الزمن الجريح

نعماء محمد المجذوب

الزمن الجريح

رواية: نعماء محمد المجذوب*

 (20)

في البيت قالت العمة:

- أخبار عن فلسطين في الإذاعة.

- هل من جديد؟

- مذابح جديدة.

زفرت وهي تقول:

- للسياسة الصهيونية مفهوم عجيب، تسعى لأن يكون للفلسطينيين وطن بديل.

- أين؟

- في أي مكان في الوطن العربي، يقولون إن عرب فلسطين جزء من الأمة العربية المحيطة بهم، ويزعمون أن الفلسطينيين لصوص سكنوا بلاداً ليست لهم يجب أن يخرجوا منها، ليس هذا فحسب، بل يجب أن يدفعوا بدل إيجار عن المدة التي سكنوها تتجاوز ألفي عام.

قالت ليلى:

- شعبنا جزء من أهداف المؤامرة الصهيونية لتهجيره، أو إبادته.

قالت العمة:

- "لمليحة" المرأة المهجرة شعور صادق رهيب، تود أن تكافح في فلسطين، وأن تستشهد بعد أن استشهد زوجها الثائر، كانت صامدة، صابرة، متضرعة إلى الله أن تلحق به.

سألتها أحلام:

- لماذا تفعل ذلك؟

أجابت العمة:

- لأنها مؤمنة، أدركت الأمور التي تدور في وطنها، ومؤمنة بما أصابها.. إنها بحق خير النساء، تذكرنا بالخنساء.

هيج كلام العمة المشاعر في نفس أحلام، إلى وطنها الذبيح، تفجر إلى عهد الفطرة والنقاء والبراءة، في وجه الاقتحام العاتي، لعهد القهر والتحكم، وتساءلت:

- أين حقوق الإنسان التي ينادي بها الغرب؟

كان الحنين يلازمها في صورة أبيها الذي فقدته، وفي الحارة، والجيران، وفي التمرد على الجمود، عاشت في صراع لم يرحم أسلوب حياتها، إنها رافضة في أعماقها شهوة امتلاك القوي للضعيف، رافضة للأسطورة المزيفة التي ينسجها الصهاينة، مدركة عمق الهاوية التي يسقط فيها أبناء الشعب الفلسطيني، يهوي إلى المنحدر والقاع ولا منقذ.

في مثل هذه الحالة تفجر مشاعرها على الورق، فيها نفحات من حرارة التمرد والقلق، في خطوط غير واضحة الملامح، كانت صوتاً مدوياً، وكأنها تسير في الدرب وحدها.. كانت تتمرد على البيئة، وترى البلد بحراً يعج في الأعماق، وهي تنجرف في تيار معاكس... تحاول أن تغير أعماق البحر، أن تزيحه من مكانه، أن تسيره نحو المجهول.

أي مجهول هذا؟

تطلعاتها القلقة مع أمثالها ترفض الأشياء، ولا تقف عند شيء.

أفاقت من ذهولها على صوت عمتها تقول:

- إن العنف الإسرائيلي لا يهزمه إلا العنف الوطني، الاستعمار الاستيطاني أشرس وأخطر أنواع الاستعمار، بريطانيا كان لها دور في بعث الكيان الصهيوني في المرحلة الأولى، ثم جاء دور أمريكا في تدعيم هذا الكيان بعد بعثه عام 1948.. لا بد من الكفاح المسلح من قبل شعبنا أولاً وآخراً.

سألتها أحلام:

- أيكفي أن نعتمد على أنفسنا فقط؟

أجابت العمة:

- نحن أمة لا تذل ولا تهان، نحن أمة العرب والإسلام والجهاد والفتوحات.. إنما فتور يعترينا، وكسل يصيبنا، وبطر بالحياة، وسبات، وتواكل، وخمول... نامت البطولة فينا، وجعلنا الاستعمار نجري وراء اللقمة، وإلى مكان آمن، وغمر الإذاعة بالأغاني المائعة، والفساد، فجعلنا في ذهول، وانتشرت دور السينما، والليالي الحالكات بالآثام، حتى أصبحت الفتيات تقلدن الممثلات، والفتيان يقلدون الممثلين، نسوا القدوة الصالحة، وعشقوا الحياة، فكان الداء والوبال، وسر الضياع، وفي الجانب الآخر تستعد الصهيونية للانقضاض، ليس على فلسطين فحسب، بل على العالم الإسلامي جزءاً جزءاً، بعد أن فتتوه إرباً إرباً.

خرجت أحلام تتمشى في الطريق تحت الشجر، كان جماعة من الغجر يستقطبون بغنائهم، ورقصهم أهل البلد، وقفت تتفرج، وتتسمع، وتذهب الوحشة من نفسها، وتشعر بالأنس.. تابعت سيرها باتجاه الشاطئ، ألقت نظرات إلى أماكن اللقاءات، سرحت لحظات، تلفتت حولها، تساءلت:

"هل يراقبني أحد ويعد علي أنفاسي؟

هل تلوك شفاههم الكلام حولي بعد أن غدر بي من أحب، وقطع أمنياتي؟

ما أغباني حين بذلت أمامه بهائي، ثم ليلقيني عند أعتاب الخواء!

لم يزل الناس يهزون حولنا بالحكايات.

ما زلت أحمله في قلبي، وفي رسوماتي، وفي زوايا العتمة... وجهه يطلع من بين الأشجار، خيالاً، طيفاً، ثم لا يلبث أن يتلاشى... قد أسمع وقع خطاه، وحفيف ثوبه بين الأزهار، وفوق الرمال... أكاد ألمسه، ولكن أين؟ وكيف حين يكون وجودي ممزقاً؟... كان نسمة في وجودي، وصار اندلاع الأسى حين رحل.. كنت في ربيع مخضر مزهر، فمات ربيعي بغيابه.

باغتتها صديقة قائلة:

- ماذا تفعلين هنا يا أحلام؟

- أخفتني... فقط أتمشى.

- الأخبار تأتينا كل يوم بالمفاجآت.

- ما هي؟

- دوي رصاص الثوار بين ذرى الجبال الصلدة في مواجهة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني.

- بداية تثير الشفقة، رصاصات فقيرة بأيديهم.. رصاصات متناثرة لمقاتلين قلة.

- ماذا نتوقع من شعبنا المظلوم في فلسطين؟ والعيون والأسماع تتجاهله، هل نتوقع غير ذلك؟ ألا يحق له أن يثأر لذاته؟

- أجل... سيتحرر التراب الفلسطيني بأكمله، ويصير الثوار القلة جيشاً، وستصير الثورة دولة، وستزرع الأرض، وتشق الطرق، ويشارك في مواسم الحصاد.

همست الصديقة في أذنها:

- الوجوه الفتية المهجرة يظهرون في أماكن تجمعات المثقفين، مجموعة حالمة من طلاب فلسطين، تراودهم أماني أمة تجاهلت مشاعرها ووجودها كل الأمم، وضاع وضوح حقها في الاستقلال بين أساطير تتناسج بحق اليهود في فلسطين... من هذه الوجوه تتكون الملامح الأولى لملحمة تحرير فلسطين، ويأملون في الانتصار مهما طال الوقت، يتجهون بأهدافهم نحو الاستقلال، ووحدة الشعب، وتراب الوطن.

بألم تأوهت وهي تقول:

- كان قرار بريطانيا في وعد بلفور بإنشاء وطن لليهود في فلسطين قراراً جائراً، ونتساءل:

- هل حركت الأمم المتحدة ساكناً؟

- لم يصغ لشكوى الضحية أحد.

- فلسطين تدفع الثمن الذي فرضه عليها موقعها المهم.. يحدثنا التاريخ بأنها كانت دائماً عرضة للغزوات الخارجية، والطمع المتواصل في الاستحواذ عليها.

- ما يدعو إلى السخرية المريرة أن أعطت بريطانيا أرض فلسطين وهي لا تملكها، إلى من لا يستحقها.

- شيء يثير المقت والتقزز.

- هيا نعد إلى بيت عمك.

- دعيني هنا أروح عن نفسي.

- لتعيشي مع الذكريات، أليس كذلك؟

- بلى.. لأعيش مع الذكريات.. ما المانع؟

- غير لائق أن تمشي وحدك، وأنا غير قادرة للمكوث معك أكثر.. لدي مسئوليات.

- أنا حرة، أفعل ما أشاء.

- ينبغي أن نفهم معنى الحرية، كما ينبغي أن تكون.

- نحن في عصر تحرر المرأة.

- المرأة تحررت من أمور، وبرزت في أمور، كان للمرأة كيان جاد، واهتمام بعقلها.. أما الآن فأصبحنا نتألم حين نراها سلعة تجارية، وظاهرة متمردة على الحشمة، وسلعة حسية ترغب في الفرجة عليها.. نحن لسنا ضد حرية المرأة، لقد تفوقت في مجالات شتى... ألا تذكرين جميلة بوحريد، وجه مشرف لفتاة الستينات، وبرزت أديبات عربيات كنازك الملائكة، وفاطمة حداد، وعزيزة هارون.

صمتت أحلام:

- هل عييت عن الجواب؟

تابعت الصديقة:

- أنت ورفاقك الإلحاديون تنادون بالحرية، وتهتفون بها، وتستخدمونها معولاً لهدم القيم والتقاليد، وتعتقدون أنكم بوساطتها ستتخلصون من الظلم، والاستبداد، وبأنها تعطيكم قوة... وكأن الحرية معنى مختلف غير ما نعرفه.. بكل أسف حريتكم تفلت من الدين والعقيدة والخلق والفضيلة، لا حرية إلا في الاعتداد بالدين وقيمه، لا حرية في الفرار من عبودية الخالق إلى عبودية الخلق.

- هل انتهيت؟

- سأواصل كلامي مهما اشتد تجاهلك لما أقول.. الحرية يا صديقتي أن نحفظ أنفسنا من الرذيلة، ونحمي حياتنا –نحن النساء- من فتن الأنظار، وامتداد ألسنة السوء بغير حق إلى صفاتنا. وجمالنا نحفظه في بيوتنا لأزواجنا.. إنك ورفاقك تنادون بتحرير المرأة من حيائها وعفتها، بخلع حجابها، ونزع جلبابها.. هذا تخلف، وليس بتحرر.. وأنتم بأفكاركم تعملون على مسخ الحضارة العربية، باستبدالها بأخرى، لا تمت إلينا بصلة.

- أنت تسخرين من مبادئنا، وتشتميننا، أود الاحترام المتبادل فيما بيننا.. رجاء دعيني أشعر بنداوة البحر، وأنسى همومي.

- نسيان مؤقت.. هل أدلك على ما هو أفضل؟.. الإيمان بالله هو الواحة الندية، تجد روحك فيها الظلال من هاجرة الضلال، من تيه الحيرة والقلق والشرود، كما أنه القاعدة التي تقوم عليها حياة المجتمع، ونظامه، في كرامة، وحرية، ونظافة، واستقامة.

- ترددين عبارات مللت منها.. قيم، معتقدات،.. أمامي وأمام رفاقي في الدرب.. هل أنت واعظة؟

- الخواء الروحي أفقدكم التماسك، والمقدرة على استيعاب القيم والتراث الديني، وكل شيء عندكم مباح، لأنكم لا تؤمنون بوجود الخالق.

- أفكارنا لا تتعلق بالسماء.

- ولا تستطيع أن تولد قيماً، إنها تظهر قلقاً إنسانياً، وتبدي بؤساً بشرياً لا مثيل له،.. أفكاركم تؤدي إلى فشل القيم، وتفتت المجتمع.

صمتت أحلام قليلاً، ثم همهمت:

- من يحميني مما أنا فيه؟

ثم عادت إليها الحمية، وسألت:

- هل تحاولين أن تقنعيني ورفاقي بترك حزبنا اليساري، واختيار حزبكم اليميني؟

- لا أقول ذلك.. أريد فقط أن أوضح الحقيقة، بأن الحرية المطلقة دون اعتبار للفارق بين الخير والشر، أو دين وأخلاق ستودي إلى السقوط العظيم، وأبشرك بأن التجربة الإلحادية ستنهار قريباً، لأنها تجربة فاشلة.

