ما لا ترونه (1)

ما لا ترونه (1)

سليم عبد القادر

كان ذلك صباح الجمعة الرابع عشر من شهر نيسان عام1979

فبينما كانت الطبيعة تعلن عن محاسنها في يومٍ من أجمل أيام الربيع ، كانت المحنة تتقدم كالإعصار يكتسح كل شيء أمامه...

كان محمود جالساً في حديقة المنزل ، يستمتع بجمال الحياة ، حين جاءه أخوه الصغير يحمل نبأً حل عليه كالصاعقة:

- ألم تعلم بالخبر؟

- أي خبر؟

- لقد داهموا بيت الغريب واحتلوه..

- من ؟

- إنه صديق صاحبك أيمن... ذو اللحية الطويلة السوداء.. الذي لا يتكلم غير اللغة الفصحى... وزوجته بلغارية.

- لم أعرفه... لا أدري.. ربما كنت أعرفه.. ولكن، من قال لك هذا؟ وهل اعتقلوا الرجل أم لا؟!

- لا أدري... يقال إنه هرب... ويقال بأنه أصيب واعتقل..

- من يقول هذا؟

- أهل الحي...

أحس بسحابة من الكآبة تغشى روحه.. قد لا يكون معنياً بالأمر مباشرة... ولكنه ليس بعيداً عنه بالمرة....

وراح يذرع حديقة المنزل ذهاباً وعودة، شارد اللب ذاهلاً عما حوله.. يفكر فيما يمكن أن تؤول إليه الأمور...

وقطع عليه شروده صديق جاءه شاحب الوجه، مرتجف الكلمات، يقول:

- لقد اعتقل الأستاذ فاروق، والأستاذ عبد الله..!

- ماذا تقول؟!

هز الصديق رأسه بانكسار... تمتم متألماً : إنهما من الكبار...

\"إنا لله وإنا إليه راجعون\".

عاد إلى صمته وذهوله، ثم راح يفكر في اتجاهات شتى... لقد مر بموقف شبيه بهذا قبل ستة أعوام... لكن هذا أمر لا ينفي الصعوبة ، والإحساس بالمرارة... وإذا كانت المحنة قدراً لازماً للدعوات وأصحابها، فإنها قدر موجع ولا ريب..

* * *

عند صلاة الجمعة قصد إلى جامع عباد الرحمن، ماراً بالقرب من فرع أمن الدولة... حاملاً في صدره الهم والترقب... كان موضوع الخطبة عن المحنة.. عن حتميتها في طريق الدعوة، وعن أجر الصبر لمن صبر عليها... إنه كلام يهدئ الروح ويمنح بعض العزاء، ولكن طعم المحنة لن يكون حلواً أبداً...

خرج الناس من الصلاة، وأكثرهم من الشباب المؤمن المشتعل حماسة، الأعزل الأيدي... لقد رأى في أعينهم الإحساس بالألم والعجز.. كان الكلام يدور همهمةً بين مجموعة وأخرى.. حول موضوع واحد: بدء الاعتقالات..

* * *

في المساء، بدت المدينة امرأة تحيك ثوب الحداد...

جاءه صديقه أبو اليسر يقول بثقة مُرّة:

ستكون هذه الموجة من الاعتقالات ضارية، تستهدف تصفية العمل الإسلامي نهائياً.. المؤامرة مطبوخة داخلياً وخارجياً: داخلياً المجازر، وخارجياً التعتيم والصمت.

- والحل !؟.

- كل شيء إلاّ السجن! فهناك يصبح الموت أمنية.

- لم أكن أظن أن نشاطنا بهذه الخطورة ،إننا ندعو إلى الله بطريقة سلمية وبشكل شبه علني.

- هذا صحيح، ولكننا في غابة.

أوشك الليل أن ينتصف، والحديث يكرر نفسه، والهموم هي الهموم، والأفق أسود. ، وهمَّ أبو اليسر بالانصراف ولكنه قال :

- أخشى إن بتُّ في بيتنا أن يُداهَم الليلة.

- أستبعد ذلك.

وذهب أبو اليسر إلى بيته ثم عاد بعد قليل:

- لقد وجدت الباب مقفلاً من الداخل، ولم أرد إزعاج أهلي، فعدت لأنام عندكم.

- على الرحب والسَعة.

مضت ليلة مليئة بالوساوس والتوقعات . وفي الصباح اعتذر أبو اليسر عن تناول الفطور، وهمّ بالذهاب إلى بيته، ثم تردد:

- قلبي غير مطمئن، أخشى أن يكونوا قد داهموا البيت.

- اتصل بالهاتف.

- ربما تكون الخطوط مراقبة؟.

- لا تخف .

