الغيمة الباكية (4)

عبد الله عيسى السلامة

الغيمة الباكية

عبد الله عيسى السلامة

الفصل الرابع

العيون الخمس

قدم الكولونيل الإنجليزي "غبرييل شوفان" كأس الشمبانيا إلى نظيره الفرنسي "لوفنتال"، وصب كأساً أخرى لنفسه، وهو يقول: لنشرب نخب انتصار الحلفاء.. ثم قرعا كأسيهما، وأفرغ كل منهما كأسه في جوفه.. وابتسم.

كانا يجلسان متقابلين، وبينهما طاولة حديدية مغطاة بغطاء بني فاتح من المشمع الرقيق,, في غرفة متوسطة الاتساع داخل ثكنة عسكرية في دير الزور، تابعة للقوات الفرنسية.. وكان الضباط الفرنسيون قد اتخذوا من هذه الغرفة، مقراً لسهراتهم ولهوهم وشربهم في أوقات الراحة.. فهي بالنسبة إليهم بمثابة نادٍ صغير خاص بالضباط.. وكان أكثرهم يطلق عليه فعلاً اسم "ندوة الضباط" وكانت هذه الندوة مشتركة بين الضباط الفرنسيين، وحلفائهم من الضباط الإنجليز، الذين يقيمون في هذه المنطقة للتنسيق مع القوات الفرنسية المتحالفة معهم ضد هتلر وباقي دول المحور في الحرب العالمية الثانية، التي ما تزال ألسنة لهيبها تتأجج في عدد كبير من دول العالم..

كان حديث الرجلين يدور حول علاقة كل منهما بسكان البادية والجزيرة السورية والمناطق المحيطة بهما.. وكانا متقاربين في السن.. الفرنسي في التاسعة والثلاثين من عمره، والإنجليزي في الثامنة والثلاثين.. وكان الإنجليزي طويلاً نحيفاً أبيض البشرة، له غرة صفراء تتدلى فوق جبهته العالية، وعينان واسعتان زرقاوان، وأنف مدبب فوق شاربين طويلين رفيعين أصفرين، يعقفهما أحياناً من طرفيهما عقفتين صغيرتين.. وتتهدلان أحياناً على طرفي فمه فوق شدقيه، فتتندى بعض الشعرات في أثناء الشرب، فيمسحها بمنديل أبيض، يستخرجه من جيب بنطاله، ثم يتركه بعد مسح شاربيه بيده استعداداً لعمليات مسح أخرى.. وكان ظاهر الأناقة.. حتى أن الناس الذين حوله، لقبوه: "الكولونيل الأنيق".. أما الذين يعرفونه معرفة عميقة، من خلال التعامل المباشر والمناقشات الجادة، فقد أسموه "الوسيم الماكر" وذلك لحنكته ولباقته، ومرونته في التعامل مع المواقف المختلفة ببراعة ولطف..

وكانت الصفة التي أتعبت نظيره الفرنسي، هي صفة المكر.. فقدرة شوفان على المراوغة والمناورة ليست من النوع العادي..

أما الفرنسي لوفنتال فكان متوسط الحجم، أقرب إلى البدانة منه إلى النحافة.. أحمر الوجه، شعر رأسه أحمر كثيف.. وشارباه أحمران ثخينان متهدلان فوق شفيته بغير انتظام.. في عينيه الصغيرتين البراقتين زرقة فاتحة وخبث وتصميم.. وحين يتندى شعر شاربيه بالخمر عند الشراب، يمسحه براحة إحدى يديه، ثم يمسح يده بمشمع الطاولة الذي أمامه.. وقد سماه من حوله من الضباط وصف الضباط:" ضبع فيشي"، وذلك لشراسته في مطاردة أتباع حكومة فيشي الفرنسية، سواء داخل القوات الفرنسية الموجودة في سورية، أم في المناطق الأخرى التي كان قد عمل بها، من مستعمرات فرنسا التي ظلت على ولائها لديغول "زعيم فرنسا الحرة"، ولم تخضع لسلطة فرنسا الرسمية، التي تمثلها حكومة فيشي.. وهي الحكومة التي كانت أداة في يد هتلر، في أثناء احتلاه لفرنسا..

كان "ضبع فيشي" هذا، يعرف مصلحة فرنسا في سورية جيداً، كما يعف، معرفة عملية، مكر الإنجليز، سواء منهم الحلفاء ديجول في أوروبا، أم حلفاؤه في سورية..

لقد تعب ديغول كثيراً من أساليب تشرشل الماكرة، ومحاولاته المستمرة في السيطرة على مستعمرات فرنسا وممتلكاتها عامة، من عسكرية وغيرها، بحجة استسلام فرنسا لدول المحور، وحاجة الحلفاء إلى هذه الممتلكات والمستعمرات الفرنسية لضرورات الحرب.. كان تشرشل يتعامل مع ديغول على أنه زعيم فرنسا، والوريث الشرعي الوحيد لممتلكاتها وراء البحار.. وفي الوقت ذاته، يحاول التعامل مع المستعمرات الفرنسية، على أنها ممتلكات لدولة صديقة سقطت في براثن الأعداء.. وصارت هي وممتلكاتها ملكاً للأعداء، يستفيدون منها ومن ممتلكاتها في محاربة الحلفاء.. وعلى هذا، يجب أن تسعى بريطانيا ما استطاعت إلى بسط هيمنتها على أعالي البحار. إنه أسلوب ماكر خبيث.. عانى منه ديغول في لندن من حليفه الكبير.. ويعاني منه لوفنتال هنا في سورية من نظيره المنسق معه، شوفان الماكر..

كانت هذه المعاني كلها، تدور في رأس لوفنتال وهو ينادم جليسه على طاولة الشراب.. وكلما نظر في عيني شوفان، تذكر تعليمات الجنرال "باراسوك موراي" المسؤول العام عن القوات الفرنسية في سورية، هذه التنبيهات التي نقلها عن ديغول مباشرة: انتبهوا جيداً.. إن الإنجليز حلفاء لنا في حربنا ضد هتلر، إلا أنهم ليسوا شكراء لنا في مستعمراتنا وممتلكاتنا.. وهم يتعمدون الخلط بين الأمرين.. وإذا نبهوا إلى الحقائق انتبهوا.. إلا أنهم برغم ذكائهم، يحبون أن ينسوا، ويجب أن نفهمهم باستمرار، أننا "نحب أن نذكر".. وهكذا عليكم أن تتعلموا فن تذكير الحلفاء باحترامنا وبقدسية ممتلكاتنا.. أيها الأبطال. يا صناع فرنسا الحديثة.. وإلا وجدنا أنفسنا بعد كسب الحرب وتحرير باريس، لا نملك من بلادنا إلى العظام.. إذ يكون حلفاؤنا الإنجليز قد التهموا لحمنا، في وجبات شهية دسمة، خلال الحرب..

صب لوفنتال كأساً من الشمبانيا، لجليسه، وأخرى لنفسه.. وقال: لنشرب نخب حلفنا المقدس في مواجهة النازية المجرمة..