- أوف.. فعلاً أنا في خواء... أين الرفاق، لا أجد أحداً منهم ينصرني وأنا في خوائي.

- عودي إلى بيت عمك، بعد ساعة سأكون في المركز الثقافي، هل تذهبين معي؟

- سأذهب مكرهة.

- لا تعيشي في الظل، عسى الله أن يهديك.

- الظروف القاسية جعلتني كذلك، لا يزال الماضي يستولي علي، بما فيه من قلق ومفاجآت.. ماذا تضمره لي الأيام في المستقبل؟

- سأمر عليك بعد ساعة، لنذهب معاً، ولنستمع إلى الحوار بصراحة وصدق من الطلاب المهجرين.

- أشعر بدوار.. الأرض تدور بي.

- لماذا؟ أمرك عجيب، كلما ذكر الحق أمامك ضاق صدرك، وأصابك دوار.

- كلماتك كانت أقوى مني، على الرغم من أنني خبرت وقعها مرات.

- لم أرد إثارتك، فقط أردت توضيح الحقيقة.

- كنت أحلم أن تكون الأرض أحلامي.

- الأحلام في السماء، الأيام والسنون تمر، شهود لك، أو شهود عليك، يقول الشاعر:

إنا لنفرح بالأيام نقطعها      وكل يوم مضى نقص من الأجلِ

- مجتمعنا مزيف فيه آفات كثيرة.

- نبحث عنها، ونتكاثف للبراء منها.

- بحاجة لهدم كامل.

- نهدم ما هو فاسد مستعص على الإصلاح، ونبقي على ما سوى ذلك مما ينفع الناس، ولا تعارض المبادئ الإلهية في العقيدة، والأخلاق، والسلوك.. في المركز عبري عن آرائك، ومقترحاتك، بحرية مطلقة.

خلال الحوار بين الطلبة المثقفين، رفعت أحلام صوتها تتساءل عن مصير الشعب في فلسطين.. فهل نسمع رداً على تساؤلاتنا؟.. من يضع القرار الذي يخصنا؟.. من العجب أن تكون عملية صنع القرار في مؤسسات غربية.. أين أمة العرب؟

قال أحدهم:

- إن لأمتنا مفاجآت، وكل يوم تحصل فيه المفاجأة هو يوم أغر عزيز علينا، ومن لم يكدح لم يفلح.

وقال آخر:

- إن الله فضل بني إسرائيل على العالمين.

انبرى أحدهم قائلاً:

- فقط على عالمي زمانهم، زمن فرعون، ثم انحرفوا عن الدين، وآذوا نبيهم،.. ألم يصفهم الله بأنهم المفسدون، المخادعون، المنافقون، العاصون، قتلة الأنبياء؟... كيف يكونون المفضلين في كل زمن؟.. أسطورة شعب الله المختار مزيفة، ليحققوا بمقولتهم أغراضهم.

لم يوقروا الله سبحانه وتعالى، ولم يوقروا نبيهم موسى عليهم السلام، فماذا ننتظر منهم؟.. هل يوقروننا نحن العرب؟.. طبعاً لا.

قالت ليلى:

- لقد نجحت تجربة الإبادة في أمريكا واستراليا، وظنوا أنهم سينجحون في فلسطين أيضاً.. والله إنهم لمغرورون... ولكن الله مبتلينا بهم، لبعدنا عن ديننا.

- شمسنا مكبلة بأيدي أعدائنا، ونرى النهار يحتضر.

- سيرتحل الليل، ويبزغ الفجر قريباً.

سأل أحدهم بطريقة مثيرة:

- أما سمعتم أخبار الثوار؟

الثوار يشترون بحياتهم حقيقة الحياة، يمضون فوق الجمر منتصبين.

- والسلام؟

- لا يزال بعيداً بعيداً.

- وطننا صفحة تاريخ مضيئة.

- لقد استهلك الصمت أفواه العرب.. فلنكفكف الدمع ونمضي.

- سندفع ثمناً غالياً من الكفاح، والجهاد ضد القمع اليهودي وحرب الإبادة ضد شعبنا، لنظفر أخيراً بعلم، ونشيد، ومقعد في الأمم المتحدة.

- نخشى على وطننا من أولئك اليهود المجرمين... نخشى أن يبقى هكذا.

- استمرار الطرق يجبر الاعتراف بحق فلسطين في التحرير والاستقلال.

ضحك أحدهم وهو يقول:

- المطرقة تضرب رؤوس الكثير من الأسئلة، وبخاصة عن هوية فلسطين.. هل ستبقى عربية أم لا؟.. هل ستكون الأقوى أم الأضعف؟.. هل تتحول بحيرة طبريا إلى بحيرة لفلسطين، أو ستكون للعدو؟

أجاب أحدهم:

- لم يحن الوقت لإعطاء إجابات شافية..

انبرى أحدهم قائلاً:

- سنحول أسطورة الأمن الحلم في إسرائيل إلى كابوس من المخاوف.

(21)

في العتمة كانت الأحلام تراود أحلام وتتحرش بها، وهي تصغي إلى قيثارة اليهود في فلسطين تعزف لحن الموت، وجنودهم تمتص دماء الصبايا والأطفال، وفي عيونهم يومض الحقد الأسود، حقد من عتق الزمان، ينفثونه في شوارع فلسطين وأزقتها.. ومن العجب أن الأطفال غير مرعوبين، يجرون في الدروب، والصبايا يزحفن فوق التلال، وبين الغدران، ورداؤهن الحزن.. باستنكار تتساءل:

"هل هذا عصر حقوق الإنسان؟

يتشدقون بعصر الحرية،.. هل هذه حرية؟.. حرية سوداء أم حمراء؟

يتوهمون أن يصيروا سادة العالم.. متى كان الوهم حقيقة؟

إنهم يخربون، يهدمون، يقلعون الشجر، يقتلون، يشردون.

أهذه هي الحرية التي يتشدقون بها؟"

دخلت العمة الغرفة، سألتها:

- ما بك يا أحلام؟ أراك تتحدثين مع نفسك بصوت عال.

- أكاد أصرع عندما أتذكر فعل اليهود في فلسطين.

- إنهم شرذمة، حثالة البشر، أوغاد العالم، وللأسف... الشرفاء غافلون

- لماذا؟ أقهروا؟

- لا بد من الصبر، والإعداد إلى أن يئوب العرب إلى رشدهم، ويستيقظوا من سباتهم.

- ويضيع عمر فلسطين على أعتاب الصبر، والانتظار والوعود.. والغرب يتآمر علينا.

- هذا ليس بجديد، حقد الأعداء واليهود متأصل منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.

- ما الداعي لهذا الحقد؟

- كانوا يأملون أن يكون رسول آخر الزمان منهم، فجعوا عندما خص الله سبحانه محمداً العربي بالرسالة السماوية الأخيرة، من بين سائر الأمم، ومن ذلك الزمن وهم يحملون أحقادهم، ويسيرون بها في دروب الحياة، وضلوا الطريق.

- همج، لا يعرفون الحضارة.

- الحضارة كانت للعرب والمسلمين، حضارة علمية إسلامية، انتشرت في أرجاء الأرض، محورها العقيدة والعلم.

- آه.. أرى الحق يموت في عصرنا.

- إلى حين، ثم يبعث من جديد.

- كيف؟

- بالصحوة الإسلامية، سيفيق الحق، هو في الصدور، وعلى الصدور أوسمة، والله على كل شيء قدير.

- أرى بيدك كتاباً، ما هو؟

- الحضارة الإسلامية عبر التاريخ.

- التفكير الكثير يصيبني بالاكتئاب، وفي ذهني تتضارب الأفكار، وتتناقض.

*   *   *

جاءت ليلى تسأل عن أختها، مرت أيام لم تلتق بها، قالت العمة:

- إنها في الغرفة تخلو بنفسها.

- هذه عادتها، تتحرر من ظروفها البغيضة للتمتع بحرية صورية، في إطار عالم الخيال، تنسجه في رسومات، وفي أحلام اليقظة.. كثيراً ما أراها في ذهول، أكلمها فلا ترد علي أثناء ركونها إلى العزلة، وتقرأ القصص الخيالية الحالمة.

قالت العمة:

- وتخرج أحياناً لتخلو بنفسها في أجواء مشبعة بعطر الذكريات، وأنفاس الأزهار، ولا يعكر صفاء الخلوة إلا زائرة على غير ميعاد.

- وأنا الآن هذه الزائرة ثقيلة الظل.

- تغيرت  أحلام بعد فشل الحب، إذ كانت قبل ذلك قد اندمجت بالمجتمع اندماجاً شديداً، ولكن ما لبثت أن انسحبت منه، لنفور الناس من سلوكياتها الغريبة، ثم انعزلت، وسجنت نفسها في غرفة مغلقة ترسم، تعبر عن زمن فقدته، وعن مختلف جوانب حياتها، شغف بالحب، موت، بحث عن طريق خلاص روحها من هواجس الموتى.

سمعت أحلام الحديث، فقالت:

- إن الموتى يعيشون في داخلي، وأجد نفسي أحياناً في حالة جنون، أتوهم أني قد نسيتهم، ولكن أشياءهم، وصورهم تذكرني بهم، فأنفجر في البكاء.

قالت ليلى:

- الذكريات والمشاعر قيثارة لا تفنى.

قالت العمة:

- خففي من المشاعر، وفكري بعقلك.

تساءلت أحلام:

- أيها يحجب الآخر، العقل أم الوجدان؟

- إنها في تناغم.

- انظري يا ليلى إلى رسمي، اقرئيه، وقولي رأيك، لولا عيونك يا أختي أي رسم يحتويني؟

قالت ليلى:

- في هذه اللوحة قمر.. القمر يمشي ولا يتعب.. وفي هذه اللوحة عقدة، عبرت بها عن الصهيونية..

- عقدة ستنفك.

- والشباب العربي؟

- قنبلة موقوتة.

- والصراع في الوطن؟

- ضد سرطان الاستيطان.

- والفضاء؟

- فضي واسع.

- والعاصفة؟

- ترصدها عيون الصيادين.

بانبهار قالت العمة:

- الرسم تجربة مثيرة استمرأتها.

بعثرت لوحات أخرى، سألت ليلى:

- وهذه، حدثيني عنها.

- أرسم أمي في الحقل، وبيت الطفولة، والبيئة، والتقاليد، ونشوة الماضي، وأحلامي، وكتبي، وأقلامي تحت البيت المهدم.

- ذكريات انطمرت، تبعثينها بريشتك... أحلام أريد أن أسألك عن آراء الشباب، والشابات المهجرين أثناء حوارهم في المركز.

- اتسموا بالصراحة والصدق، والبعد عن النفاق، وعرفوا أسباب الهزيمة، أو النكبة، ويرسون الأسس لبناء قوي، يتمثل في إنشاء جيل يؤمن بعروبته، وكرامته، وحقه الإنساني.

قالت ليلى:

- أرأيت؟.. من غير أن يعتمدوا على قوة أخرى.

- إذاً، نحن نخطئ الطريق.. لا أزال أتمسك بأفكاري البعيدة.

ثم بضيق دخلت الغرفة، وأغلقت الباب، وأدارت حواراً مع نفسها:

"إن المبادئ اليسارية أشعر بها مادة لزجة، ثقيلة تعلق بجلدي...

كنت أظن أنها جزء مني.. لا أستطيع الامتزاج بها تماماً، ترسب في نفسي، ولا تذوب بها... أتذكر قول ليلى وهي تضحك:

أهكذا؟ وتتمسكين بها عناداً، لا صدقاً؟"

ألقت عينيها إلى الجدران، وهمست:

"الجدران صامتة، ولا شيء يسمع حديث نفسي."