اتصل أبو اليسر يقول:

- (ألو) .

- نعم؟.

- أبو اليسر موجود؟.

- نعم.

وهمس لصديقه محمود: الصوت غريب!؟ وأردف على الهاتف:

- أعطني إياه لو سمحت.

- ماذا تريد منه.

- مسألة بسيطة.

- من أنت؟.

- صديق.

- ما اسمك؟.

وبحث عن أي اسم مستعار، ثم قال:

- عبد الجبار.

- ماذا تريد منه بالضبط ؟.

وحين استولى عليه الريب، أراد أن يحسمه، فقال:

- من المتكلم!؟ أبوه.

- نعم.

أغلق أبو اليسر الهاتف وقال: لقد احتلّوا بيتنا.

* * *

توالت الاعتقالات بين صفوف أبناء الجماعة وأهليهم ، وأصبحت المدينة تنام وتصحو على أخبار المخطوفين من بيوتهم ليلاً، أو من أماكن عملهم نهاراً... ما الذي يحدث يا إلهي!؟

وقال محمود لمسئوله في الجماعة:

- ما أبعاد هذه المحنة‍‍‍‍‍!؟

- لا أحد يعلم إلا الله.

- كيف نتصرف؟

سكت قليلاً، ثم قال:

- لا أدري.

- لا بد من موقف!.

- ننتظر أوامر القيادة.

يا إلهي... السجن يزحف نحونا جميعاً كأفعى جائعة.

* * *

ابتسم أحد الأصدقاء وهو يصغي إلى حديث محمود، ابتسامة يائسة،وقال:

- عن أي موقف تتحدث!؟.. القيادة نصفها في السجون، والنصف الآخر غادر البلاد!.

- ونحن!؟

- تحت رحمة الله.

- والحديث عن الاستعداد، والتحدي، و.....و...

- الأمر كما ترى..

- والروايات الدامية عما يدور في السجون من تعذيب شيطاني، وقلع أظافر، وسلخ جلود، وقتل، وتنكيل بالرهائن، أهي وهم أم حقيقة!؟.

- لوى الصديق شفته السفلى، وقلب راحتيه قائلاً: من يدري!؟.. ولكنها حقيقة بالتأكيد.

* * *

سألته أمه وقد رأته دائم الشرود:

- ما الأمر!؟.

أجابها:

- لا شيء..

- ما علاقتك بما يجري؟..

- لا علاقة لي بشيء..

- وأصحابك؟ لماذا يطاردون أو يسجنون؟.

- إنهم أعضاء في جماعة إسلامية...

- وأنت؟.

- لا علاقة لي بشيء…

لم تطمئن أم محمود لما سمعت، إلا أنها لم تجد إلا الصمت والدعاء..

* * *

بعد أربعة أيام، وقف محمود مذهولاً، وهو يستقبل شخصاً مجهولاً معلوماً.. كأنه لم يره قط، وكأنه لا يعرف غيره. وتبينه بعد لحظات: إنه صديقه أيمن شقيق أبي اليسر... ولكن: أين اللحية الكثة، واللباس الفضفاض!؟ لقد بدا أيمن شخصاً آخر، بعدما حلق لحيته وشاربه، وارتدى الجينز والنظارة الشمسية. تعانقا بحرارة ، وقال أيمن: خبرني عن أبي وأمي وإخوتي!؟.

صمت محمود... ولكن أيمن قطع الصمت بقوله:

- أعرف أن الأخبار لا تسر، ولكني أريد التفاصيل.

- أبوك وأخوك الكبير في السجن مع الرهائن، وأخوك أبو اليسر نجا قدراً ، وهو متوارٍ، وبيتكم محتل، ومن يطرق بابكم يعتقل حتى بائع الغاز أطلقوا عليه النار ولكنه نجا بأعجوبة.

- وأمي!؟.

- ماذا تنتظر منها وقد فقدت كل شيء في ليلة واحدة ؟ كان الله في عونها.

وخيّم صمت حزين، وكآبة قاسية، وقال أيمن ساهماً:

- أعرف ذلك كله قبل سماعه، ولكنا لن نستسلم.

-أهلك يتعرضون لما لايطيقون حمله ..!

-إنه ذنب الطغاة..

-الطغاة لاقلوب لهم ، ولا يخافون الله ..

-لذلك سنقاومهم

- والنهاية!؟.

- إحدى الحسنيين..

- إنني لا أفهم ما الذي يجري.. أنت –كما أعلم- مثلي..

قاطعه أيمن بقوله: لقد قمنا بتشكيل جناح مسلح للجماعة.