أفرغا كأسيهما في جوفيهما، ومسح كل منهما شاربيه بطريقته الخاصة.. قال لوفنتال وعلى شفتيه ابتسامة خبيثة:

يبدو أن ظروف البدو ستكون تعيسة في هذا الشتاء..

قال شوفان باسماً: وهل ستكون أتعس من ظروف قواتنا المسلحة في ميادين القتال!؟

ضحكا ضحكة خفيفة، وقال لوفنتال: إن لهم ميادين خاصة يخوضون فيها أنواعاً من القتال بطرائقهم الخاصة..

قال شوفان متسائلاً: وهل لديهم سوى الصراع من أجل الرزق والزعامة؟

قال لوفنتال، وهو يجرع جرعة من كأسه: إن صراعهم في حقيقته ينحصر في هاتين الجبهتين: جبهة الرزق، وجبهة الزعامة.. إلا أن كل جبهة من هاتين الجبهتين تضم عدداً من المحاور والخنادق.. وأنواعاً كثيرة مختلفة من التكتيكات، التي تمارسها القبائل فيما بينها، والعشائر داخل القبيلة الواحدة فيما بينها، ووجهاء العشيرة الواحدة داخل عشيرتهم فيما بينهم..

قال شوفان ضاحكاً: لم يبق عليك إلا أن تشبه جبهاتهم القتالية بجبهات الحلفاء ودول المحور..

قال لوفنتال: لعل جبهاتهم، في نظرهم، أهم وأقسى وأطول زمناً..

قال شوفان: عجيب أمر هؤلاء البدو..! إن أحدهم قد لا يجد في بيته من القوت ما يسد رمق أسرته، ومع ذلك، إذا جاءه ضيف، أمسك بشاةٍ فذبحها ليقدم له لحماً.. ودعا عدداً من أبناء القبيلة إلى هذه الوليمة، ليأكلوا الطعام كله، فلا يبقى لنسائه وأطفاله سوى بقايا العظام يمصونها بشهوة وتلذذ.. وإذا وجد أحد الأطفال قطعة لحم صغيرة لاصقة بأحد العظام، أو بقية من نخاع داخل عظم، لم يمصها أحد الضيوف.. فإن هذا الطفل يعتبر نفسه من ذوي الحظ السعيد.. إن أمرهم عجيب حقاً..

قال لوفنتال مؤيداً كلام جليسه: صدقت يا عزيزي.. صدقت إن هذه في حالهم حقاً.. وأذكر لك بهذه المناسبة، أنني كنت منذ أسبوع في زيارة للشيخ ابن "دلوان"، وأظنك تعرفه.. الشيخ "عريفج" ابن دلوان، شيخ قبيلة "الدكاكة"، وبعد أن انتهى عملي عنده، وكان الوقت ضحى والساعة في حدود العاشرة والنصف.. طلب مني أن أبقى عنده لحضور وجبة الغداء، فحاولت الاعتذار لكثرة مشاغلي، إلا أن الرجل حلف بالطلاق من زوجاته الثلاث، أني لن أغادر بيته حتى أتغدى.. قائلاً لي: أيش هذا يا سعادة الكولونيل..؟ هل أنت في خربة حتى تذهب بلا غداء..؟ ثم أتى بخمسة كباش سمان، وذبحها له رجل من القبيلة يدعونه "الذباح" لأنه مختص بذبح الإبل والغنم والماعز.. وهو ذباح خاص للشيخ عريفج.. ويأخذ أجرته عن ذبح الدابة وسلخها وتقطيعها، لحماً من لحم الدابة التي يذبحها.. وبعد أن سايرته في البقاء عنده حتى تناول الغداء، طلب مني أن أخرج وإياه لنتمشى قليلاً في البرية، ثم بدأ يحدثني بعد انفراده بي في العراء، عن أوضاع القبيلة، وعن الشتاء الذي ينتظرها، وعن قلة المؤن والأعلاف، بسبب جفاف العام المنصرم.. إلا أنه قبل ذلك أحب أن أطمئنه على سلامة موقفنا العسكري في مواجهة دول المحور.. فلما طمأنته على قوة موقفنا في بعض الجبهات سر وانتشى، ولما أخبرته أن الألمان كسبوا بعض الجولات في جبهات أخرى، أظهر التأثر والتألم، وقال بعصبية: والله لو وقع بين يدي "فهرور" ألمانيا فسوف أقطعه تقطيعاً..

ضحك الضابطان، وقال شوفان: وماذا كان "الفوهرر" يفعل لو وقع بين يديه الشيخ عريفج!؟

ضحكا مرة أخرى، وتابع لوفنتال: الواقع أن لدى هؤلاء البدو من الدبلوماسية والحنكة ما لم نكن نتوقعه.. كنا نظن الحنكة السياسية وقفا علينا نحن الأوروبين.. وأن هؤلاء البداة الجهلة أقرب إلى قطعان الماشية منهم إلى البشر..

قال شوفان: لكن الفرق بين دهائنا ودهائهم، هو أن دهاءهم محصور في علاقاتهم القريبة وحسابات مصالحهم الشخصية، سواء فيما بينهم، أو فيما بينهم وبين السلطات التي يخضعون لها.

قال لوفنتال: ولعل الحق معهم في هذا المجال.. فهم ليسوا من صناع السياسة الدولية، ولا يفكرون بها أصلاً.. وإذا كان زعماء بلادهم من الساسة البارزين، لا يعرفون منه السياسية الدولية إلا ما يثبت كراسيهم في دولهم، بأي صورة من الصور، ولو على حساب أقدس المقدسات الخلقية والوطنية.. فماذا نرجو من هؤلاء البداة المساكين..؟

قال شوفان: ما عدا قلة قليلة منهم، تضحي بمصالحها الشخصية من أجل المصالح الوطنية العليا..

قال لوفنتال: أما هذا النصف، فلم ألتق بعد بأحد من عناصره حتى الآن.. وأخشى أنهم لم يخلقوا بعد..

قال شوفان: وماذا تقول بقادة الثورات، الذين انتفضوا ضدكم، هنا في سورية، وفي بعض مستعمراتكم الأخرى.. وأولئك الذين ثاروا ضدنا في فلسطين والعراق ومناطق أخرى من مستعمراتنا..؟ هل ترى أنهم لم يخلقوا بعد، أم خلقوا وماتوا؟

ضحك الرجلان ضحكة خفيفة، ورشف كل منهما جرعة من كأسه، ثم قال لوفنتال:

ما أظنك تريد إحراجي بهذا السؤال.. فأنت تعرف أكثر البواعث التي دفعت هؤلاء الثوار إلى الانتفاضة ضدنا أو ضدكم.. وإذا استثنينا المقاتلين الذين حاربونا أو حاربوكم، لينالوا الشهادة ويدخلوا الجنة، وهم قلة على أي حال.. فإنا نجد الآخرين، الذي ثاروا ضدنا، أكثرهم مرتبط بكم، والذين ثاروا ضدكم أكثرهم مرتبط بنا، إذ ليس في هذه المنطقة إلا نحن وأنتم.. ولنا عينان ترصدان ما تفعلون.. ولكم عينان ترصدان ما نفعل.. ونخشى أن تكثر العيون بعد نهاية الحرب..