بعثرت بعض الأشياء الخاصة بها، أمسكت شيئاً عزيزاً عليها، خرجت من الغرفة، سألت عمتها:

- أتدرين لمن هذه الصورة؟

دفعت العمة بعينيها إلى الأمام، تدقق النظر في الصورة، ثم  قالت:

- ملامح هذا الوجه ليست غريبة عني.

- أخفيها من زمن بعيد، كنت أتجنب إشعال موقد الذكريات في أعماقك.

ترقرقت الدموع في عينيها، ودت في تلك اللحظة أن تراه ثانية، لم تودعه في اللحظات الأخيرة، ضمت الصورة إلى صدرها وهي تقول:

- هل أنسى أخي فهمي؟ لا يمكن أبداً.

ظلت العمة تنظر إلى أحلام نظرة إشفاق.. سألتها:

- كيف حصلت عليها؟

- من بين أشياء أمي.

دخل العم خيري إلى البيت متوتراً وهو يقول:

- التوتر يشتعل في فلسطين.

بسخرية مشوبة بالفرح قالت العمة:

- أيظن اليهود أن ينعموا بالأمن والسلام؟

- الغضب يجتاح الوطن.

- وأيام الغضب ستكون طويلة، والأحلام لن تموت، والصمت لن يطول.

- الصمت قاتل.

- المهجر من الوطن أصبح صاحب نظرة خاصة نابعة من كل معاناته الداخلية.

قال العم:

- وفي فلسطين موجات من الأفكار المتجددة قائمة على أقدام، وسيقان، ذات اتجاهات ثورية، والجماعة نقاط متفرقة في الواقع، وإن دعت الضرورة إلى تقاربها تقاربت، وامتدت كالجحيم إلى الوطن كله.

قالت العمة:

- اجلس يا أخي، اهدأ، سأحضر لك فنجان قهوة.

نظر إلى أحلام متسائلاً:

- كيف حالك مع الدراسة؟... أراك كثيرة الاعتزال،و...

كانت التساؤلات قلقة، محيرة، كموج البحر الهائج، من الممكن أن تفقدها توازنها... حاولت أن تجمع شتات نفسها، تساءلت:

"هل أعترف لعمي بكل شيء؟

كيف أواصل الدراسة، وأنا أكتم ما أصابني؟

هل بعد موت الحلم إصرار على تجاوز الصدمة؟"

انتظر العم الجواب، أعاد السؤال، أجابت:

- سأحاول يا عمي، لا تشغل بالك في أمري.

أقبلت العمة، وبشوق قالت:

- أشواقنا للسمر في الوطن تطرف في عيون الشوق إلى الماضي، إلى الأمسيات ذات الصدى الشعبي، كانت تبدأ سمراً، ثم لا تلبث أن تقع صريع ضجيج الطبول مع النسيم.

قال العم:

- والآن مع طلقات المدافع والصواريخ.

- أنا متفائلة جداً بالعودة.

- أصحاب الاتجاه اليساري يجدون أن إنقاذ الوطن يكون بالاتصال بقوة عظمى... أحلام ظنت أن تحقق أحلامها التي هي جزء من أحلام الوطن من خلال الأفكار الجديدة.. شهدت العدوان على نابلس، وما استتبعه من آلام، وانكسار، وتهجير السكان، وتولدت في الغربة هذه الأحلام الجديدة، تعثر ولادة بعضها، قد يكون المولود مشوهاً، وأحياناً يصبح الميلاد إيذاناً بنبض جديد، وروح مشعة بالأمل والتغير، مما يدعو إلى الفرح.

قالت أحلام:

- قليل من الفرح أفضل من البكاء المستمر على الأطلال.

- حمل المهجرون معهم حكاياتهم الإنسانية المتنوعة، ويقتلون الوقت باستعادتها وبالتساؤلات القلقة.

لم يشدها العم إليه، ولكن شدها الغير إليهم.. عبرت في رسوماتها عن التغير، والتطور بتأثرها بمبادئ الحرية، وحقوق الإنسان، قال عمها:

- الأفكار التي تدعون إليها فيها تجديد لأساليب الحياة، واستحداث أساليب في التعامل واللباس، وابتعاد عن الحشمة والوقار.

كثرة النقد، جعلها أحياناً تفكر في الهرب من بيت عمها، وقد تراودها بسكون فكرة مخيفة... كانت تشعر بأنها محاطة بفراغ هائل يثير ذعرها، ويدفعها إلى تصوير هذا الفراغ بألوان محددة متسعة، في وسطه امرأة وحيدة في حالة تأمل... ربما في محاولة لقراءة مستقبل هذا الفراغ.. تفردت عن أسرة عمها بطابع خاص، منفصل،.. عتمة، فراغ، ألم، وحدة..

قال العم:

- إن في أحلام شيئاً من اللامعقول، وفيها أيضاً الكثير من إمارات العبقرية العادية، تلك التي لا يحتاج صاحبها إلى علم غزير، وإلى دربة ومران.

كان للأفكار الجديدة تأثير في المجتمع، فاتسعت التقاليد، تغير بعضها بأخرى، وبدأ الناس يتغيرون.

قالت العمة:

- نكره أن تكسر التقاليد.

قالت أحلام:

- لكنها تتمزق، أردنا أم لم نرد.

- أفكاركم الغريبة تكسرها.

- بل تمسككم بالقديم.

- الإيمان حافز للتغير، والتطور.

همهمت ليلى:

- الكفر تطرق إلى عقيدتها، واتخذت رئيس الحزب رسولاً، يأمرها وغيرها فيطيعونه... لا يرتجى منها صلاح.

قالت العمة:

- إنها تنحدر، لا نستطيع أن نمنعها من التردي.. فقط أريد أن أوجه لك يا أحلام سؤالاً:

- هل تشعرين بالرضى عن نفسك؟

- في الحقيقة، لا، كيف يكون الرضى؟

- أن تشعري بالهدوء، والسكينة، والطمأنينة، والفرح الخالص العميق في نفسك.

- أفتقد ما تذكرين.

- لأنك تسيرين في فلاة واسعة.

- لست وحدي.

- ورفاقك التائهون معك.

قال العم:

- أرى تمردك يشتد، ورفضك للقيم والسلوكيات السائدة المألوفة يزداد وضوحاً.

القيم لبست أفراد المجتمع وأدفأتهم برحمة الله، ظننت أن الانطلاق هو الطريق الصحيح حين تركت الحجاب، ولا تهتمين بما قد يصيبك من أسنة الألسنة والطعنات.

- أنت المسئول عن كل ما يصيبني، اهتمامك كان موجهاً لأسرتك فقط بكت.

ملء القلب والعين وهم يضيقون عليها الخناق داخل البيت، بيت المرفهين الذي طالما أبعدوها عنه، وكرهته.

قالت العمة:

- يحق لنا جميعاً أن نبكي.. وطننا يلوكه الظلم في كل ميدان ومعترك، تروع منه القلوب،... والجاهلية تتسلل إلينا ونحن في هذا القرن، وتهيمن على العقول، زماننا أصبح جافاً، مات الربيع فيه، ونحن نرتل مشاعر الحزن، ويجرنا الصمت والوجود جراً إلى متاهة الألم، وبحيرة نتساءل:

- هل نستسلم لها؟

لا، لا نستسلم، بل ينبغي أن ننهض.

اقتربت العمة من أحلام بحب، وقالت:

- كان درب الطفولة متشعباً، مترامياً، وصار مجالاً خصباً تستمدين منه فنك في الرسم، له دلالة واسعة، ويساعدك على التحرر من عقد ذاتك وتضيفين إليه لمسات رومانسية برهافة في المشاعر، وأنت هنا في هذا البيت المريح.. فلم الاكتئاب، والخوف؟

- لم أكن خائفة من عمي وأسرته، كنت خائفة من أشياء أخرى، تجعلني أرى الحياة شيئاً مرعباً لا يطاق.. كنت أحتقر الاستسلام، ولكن أراني استسلمت لكل ما كان يحتقر.

(22)

ليل الأرق طويل، وسمير سحبها في حبها له، ثم طار قبل أن يدع لها عشاً تأوي إليه، جعلها كطير ذبيح، سجين الوحشة، والفرقة، والغربة، لم تنفعها حريتها، ولا جمالها، ولا مبادئها، أنهكت سنين من عمرها تدعو إليها، كانت نفسها في جوع للحنان، وجمال الدنيا، استسلمت لأول لمسة حب، أحبت الدنيا من أجل سمير، نسيت ألم الغربة، ظنت أنه كل دنياها، أحلام التي كانت طليقة تمرح كما تهوى، صفعها بغدره، وعبثه، وتركها تقلب ذكرياتها معه... نامت البسمة في وجهها، وتركها وحيدة يائسة، تموت ببطء.

تساءلت بمرارة:

أهكذا يفلت كل شيء من يدي، وتموت الأحلام، وتعود بي الذكرى التعيسة؟.. أبي كان ينزف ويبكي من دون دموع، لا يرى منه سوى ذراعه المتمددة فوق التراب، كأنه يستنجد، ويستغيث،... ثم غربة قاسية في بيت قديم.. أمي تموت أمامي عضواً عضواً.. دفنت معها الحب والحنان، وليلى تعيش في كنف زوج يحبها.

كان الألم يسحقها، يذيبها، تتمنى أن تترك الثراء الوثير في بيت عمها، وتجري صاعدة السلم الحجري المعتم، إلى البيت البارد الذي جمعها مع دفء أمها وأختها سنوات.. تتمنى أن ترى وجهها ثانية في صفحة ماء البئر، وتعود إليها خواطر طالما انبعثت في نفسها.

جرت إلى الغرفة كطفل مشوق إلى لعبة مفضلة، لعبتها العزلة، الالتصاق بالورق مع ريشتها، ثم بحيرة قلقة تتساءل:

"لم تتغلب علي الوحشة، ولا أصمد أمام المحن؟

أي تطور هذا الذي أنادي به؟

أي جمود هذا في داخلي؟.. أجل جمود.

لم تستيقظ الذكريات ملغومة بالألم؟"

توقفت الذاكرة في يوم شحن بالحزن والألم، حين اقتحمت عمتها عليها الغرفة بكلمات مشحونة بالتجريح، ثم كلمات على وجهها الجميل، وأحلام ترد الصفعات بيديها، وتقول:

- لم كل هذا يا عمتي؟

- لسلوكك السيئ في البلد.

- وما الخطأ؟ أليس الوضوح في التصرف أفضل من الإسرار؟ إنني أحبه، ويبادلني الحب.

- ما تفعلينه تصرف مشين، نحن عائلة لها مكانتها وسمعتها، ما تفعلينه عار.. إن كان فعلا يحبك فليطلبك من عمك.. هكذا التقاليد.

وقتئذ سيطر الرعب على قلب أحلام، رأت أن  لا بد من حسم الأمر قبل أن تصبح ورقة ضائعة تلعب بها الأقدار، وتمزقها الأهواء،.. تذكرت هذه المواقف، ولكنها عاندت، وتمردت، واستمرت في غيها.

رأتها ليلى في ذهول، سألتها:

- هل من شيء؟

بضيق شديد:

- ضائعة يا ليلى.. أنا ضائعة.

أرادت أن تهدئها، قالت لها:

- سأحدثك بما سمعت اليوم في المسجد:

إن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان على نحو فائق، سواء في تكوينه الجثماني البالغ الدقة والتعقيد، أم في تكوينه العقلي الفريد، أم في تكوينه الروحي العجيب، وإذا انحرف الإنسان عن الفطرة، وحاد عن الإيمان، انتكس، وأصبحت البهائم أرفع منه وأقوم، لاستقامتها على فطرتها، وبإلهام من الله تسبح ربها، وتؤدي  وظيفتها في الأرض على هدى، أما الإنسان الذي خلقه في أحسن تقويم، والذي ينبغي أن يمجد ربه، نراه يمشي مع هواه في طريق الضلالة، وتهبط قيمته.. فالمؤمنون الذين يجمعون بين الإيمان والعمل الصالح يرتقون إلى الكمال، وفي الآخرة لهم أجر غير مقطوع.

