل في هذا الوقت , و أعجبته بعض الرسوم , فأخبرها بنشرها إبتداءا من العدد المقبل .

دخل حينها صحفي في قسم التحقيقات , سأله فيصل :

هل من جديد يا رؤوف ؟

إلتفتت رانيا إلى رؤوف , وجدته هو الشاب الذي كان يعمل في مكتبة "القادسية" , سألها : عفوا ماذا تفعلين هنا ؟

أجابت : جئت لأعرض على رئيس التحرير بعض الرسومات لـ "صحيفة الكتاب"

قال : زارتنا بركة

ضحك فيصل قائلا لرانيا : هو يعرف ؟

قالت : أكيد , تساءل رؤوف : ما الذي لا أعرفه ؟

قال فيصل : إنني أنا رئيس التحرير , و في نفس الوقت أنا والد هذه البنت

معقول ؟ أنت إبنة الأستاذ فيصل ... يعني ... يعني ...

و حك جبينه و هو يفكر : أنت من ...

قال فيصل : أجل من حدثني عن مستواك و نوع دراستك و ثقافتك العالية لذلك جئت و تكلمت معك في الموضوع .

إبتسم رؤوف و لم يستطع قولا : لا أدري ... لا أدري ماذا أقول لك ... حقيقة أنت فتاة طيبة ...

شكرته رانيا , و سألته عن أحوال العمل , فذكر لها والدها أنه أثبت جدارته من أول يوم جاء فيه إلى الصحيفة .

قالت ضاحكة : ظني كان في محله إذن .

قال فيصل : أجل .

أعطى رؤوف بعض الأوراق لفيصل لينظر فيها , و كانت تحقيقا جديدا قام به , ثم استأذب بالإنصراف بعد أن أعاد شكر رانيا و والدها كثيرا , و بقي الإثنان معا إلى وقت الغداء ثم عادا إلى المنزل .

بعد أيام كان رؤوف يحضر لتحقيق جديد , عن أبناء الطبقات الأكثر ثراءا في الجزائر , كيف يمضون أوقاتهم , و أين , كيف يعيشون , و كيف يتعايشون مع غيرهم .

و كان هذا التحقيق تحولا تاما في حياة هذا الصحفي النشيط , و قد أنشأ يفكر فيه منذ وقت طويل ربما من أول ما ابتدأ العمل في "الصباح" .

إتجه رؤوف مساءا إلى شاطئ "موريتي" بالضاحية الغربية للعاصمة , لم يكن يدخل إلى هناك إلا أصحاب الجيوب المنتفخة و الأرصدة الممتلئة , الذين لا يعرفون إلا حياتهم أما حياة السواد الأعظم من الجزائريين فلا علاقة لهم بها , أصلا هم يعيشون أغلب أوقاتهم بين دولة و أخرى , تتعدد الدول , تتعدد العواصم , و لا مكان للجزائريين البسطاء في قائمة تفكيرهم , هكذا كان يفكر رؤوف عندما دخل مع أحد رفاقه إلى الشاطئ , حمد الله أن رفيقه هذا يمتلك بطاقة الدخول الخاصة بالمكان و إلا لما دخله .

حياة أخرى وجدها هناك , الشمسيات الكثيرة بألوان الطيف ملأت المكان , و في البحر , لم تتوقف دراجات "الجات سكي" عن اللعب على أوتار هذه اللجة العميقة , المترامية الأطراف , على امتداد البصر .

استرق السمع من بعض الشباب خيل إليه لحظة أنه في مقاطعة فرنسية , إذ كان كل ما يسمعه من كلمات من هذه  اللغة , أما اللهجة العامية فهي لم تكن تستعمل أبدا في ذلك المكان ... كانت المنطقة راقية جدا , و دليل رقيها هذه اللغة الأجنبية التي لم يسمع غيرها ؟!

إلتقت عيناه بعيني شاب في نحو العشرين من العمر , حياه بإبتسامة فرد عليه بفرنسية صحيحة , و استأذنه في الجلوس معه لبعض الوقت , كان شابا في كامل أناقته و قوته البدنية , و نظارات آخر موضة , سأله عن يومياته , فأخبره أنه يقضي منذ حوالي أسبوع ما يشبه عطلة , مضيفا أنه سيعود إلى روما بعدها ليستمتع أكثر بالعطلة الصيفية , و رغم أنه تحفظ عن الدخول في حديث حول حياته الخاصة , إلا أنه ذكر أن والده يمضي إجازته الصيفية في إحدى الدول الأوروبية مع والدته أما أخواه فهما بين الجزائر و إنجلترا و لا يلقيهما إلا أحيانا ... كانت السلسلة الذهبية التي تحيط بعنقه تكاد تصرخ بثمنها الباهظ و كذلك ساعته التي أحاطت بمعصمه و نظاراته و نوعية لباسه الذي لم يقتنيه من الجزائر تقول أن هذا الشاب ثري إلى درجة الفحش , جاءت فتاة حينها فنادته طالبة منه أن يتمشى معها قليلا ثم يسبحا , فرافقها ذاهبا .

