خطوات في الليل(7)

خطوات في الليل(7)

محمد الحسناوي*

[email protected]

مع الأيام استمرت صورة الشاعر ييتس منطبعة في مخيلة حسان: رجل مربوع القامة. بسيط اللباس. قميص وبنطال. يجلس على كرسي قصير بلا مسند.. أو ربما على جذع شجرة يابسة في جزيرة ايرلندية، يكتب الأشعار وماء البحيرة هادئ يمتد وراءه وبجواره. لم يعد يذكر تفاصيل سحنته، لكن ملامح وجهه مألوفة جداً. بدا له وهو أشبه ما يكون بملامح منطقة البحر الأبيض المتوسط. هي ملامح بالتأكيد مخالفة لملامح الإنكليز.

في السبعينات تعرف حسان الربيعي على مجموعة من الشعراء الشباب في حلب سموا أنفسهم (جماعة عبقر): مضر ومحمد وحسام وموفق. كان أعضاء هذه الجماعة يترجمون الشعر الإنكليزي فضلاً عن نظمهم الشعر. وكانوا يطلعون صديقهم مدرس اللغة العربية حسان على نتاجهم العربي والمترجم. من المختارات الشعرية التي ترجموها لفتت نظره مقطوعات الشاعر ييتس:

"النحل يبني في شقوق

البناء المتفسخ... حيث تحمل

أمهات الطيور الديدان والذباب.

إن جداري يتداعى. يا نحلات العسل،

تعالي وابني في بيت الحمام الفارغ.

***

لقد أقفل علينا، ودار المفتاح

على حيرتنا. وفي مكان ما

رجل يقتل، أو يحرق بيت

ومع هذا فلا شيء تتضح حقيقته:

تعالي وابني في بيت الحمام الفارغ.

***

متراس من حجر أو خشب،

وأربعة عشر يوماً من الحرب الأهلية

أمس مساء دحرجوا في الطريق

ذلك الجندي الفتي الميت، دحرجوه في دمائه:

تعالي وابني في بيت الحمام الفارغ

***

كنا قد غذينا القلب بالتصورات،

وأصبح القلب وحشياً بغذائه،

إن في عداواتنا زخماً أكثر

مما في حبنا، آه يا نحلات العسل،

تعالي وابني في بيت الحمام الفارعُ.

في تلك السنوات اطلع حسان على كتاب الشعر والتجربة، تأليف أرشيبالد ماكليش، وتوقف طويلاً عند النصوص المختارة من شعر ييتس، تلك النصوص التي تعكس أبعاد التزام هذا الشاعر بقضية (الثورة):

"لقيتهم في نهاية النهار

آتين بوجوه نضرة

من وراء عدّادٍ أو طاولة في

بيوت رمادية من القرن الثامن عشر.

متأكداً أننا، هم وأنا،

عشنا حيث تلبس الملابس المزركشة:

كل شيء تغير تغيراً كلياً:

وولد جمال رهيب

***

تلك المرأة كانت تصرف أيامها

بطيبة يشوبها الجهل،

وتمضي لياليها بالنقاش الطويل

إلى أن يعلو صوتها حاداً

أي صوت كان أحلى من صوتها

عندما ركبت، شابة وجميلة

وسارت إلى الكلاب؟

هذا الرجل كان يدير مدرسة

ويركب حصانناً المجنح،

وذاك صديقه ومساعده كاد يبلغ أشده،

كان خليقاً بأن يلتمع صيته في النهاية،

فطبيعته كانت تبدو رقيقة

وأفكاره حلوة جريئة

وهذا الرجل الآخر كنت أحسبه

سكيراً، وفظاً مغروراً

كان قد آذى أذى مراً

من كانوا أحباء على قلبي،

ولكني أورده في هذه الأغنية،

فهو أيضاً قد ضحى بنصيبه

في الملهاة العرضية،

وهو أيضاً تغير بدوره

تغيراً كلياً:

وولد جمال رهيب.