بتأفف قالت أحلام:

- يصعب علي الإيمان بالغيب.

قالت ليلى:

- ما أراك بإنكارك وجود الله إلا في انحدار شديد.

- ثم إلى أين؟.. لا أدري.

- إلى جهنم.

- هل شعوري بالضياع تفسرينه بالضلالة؟

- أجل.. الإيمان هو النور الذي يكشف مواقع خطاك في المرتقى الصاعد إلى حياة الخالدين المكرمين عند الله، وحين ينطفئ هذا النور تنهدر إنسانيتك، لأنك تقطعين صلتك بالله الذي أحسن تقويمك.

- آه.. رأسي يكاد ينفجر.

- عجباً لأمرك.. تذكيري دائماً يفجر رأسك، ويشعرك بالهزيمة، دعيه يفجر أفكارك المظلمة، ويريحك مما أنت فيه.

- إنك تكررين كلامك باستمرار.

- وفي كل مرة أهزم، ولا أؤثر بك.

فرج الباب.. اكتفت زوجة العم بإطلالة من عتبته، والعودة إلى الصالة.

قالت أحلام:

- إنها امرأة عمي، لم تنظر هكذا؟ لا أشعر بارتياح نحوها.

- دعيها، لا تفكري بالأمر.

سكتت قليلاً، سألتها ليلى:

- ما بك؟

- أحس بأخطاء كثيرة، لا أعرف كيف أصلحها.

- اذكريها لي. ما هي؟

- لا أستطيع البوح بها.

- إذن، حاولي أن تحلي مشكلتك بنفسك.

- لا أقدر.

- هلمي إلى الطعام.

- الوقت مبكر... لا حاجة لي إلى الطعام.

- لماذا تتكلمين بعصبية؟... ماذا دهاك؟

- لا شيء.

- أنت متشائمة هذا الصباح، هل من أخبار سيئة تخفينها عني؟

- تعالي يا ليلى، اجلسي بقربي.

أرادت أحلام أن تغير مجرى الحديث، وتجمد مسيرة أفكارها السارحة على هواها، طلبت من أختها أن تحدثها عن أسباب هزيمة الشعب في الوطن.

- سبق أن ذكرتها لك.

- نسيت، أعيدي على مسمعي ذكرها.

- حسن... قرأت أن أهم أسباب الهزيمة عند الأفراد، والشعب المسلم ضعف اليقين بالله، أو غياب الإسلام من الحياة، وإصابتنا بقسوة القلوب، وابتعاد الأنظمة الحاكمة عن التمسك بالعروة الوثقى، وأيضاً الغزو الثقافي، والجري وراء المادة، والمصلحة، والدعوات العلمانية، والفلسفية، والفكرية، والاجتماعية، والسياسية التي تتبناها أمتنا بديلاً عن الإسلام، حتى صرنا نرى بعض الأنظمة في بعض الدول العربية تحارب الإسلام بشراسة.. وهذا ما يريده الاستعمار، وهل كان الاستعمار الصليبي إلا رد فعل على الامتداد الإسلامي في الفتوحات والمبادئ؟

- إننا نموت كل يوم.

- هكذا الحياة.

- هل تشعرين يا ليلى بالراحة والاطمئنان رغم الظروف القاسية؟

- أجل، بإتباعي منهج الله، وسلوكي الطريق الذي شرعه، وحذري من الشر الذي حذرنا منه.. نصيحتي لك أن تتركي الأفكار البعيدة عن منهجنا، وتقبلي على الله بإخلاص.

- فات الأوان يا ليلى.

- سؤال موجز، لماذا؟

- ....

- أمازلت تؤمنين بما يلقنك رائدك؟... فقط تحتاجين إلى صياغة نفسك من جديد، بهمة عالية، ورفض ما يقدم إليك من أسباب الفساد، والانحراف، والتبعية، والتخلف، مهما حاول أن يزينها لك، ويجملها، ويخفي قبحها.

كانت الكلمات تتقافز بفضول من فم أحلام، تدافع تارة، وتقارن تارة أخرى، ولكنها تقابل مشكلتها الخفية بالصمت والإغفال، قالت بضيق:

- إني أتعذب، فقدت لذة الحياة.

- وعنيدة في التغيير، وعنيدة في الاعتذار.

- حياتي أصبحت خواء.

- لعنادك، وتشبثك بأفكار واهية كخيوط العنكبوت.

- الكل يعاديني، كرهت من كرهني، جفوت من جافاني، كل شيء صار مستحيلاً.

طمرت وجهها في كفيها تبكي، وهي تقول:

- ولكن تبقى فلسطين كتلة من الحنين تعيش في أعماقي، أرى المهجرين وفي أعينهم تسكن مشاعرهم، خوف، قلق، ألم، تنبعث من عمق عالمهم المهموم.. تعلقت بأفكاري وكأني أريد أن أنتقم. وتراودني الأسئلة المحيرة:

كيف أنتقم لأبي؟

كيف أنتقم لكل الضحايا الذين نزفوا دماءهم في تراب الوطن، والذين شردوا؟

كيف أنتقم للأطفال الذين يتموا، والنساء اللائي فجعن؟

كيف أنتقم لنفسي؟

ألا تذكرين يا ليلى كيف أصبحت أشياؤنا في صناديق كرتون في بيت بارد، مطلي بالتعفن، والهواء يشاكسنا من خلال زجاج النافذة المهشم؟

باستغراب سألتها ليلى:

- ألم نكن معاً؟ تحملتُ ولم تتحملي، أخبار الحرب تتردد في الإذاعة... نحمد الله أن نجونا من الإبادة.

- وما هو المدى البعيد أسوأ من الحرب، وهي ألا يعرف فعلاً ما هي أسباب الحرب، ويترك الشعب أمام حصاد الإبادة والموت.

- ما نراه في الحاضر، منسوجاً بخيوط الماضي،.. ووعود غامضة بالخلاص.

- أنعيش على الوعود، ونحن نرى الوطن يذبح وسط موج غاضب لا يرحم وبيوتنا تتحول إلى نعوش، وهرب من عسف الطغاة إلى كهوف، وصخور كجزر غير مأهولة، ومعاناة الموت عطشاً وسط البحر، وأحلام ترحل إلى الغرب، والحلم عسير المنال... وعبور المضيق جوعاً وغرقاً على نعش ماض منتصر، وضياع عند الشواطئ المجهولة في خضم المحيط، والموج يطغى يجرف من يبحث عن المأوى، يطلبون الموت، وهو يهرب منهم، غربة تكشر أنيابها تبتلعهم، ويموتون في صقيع الموت، تاركين خلفهم كل شيء.. حصار، عقاب جماعي.

قالت ليلى:

- عالمنا العربي متحد ضد شيء واحد هو نحن، أنظمتنا مختلفة، متباينة، ومتحدة ضدنا نحن.

- اقتلعنا الزمن من عمق الوطن، وسيقتلعنا من عمق الحياة.

- هكذا الحياة في الأرض.

بأسف نتساءل:

- هل لأننا غير أوفياء للوطن والحياة؟ أم الحياة خائنة لا أمانة فيها ولا راحة؟.. لم نعيش ونموت؟ لم نشبع ونجوع؟ أهكذا الحياة صراع دائم بين البقاء والفناء؟

- كل البلاد تفنى، كل المدن، وتبقى الشمس مشرقة في عليائها، تبحث عن مجتمع جديد يهطل فوقه شعاعها.

- لم تخسر الشمس شيئاً، الناس هم يخسرون.

- الناس الذين يعتكفون في المغارات العفنة، بعيدون عن أنوارها أفهمت؟... أتمنى أن تبصري رشدك، ولا تدعي الهواجس تسيطر عليك... الحياة في النهاية فناء مهما طالت، لأن الحياة الحقيقة ليست هنا، بل هناك في السماء.

- أوف، الوساوس تجعلني أهذي، أحس كأن يداً تدفعني، وشخصاً يتكلم بلساني، يجعلني في صراع دائم.

- لبعدك عن منهج الله سبحانه.

- إنني أعاني الكثير.

- لن أعيش معاناتك، أبتلعها، أفكر بزوجي وطفلي الآتي.

بهمس سألت أحلام:

- وطفلي؟

تابعت ليلى:

- لكل شيء نهاية.

- ونهايتي؟

أحست أحلام ببرودة مفاجئة، ارتعدت، خفق قلبها بشدة، قبع الخوف بداخلها، بصوت خافت قالت:

- يبدو أنني لن أستطيع المقاومة حتى آخر لحظة.

- إنك تهذين... بماذا؟ هل تهدفين إلى إنهاء حياتك؟ أهذا هدفك إذن تكون فضيحة وأنت هنا في بيت عمك... ادفني أحزانك، وأعيدي زراعة الفرح.

- لا أستطيع أن أنفي وأكتم هواجسي الرمادية.

- الهواجس هي لغة الجيل المنعطف المأزوم... لا بد من النسيان،... عبري عن حالك على الورق.

- ليلى: إنني بشوق لبقاء ساعات في بيتنا القديم.

- باختصار، لماذا؟

- لأمارس الوحدة هناك دونما رقابة أو نقد، لأتنفس الذكريات مع أمي.

(23)

كانت أحلام تتسلق بعينيها أرقام البيوت في الشارع، التفتت إليها ليلى مبتسمة بعد أن أشارت إلى منزلها البعيد.

- هيا امضي أياماً عندي.

- أريد أن أمضي ساعات في منزلنا القديم.

حين اقتربت منه، انبثق من عينيها إشعاع في امتنان، وأحست بانشراح يسعى بين جوانحها، وانطلقت تصعد السلم الحجري المعتم، دون أن ينطلق من فمها حرف واحد... فتحت الغرفة، فإذا حمامة قد أفرخت، كانت قد دخلت من خلال الزجاج المكسور، تركتها وفراخها، تساءلت: إن طردتها، فأين تسكن؟.. أوغلت في تلافيف الذاكرة القديمة، ويندس فراخها تحت جناحيها برعب، حدثتها أحلام:

"هدفك السلم، ونحن عاجزون نحبو بلا هدف، يسوقنا الذل من سهل إلى جبل، ويموت الأطفال، ومنطق السلم مسئول عن فشلنا، والسكوت طعنة في الخلف قاتلة، ونحن نبحث عن السلام، ونبتلع الحق، ونتستر على تقصيرنا... هدلت الحمامة بارتعاش... لا تخشي شيئاً، فقط كنت أهذي.. أسألك يا حمامتي بلهفة:

هل التكامل في المستقبل العربي حلم يرتجى؟.. كيف يتحقق؟

هدلت الحمامة:

أرواح الثوار متوثبة في فضاء يعج بالشهداء... ستبقى فلسطين المقدسة شامخة.

أقبلت ليلى، سمعت أختها تحاور نفسها، قالت:

- نرجو الله أن نعيد لماضينا خلوده في الأزمنة القادمة، ونعتذر لتراثنا ومجدنا وتاريخنا عما كان من تقصيرنا.

قالت أحلام بانعتاق:

- أتشوق لرؤية وطني.

- ستبقين كذلك، وسنبقى نتشوق له.

- وأتشوق إلى البيت الخرب، إلى كل ما فيه، حوشه، وزهره، و...

جذبت أحلام السطل من البئر، تراءى وجهها فوق صفحة الماء شخصاً آخر، خطر في نفسها خواطر، تكثفت... خافت منها، ألقت السطل وهربت.

اشتد هزيم الرعد، برقت السماء.. تكاثر الرعد والبرق، حدثت نفسها قائلة:

"سفينة حياتي مثقلة بالهموم.

كيف أتحدى الهلاك والغرق؟

الشاطئ بعيد.. والأمان بعيد."