لم يستغرق حديثه مع الشاب دقائق معدودات سار بعدها رؤوف يلتقط بعض الصور خاصة لأصحاب دراجات "الجات سكي" التي يسمع هدير محركاتها من بعيد و صوت اضطرابات الماء تحتها .

إلتفت إلى شاب آخر أقل سنا من الأول دون أن يكون مظهره أقل وشاية بثرائه من السابق و أخبره بعد أن إقترب منه إبن رجل أعمال أنه يفضل السباحة في مثل هذا الوقت لأنه يقضي معظم النهار غارقا في النوم ,

سأله عن سبب إختياره لهذا الشاطئ دون غيره فأجاب بأنه لا يستطيع تغييره لأنه يوفر له الحماية الكاملة .

و يتلخص يومه الذي يبدأ عند المساء في اللقاء بالأصدقاء في النادي الذي يكلف الدخول إليه يوميا ألف دينار للدخول فقط ثم إختيار منزل أحدهم للسهر بالموسيقى الصاخبة و أنواع الكحول و التقى بفتاة تدعى "ماني" لا تختلف في ثرائها عن سابقيها جاءت مع أحد الشبان حاكيا عن خطبتهما , هذه التي يتطلبها مركز أبويهما و تفرضها المصلحة المشتركة .

ثم أخذ المزيد من الصور و فكر في الذهاب إلى أحد الفنادق الضخمة ليتابع الموضوع لم يدر كيف إجتذبه هذا العالم و أراد الخوض في متاهاته , ما له و ما لهذه الدنيا المختلفة عني , لا أنا منها و لا هي مني في شيء , قال هذا حيث جلس في غرفته في المنزل , كان يعيش مع والدته لوحدهما أغمض أبوه عينيه هن هذا الكون قبل أن يبصر هو النور , و منذ ذلك الوقت و هما وحيدان , لا أحد يزورهما و لا هما يزوران أحد.

أين كنت طيلة اليوم ؟

كانت حينها الساعة متأخرة , و لم يكن من عادته الرجوع في هذا الوقت .

تحقيق جديد يا أمي .

تنهدت قائلة : ألا يكفي العمل في النهار لتعمل في الليل ؟

قال لها : التحقيق لا يرتبط بوقت معين ... هناك تحقيقات يمكن القيام بها في النهار , و هناك تحقيقات لا تصلح إلا في الليل ... و ربما ليالي كثيرة .

ذهبت لتحضر له العشاء , و كانت قد إنتظرته طويلا دون أن تسمح لنفسها بالأكل دون أن يشاركها ولدها .

كان بيتهما متواضعا جدا , يدل على فقر ساكنيه , و لم يكن فيه من الأثاث ما يكفي ليقال أنه بيت كامل ... و لكنه إستطاع في مدة قصيرة و التي عمل فيها أن يوفر الكثير من الأشياء , أكثر مما كان يوفرها عندما كان يعمل في المكتبة من قبل ... و رغم ذلك كانت لقمة العيش متوفرة , و قد أعطاهما الله عفاف يومهما بحث لم يحتاجا إلى غيرهما , و كانت أم رؤوف تدعوا الله كثيرا أن يجعل له في كل خطوة سلامة , و أن يوفقه و أن ينير دربه .

في أمسية الغد ذهب إلى فندق "الشيراطون" , و كان في هذه المرة أيضا برفقة أحدهم , دخل إلى هناك و وجد أحد الموظفين تقرب منه رؤوف سائلا إياه عن زوار هذا الفندق , و الذين يقضون أسابيع هناك , قال له بأن الفقير ليس هذا مكانه أبدا , ما يجنيه موظف في سلك التعليم مثلا في شهر بكامله يصرفه شاب واحد في يوم واحد , بل يصرف أكثر منه و يزيد , دخول المسبح بألف دينار و الوجبة السبيسيال بثلاثة آلاف , و الجلوس إلى أصدقاء و صديقات يعني المزيد من المصاريف ثم السهر "ستار ستوديو" يستنزف منه شيئا ذا قيمة , و هكذا .

تحدث مع مجموعة من الفتيان في تلك الأمسية , أخذ مجموعة من الصور لبعض من رآهم من بعيد , و عاد مثل الليلة الماضية إلى البيت متأخرا .