قال شوفان وعيناه تبرقان بإيحاءات خاصة: أتعتقد أنه ليس في هذه المنطقة سوى عيون أربع؟

قال لوفنتال: هذا ما هو ظاهر حتى الآن.. ولا ندري ما إذا كانت ظروف الحرب ستلد عيوناً جديدة، أم ستلد عيوناً عمياً..

قال شوفان: وهل نسيت أن للفوهرر، أو "الفهرور" كما قال عريفج، عيناً واحدة على الأقل ترصد هذه المنطقة، وتشكل خطراً علينا وعليكم؟

قال لوفنتال: إن صح أن الفوهرر يرصد المنطقة، فهو يرصدها بنصف عين وربما كان الروس، بأحزابهم الماركسية التي صنعوها حديثاً في هذه المنطقة، ولم تنم أظفارها بعد، يرصدون المنطقة بنصف عين كذلك.. والمحصلة النهائية، هي أن في المنطقة خمس عيون، لا أربعاً كما ذكرت.. وهذا في أسوأ الأحوال كما هو متوقع، إلا أن تخرج أمريكا من عزلتها بعد الحرب، وتمارس دورها في السياسة الدولية.

مصمص الإنجليزي شفتيه، ثم أخذ رشفة من كأسه.. لقد كان يريد أن يثير مخاوف صاحبه الفرنسي، ابن الدولة الضعيفة، من أخطار الحرب، ومن مطامع هتلر، الذي اقتحم باريس، قلب فرنسا، ومن يقتحم القلب يسهل عليه تقطيع الأوصال.. إلا أن "ضبع فيشي" فوت عليه هذه الفرصة من ناحية، ونبهه من ناحية أخرى إلى خطر الأحزاب الشيوعية التي بدأت تتغلغل في المنطقة كلها، بما فيها المستعمرات الإنجليزية والفرنسية، وخطرها أيديولوجي عام، يهدد النظام الغربي الرأسمالي برمته، وأن هذا ما يجب النظر إليه بمنظار بعيد، بصرف النظر عن كون بريطانيا قوية الآن وصامدة في الحرب، وتساعد حكومة فرنسا الحرة على تحرير بلادها..

لقد فهم كل من الرجلين إشارة زميله على ضوء ما يعرفه من نمط تفكيره من خلال مناقشات سابقة مطولة بينهما..

قال شوفان بابتسامة موحية: ألا تريد أن تتم لي حديثك مع البدوي ابن دلوان؟

قال لوفنتال باسماً: أوه.. لقد ابتعدنا عنه كثيراً.. جرفتنا عنه موجة من موجات الحديث، التي لا نستطيع مقاومتها..

ثم استطرد لوفنتال يسأل: أين وصلنا في حديثنا عن عريفج؟ قال شوفان، إن لم يخب ظني، فقد وصلنا عند تقطيع عريفج لفهرور ألمانيا.

ضحك الرجلان، وقال لوفنتال: لقد طمأنتني إلى أنك مستمع ممتاز يا عزيزي.. ونبيه.. بل ذو نباهة عالية..

قال لوفنتال باسماً: أشكرك على إطراء نباهتي يا عزيزي، التي كثيراً ما تخونني.. وإن كنت لا أجد في حديثك هذا موضعاً لإطرائها..

قال لوفنتال باسماً: كل فقرة من حديثنا هي موضع مناسب لإطراء نباهتك يا عزيزي شوفان.

قال شوفان: أشكرك ثانية، وأرجو أن تطمئنني عن أوصال الفوهرر هل مزقها ابن دلوان أم لما يظفر به بعداً!؟

قال لوفنتال: حسناً.. لقد ذكرت لك أ، كلام عريفج عن الحرب، وعن تقطيع الفهرور، إنما كان تمهيداً للدخول إلى ما يهم الرجل من أمر مصلحته ومصلحة قبيلته.. وما كان ينتظر منه أن يمهد للحديث عن مصالحه، بأفضل من هذا التمهيد، بالنظر إلى مستواه.. على كل حال، بعد أن حدثني بما يشبه الشكوى الخفية، عن جفاف العام الماضي، وقلة القمح والشعير والتبن.. وقلة المال في أيدي القبيلة.. أحب أن يظهر لي مودة خاصة، فوجه سيره، وسيري معه، إلى البيت، حيث نساؤه وأبناؤه وعبيده مشغولون بإعداد الطعام.. هذا يجلب شيئاً من الشوك يضعه في الموقد، وذلك يجلب شيئاً من روث الدواب الجاف يضعه فوق الشوك، وهذا يجلب الماء.. وتلك تنظف الأواني، والأخرى تنفخ تحت النار فتدمع عيناها من تأثير الدخان المتصاعد من تحت القدر، والذي يهبط قسم منه إلى داخل القدر بضغط الهواء فيختلط باللحم والمرق، ثم يصعد إلى أعلى ممتزجاً ببخار الطعام.. ثم.. ثم.. ماذا أحدثك يا عزيزي!؟ أنه منظر جميل حقاً.. ومثير.. ذكرني بحياة أجدادي في القرن الثالث عشر.. وبعد أن نظر إلي ورآني مبتهجاً بهذا المشهد، قال لكبرى زوجاته، وهي التي تتولى طبخ اللحم: انضجي الطعام جيداً يا ثريا، إن سعادة الكولونيل ضيف عزيز عندنا.. ويجب أن نطعمه زاداً طيباً شهياً، من بين يديك يا أم نافع.. قالت له ثريا وهي امرأة سمراء، مكتنزة الجسم، برغم التجاعيد الخفيفة التي ظهرت على وجهها، لبلوغها سن الخمسين: يا أهلاً وسهلاً بسعادة الكولونيل.. يا مرحباً بالدرب الذي جاء به.. وهل سيزورنا كل يوم ضيوف أعزاء مثل سعادة الكولونيل..!؟ ثم التفت عريفج إلى زوجته الثانية، وكانت تفرش الأرغفة الرقيقة الواسعة المدورة من خبز الصاج الساخن الطازج، وقال لها: يا حليمة إياك أن تفرشي رغيفاً لم تنضجه النار، أو رغيفاً احترق شيء منه فسعادة الكولونيل رجل متمدن، وما يحب إلا الأكل الجيد.. فقالت حليمة: إن شاء الله ما نقدم لسعادة الكولونيل إلا أجود الرغفان يا أبا نافع.. وحليمة هذه في الخامسة والثلاثين من عمرها، حنطية اللون.. في وجهها ويديها وشم أزرق كثير، إلا أن بعض الوشم الذي في يديها غطته بؤر بيضاء بسيطة من أثر العجين.. تناثرت على يديها إلى ما فوق الرسغين.. أما "سعدى" أم "عناد" فكانت قد انتهت من تنقية البرغل تواً، وبدأت بصبه في القدر استعداداً لطبخه، وكانت على بعد أمتار قلية من حليمة، قرب موقد نار آخر، غير الذي تطبخ عليه ثريا اللحم.. وكانت سعدى قد سمعت ما قال زوجها عني لزوجتيه الأخريين، فلما أقبلت إليها مع زوجها، رحبت بي بوجه باش، قائلة: نورت ديارنا يا سعادة الكولونيل.. يا ألف مرحباً بك وبالركوبة التي حملتك إلى عندنا.. قال لها زوجها ممازحاً: احذري يا سعدى من أن يقع في فم سعادة الكولونيل، حجرة صغيرة، أو حبة زؤان في البرغل.. فإذا وقع أحد أسنان سعادة الكولونيل على شيء من هذا، فسأكسر أسنانك جميعاً.. هل تفهمين يا أم عناد.. كل شيء ولا سعادة الكولونيل.. فقالت المرأة وهي تبتسم بفتور: خير إن شاء الله.. خير يا عريفج.. كانت الفجوة كبيرة بين عريفج وزوجته الصغرى، حتى بدت كأنها ابنته.. فهو في الخامسة والستين، وهي في الرابعة والعشرين.. هو أسمر داكن نحيف قصير، وهي طويلة بيضاء، في وجهها استدارة ووضاءة.. وفي عينيها السوداوين الواسعتين صفاء بدوي أخاذ.. وبعد أن اطمأن إلى أن كل شيء على ما يرام، اقترب من زوجته الكبيرة، وقال لها بصوت مهموس، إلا أنه مسموع: يا ثريا.. أحذرك من أن تتركي في القدر قطعة لحم.. ضعيه كله في الصواني.. ضيوفنا كثيرون.. استرينا يا أم نافع.. واللحم الذي يرجع من عند الضيوف تأكلينه أنت وضرائرك وأولادكن.. أتفهمين يا ثريا.. تفهمين؟