قالت  ليلى:

- إنها الحياة هكذا منذ ملايين السنين، فارغة، نحن نملؤها،.. نحن نثقلها، كل حسب طبيعته.

قالت أحلام:

- همومي صارت جزءاً مني، تفاعلت مع جوارحي، لا أنفك عنها، ولا تنفك عني... أغبطك يا ليلى، ألقيت كل هموم الدنيا، وعشت بطريقة سليمة.

قالت ليلى:

- ألجأ إلى الله ربي،.. أستسلم له، حاولي مثلي.

- أنا بحاجة إلى من ينشلني من الغرق.

- حاولت معك.. تعبت.

- أصبحت منبوذة.

- لا عليك.. أعيدي صياغة حياتك.

- أحاول، ولكن..

- ما بك؟ أشعر كأنك تخفين عني سراً غامضاً.

- هناك عقبة تحول بيني وبين التغيير.

- ما هي؟ لعلنا ننقذك مما أنت فيه.

- الضحايا ترقد في قرارة صمتي.. وأنا ضحية.

- الصمت حصن لا يورق ولا يعشب.

- ولوحاتي؟ ألم تورق بمشاعر وإحساس التجربة؟

تأوهت:

- أتذكرين سميراً؟

- أجل.. كان صوته حالماً، وخافتاً.. حفيف أوراق الشجر تبعثرها الريح في الطرقات تثير دهشتي، كنا نجري وراءها، نلملمها، نفتتها بأيدينا، ويهمس في أذني كلمات وهو يقلب نظراته بيني وبين فعل الريح بأغصان الشجر...

- يبدو أنك ما زلت متشبثة به.

- أجل.

- بصراحة، أنت بحاجة إلى زوج يحبك، وتحبينه.

- لا أفكر بما تقولين.

انطفأ المصباح من العاصفة التي هبت، إذ تسللت بقوة من الشباك المفتوح، ثم هدأت.

قالت ليلى:

- أديري مفتاح الراديو.. الأصداء تردد صوت فيروز: (سنرجع يوماً إلى حيّنا).

طافت فرحة على وجه أحلام، وقالت:

- أصحيح.. سنرجع يوماً إلى حيّنا؟

- وسيعود آلاف الأطفال الذين كبروا في الغربة، يتدفقون كموج البحر، وتردد الأصداء صوت فيروز: (بيتنا في بيسان) و(جسر العودة) و(الآن الآن وليس غداً) و(زهرة المدائن) والمجموعة الرائعة من قصائد شامية.. لا يخلص فلسطين إلا أبناؤها.. سنعود بإذن الله قريباً، قريباً.

تفجرت الحياة في نفس أحلام بعد يأس، وسالت عيناها بالدموع مع صوت فيروز وهي تزرع الأمل والفرحة في النفوس.. ثم فجأة قالت بصوت خافت:

- ستعودون وحدكم.

- وأنت معنا.. أكيد.

- لا أدري.. ربما لا أعود معكم.

- أوهامك تستعبدك، وتلبسك رداء زائفاً.

- كأنني قد ارتكست.. وكأنني خلقت للعيشة الضنك.

بحرقة عضت على شفتها، وقالت:

- أتحرق شوقاً إلى الانتقام من الحقراء المفسدين الذين يستحلون اغتصاب أرضنا، وحياتنا، يبقرون بطون الحوامل، وتهشيم الأذرع... حرمونا من طفولتنا الرائعة حين كنا نصطاد الفراشات، ونتأرجح بالأراجيح المعلقة بأغصان الشجر.

- شردونا شردهم الله.

- شعبنا يجوع في أرضه ويموت، وأرضنا سخية بالعطاء، وتفيض بالرخاء.

- صارت للغريب الغازي.

- اصغي إلى فيروز: (سنرجع يوماً إلى حيّنا) (الآن الآن وليس غداً)..

- أيمكن أن أعود إلى نابلس؟

- فلسطين شمس عربية لا تفنى مهما تلبدت المساء بالغيوم، ومهما امتد سواد الليل، شمس عربية أصيلة، مقدسة.

جذبتها بيدها:

- هيا يا أحلام إلى بيت عمك، إنهم في انتظارنا.

سكتت برهة، ثم قالت:

- كل مرة أعود فيها إلى بيت عمي، يتملكني قنوط غامض.

- لماذا هذا القنوط؟.. لقد حققت عندهم استقراراً، لم تكوني تحلمين بتحقيقه.

- عندهم أحس بنشوة الحلم وأنا أرسم، وبكابوس الواقع.

كانت الحمامة قد حطت على حافة الشباك، وظلت تمعن النظر في وجه أحلام باستغراب، جعلتها تركز في نظراتها، كأنها تحكي سراً عليها أن تفهمه.. تساءلت: ما هذا السر؟... وأحست أحلام برغبة عارمة لتبقى جانبها مع فراخها.

في الطريق قبل أن تفترقا، قالت ليلى:

- قد نلتقي على غير موعد.

في البيت وجدت العم خيري منهمكاً في الحديث:

- نريد أن نكون في يقظة وحذر دائمين، على وعي وإدراك لما يدبر لنا، لا نريد أن نكون كالسكارى في غيبوبة دائمة لما يحيط بالكثير، ويهربون من همومهم في الدنيا، فلا هم لهم على الإطلاق.

قالت العمة:

- العاقل يحمل همه الشخصي، وهم وطنه، وهم الأمة كلها.

كثيرون يهربون من الحياة، يطلبون الراحة، وهدوء البال، ويكلمون أنفسهم كالمجانين.

قال العم:

- الهرب هبوط اجتماعي، سببه لدى الكثير من المهجرين، تغير مناخ الوطن، ولكن الفرد العربي لا يفقط شعوره بالانتماء إلى الوطن.

قالت العمة:

- جيل اليوم نزق، منعطف، غضب، يرفض ما يسري في المجتمع من التقاليد، والعادات، ويجعل من الحرية المطلقة عقيدة.

قال العم:

- ينتشر الهذيان في المجتمع، ويجر الشباب إلى اللاشيء جراً.

قالت العمة:

- لا ندري، لم يسممون قيمنا بالقيم الأجنبية الدخيلة؟.. فيها قضاء على أصالتنا.. فهل نستعيد بأفكارهم هذا الزمن المفقود؟

قال العم:

- العالم مضطرب جداً، في وسطه تتردى أحوال العالم العربي، وإسرائيل تزداد بطشاً وعتواً في فلسطين المحتلة، دون أن تستطيع الأنظمة العربية المكبلة أن تردها على أعقابها.

بأسف قالت أحلام:

- وتدور الأيام طارحة العديد من التساؤلات، تنتظر الإجابات.

صمتت العمة قليلاً، كانت تفكر، سألها العم خيري:

- بماذا؟

- أفكر بما قرأت اليوم في أحد الكتب.. تصور، بأن اليهود يزعمون أن لهم حضارة في فلسطين.

- هذا افتراء، ما كان في القديم حضارة يهودية، ولا وجود لها بالمعنى الحقيقي للكملة، ولم يكتبوا شيئاً بلغتهم، كانوا يترجمون من العربية إلى اللاتينية، ومن اللاتينية إلى لغتهم العبرية، كانوا واسطة بين العرب والغرب في مجال الترجمة فقط.

أتت ليلى إلى بيت عمها، وجلست تصغي إلى الحوار، قالت:

- الحضارة العربية الإسلامية كانت واسعة الانتشار،.. نتألم لما يلحق بشعبنا في فلسطين من الظلم والاضطهاد باستمرار.

- بتنشيط من العالم الغربي، والسكوت عما يجري للشعب، ولا يزال مهضوم الحقوق.

- والعرب، ما موقفهم؟

- يبدو أن الأمة العربية، والإسلامية ستظل مناوئة للغرب، إلى إيجاد حل عادل للفلسطينيين.

- شعبنا الحبيب يعيش حرباً قاسية، وتشرداً.

كانت أحلام تخرج من يوم وآخر إلى مقر الحزب، ويزيد في قلبها الخواء من الإيمان، ويكثر التحاور مع عمها وعمتها، وللأسف لم يفلحا في إلانة قلبها الخاوي من معرفة الله، وتصر على الاتصال الدائم برائدها، حتى كانت في حالة انقياد وغفلة وخداع.

قال العم:

- لا ينقذ أحلام مما هي فيه، ويضبط تصرفاتها إلا الزوج.

قالت العمة:

- أرجوك لا تغضب منها، إنها مرهفة الحس، وعنيدة.

بابتسامة ناداها:

- ابنة أخي.. لم أكن أقصد شيئاً يسيء إليك أو لأختك عندما تركتكما تعيشان مع أمكما بعيدتين عن مراقبتي... أعترف بأنني كنت مقصراً.

انتابها شعور بالخوف، ممتزج بشيء من المقت، وهاج في كيانها  ذكر أمها الراحلة، ماتت ولم تعلم بسرها الذي أخفته عنها، تساءلت:

"أكان من الأفضل أن أعلمها؟.. بلا شك.

لم أكن قادرة على أن أصارح أختي بالحقيقة، كنت عاجزة عن البوح، خشيت من رؤيتها حزينة من أجلي وهي في حالة حمل.

ماذا يريد عمي بتقربه مني؟

هل علم شيئاً من الحقيقة؟"

خيل إليها أنه يؤجل غضبه، وأنها ستنهار على مقعدها لحظة مواجهته بالحقيقة.. جرت إلى الغرفة، تأملت نفسها في المرآة بهدوء، تراقب ذبول جفنيها، وشحوب وجهها، وقد تغلبت عليه حبات النمش، وبقع الكلف،... تشاجرت مع المرآة بعصبية.. رأت فيها أنها لوحاتها، مرآة وجودها.. خاصمت ذاتها، وقالت في نفسها: "خصومتي مع ذاتي أفضل من أن تقوم مع جحيم الآخرين".

كان الجهد الذي بذلته في الذكرى والانتظار مضنياً، خلال أشهر أرهقها، ماتت فيها أحلامها، لم يتحقق فيها شيء، وبقيت في حالة دهشة من الأشياء.. مراتع الطفولة، حارات نابلس، دعاء أمها، ثوب فرح ليلى، صوت منال وهي تجري بمرح وراء طفلها، أحاديث الرفاق في المركز حول الخراب، والدمار في الوطن، والإبادة، والتهجير، دير ياسين، وقبية، الأطفال الذين قتلوا برصاص العدو.. تحاول التركيز في هذا العالم المرتبك، تتساءل:

"أين وعود اليساريين في التغيير والتطوير، والاعتماد على دولة عظمى؟

هل ينجح اليساريون في مواجهة الصهاينة؟

وصوت فيروز لا يزال يخدر إحساسنا، ويؤملنا بالعودة.

وقصائد محمود درويش، والقصائد الشامية.."

حاول عمها أن يتقرب منها، يحثها على إكمال دراستها قائلاً:

- العلم مطلب شرعي، وحاجة إنسانية، من لم يتعلم يعش على هامش الحياة، لم يبق إلا القليل لإتمام تحصيلك، ولتتأهلي للمهنة حسب ما تقتضي الظروف، والمتعلم المجدي يولد في المجتمع حالة من الانتعاش، وفهماً للحياة، وقدرة على البناء.

- إنني مشغولة الفكر يا عمي.

- لست وحدك، فلسطين للجميع، والجرح واحد، والجميع يشعرون بالمسئولية.

قالت العمة:

- حافظي على نظرتك الإيجابية للحياة، بغض النظر عن الأحداث التي تجري في الوطن.

قال عمها:

- تعلمي أن تكوني أكثر جرأة في مواجهة الأحداث في حياتك.. إنك لن تحققي النجاح ما دمت أسيرة الخوف والتردد.. حاولي أن تتجنبي لوم المحيطين بك.

غمزت زوجة عمها بعينها، وهي تقول:

- الحياة بلا أنظمة حياة فوضوية متخلفة.. ما أروع النظام والترتيب في البيت والأسرة!.. ويطلق بعض الناس على محاسن الأخلاق لفظ الإيتيكيت.. في البيت ينبغي على كل فرد فيه أن يراعي مشاعر الطرف الآخر، حتى يكتسب ثقته، واحترامه.