***

قلوب بغاية واحدة فقط

تبدو صيفاً وشتاءً

***

التضحية الطويلة الأمد

قد تحيل القلب حجراً.

آه، متى تكفي؟

نحن نعرف أحلامهم، ويكفي

أن نعرف أنهم علموا، وأنهم موتى الآن،

وماذا إن كان فرط الحب

قد أذهلهم حتى الموت؟

إنني أروي قصتهم في قصيد-

ماكدوناج، وماكبرايد

وكونولي وبيرس،

الآن وفي الزمان الذي سيجيء،

حيثما يلبس اللون الأخضر،

لقد تغيروا كلياً:

وولد جمال رهيب."

لقد تمنى حسان يوماً أن يكون شاعراً ثائراً، لكنه تراجع عن أمنيته تلك في حينها. ثم إن أماني حسان لم تتحقق كلها، فلماذا تتحقق أمنيات من نوع خاص؟

(لم أكن أتوقع أن أدخل السجون، أو أن أتذكر ييتس وأشعاره المترجمة. بل لم أكن أتوقع أن أرى في الثوار الذين ذكرهم في قصيدته شبهاً بإخواني وأصدقائي وطلابي من شهداء سورية. المدرس حسني عابو والطبيب عبد الستار الزعيم والمهندس عبد العزيز سيخ والمدرس زهير زقلوطة. بل لا أتوقع ولا أرضى أن تكون ثورتنا قصيرة العمر مثل ثورة ايرلندا حينذاك. نعم كان في صفوفنا مجاهدات ومدراء مدارس وعمال وطلاب، ولم يكن في صفنا سكير واحد، ولن يكون. إن أبناء الشعب الذين أيدونا تركوا الخمرة، وتابوا عن المعاصي، وتجردوا إلى الله. هكذا ثورتنا وهكذا ثوارنا وثائراتنا. بل ما أشبهنا بقول الشاعر الطرماح بن حكيم:

وإنـي لَمقتادٌ جـوادي فقـاذفٌ      بِه وبنفسي العامَ إحـدى المقاذفِ

لأكسبَ مالاً أو أؤول إلـى غِنىً     من  الله  يكفيني  عُـداةَ الخلائف

فيا ربَّ إن حانتْ وفاتي فلا تكنْ    على شَرْجَعٍ يُعلى بِخضر المَطارفِ

ولـكنَّ قبري بـطنُ  نسرٍ مَقَيلُهُ    بِجـوّ السماءِ  فـي نسورٍ عواكفِ

فالمال نكسبه وننفقه حلالاً في حلال. والموت حتى الموت نطلبه شهادة في سبيل الله في المعارك، حيث تلتهم النسور أجسامنا فتحلق بنا السماء. لا أن نموت فنحمل على توابيت مغطاة بأردية خضر ككل الناس.

وقول الشاعر قطري بن الفجاءة مخاطباً نفسه، يثبتها ويصبرها على الموت:

أقولُ لها وقد طارْت  شَعاعاً     من الأبطالِ: ويحَكَ لن تُراعي

فإنكِ لو سألتِ  بقـاءَ يـومٍ     على الأجلِ الذي لكِ لم تُطاعي

أحس حسان بشبه وبقرابة أكبر بينه وبين شعراء الخوارج، وندم على تشبيه نفسه وإخوانه بالايرلنديين والثورة الايرلندية.

ابتهج حسان لما اكتشف خطأه، وصححه بنفسه. الفرق كبير بين التشابه في الظواهر أو في العقيدة (إذا كان المهم أن يتبنى الشاعر قضية، فالشاعر الماجن أبو نؤاس له قضيته التي أنفق فيها حياته وشعره. وإذا كان الأفضل تبني قضية عامة، قضية جماعية فإن شعراء الصهيونية وأدباءها يتبنون قضية جماعية.)