قالت المرأة بصوت هادئ: أفهم.. أفهم.. لا تشغل بالك.. ثم استطرد لوفنتال: كانت الساعة يا عزيزي شوفان قد قاربت الواحدة ظهراً.. وما أكتمك أني كنت مستمتعاً بما أرى وأسمع.. كانت الروح البدوية الصافية تتجلى في كل مظهر من المظاهر التي أمامي.. إلا شيء واحد أحببت أن أتأكد منه، فوصلت فيه إلى بعض النتائج الأولية إلا أنني لم أصل إلى يقين قاطع بعد.. أتدري ما هو؟

قال شوفان: لا أستطيع الجزم بشيء، ما دمت أنت صاحب القضية لم تتمكن من الجزم.. إلا أنني أستطيع أن أخمن، من خلال متابعتي لحديثك، أن ما يشغل بالك هو معرفة السر الحقيقي، في هذا الترحيب الزائد بك، من قبل الشيخ عريفج وزوجاته..

صفر لوفنتال صفرة قوية، وضرب الطاولة بيده وقال ممازحاً جليسه: لولا أنك سكير مثلي، لشهدت بأنك قديس..

ضحك الرجلان، وصب كل منهما خمراً في كأسه، ثم قال شوفان: وما الداعي للقديسية يا عزيزي لوفنتال؟ ألم تتهمني قبل قليل بشدة النباهة؟

قال لوفنتال: وهل هذه تهمة؟

قال شوفان: طبعاً.. لأن الإنسان حين يدعي ما ليس له، أو ما ليس فيه، فإنما يسرق هذا الشيء سرقة، سواء أكان هذا الشيء ألبسة أو دراهم أو صفات أو أخلاقاً.. ربما أنك ساعدتني على سرقة قسط من النباهة ليس لي ولا من حقي، فأنا وإياك متهمان بالسرقة، ويجب أن ننال العقوبة التي نستحقها..

قال لوفنتال مازحاً: أراك أدخلتني في دوامة رهيبة من الفلسفة القانونية، لا أستطيع الخروج منها أبداً.. والحمد لله على أنك لم تكن معي في حينها.. إذن لحرمتني غداء ابن دلوان..

ضحكا معاً مرة أخرى وقال شوفان: أكمل يا عزيزي أكمل، من حيث وصلت.. قلت إنك لم تستطع تفسير كرم الشيخ الزائد وكرم نسائه..

قال لوفنتال ساهماً: الحق أني لم أستطع تحديد النسبة في هذا الكرم.. أعني نسبة كل من الكرم الطبيعي والكرم المصلحي.. وإن كنت قد وصلت إلى نسبة تقريبية ليست دقيقة تماماً.. وهي أن الكرم الطبيعي البدوي الأصيل عند الشيخ عريفج يصل إلى نسبة الثلثين.. والثلث الباقي يعود إلى سببين: السبب الأول هو أني رجل حكومة، كما يردد البدو هنا عادة.. وأما السبب الثاني، فهو أني أحد مصادر الرزق الأساسية بالنسبة إلى الرجل.. أما كرم زوجاته، فما أظنه إلا كرماً بدوياً أصيلاً، إلا في حالة واحدة، وهي أن الشيخ أخبرهن بأني مصدر من مصادر الذهب، وطلب منهن أن يرحبن بي لأجل ذلك.. أو تطوعن بالترحيب من تلقاء أنفسهن، تحت إغراء الذهب.. وهذا مما استبعده كثيراً، لأن مثل هذه النفسيات الضعيفة قليلة الوجود بين وجهاء البدو عامة، وبين كبار زعمائهم خاصة..

قال شوفان: أنا أتفق معك في هذا التحليل بشكل عام، من خلال ما لمسته من نفسيات البدو، هنا في سورية وفي غيرها من الدول.. ولكن ألا تلاحظ يا عزيزي لوفنتال أنك جوعتنا؟ أما توصلنا إلى مرحلة الأكل وتريحنا!؟

قال لوفنتال: ما أظنك يا عزيزي شوفان ستأكل من ذلك الطعام لو كنت معنا.. وأنت على هذه الأناقة الزائدة..

تضاحك الرجلان، وقال شوفان: أما أنت فلا يخشى عليك.. أليس كذلك؟

قال لوفنتال: إن صحت تسميتي بـ "ضبع فيشي" فلا خوف علي فعلاً.. على أنني قد ملأت معدتي لحماً برغم إحساسي القوي بأني بشر..