سألتها أحلام:

- ماذا تقصدين بكلامك يا امرأة عمي؟

- على سبيل المثال: قبل أن تدخلي على أحد في غرفته تستأذنين، وتطرقين الباب.

- هل أنا غريبة عنكم؟

- الحديث بيننا يجب أن يكون هادئاً، ومحترماً.

بعصبية قالت أحلام:

- وليس فيه سباب، وغير جارح، تقدم النصيحة بحب، وبلا تعال، وفيه احترام لهوايات الغير، والثناء عليه.

- لا داعي لنبش الماضي حتى لا تتجدد الأحقاد، والأحزان.

قال العم:

- التسامح، والعفو خلق كريم.

قالت أحلام:

- وليناد كل منا الآخر بلقب يحبه، فلا يستهزئ به، إن كان بالكلام، أو النظرات.

- لكنك تقابلين عصبية واندفاع أحدنا بعصبية مماثلة.

- أضطر أحياناً.

قالت زوجة العم:

- اعتذري إن أسأت.

- وليقبل الآخر اعتذاره، ولا يكثر في اللوم.

تركت أحلام الصالة، ودخلت الغرفة، وهي تهمهم:

- أفضل مرارة الوحدة.. ليس لي إلا ريشتي تسعفني من هذه الحال.

أرادت العمة أن تخفف عنها، لحقتها، ربتت على كتفها، وهي تقول:

- أراك ترسمين.

- أجل.

- في لوحتك أمكنة.

- يرجع تمسكي بأهداب المكان في اللوحة، إلى قطع أوصال علاقتي الطفولية بها. آه يا عمتي.. قدر لي أن أهجر المكان الذي أتعلق به، حتى أصبحت محاصرة في عالم لا يمكن الخلاص منه.

- تذكري ما تحبين أن تتذكريه، وادفني ما عداه في مقبرة النسيان.

- الذكرى توفر لي على إغلاقها طمأنينة في روحي، وتوازناً في وجداني، مما ينعش اللوحة بغبطة غامضة.

(24)

في أحد الأيام همس العم خيري في أذن أحلام شيئاً، كأنه يزف لها بشرى.. انتفضت، لم تهمس بكلمة، جلجل صوت في داخلها محذراً.. غير ممكن.. لكن.. لا ترفضي.. تريثي.

تابع العم بنبرة جادة:

- نزار شاب أنيق، على خلق ودين.. وأيضاً ثري.

لم تعرف بماذا تجيب، كفكفت دموعها، همست في مذلة وحيرة:

- لا أرغب يا عمي بالزواج ممن ذكرت.. لا أطمع بثروة، ولا برجل يسجنني، ويقيدني لأكون أسيرة العذاب، إذن يستمر عذابي.

استشفت من الأحاديث التي تدور في البيت، بأن الخطيب يريد التقرب من العم خيري عن طريق الزواج منها، لمشكلة قائمة في المحكمة، وليس للتقرب من أحلام نفسها، وتصورت أن الزواج من نزار سيكون لإخراس التهم الموجهة إليها من أهل البلد، والتي جبلت بالخزي.

قال العم مشجعاً:

- دعي أفكارك المتناقضة مع قيم المجتمع وفضائله.. لا تماطلي.. يكفي ما أخطأت بحق نفسك، وأسرتك.

- كنت يا عمي سيئة في الحساب.. صدقني لا أستطيع التواصل مع نزار.

- سيأتي الرجل، شئت أم أبيت.

غضبت كطفلة، وزادت جراحات نفسها، وكرهت الرجل من قبل أن تراه.. وجدت أن لا مفر، وأن لا بد أن تتعذب وحدها، وتحمل الهم وحدها.

أقبلت إليها العمة متسائلة:

- ما بك، لم ترفضين؟

لم تستطع أحلام البوح بما هي فيه، كانت في الحقيقة تتألم، وخجلى من الفضيحة... تريد أن تبكي، أن تشكو أحزانها بقلق تساءلت:

"لمن أشكو آلامي؟

ألأمي التي رحلت، ولم تعلم ما بي؟

ألعتمي، وزوجة عمي اللتين تتآمران علي، لإخراجي من بينهم؟"

كانت النتيجة أنها مرضت، أصابها هزال، اتسعت عيناها بشكل مخيف، وقلبها يسحقه إحساس ذليل، بائس، وبإصرار قالت:

- لن أتزوج أبداً.. مدى الحياة، ثم انهارت باكية.

في اللحظة الراهنة، أثناء وجود نزار، أحست وكأن جداراً هائلاً قام بينها وبينه.

سألها عمها بصوت خافت:

- ما رأيك؟

- أحس وكأن خنجراًً يمزقني.

- انظري إليه، إنه يراك بهجة لنفسه، ونوراً مشعاًً.

غادر العم خيري الصالة، نظرت إلى نزار، فاتحها بموضوع الزواج، بجسارة قالت:

- لا أستطيع ملء فراغ حياتك.. لا أستطيع أن أحبك، إنك تطلب الزواج مني لغرض في نفسك، من أجل عمي، ثم إني لست مثلك في الطباع، والأخلاق.

- أنت مخطئة في تقديرك، أطلبك لإعجابي بك.

تأرجحت على شفتيها ابتسامة واهية.. بدا عليها أنها تفكر، وأنها مترددة، كانت تشعر برغبة في الإفضاء، وإفشاء مكنونات نفسها، ونفض أسرارها، لا تريد أن تخدعه.

فاجأها بقوله:

- أعلم كل شيء عنك.

- إلا شيئاً واحداً.

- سأعرفه.

- ممن؟

- منك وحدك.. فقط اجعلي هذا الخاتم بإصبعك، وفكري على مهلك.

 سقطت في نظر نفسها، وارتجفت ساقاها.. وغادر نزار الصالة.

أقبلت العمة:

- هل وافقت؟

- كلكم ضدي، تتآمرون علي.

- نريد لك حياة مستقرة هنيئة بسلام.

- أي سلام هذا؟.. عمتي: لا أستطيع أن أعطيه شيئاً،.. لا أستطيع أن أحبه.

- الحب يأتي بالتآلف رويداً، رويداً.

- كل شيء يباع إلا العواطف.. قلبي لا أبيعه... لا يمكن.. كل الأماكن تهتف معي: لا، لا.. الموج، الريح، الشاطئ، الحرية، وجه سمير في كل مكان، دعوني أعيش كما أريد، لا ترغموني على شيء.

كان ركام من الغضب يسقط فوق وجه العمة، وكأن سكاكين ورماحاًً تنفر من عينيها، تذبح أحلام وتقطعها عضواً عضواً... تصنعت الهدوء، وبألم قالت:

- أتريدين أن تكوني عانساً مثلي؟

- أفضل من أن أرغم على حياة لا أحبها... سأخلع الخاتم، إنه لا يروق لي، ولا يروق لي هذا الشاب.. لا أقلل من شأنه، ولا أقدر على التشبث به.

تراكمت المشاحنات بينها وبين عمها وعمتها بشكل قد يؤدي إلى مصير بائس، تترك آثارها السيئة في القلوب، من كره، ونفور، ثم لترسخ في الذاكرة بشكل سيئ.. كانت المشاحنات تتكرر كوحش كاسر، يخنق الجميع، وبعنف شرس وقبيح، حتى اتهموها بالجنون، دون التمعن في الظروف، والأسباب التي أدت إلى ما آل إليه أمرها.. كانت نفسها ملأى بالأحزان، ملوثة بكثرة الصدمات، فتسقط أحزانها، وتوتراتها على من في البيت.

وسط هذا الجو القلق، المصحوب بالاكتئاب، وشعور أحلام بالذنب، والاضطراب، تأتي ليلى محاولة أن تكون كهبة نسيم باردة، تمنح بعضاً من الانتعاش بعد أيام شاقة.

قالت لها:

- خففي من توتراتك، واستمري في الرسم.

بتشاؤم أجابت:

- كأني أرى عمري قصيراً.

- لماذا هذا التشاؤم يا أختي؟

- لست أدري.

كانت ليلة عاصفة، أنشب فيها البرق مخالبه في قطيع الغيوم الداكنة، وتهزم الرعد مدوياً، رهيباً في الفضاء، وتدفق المطر.. ثم هدأت العاصفة، فأثالت أحلام بريشتها، وقلبها رسومات، كما لو أنها كانت تغسل حناياها، لتعيدها إلى أحلامها المفقود.

أدارت ليلى مفتاح المذياع، وبحب قالت:

- أعلم أنك تسرين عندما تسمعين لأغاني فيروز الوطنية.

- في أغانيها حروف تتقد في الصدر كالجمر، لها لذعة في القلب، بما تنفضه من نشوة الحنين، وأمل العودة برعشتها الموحية.

- الغربة بعثت موهبتك.

ما كانت لتتيسر موهبتك لو أنك قبعت في الوطن، الغربة أثارت لواعج الحنين الطاغي إلى فلسطين.

ثم قالت ليلى وهي تضحك:

- وإلى الحبيب الغادر.

بابتسامة باهتة:

- سيظل الوطن هاجسي، أعبر عنه بريشتي، وتتمزق الظلال المنسدلة في نفسي، ويختلج في التفاؤل أحياناً.

أقبل العم خيري إلى البيت، كان يسر برؤية ليلى، بادرها بقوله:

- ما الموضوع الذي دار حوله الحوار في المركز هذا اليوم؟

كان السؤال يدخل في نفسها شعوراً عميقاً بالارتياح، قالت وهي تخرج مفكرة من حقيبتها:

- لقد دونت فيها أهم النقاط التي تنشط الذاكرة، وتبقيها حية على الدوام، لأتحدث بها إلى الآخرين.

ثم أخذت ترددها على مسمعه:

- وما شعورك أثناءها؟

- أشعر بمتعة الحوار مع المهجرين، تجمعنا عاداتنا، وأخلاقنا، ولغتنا، ويتردد في أحاديثنا مسحة تشي بالتفاؤل الدائم، فنرى أن مستقبل فلسطين سيكون أفضل من ماضيها، رغم كل ما يبرز من حروب، وويلات.

ربت على كتفها وهو يقول:

- إن حياتك الشخصية نموذج لهذه المسحة التفاؤلية.

التفت إلى أحلام، وهي في صمت، وذهول، وقال:

- وأنت ما أخبارك؟

لم تجب، أراد أن يخرجها من صمتها:

- ليلى ليست أقل اهتماماً بوطنها منك، ولكن بطريقة أكثر اتزاناً.

سألته أحلام: ماذا تريد أن نتكلم يا عمي؟

- أريد أن تهتمي بإكمال دراستك، بالعلم تحررين نفسك من أسر البيئة التي تعتقدين أنها قيد، وضغط عليك.

بادرت ليلى قائلة:

  - من مبادئنا أن نبقى أمناء لتراث شعبنا في النضال من أجل التغيير، بما يتلاءم وقيمنا، والدفاع عن المقاومة الوطنية ضد الاحتلال، والاستيطان، والعمل الدؤوب من أجل التحرير، مع السعي الحثيث لتوليد جيل جديد أكثر نشاطاً، وحماسة لقضية فلسطين، ونعمل ما بوسعنا لرفع صوتنا عالياً ضد الاحتلال الهمجي الصهيوني.

قال العم:

- لم تكن مجزرة دير ياسين، وقبية سوى حلقتين داميتين من حلقاته الدموية.

قالت أحلام:

- لم العالم كله يحتفظ بفضيلة الصمت؟

قالت ليلى:

- ألم تسمعي عن أخبار المقاومة في الأرض المحتلة؟... المهجرون يثقفون أنفسهم، ويجعلون حياتهم الشخصية مرآة لثقافتهم.