- بمعرفة الجماعة وموافقتها!؟

- ليس تماماً…

عقدت المفاجأة لسان محمود، فلم يجد كلاماً، وأطلق زفرة مفعمة بالحيرة، وعاد يسأل:

- لكن من أنتم!؟ كم عددكم !؟ ما أهدافكم!؟.

- هناك نيّة في أن نتخذ اسماً مناسباً، عددنا حوالي العشرين، سلاحنا بضعة مسدسات، وما نغنمه من العدو… هدفنا إقامة دولة الإسلام، أو الشهادة في سبيل الله.

قال محمود: أخشى أن نتورط جميعاً في عمل باهظ الثمن.

- المحنة سنة ثابتة في الدعوة.

- ولكن المطلوب أن نتحاشاها ما استطعنا، ونسأل الله العافية، فإن كتبت علينا قاومنا أو صبرنا، حسب الظروف.

- نحن لم نسع إليها... السلطة هي التي فرضت علينا المواجهة.. إنها تحارب الإسلام بشكل استفزازي..

وتابع قوله: أليس الجهاد واجباً!؟.

- بلى…

- ونحن بدأنا الجهاد... بعد عدة عمليات، سينقسم الجيش المسحوق بالتسلط.

ثم قال بلهجة حاسمة:

إن الشهادة غايتنا... يُغفر للشهيد عند أول قطرة تراق من دمه، وتتلقاه في الجنة سبعون حورية، ويشفّع بسبعين من أهله.

قال محمود بشرود:

الشهادة أمنية عزيزة المنال... أتمنّى لو متُّ شهيداً... لكنني أفكر في الواقع.. في المجتمع.. في مستقبل الإسلام هنا، في مستقبل البلد ،في صورتنا أمام الآخرين.. في عمل نستطيع تحمل تبعاته، في نية حسنة وعمل بعيد عن الأخطاء.

رد أيمن بثقة:

ليس هناك خيار آخر ... حين تتعرض الأكثرية للاضطهاد ، ويساق المجتمع المسلم ذليلاً مقهوراً في دروب الضياع والفجور، ثم لا ينهض كله، أو مجموعة منه، للتصدي للظلم والقهر، فإن هذا المجتمع يكون قد مات.. حتى لو بدت عليه ملامح الحياة الكاذبة... وحينها لا يأسف المؤمن الحر على حياة من هذا النوع...

قال أيمن كلماته في ثقة وهم بالانصراف...

سأله محمود: هل اعتقلوا الغريب؟

-تقصد أمين أصفر ؟!

-لم أكن أعرف اسمه.

-مستحيل أن يعتقلوه ... إنه رجل من طراز فريد ... وحتى لو تمكنوا منه ، فمن المستحيل أن يتم ذلك قبل أن يطيح بخمسين رجلاً منهم ، ولن يمسكوه إلا جثة هامدة ..

* * *

بعد أيام التقيا من جديد، بوجود أبي اليسر... وكان لقاءً حاراً مؤثراً بين أيمن وشقيقه أبي اليسر..

قال محمود:

الوالدة تسألني عنكما باستمرار... تريد أن تراكما..

قال أيمن :الأمر صعب جداً في هذه الظروف...

وتابع: هناك نبأ عن استشهاد خمسة من الكبار تحت التعذيب.

- نعلم ذلك..

وأردف أيمن:

نحن قررنا توسيع العمل.. الأمر خرج من مرحلة القناعات، ودخل مرحلة المواقف... أنتم وباقي الشباب معرضون للتصفية الجسدية في أقبية السجون أو على أعواد المشانق. وأعتقد أن الموت في الساحة أشرف، والسلطة ستضرب الجميع دون اهتمام بقناعتهم الفردية.

قال محمود:

أخشى أن تكون معركة غير متكافئة.. ونتيجتها معروفة: مصائب ومآس وسجون.

أيمن: ولكن الله معنا..

وأخرج مسدسين صغيرين، وضعهما على المنضدة، وقال:

يستطيع كل منكما أن يأخذ مسدساً يدافع به عن نفسه.

ابتسم محمود ، وقال: هل أواجه السلطة بهذه اللعبة!؟ أنا آسف، ثم إني لست مطلوباً، كما أني لا أنوي زجّ أهلي مع الرهائن في السجن.

* * *

راحت الأيام تمضي كالكوابيس... في كل يوم عمليات، ومطاردات، واعتقالات، ورهائن، واحتلال بيوت، وشباب تائه في دوامة لا يعرف كيف دخلها، ولا كيف يخرج منها...

ولم تهدأ موجة الاعتقالات إلاّ بعد شهر من عنفوانها، فتنفس الصعداء، واستبشر خيراً، وراح يستعد لامتحاناته في كلية الهندسة.

يتبع..