ضحك الرجلان ضحكة خفيفة وقال لوفنتال: على كل حال، سأختصر المسافة بينك وبين الطعام يا عزيزي شوفان.. لقد حضر الطعام.. في حدود الثانية ظهراً.. وكان في أربع أوان واسعة لك إناء يسمونه "صينية".. وكانت اثنتان منهما مملوءتين بالبرغل وفوقه اللحم فوق كل واحدة كبش.. أما الأخريان فكانتا مملوءتين بخبز الصاج المفروش على اتساع كل منهما، وفوقه المرق واللحم.. وكانت إحداهما تحمل كبشاً، والأخرى تحمل اثنين.. وتستطيع أن تخمن أن ذات الكبشين كانت من نصيبي.. لكن حتى الآن ليس في الأمر مشكلة.. المشكلة يا عزيزي بدأت مع بداية الأكل.. لقد جلس على صينيتي، واسمح لي أن أنسبها إلى نفسي، حوالي عشرة رجال فقط من كبار وجهاء القبيلة.. كما جلس على الأخريات باقي الرجال، وكان الشيخ قد دعا عدداً كبيراً من رجال القبيلة لحضور الوليمة.. وكان الجميع بما فيهم الذين حول صينيتي قد شمروا عن سواعدهم السمر، المغطاة بالشعر، وبدأ كل منهم يغمس يده في الصينية فيقتطع شيئاً من الخبز المغمس بالمرق، ويفت بأصابه شيئاً من اللحم، فيصنع لقمة كبيرة، ثم يخرج يده، ويهز اللقمة ويضغطها بأصابعه وراحة يده، ثم يلقيها إلى أعلى، على ارتفاع عشرين سنتيمتراً تقريباً، ويتلقاها بيده، ويعود فيلقيها ثانية وثالثة.. حتى تصبح كالكرة الصغيرة، ثم يلقيها داخل فمه بخفة عجيبة، وعلى بعد خمسة عشر سنتيمتراً تقريباً.. فتدخل وكأنها تعرف طريقها إلأى جوفه منذ عشرات السنين.. ولقد تعمدت أن أنظر إلى شواربهم وإلى لحاهم.. لأرى هل اصطدمت إحدى هذه اللقم الضخمة بشارب أحدهم أو لحيته.. فوجدتها نظيفة كلها، برغم أن شوارب بعضهم متهدلة مثل شواربي.. أما الذين شواربهم معقوفة مثل شواربك، فمن باب أولى ألا يمسها سوء.. لا أكتمك أني تحيرت في البداية، كيف أجاري هؤلاء القوم في أكلهم، فبدأت أقطع قطعاً صغيرة من الخبز الجاف أمامي الذي لم يصبه البلل، ثم أغمسها بهدوء في المرق، وأضعها في فمي بتؤده دون أن أمارس عليها أية هواية رياضية.. ولقد أحس الشيخ عريفج بحرج موقفي، فأرسل إلى نسائه يطلب منهن تدبير معلقة لسعادة الكولونيل، ثم بدأ يمسك بيديه قطع اللحم الكبيرة، ويفتها ثم يضعها أمامي.. ولقد زادني هذا حرجاً أكثر من السابق.. فقد تكون أصابع الرجل نظيفة، إلا أن هذا لا يعني بالضرورة أني يجب أن آكل كل ما يفته لي.. وهنا المفارقة.. هو يعتبر فعله كرماً زائداً، وأنا أعتبره سماجة وقلة ذوق.. ولا بد على كل حال من التعامل مع الموقف بعقلانية، وإلا فسد جو الوليمة.. أشرت إليه واللقمة في فمي، ألا يتعب نفسه.. فما ازداد إلا كرماً.. فاضطررت لإخراج نفسي من هذا المأزق، أن أتخيل نفسي في مكان منقطع عن العالم، وأنا في غاية الجوع.. وليس أمامي إلا هذا الذي تفته لي أصابع عريفج.. وبدأت آكل على هذا الأساس، ثم بعد برهة أحسست بالانشراح لم آكل، ثم انفتحت أبواب الشهية على مصاريعها.. وبدأت آكل.. وبدأت أغمس يدي في الخبز المبلول وأصنع لقمة مملوءة باللحم، وأضعها في فمي، دون أن أجرؤ على رفعها إلى أعلى أو قذفها في فمي من بعيد.. ولم انتبه إلى نفسي وما حولي، إلا حين أصبحت قريباً من الشبع، فنظرت فإذا الرجال جميعاً قد قاموا، ولم يبق بجاني إلا مضيفي.. يفت لي اللحم دون أن يأكل.. وأحياناً يضع قطعة خبز بقدر ظفر الإبهام في فمه، ليوهمني بأنني لست الوحيد الذي لم يشبع.. وبالتالي لست شاذاً في النهم والشراهة.. وقبل أن أشبع بقليل جاء أحد أبناء الشيخ ليخبر أباه بأن الملاعق عند "كحلان" المبيض.. وأنهم بحثوا عن ملعقة عند الجيران، فما وجدوا إلا ملاعق قديمة بالية، وملاعق أخرى زرقاء، علاها "الجنزار"، لا تصلح لسعادة الكولونيل، وبعد أن شبعت يا عزيزي شوفان، قمت لأغسل يدي، فما وجدت أحداً ممن شبعوا قبلي قد غسل يديه، وقد تعاور على كل صينية ثلاث دفعات من الأكلة، كلما قامت دفعة تلتها أخرى.. ومع ذلك، لم أجد واحداً صب على يديه كأساً من الماء.. وبينما أنا أغسل يدي وفمي، لمحت بعض الرجال يمسحون أيديهم بأحذيتهم... كما أن بعضهم بعد أن ينظف يده بحذائه، يمسح ما يتبقى فيها من نعومة الزفر بلحيته وشاربيه فيزداد شعر وجهه لمعاناً.. عجائب يا عزيزي شوفان عجائب.. إلا أنها والحق يقال، ليست جديدة علي تماماً، فقد ألفت هذه الأجواء بأشكال متعددة، وضمن ظروف مختلفة.. وليس هناك قبيلة إلا وفيها أكثر هذه الأجواء على اختلاف درجاتها.. لقد وجدت جواً مشابهاً إلى حد كبير، عند الشيخ مسلط بن صطام العليان.. كما وجدتها عند الشيخ طراد بن منصور المطلق الحردان.. إلا أن الشيخ طراد لم يأخذني إلى بيته، وعند بدء الطعام كان قد جهز لي الملعقة.. وحين نهيته عن فت الطعام أمامي، انتهى باسماً، فلديه شيء من النباهة ودقة الملاحظة.. ويبدو أن أخوته لا تعزهم كذلك النباهة بل ولا الذكاء بنوعية البدوي، والسياسي.. إلا تلاحظ معي ذلك يا عزيزي شوفان!؟

قال لوفنتال هذا الكلام، ووجه عينيه كجمرتين من اللهب، إلى عيني جليسه الإنجليزي، الذي بدأت عيناه تروغان يمنة ويسرة.. ثم يده وأخذ رشفة من كأسه، ومسح فمه، ثم قال بتردد وهو يلوي شفتيه: ربما.. ربما.. إلا أنني لست متأكداً من ذلك تماماً.. لا أستطيع أن أجزم بذلك.. فالناس يتفاوتون في الذكاء والنباهة ودقة الملاحظة وغير ذلك.. ألا تعتقد معي ذلك!؟

ابتسم الفرنسي وقد لاحظ ارتباك صاحبه.. إن هذا هو ما يبحث عنه ويسعى إليه.. ولقد استطاع أن يحصر شوفان في الزاوية الضيقة، وعليه أن يتابع الحصار.. ولقد أحس شوفان بهذا الحصار.. وأدرك تماماً، أنه حشر في زاوية الدفاع عن النفس، وأنه قد لا يستطيع الخروج منها بسهولة.. وأن كلمات لوفنتال الأخيرة هي بدء الحصار..

إن صلة هواش وغزوان المواطنين في المستعمرة الفرنسية، بالكولونيل شوفان، لم تكن إذن خافية على "ضبع فيشي"، وها هو ذا يكاد يلتهم جليسه بعينيه المحمرتين من السكر ومن الانفعال المكتوم.. فكيف يخرج "الوسيم الماكر" من هذا الحصار.!؟

أخذ شوفان رشفة من كأسه، ثم قال لجليسه مازحاً: يبدو أنني سبقتك في الشرب يا عزيزي.. وأخشى أن يكون غداؤك الثقيل قبل بضعة أيام عند عريفج، قد قلل من شهيتك للخمرة..!