قال العم:

- المقاومة في الأرض المحتلة، هي أعلى درجات الثقافة، هي فعل إيمان يقوم به الشعب الحر الذي يقدم أعلى التضحيات دفاعاً عن وجوده، وحقه في أرضه ومصيره.

- المثقف الحر قادر على التعبير عن آلام وآمال شعبه، بالكلمة الصادقة أو بالرسم كما تفعل أحلام، أو بالموسيقى، أو بالمسرح.

قالت أحلام وهي تتذكر أباها:

- أليس أروع صور الثقافة أن يرسم المثقف بدمه ملحمة الشهادة دفاعاً عن الوطن، وعن حرية شعبه المناضل من أجل حريته؟

قالت ليلى بانعتاق:

- الأروع من كل ذلك، رفع راية لا إله إلا الله.

قال العم:

- الإسلاميون يعملون على إعداد جيل للنصر بعد الهزائم المتتابعة.

قالت ليلى:

- الإعداد أقوى من الموت، وهو نقيضه.

قالت العمة:

- سينبعث طائر الجهاد في سبيل الله من رماده، ونبع الحياة سيتجدد فواراً في كل أنحاء فلسطين.

سألها العم:

- هل لكم نشاطات أخرى يا ليلى؟

- لنا عروض مسرحية، ومعارض فنية، نريد أن نعيد بوساطتها الألق إلى الوطن.

- لماذا لا تشركون أحلام بمعرضكم؟

- ترفض أن تكون معنا.. لها اتجاهها المغاير، حاولت كثيراً، حتى غلبني الهم على باقي همومي.

أشار العم خيري إلى مقال قرأه في إحدى الصحف، وبدأ يقرأ:

- يقول المقال:

"أثار همتنا شعار الإمبراطور الياباني المصلح "مايجي"، الذي خاطب اليابانيين بهذا القول: (الحقوا بالغرب وتجاوزوه).

سألت ليلى: - كيف يكون اللحاق، والتجاوز؟

- بالفعل، عرف اليابانيون كيف يستفيدون إلى الحد الأقصى من التكنولوجيا، والعلوم الغربية، إلا أنهم في الوقت عينه عرفوا كيف يحمون المجتمع الياباني من سلبيات التغريب، والأوربة، والأمركة، التي توغل في حداثة مدروسة تحمي التراث، وتدافع عن قيمه الإيجابية، وهم يتميزون بسلوكهم الإنساني المفعم بالقيم الروحية وفي علاقاتهم مع الشعوب الأخرى"

بانبهار قالت العمة:

- بهذه الطريقة إذن تنتصر الشعوب على الاستعمار.

بثقة قال العم:

- هذا ما ينبغي أن نسعى إليه، التحديث، مع المحافظة على إرثنا وحضارتنا.

قالت ليلى:

- خطرت في ذهني الآية الكريمة: (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)... لقد انبثقت أمتنا من بين دفتي كتاب الله عز وجل، وتبقى تنبثق منه، وتخرج الحياة فيها من خلال كلمات الله، التي أخرجت أمة الإسلام، وأنشأتها بقرآنه، وقادت نفسها، وقادت البشرية بعد ذلك.

أردف العم قائلاً:

- أمانة الهداية، والمعرفة مسئولية، ومنها تنبثق سائر الأمانات التي يأمر الله بها أن تؤدى.

(فإن لم يصبها وابل، فطل).

ملت أحلام، تذمرت.. تسللت من الصالة... لحقتها عمتها، بهمس سألتها:

- ما الذي جعلك تنهضين؟ وتخرجين من غير استئذان؟

- مللت مثل هذه الأحاديث، أراها كئيبة.

- ما الحديث الذي يبهجك؟

- أكره كل ما هو قديم.

- حديث يلين الحجارة، وقلبك أشد قساوة من الحجارة... عجباً لأمرك!

ظلت ساكنة، لا تحس بالوجود حولها، تمددت في الفراش، أغمضت عينيها وقلبها صاح، تتذكر الحوار،.. كان طفل منال يضحك وهو يجري، ذكرها رنين ضحكاته بشيء غامض تخفيه عن الجميع، لا تأنس بمقدمه، ولا تلتمس فيه الطهر، وتظل الهواجس تأكل قلبها.. غدر، خيانة، خديعة، عبث، ندم.. مشاعر شتى أحستها بقسوة الحياة، تساءلت: "إلى أين يقودني التفكير؟.. آه.. لست أدري"

الكثيرات من الشابات قلدن أحلام بالسفور، والتبرج، احتج العاقلون على خلع الحجاب، تكلموا فيه كثيراً... قويت حركة اليسار بما يشبه الجنون، ووضع الحجاب في قفص الاتهام، حين اتهم بتأخر المرأة، وجرت مطاردته في كل مكان، وضبط في الطرقات، مثل جرائم السرقة، والقتل، والمخدرات، وغيرها.

وتساءلوا:

"من يبرئ ساحته؟"

كان نور يبزغ من صدور الغيورين في صحوة هائلة، تخشى على الفضائل والقيم من الاندثار، لتقف حاجزاً أمام الانجراف.

قال أحدهم:

- النكبات تتوالى على الأمة، واحدة تلو الأخرى.

وقال آخر:

- في أعقاب نكبة 1967 عزت بعض الأقلام الهزيمة التي حاقت بالوطن إلى الإسلام، وادعت أن إيماننا بالغيب هو سر الفشل، وسبب العجز.

- عجيب أمرهم وادعاؤهم الذي لا ينتهي.

- إنها أقلام مأجورة، لا تزال تجتر، وتعيد سبب التخلف، والمأساة، والهزيمة إلى الدين لا تغادره.

- ما يدعو إلى العجب هو غفلتهم عن الحقيقة، وقست القلوب، وتزعزع اليقين، نتيجة الغزو الثقافي، وسيادة المادية، والإلحادية، وسائر المذاهب الفلسفية، والفكرية والاجتماعية، والسياسية التي يتبناها الناس بديلاً عن الإسلام.

بتحد، وتصميم قال آخر:

- نحن أمة لا تنتصر إلا باليقين، ومقاومته، والحركات التي تنطلق من الإيمان، تفعل في اليهود ما لم تفعله الدول العربية مجتمعة.. إننا لم نزل في عهد الخوارق.

سألت ليلى أختها:

- ألا تزالين تفكرين بسمير؟

- نوعاً ما.

- بل أجدك مستغرقة فيه، وعزلتك وأنت في أسرة عمك تشتد، وتهملين نفسك، وتلبسين الثياب الفضفاضة.

- مضطرة.

- لم ذلك؟ تغلبي على هواجسك، وعودي إلى مرحك وبهجتك.

- أمر صعب للغاية.

تأوهت وهي تقول بصوت مجروح:

- هل يعود الزمن إلى الوراء؟

- هل أعصابك قوية؟

- لماذا؟

- علمت أن سميراً في روسيا مدمن على الفساد والنساء، تفرغ لنزواته في الخارج، وجد ضالته في زميله له، لم تكن مجرد امرأة، بل منصب في الحزب يداعب أحلامه، وكما علمت أيضاً، فقد أصبح كالمعتوه حبيس المغربية.

- أهكذا يتلاشى كل شيء في النهاية، بعد أن كان يختلج في نفسي؟

- أخبرتك بهذا، كي تستعيدي نشاطك، وتعيدي النظر في حياتك، وتصوغيها بطريقة أفضل.. حبيبتي أختي، اخرجي من عالمك المظلم إلى عالم الإيمان بالله، وبالبعث، والحساب، والجزاء، واستخدمي سلاح الصبر والمجالدة.

- المواقف هزتني، ومزقتني، وضيعت عمري، وإنسانيتي، والأمل خذلني، ولا تزال الذكريات حاضرة في ذاكرتي، وتحاصرني، وتزداد توهجاً حين تطل من كوى الأيام.. تتلجلج في خلجات مفرحة حيناً، وحزن حيناً آخر، وبخاصة حين أتلمس جنبات الأمكنة، والضفاف، وجذوع الأشجار، وصداح الكنارى.. فأطيل النظر فيها، وأخترق الزمن، وأصف بريشتي دبيب الذكريات والأحداث، وهي تسري في أعطاف صدري.

مسحت ليلى دمعة سالت، وهي تهمس:

مسكينة يا أختي.

 (25)

سألت أحلام أختها:

- ماذا حصل في البيت القديم؟

- صار خاوياً، ذبلت فيه الأزهار.. أصبح مجرد هيكل حجري.

- والحمامة الرمادية مع فراخها؟

- انطلقت بالطيران مع الفراخ.. لماذا تسألين؟

- أتمنى أن أهرب من هنا، وأعيش فيه بمفردي.

- ومع الحمامة وفراخها؟

- نعم، مع الحمامة وفراخها.

- لماذا؟ كل الأشياء هنا متوفرة.

- إلا شيئاً واحداً.. الخلوة بنفسي.

رمقتها ليلى بنظر ثاقب، وقالت:

- لتتعبدي ربك، وتطلبي منه المغفرة؟

- لا يسرني هذا الهراء... إنما لأمر واحد يخصني وحدي.

- أدري... تريدين أن تستعيدي ذاكرتك مع أمك، أليس كذلك؟

- كنت أحلم أن أكون في بيت عمي بديلاً عن منال.

- الغيرة تكون أحياناً قاتلة.

- أجل.. أحلامي تسكن في رسومات على الورق، أعبر عنها في أشكال شتى، منها الغيرة.

- أحبي منال وطفلها من أعماقك، بالحب وحده تهزمين اليأس، والكره والغيرة.

- أعجز عن مواجهة نفسي، أرى الأحداث المأساوية تفتتها.

- ألقيها وراء ظهرك.

ثم ضحكت وقالت:

- أراك كثيرة الذهاب إلى الشاطئ، ألقيها في البحر، فتغرق.

- يراودني خاطر، بأن ألقي معها نفسي.

- فيأكلك سمك القرش.

- لا أريد أن أغرق قبل أن أطمئن على وطني.

- اطمئني... دماء الضحايا أنبتت أطفالاً، ورجالاً، والجبال، والصخور أهدت حجارة سلاحاً، والليل أهدى همساً وخطى، والأودية والمغارات أهدت سكناً، والعنكبوت أهدى أمناً، واطمئناناً.

- والثوار؟

- منحتهم أرضنا ينابيع رقراقة، والدجية لفتهم بحجاب.

- واليهود؟

- في حصونهم يتنقلون، وفي جبنهم يلتحفون، من أمامهم الجدر المنيعة.

- وتراب الوطن؟

- يحجب مئات الضحايا.

- المعركة غير متكافئة بين شعبنا واليهود.

- بل هي أكثر تكافؤاً، شعبنا أشد ضراوة في صبره، وبذله، وجهاده.

- والريح؟

- ستميل نحو الحق، وتهزم الباطل، ويهرب القردة والخنازير، وستورق أغصان الزيتون، والحجر صديق وحبيب في الزمن الكئيب... الأيام تمضي، سترينا الحق حقاً، والباطل باطلاً.

حدقت أحلام بنظرها في جبين ليلى، بعجب سألتها:

- مالي أرى في جبينك دائرة سمراء، فوق عينيك؟

ابتسمت ليلى، وقالت:

- إنها طاقة الخوارق.

- ماذا تعنين؟

- كما ذكرت... يفترض أنها تنبعث من الغدة الصنوبرية التي تقع في مخ الإنسان، وهي التي سماها الهنود "العين الثالثة"، لأنها تقابل في الجبهة منتصف ما بين العينين، وفي بعض الفرضيات الإسلامية أنها تنشط بكثرة السجود، وهو ما يفسر خوارق الأولياء وكرامتهم... كذلك يسود الاعتقاد بأنها متوافرة لكل طفل إلى سن البلوغ، حيث تبدأ الغدة المذكورة بالضمور، ولكنها في حالات استثنائية تظل عاملة نشطة إلى سن متأخرة.

ضحكت أحلام باستخفاف، وقالت:

- تعلقين ما تذكرين بالصلاة والسجود... شيء غريب.