عمل طيلة نصف يوم في الصحيفة و غادرها ليذهب إلى فندق "سان جورج" ذو الخمس نجوم أيضا , كانت هذه هي المحطة الأخيرة في تحقيقه فلذا الآن كتب الكثير , و إلتقط من الصور الكثير.

و مثل اليومين السابقين قام بالمزيد من الحوارات القصيرة مع شباب "الجات سكي" أو هكذا كانوا يسمون لإرتحالهم الدائم في طائرات بين الجزائر و عواصم أوروبية و أمريكية كثيرة .

كان هذه المرة أيضا مع رفيقه الذي إصطحبه في الأيام الماضية بقي هناك شاب واحد في عشرينيات العمر تقريبا سيتحدث معه ثم يذهب .

بلغته الفرنسية الفصيحة , إستغرق في كلامه مع رؤوف , لم يحدثه الكثير عن حياته الخصة فقط لأنه لا يعرف الجزائر إلا بإسمها , و لا يعرف من مدنها بعد العاصمة سوى وهران , عاش طيلة حياته بين لندن و باريس , و لم يأت إلى الجزائر التي هي البلد الذي ولد فيه هو و أبواه من قبله إلا في مرات نادرة , و هو قد جاء منذ أيام من فرنسا مع أمه التي لديها أكثر من خمس سنوات لم تزرها .

سأله رؤوف : ماذا تعني لك الجزائر بصراحة ؟

قال غير مبال متحدثا بالفرنسية دائما : لا شيء ... هي المكان الذي ولد فيه أبواي لا غير ... لا أستطيع المقارنة بين أوروبا و الجزائر , هذا غير معقول ...

و الجنسية ؟

أجاب : عندي الجنسية الفرنسية : منذ أن كنت صغيرا , إضافة إلى الجزائرية ... بالمناسبة هل جئت تبحث عن أخيك ؟

قال رؤوف : لا , لماذا ؟

رد الشاب : أكيد أنك تمزح ... أم أنك بحثت عنه و قيل لك أني صديقه , فأردت التحدث معي إلى أن يأتي ؟

قال رؤوف : أي أخ هذا الذي تتحدث عنه ؟ ليس لدي أي أخ .

قطع حديثهما شاب أطل على صديقه : ها قد جئت .

نظر رؤوف إلى هذا الشاب , قال جليس رؤوف : هذا الذي كنت أحدثك عنه .

لم يصدق الشاب الواقف نفسه , كان يدعى وسيم , بقي ينظر مليا إلى رؤوف فيما بهت هذا الأخير جوابا .

معقول كل هذا الشبه ؟ سبحان الله .قال رؤوف أخيرا .

نطق خالد : لا تلعبا علي لعبة الجهل , ... قل يا وسيم لماذا لم تخبرني بأن لك أخ توأم .

قال وسيم : توأم ؟ ماذا تقول أنت ؟ ذكر هذا مندهشا .

كان هذا في آخر أناقته و أكملها , قد جاء سعيدا ثم إنطفأت إبتسامته بمجرد رؤيته لرؤوف .

جلس وسيم إليهما تحت تلك الشمسية , بعد إلحاح من خالد .

قال الأخير : ماذا ؟ ألا تقول لي ما الموضوع ؟

كان التطابق بين شكليهما يثير الدهشة , غير أن طريقة اللباس التي ظهر عليها كل واحد منهما مختلفة تماما عن طريقة الآخر , ففي حين كان رؤوف يلبس سروال جينز أزرق و قميصا أبيض عاديين , و ينتعل حذاءا يلبس مثله مئات الآلاف من الناس , و عنده ساعة يوجد مثلها في الأسواق بشكل كبير , كان وسيم يلبس سروال و صدارا أنيقين جدا , و قبعة بيضاء زادته وسامة منتعلا صندلا لا يقل ثمنه عن الأربعة آلاف دينار , ... كان الفرق بينهما الفرق بين ملكة إنجلترا و أمة سوداء رغم عدم تماثل المشبه بما شبه به .

نطق وسيم في النهاية بهدوء مصطنع : كيف جئت إلى هنا ؟ لأول مرة أراك .

تطلع إلى لباسه ثم قال : ثم هل أنت من رواد هذا المكان ؟

سعل رؤوف ثم إبتسم مدعيا أنه في حالة عادية : لا أول مرة آتي إلى هنا .

قال خالد : أريد أن أعرف هل تلعبان علي أم ماذا ؟

أجاب رؤوف : لا , و لكن المفاجأة أذهلتني , لم أعرف أنه يوجد من يشبهني لهذه الدرجة , خاصة إذا كان ثريا بهذه الدرجة .

قال وسيم : و أنا أيضا عقدتني الدهشة .

قال خالد : يخلق من الشبه أربعين .