ابتسم لوفنتال ابتسامة ماكرة وقال:

لا تخش من هذا يا عزيزي.. فقد ألفت العمل في كل الأجواء.. ووطنت نفسي على أن أحارب في كل الجبهات.. الأكل.. الشرب.. القتال.. كما حفظت كثيراً من الدروس، في المناورات الساخنة والباردة، ومع كل الجهات، بدءاً ببداة سورية، وانتهاءًِ بساسة أوروبا.. وما أظنك تقلل من نباهتي، وإن كنت لا أحلم في أن أحصل منك على شهادة عالية في النباهة..

قال شوفان باسماً: ما دمت قد فعلتها معي، فمن واجبي رد الجميل.. ثم قال ببراءة ظاهرة: برغم احترامي لسداد نظرتك في البدو يا عزيزي لوفنتال، أرجو أن تسمح لي أن أخالفك في بعض النقاط.. فلدي معلومات خاصة، تفيدنا نحن الحلفاء جميعاً، في تعاملنا مع البدو.. فلقد حدثنا الجنرال "ساسين جولفادير"، الرئيس الأعلى للقوات البريطانية في سورية.. وأظنك تعرفه جيداً.. فقد التقيت به حسب علمي مرات كثيرة.. أقول: حدثنا الجنرال جولفادير، نحن معشر الضباط الإنجليز، حديثاً شاملاً مفصلاً، عن أخلاق البدو وطبائعهم، وأساليبهم الماكرة الملتوية في البحث عن مصالحهم، دون أي اعتبار لأية قيمة أخرى.. لقد حذرنا الجنرال جولفادير، من التعامل مع البدو ضمن أية صيغة، وعلى أي مستوى.. وأمرنا ألا نعقد مع أي منهم صلة مودة أو صداقة.. فهم ثعالب، مكرة، أما ما يمكن جانبهم، ولا يستطيع المرء أن يطمئن إليهم ساعة واحدة.. أما ما يمكن أن يحدث عرضاً من مجاملات فردية، في مجلس، أو شارع، أو طريق سفر، أو دائرة حكومية.. فهذا مما لا يملك المرء تجنبه.. وعلينا ألا نحتقر اليد التي تمتد إلينا بالمصافحة.. أو اللسان الذي يلقي علينا التحية..

كانت عينا شوفان ما تزالان تروغان، وكانت عينا صاحبه مثبتتين بقوة في وجهه.. وكان أخشى ما يخشاه شوفان، أن تكون القوات الفرنسية قد اطلعت على البرقية التي أرسلها تشرشل إلى قواته في سورية.. وهي صورة عن برقية عامة وزعت على جميع القوات البريطانية، المنبثة في كثير من أنحاء العالم.. إنه ليس متأكداً من عدم إطلاع الفرنسيين على هذه البرقية، لذلك كان موقفه ضعيفاً، وقد أحس بهذا الضعف في أعماقه، ولقد حاول أن يتكهن، وأن يستنتج أن الفرنسيين لم يطلعوا على البرقية وإلا لأثاروا حولها زوبعة عنيفة، وذلك بحكم انفعاليتهم وسرعة مبادرتهم في الدفاع عن مصالحهم.. إذ لا يملكون في هذا المجال، القدرة على معاملة حلفائهم بالنفس الطويل لسبر أغوارهم واستدراجهم إلى المصايد الجاهزة، كما يفعل الإنجليز.. فلو كان لدى الجنرال "موراي" وضباطه شيء لما قدروا على كتمانه طوال هذه الفترة.. لكن.. هل هذا أكيد..؟ لا يدري.. وعلى كل حال، إن الكلمات التي قالها لصاحبه لا تخلو من فائدة، فقد أراد إبعاد الشبهة عن نفسه عن طريق تحقير البدو، بكلام اختلقه ونسبه إلى رئيسه. وهنا بدأ يستعرض في ذاكرته برقية تشرشل التي يحفظها عن ظهر قلب:

أيها الأبطال...

يا جند بريطانيا الأوفياء.. ويا صناع غدها المشرق المجيد..

إن الحرب نار لا هبة كما ترون.. وكما تحسون لفح لهيبها صباح مساء..

وهي بحاجة إلى وقود.. وإلى مزيد من الوقود.. في كل ساعة.. بل في كل لحظة.. ولعلكم تعلمون أن أمكم العظيمة بريطانيا.. كانت منذ بداية الحرب، وما تزال هي المصدر الأول والأساسي لهذا الوقود.. ولا سبيل أمامها غير هذا.. وإلا لارتفع الصليب المعقوف في سماء لندن، كما هو مرفوع الآن في سماء وارسو وباريس وسواهما، من الدول التي ركعت للنازية عند أول وثبة من وثباتها الشيطانية الرهيبة..

ولعلكم تدركون أيها الأبطال طبيعة تحالفنا مع هذه الدول والممالك المتهاوية.. التي تجوب خيل النازية عواصمها في كل اتجاه.. إنه حلف رمزي شكلي.. اسم بلا مسمى.. حلف مع رجال ونساء.. ممن يدعون ملوكاً وملكات، ورؤساء وأمراء.. إنهم يقدمون لنا عواطف حارة، ودموعاً غزيرة، وأحزاناً عميقة على ممالكهم الساقطة ودولهم المنهارة وأمجادهم الضائعة.. ويطلبون منا أن نقدم لهم مقابل هذا كله، المال والمأوى والحياة الرغيدة لهم ولأسرهم.. والرجال والسلاح، لتحرير أوطانهم وإعادتهم إليها ظافرين غانمين.. سادة مكرمين..

هذه هي طبيعة تحالفنا مع حلفائنا هؤلاء..

ومرة أخرى نقول إنه لا سبيل أمامنا غير ذلك.. فدعمنا لهؤلاء، هو دعم لمعركتنا ذاتها، بشكل أو بآخر.. ويكفي أن يقلل من إحساس النازي بشرعية احتلاله.. وأن يقلل من اطمئنانه لاستقرار هذا الاحتلال واستمراره..

أيها الأبطال.. إن تحالفات الحرب تختلف عن تحالفات السلم.. وإن التحالف بين الأنداد المتكافئين، يختلف نوعياً عن التحالف بين قوي يحمي وضعيف يحتاج إلى حماية..

وعلينا أن نعي هذه الحقائق بشكل لا لبس فيه ولا غموض.. كيلا تختلط علينا الأمور.. إن بعض حلفائنا هؤلاء ما يزالون يحسون بعظمة دولهم وممالكهم التي سحقتها حوافر خيل النازي.. وبناء على هذا الإحساس النبيل يطلبون منا أن نعاملهم معاملة الند للند، والنظير للنظير.. ولا يقرون لنا بحقنا في الوصاية على شؤون الحرب، أو بحقنا في تسخير شيء من ممتلكاتهم، أو رجل من رجالهم لخدمة قضيتهم، التي نخوض في سبيلها أشرس المعارك وأكثرها دموية وعنفاً.. إنهم يريدون منا أن نحرر لهم أوطانهم، دون أن ننقل جندياً من جنودهم من مكان إلى آخر.. ودون أن نتصرف ببارجة أو طائرة أو عربة، من معدات جيوشهم، خدمةً لقضية من قضايا الحرب..