- آمني بهذا أو لا تؤمني... سيان عندي، لي عقيدتي، ولك عقيدتك.

استدارت لتجري إلى بيتها، زوجها في انتظارها، ووقت الصلاة قد حان.

فجأة ملأ الصراخ أذني أحلام، صراخ من أصوات متشابكة، العم خيري يصرخ... العمة تصرخ... زوجة العم تصرخ وتردد:

- لا أحتملها هنا معنا... دبر أمرها يا خيري، أنا أو هي في هذا البيت.

شعرت أحلام باضطراب، وضياع شديدين، التحمت ذكريات الماضي بالحاضر، تملكها استشعار غامر... تلا الصراخ همسات تدور وسط الصالة... تمنت أن ينتهي الكابوس بسرعة، طرق سمعها صوت عمتها تقول:

- كثيراً ما نصحتها... أفكارها تستولي عليها، تريد أن تعيش على هواها.

أصيبت أحلام بانهيار عصبي... دارت حول نفسها أكثر من مرة.. خبطت بطنها في الجدار، تبعه آلام لا تحتمل... خرجت إلى المطبخ.. أجالت عينيها في كل مكان فيه، وجدت عود ثقاب، وقارورة نفط... دخلت الحمام... أغلقت الباب، أدارت المفتاح في القفل، سحبته، ألقت به من تحت الباب... كان قرارها بتصفية حياتها في لحظات.

دب الذعر وهم يسمعون صراخ أحلام... اضطربوا.. كانت النيران تحاصرها بلا دموع، بلا تمنيات... حاولت أن تتجنب الجدار... تهاوت على الأرض... حاصرها شرار النار واللهب... لم تطلق صرخة استغاثة.. لفت يديها حول بطنها، لتهاجر هجرة أخيرة إلى لا مكان. ومات الحلم بتراب الوطن المخنوق، وضجيج الدوي... انهارت تداعيات الأحلام، بعد أن تجرعت المرارة والأسى حتى الثمالة.

أدهشتهم جثة أحلام، أثارت سخريتهم وخوفهم... أصبحت أعضاؤها ركاماً بلون الذين صمدوا، والعيون احترقت بالمشهد الأليم.

حضنتها ليلى وهي تجهش بالبكاء، رفعت عن وجهها المتفحم شعراً كان بلون الشمس، أصبح أسود مكرنشاً، سحبوا الجثة، ثم رحل الجميع، غادروا المكان.

فحصت أحلام اضطرابها، وضياعها في خاتمة سريعة محددة، وكثرت التساؤلات المحيرة:

هل دفعها عشقها الأبدي إلى الانتحار من شدة الحزن؟

هل كانت أحزانها على سمير فقط حتى أنهتها بهذه الطريقة المأساوية وكثرت الإجابات المتشعبة.

كانت ظاهرة فريدة في بيئة محافظة، ظاهرة تتكاثر، وتتنامى مع تنامي دور المرأة، والخوض في لجة الزمن، في بداية لعصر جديد، امتلأ بالأفكار، والدلالات والآفاق، وأشياء أخرى.. كانت معركة بين الماضي والحاضر بلا سلاح.

انطوت حياة أحلام، لتبقى ذكرى، حياة قصيرة عاجلة.. ضيعتها بتفاهة الأفكار، وإنكار الآخرة.

قالت العمة:

- إن أيام العزاء ستنتهي حتماً.

ثم بحثت في غرفة أحلام، ما وجدت غير ورق شحنت بالرسومات، تأملتها، بدهشة قالت:

- خرابيش غير مفهومة، ألوان متشابكة، يغلب عليها السواد، ورأس شاب يطل من الدجية.

تساءلت:

- أهو سمير؟.. ربما.

لفّت الأوراق بعضها في بعض، حزمتها.. ألقتها تحت السرير، تساءلت:

- أين سمير يا ترى؟

أجابت ليلى:

- لم تسألين يا عمتي؟.. إنه في روسيا يعب من متع الحياة وسط الحرية المطلقة.. استهتر حتى الثمالة، وكانت أحلام تصطلي بناره.

راحت العمة تلملم الأوراق المبعثرة في الغرفة، وتنفض التراب عن بعضها، وهي تقول:

- كان سباق أحلام مع الزمن قاسياً.

حزمت الأوراق، ألقتها مع غيرها تحت السرير.

- ستبقى يا عمتي أحلام في الذاكرة، مات حلمها بموتها، وهدأت الغرفة بتواريها، وأشبعت بالسكون.

قالت العمة:

- لقد مزقت الغربة أوصالها، ستبقى ذكريات تلملم من الصدور والشفاه، وقبراً ينير الذكرى كفتيل مصباح، عاشت موزعة بين الرغبة في العزلة، والرسم.

كنا نجدها ونحن معها، وكأنها في واد، والحضور في واد آخر.

قالت ليلى وهي تستعيد ذكريات مع أحلام:

- أتذكرين يا عمتي حين كانت أصداء أغاني فيروز تتردد في الآذان، وتحرك الأحاسيس، وتهيج الحنين إلى الوطن بترانيمها العذبة، وترجعنا في (راجعون) إلى فلسطين، إلى الماضي الجميل و(يا قدس) وكأنها تدفعنا دفعاً إلى العودة، وإلى (زهرة المدائن) وما يزال الصوت الوطني يواصل مسيرته في الإذاعة.

- كانت عبارات فيروز صغيرة، ولاهثة في أغانيها الوطنية، فتسكن مشاعر أحلام على الورق، وتوشك أن تتحول إلى نبضات خافقة.. ولكن الزمن يتسرب من خلال الذكريات، كذرات الرمل.

قالت العمة:

- ألوم نفسي كثيراً.

- لماذا؟

- لشدة ما طاردناها بذكر العريس.

- وكانت تماطلكم، وتريد أن تعيش على هواها.

تأوهت وهي تتذكر حوار أحلام مع عمها قائلة:

- أنت يا عم تعد عليّ أنفاسي، وتحطمني بقيودك، وتلمس جرحاً قديماً في أعماقي، وحلماً ما زال مستحيلاً في نفسي.

بمرارة قالت ليلى:

- كانت تحب الانطلاق، والتفلت من أسر التقاليد، ولا تدري أن الناس كانوا يلوكون سمعتها.

قالت العمة:

- كانت تجربتها في البيئة مريرة.

باستغراب قالت ليلى:

- كلنا عرب مسلمون، تشملنا قيم واحدة، وليست البيئة هنا غريبة عنا. كانت حالتها عندكم كمن هو في سجن، وأنتم تملكون كل شيء، وهي لا تملك إلا ريشتها وآلامها، وأفكارها الغريبة الجهنمية.

جذبت العمة بعض الرسومات من تحت السرير، أعادت النظر فيها، تأملتها، كانت تعبر عن صور الحنين والأسى لأمكنة في الوطن طواها الزمان، ووجود غيّبة النسيان، وقرى قد بادت، تجولت فيها عدسة الذاكرة.. صور تطل من القدس، ونابلس، ودير ياسين، وقبية، وبيارات البرتقال، وحقول الزيتون، كلها تتوهج بالنار، وتكتم بالقمع والصمت، صور الحنين والأسى تحكي حكاية الحلم الضائع.. الصور تبحث عن لمسات الفرح تهدئ بها قروح الأجفان، ولوعة القلوب، وعالم الصغار ينظرون إلى عالم الكبار جيداً، يقلدون، والكبار كأنهم يرون أنفسهم في عيون الصغار في صورة مصغرة.

بضيق قالت ليلى:

- الأفكار الغريبة تنتشر الفوضى في التقاليد، وتدمر كثيراً من الأخلاق عبر المستورد، كانت في مبادئ تنطلق بشهية فائقة، وتستهلك الكثير من القيم.

بأمل قالت العمة:

- دعاة الصحوة الإسلامية أظهروا نشاطاً ملموساً، أعطى نتائج إيجابية، وأخشى ما يخشون تحول الصديق إلى عدو، يتوقعون كل شيء، ويرون أن لابد من رد الموازين إلى المنطق، ويجدون أنهم اليوم في عالم يحكمه منطق القوة، بدل قوة المنطق، ويتساءلون:

"هل تصلح الأفكار الإلحادية في غياب القيم الروحية للنهوض بالأمة؟ وتتناقض الآراء، وتتضارب المقاييس، حتى أصبح ذلك سمة العالم، وديدن الناس".

لفت ليلى لوحات أختها، وترقرقت عيناها بالدموع، وهي تقول:

- كانت رسوماتها تجربة فنية، وقف في وجهها الموت، وحال بينها وبين الظهور.. لم تقيموها، كنتم تنظرون إلى طيشها وتحررها، كبائعة هوى، وأن الشيطان يتجسد في جسدها، فإذا هي تتحمل آلام الوطن بالإضافة إلى آلامها ومأساتها.

(26)

في يوم صائف من عام 1980 والهواء قد تشبع برطوبة لزجة، كان سمير يتأبط ساعد زوجته الروسية ديدي ذات أنوثة مغرية، صبغ شعرها باللون البنفسجي، ترتدي بنطالاً ضيقاً، يمشيان معاً كعصفورين مجنحين.

باستنكار سألته ليلى:

- أهذه...؟

- زوجتي ديدي.. رفيقتي ثم زوجتي.

- هل أعجبت أمك؟

- لا يهمني رأيها.

- سبحان الله!

- أفكارنا تسود في وضح النهار.

- وستحرر فلسطين، أليس كذلك؟

- نريد تسليم القيادة إلى دولة عظمى.

عرج غلى قبر أحلام، كان جسده يرتعش وهو يمشي بمحاذاة الشواهد، يستيقظ حسّه القديم، توقف عند ضريحها، أكب عليه يقبله، ويضمه بكلتا يديه، أحسّ وكأن أنفاسها تقترب منه، ثم صار كثكلى فقدت ولدها.. شدته الذكرى إلى خيالها.. كان ينتحب، يعتذر عن تقصيره..

تصورها وهي تخطر أمامه بقدها الممشوق، وضحكتها تهرب من بين صفوف أسنانها المنضودة كاللؤلؤ، أكثر ما كان يروق له دموعها التي تدغدغ عينيها أثناء الضحك، ثم يتحول إلى بكاء غزير، وتعتريه الدهشة والحيرة أثناء ذلك، ولم يكن ليدري أنها كانت تخرس الأسى والأحزان بضحك كتغريد الطيور.

كانت ذاته عارية أمام تصوراته.. تمسك بأفكار غريبة، تهوّر بها، خدع من يحب، غدر بها، فكانت أحلام محطة طيران، ونوح حبيب، وتأنيب ضمير، ثم تكسرت الأجنحة، ووقع في واد سحيق.

تساءل:

"هل أقدر أن أحب ديدي بصدق؟"

تأمل القبر، طوى شباب أحلام، وطوى معه آمالها وآلامها، سكن جسدها يسليه ليل طويل، ووحدة دائمة وعزلة.

تفرد سمير بالألم كما تفردت، واعتصره كما اعتصرها، وبأسى صار يتأمل ماضيه، ويخلد إلى ذاته يحاورها.

لم تنسه ديدي حبه، بقي قابعاً في نفسه ملاك جميل، وعرف قيمة الحب في بلده، وأخطأ حين لوث قداسته ولم يصنه ويحرص عليه، وقارنه مع البعيد.. هنالك الحب الجنس يباع فوق الأرصفة، عارياً من الحشمة، يفترش العشب، ووسادة اللحم.

سألته ليلى:

- أتبكي يا سمير بعد فوات الأوان؟

أخلصت لك أحلام حتى آخر عمرها.

بهمس سألها:

- وطفلنا؟

صرخت ليلى:

- ماذا تقول؟!

تلعثم وهو يقول:

- ألم تخبرك؟

- لا، ولكنها كانت في ذبول مستمر.

انتهت

              

* أديبة سورية تعيش في المنفى