إن إحساس المرء بعظمة بلاده شيء، والوهم الطفولي المتناقض مع أبسط معطيات الواقع شيء آخر.. مختلف تماماً..

ونحن لا يضيرنا أن نساير حلفاءنا هؤلاء في احساساتهم النبيلة تجاه أوطانهم، بل إن من واجبنا أن نغذي لديهم هذه الإحساسات ونزيدها عنفاً، لتكون حوافز تدفعهم إلى البذل والتضحية من أجل القضية المشتركة..

إلا أن هذه الإحساسات لدى حلفائنا، ينبغي ألا تمنعنا من التصرف بحكمة وروية، فيما نراه ضرورياً لتحسين أوضاع قواتنا في جبهات القتال.. لا سيما التصرف في مستعمرات بعض حلفائنا وممتلكاتهم فيما وراء البحار..

إن كل جندي، بل كل مواطن تابع لأية دولة من دول الحلفاء، ينبغي أن يستفاد منه لتحقيق نصر الحلفاء.. وكذلك كل قطعة أرض، وكل آلة مدنية أو عسكرية، تابعة لأي حليف من الحفاء، وفي أي مكان من العالم.. وأنتم المؤهلون في أماكنكم التي تجابهون فيها العدو، لمعرفة ما يمكن تسخيره اليوم، وما يمكن الإفادة منه غداً.. فلا يمنعنكم حرص حلفائنا على ممتلكاتهم من التعامل مع هذه الممتلكات بلطف وكياسة وحذر.. كما هو مألوف لديكم.. دون أن تستثيروا مشاعر حلفائنا، أو تجرحوا إحساسهم الوطني.. فإن الحرب قيمها الخاصة، ومعادلاتها الخاصة.. أرجو أن يدرك الجميع جيداً معاني هذه الكلمات.. وأن يحفظوها.. كي يتمكنوا من تطبيق مضموناتها على أرض الواقع.. كل في الموقع الذي هو فيه..

أرجو لكم التوفيق.. وتحياتي لكم..

والنصر للحلفاء.

خاص بالضباط الأمراء والقادة

ونستون تشرشل

صب شوفان شيئاً من الخمرة في كأسه وكأس صاحبه، ثم ابتسم ابتسامة ماكرة وقال له: بالمناسبة.. نسيت أن أسألك عن موضوع يا عزيزي لوفنتال..

قال لوفنتال ببرودة: وما هو؟

قال شوفان: ألم يسألك أحد من هؤلاء البدو، لمَ لم تتزوج حتى الآن..؟

قال لوفنتال باسماً: بلى، لقد طرحوا علي هذا السؤال مرات كثيرة.. إن أمرهم عجيب في هذا المجال.. لديهم فضول غريب، ويحبون التطفل على أخص خصوصيات الإنسان، وأشدها التصاقاً بحياته الشخصية..

قال شوفان: يجب أن تعذرهم، إذ ليس لديهم عمل يملأ فراغ حياتهم، فهم مضطرون للتسلية وقتل الوقت بالحديث عن خصوصيات الآخرين..

ضحك لوفنتال وقال ساخراً: ما ألطف العذر الذي التمسته لهم يا عزيزي!

قال شوفان: ولكن لم تقل لي، كيف كنت تجيبهم على هذا السؤال الوجيه الخطير؟

قال لوفنتال ضاحكاً: أول ما وجه إلي هذا السؤال، كان من الشيخ حنظلة بن شيحان وكان لما يمض على وجودي في هذه المنطقة سوى أسابيع قليلة.. ولقد سألني في البداية عن حال أسرتي، الزوجة والأولاد، ليطمئن على صحتهم، فسرني هذا الاهتمام بشؤوني الخاصة من رجل لا تربطني به علاقة في الأصل، واعتبرته دليل مودة.. إلا أنني حين أخبرته أني غير متزوج، همس لنفسه بصوت خافت: يا قوم.. وكيف يقضي عمره مسبوع الأب..؟ ثم التفت إلي باسماً وقال: على خير.. على خير.. الله يبعث لك بنت الحلال التي تريحك.. وبرغم ضعفي بلغة هؤلاء الناس، وقلة المفردات التي أحفظها منها، فقد فهمت ما قال.. أما الكلمات التي همسها لنفسه، فقد صعب علي فهم ثلاث منها هي: يا قوم.. ومسبوع الأب.. فعزمت على أن أسأل المترجم عنها.. إلا أن فهمه لها لم يكن خيراً من فهمي.. فهو مدني من اللاذقية، وصلته بمصطلحات البدو وتراكيبهم محدودة.. ومع ذلك قرر أن يأتيني بمعناها.. وفعل.. لكن بطريقة مثيرة.. إذ رأى بدوياً يركض وراء جمل له، فصاح به: هيه.. يا مسبوع الأب.. فالتفت إليه البدوي محنقاً وقال: وأيس تريد يا ملعون الوالدين..؟ وأيش لك عندي يا مثبور حتى تدعو علي....!؟ فكتم المترجم ضحكته، وقال للبدوي بلطف: أرجو المعذرة يا ابن العم.. أنا غريب وما أعرف معنى هذا الكلام.. ظننته كلام خير.. فقال البدوي وقد عاد إليه بعض الهدوء: لا يا ابن أخي لا.. هذا ما هو كلام خير.. هذا دعاء بالشر.. أنت تدعو على أبي أن يأكل السبع ابنه، الذي هو أنا.. يعني أنت تريد يا ابن أخي أن تأكلني سباع الفلا، دون أن يكون بيني وبينك عداوة..

فشكر المترجم صاحبه على هذا التوضيح، إلا أنه أراد أن ينتهز الفرصة ويتأكد من معنى كلمة "يا قوم".. فقال للبدوي: أشكرك يا ابن العم أشكرك.. والآن دلني على الطريق.. يا قوم..

فاحمرت عينا البدوي مرة أخرى، وقال غاضباً: اسمعوا يا ناس مملوص الأبط، أنا أفعل معه الخير، وهو يجازيني بالسوء.. والله لولا ما لولا.. وهز في يده قضيباً كان يضرب به جمله، فاعتذر له المترجم مرة أخرى بأنه لا يعرف معنى الكلمة، فأفهمه البدوي بأنها دعاء عليه أن يسلط عليه قوم من الأقوام، فيأسروه أو يذبحوه.. فشكره المترجم مرة أخرى وانصرف..

ثم تابع لوفنتال: وحين أخبرني المترجم بمعاني هذه الكلمات، أحسست بخنق شديد تجاه ذلك النذل، الذي تظاهر بمحبتي والاهتمام بحياتي الشخصية.. وهي في الوقت ذات يتمنى لي الهلاك.. أف.. ما أحط هذا الصنف من الناس..

قال شوفان باسماً: لا تحزن يا عزيزي.. كلنا شركاء في المصير.. ولقد نالني كثير من هذه الدعوات الصالحة.. وللسبب ذاته.. وبالأسلوب ذاته.. وما زلت أتلقى المزيد منها حتى إلى الآن.. برغم معرفتي بمعانيها..

قال لوفنتال مندهشاً: أما زلت تسمع منهم هذه الدعوات وتسكت!؟

قال شوفان باسماً: إنهم طبعاً لا يكرمونني بدعواتهم الطيبة هذه، إلا لظنهم أني أجهل معانيها.. لذا، فإني لا أحب أن أخيب ظنهم.. كما لا أحب أن أضيع الفرصة لمعرفة المزيد من طباعهم وأخلاقهم ونواياهم، التي لا يكشفونها إلا لمن لا يعرف لغتهم، وأساليبهم في التعبير عن مكنونات صدورهم..

قال لوفنتال جاداً: أما أنا فلم أستطع ذلك.. ليس لدي القدرة على تجاهل أية كلمة سوء توجه إلي.. لذا فقد أهنت عدداً من وجهاء البدو، لهذا السبب، وأغلظت القول لبعضهم، وضربت بعضهم.. وكانوا دائماً يعتذرون بأنهم لا يقصدون إلا الخير، وبأنهم يرددون هذه الكلمات في أكثر الأحيان على سبيل المزاح البريء، مع الناس الذين يحبونهم، ويألفون مخالطتهم وعشرتهم.. وربما كان بعضهم صادقاً فيما يدعيه.. فهذه الكلمات تقال أحياناً على سبيل الدعابة والمزاح.. إلا أن لهجة الحديث تنبئ في كثير من الأحيان عن نية صاحبها.. وكثير منهم يردد هذه الكلمات بحقد ظاهر أحياناً.. وبسخرية واحتقار أحياناً أخرى..

وجد الإنجليزي الفرصة أمامه مواتية لبسط بعض ما يجول في ذهنه، فقال وعلى شفتيه ابتسامة ماكرة:

إنه ليس في هذه البلاد غرباء سوى نحن وأنتم، كما تلاحظ، فما الأسلوب المفضل في رأيك للتعاون على كبح شرورهم؟

قال لوفنتال، وقد أدرك ما يرمي إليه صاحبه، من تمهيد للتدخل المشروع في شؤون البدو:

يسعدني يا عزيزي شوفان أن أسمع منك هذا العرض الكريم، لمساعدتنا في بضع الشؤون المتعلقة بإحدى مستعمراتنا الفرنسية العريقة.. وإن كنا نحن الفرنسيين لا نحب أن نرهق أعصاب حلفائنا وأصدقائنا في أمور لا تهمهم، ولا يسمح لهم وقتهم الثمين بالدخول فيها؛ إذ لديهم من خدمة مصالحهم الهامة والكثيرة، ما يشغلهم عن خدمة مصالح الآخرين.. على أن هذا العرض الكريم، محل نظر واعتبار لدينا، في كل حال.. بل أستطيع أن أقول الآن، بصفتي المسؤول الأول عن هذه المنطقة من قبل حكومتي الشرعية المتمثلة بشخص الجنرال ديغول: إنني لا أمانع في التعاون، ضمن صيغة متفق عليها، بل يمكن أن نتفق عليها منذ الآن.. فما أفضل صيغة للتعاون في رأيك يا عزيزي شوفان؟

ابتسم شوفان ابتسامة فاترة، وقال لصاحبه: دعني أفكر قليلاً..

لم يكن يتوقع شوفان أن يستجيب صاحبه لطلبه بهذه البساطة.. كان هدفه من الطلب المناورة، لكشف بعض الثغرات في أحاديث صاحبه أو مواقفه، للإفادة منها في بناء علاقات معينة مع البدو، أو في تعزيز علاقات قائمة، من وراء ظهر زميله الفرنسي.. أما وقد استجيب لطلبه، فقد بات الأمر يحتاج إلى دراسة خاصة، إذ ما معنى هذا التعاون المقترح؟ وما أبعاده؟ وما كيفيته؟ وما الصيغة المثلى له؟ وهل سيكون شوفان مجرد مساعد لصاحبه في أمور تتعلق ببعض الرعايا في إحدى المستعمرات الفرنسية؟ وهل سيكون له نوع من الاستقلالية في بعض الأمور، أو في البت في بعض القضايا.. وباسم أية دولة سيكون هذا؟ فرنسا أم بريطانيا؟ وهل سيقبل الفرنسي أن يبرم شوفان قضايا معينة باسم بريطانيا، أو يوزع على البدو أموالاً وهبات، بصفة مساعدات بريطانية..؟

إن الأمر ليس سهلاً، ولا واضحاً تماماً.. إلا أنه في كل الأحوال، مجال خصب للمناورة.. فما المانع أن يدخل شوفان إلى البدو تحت غطاء مساعدة الحليفة فرنسا.. ثم يمهد تحت هذا الغطاء الشرعي لمشروعاته الخاصة، التي لا تحتاج منه إلا إلى شيء من الحنكة والدهاء وحسن التصرف.. وإن اكتشف الفرنسي بعض "الأخطاء" في تعامل شوفان مع البدو، فإن صمامات الأمان، والتسويغات المعدة من قبل، لكل خطأ كفيلة بإزالة ما يمكن أن يحدث من لبس أو "سوء تفاهم". وبناءً على هذا كله، فإن شوفان لا يرى مانعاً من "التعاون" مع نظيره الفرنسي في قضايا البدو.. ولا يرى حاجة لاستشارة رئيسه الجنرال "ساسين جولفادير" في هذا الأمر، فهو يعرف رأيه الإيجابي، والمفعم بالحماسة، في هذا الخصوص..

أما الفرنسي، فقد أراد أن يعرض صاحبه للشمس، ويتعامل معه على المكشوف.. فالتعامل العلني الظاهر في هذا المجال، خير لفرنسا، من أن يظل الإنجليز، يمدون أصابعهم الطويلة الناعمة في الظلام، إلى أمتعتها وحقائبها ومستودعات رجالها، فيسرقون لقمة من هنا، أو بضاعة من هناك، أو رجلاً من هنالك، ويظل الفرنسيون مرهقين منهمكين في التذكير والتنبيه والتحذير.. وماذا يمكن أن يكون شوفان في بادية الشام، أكثر من مساعد أو مستشار لصاحب السلطة والقرار فيها.. ولا داعي في هذا المجال، حتى لاستشارة الجنرال "موراي"، فالأمر أهون من أن يحتاج إلى إذن أو استشارة.. بل من حق لوفنتال أن يستفيد من كل القوى والظروف المحيطة به لإنجاز مهماته في المنطقة، وتحقيق الغايات المطلوب منه تحقيقها، مع تحمل التبعات الناجمة عن تصرفاته المرتجلة وأخطائه الجسيمة..

رفع شوفان وجهه ونظر إلى صاحبه باسماً وقال: حسناً يا عزيزي.. اتفقنا على المبدأ.. ونرجو أن نلتقي في أقرب فرصة لوضع الصيغ المناسبة للعمل.. ولنشرب الآن نخب انتصار الحلفاء..

صبا كأسين من الخمرة، وقرع كل منهما كأسه بكأس صاحبه وأفرغها في جوفه.. ثم مسح كل منهما شاربيه بأسلوبه الخاص.. وانصرفا.

يتبع..