نهض حسان من مجلسه. تمشى في الزنزانة ذهاباً وإياباً، يطرد الملل، ويسترد نشاطه الذي أذبله طول القعود. بحث عن شعاع الشمس وجده نحيلاً مائلاً يحاول التملص من أسر الزنزانة، ليلحق بأمه الغاربة. أطل الحارس اللطيف من كوة الباب، شارباه الأشقران يبتسمان. استنارت الزنزانة للحظات. ابتسم حسان. تأمل بلاط الزنزانة. لفت نظره رصف البلاط خطوطاً متوازية محكمة.

(الخط المستقيم مظهر جمالي لا سيما في البلاط. إن للنقطة والخط والدائرة شأناً في علم الجمال. يقولون: إن الخط المنحني أجمل من الخطوط الأخرى في جسم الإنسان لا سيما جسم المرأة. لماذا؟ ولماذا في المرأة بالذات؟ إنه يدل على النعومة واللطف. الخط المستقيم أكثر صلابة وقساوة. هذا في الجسد، فكيف في الأخلاق، في السياسة؟ يقولون: إن الخط المستقيم في السياسة ليس أقرب خط بين نقطتين. الخط المستقيم في الهندسة والأخلاق غير الخط المستقيم في السياسة. معظم هذه الآراء والنظريات مستمد من الفكر اليوناني الوثني المادي. إنها تحتاج إلى مراجعة ونقد صارمين.)

مرة أخرى ابتهج حسان لأنه اكتشف الفرق بين ثورة شعبه وثورة الايرلنديين.

(ليس شرطاً أن تكون ايرلندة قد احتلت أرضي، واستعبدت شعبي حتى اختلف معها. إن الخلاف في العقيدة قد يكون بين أبناء الأسرة الواحدة.)

توقف حسان عن المشي. برقت عيناه.

(المسلمون الأوائل اختلفوا. الخوارج. الشيعة. أهل السنة والجماعة. الخلاف بين الإيمان والكفر واضح. أما الخلاف بين إيمان وإيمان فأمر آخر. لكن هل يتعدد الإيمان؟!).

أدرك حسان أن ظرف السجن الانفرادي ألجأه إلى الدندنة بالشعر، وأن الشعر حمله إلى الفكر، وأن الفكر أسلمه إلى الغوص في لجج الخلافات المذهبية التي كان يتحاشاها من قبل. استأنف المشي ذهاباً وإياباً.

(لكن ما العمل؟ إن وصولي إلى السجن جزء من اختيار، من موقف فكري. لا بد لي من تفحص موقع قدمي. لا بد من التأكد بين الفينة والفينة من صلابة الأرض التي أدوس عليها. باختصار أنا أختلف عن الشاعر ييتس. ثورتنا تختلف عن الثورة الايرلندية، وبمعنى آخر إلى أي حد نحن نتفق مع الخوارج؟ لقد درج السياسيون العرب على اتهام المعارضة أي معارضة بالخوارج؟ ودرج فريق آخر على تخصيص هذا الاتهام بالحركة الإسلامية. هل أنا خارجي. هل نحن خوارج؟)

لقد سأل حسان نفسه هذا السؤال أكثر من مرة قبل السجن، لكنه يشعر الآن بأهمية السؤال أكثر من كل مرة سابقة.

(أنا معجب حقاً بشعراء الخوارج، وبالدقة معجب بشعرهم. هل الإعجاب يكفي. قال أحد النقاد: قد تعجب إعجاباً كبيراً بالشاعر أبي الطيب المتنبي لكنك لا تحبه، إن الحب غير الإعجاب. هل هذا هو كل شيء في فهم المعادلة التي بيننا وبين الخوارج؟!).

سبق لحسان أن صنف شعر الخوارج في الشعر الإسلامي، وخطر له أن يدرس شعرهم في رسالة جامعية. أما المسألة الآن في السجن فلم تعد مسألة إعجاب أو تصنيف. إنها مسألة تدقيق في الفكر والموقف، وفي (الاستراتيجية) و(التكتيك) إن صح التعبير.

(شعرهم من الناحية الفنية جيد متميز، تحس فيه الصدق والبراعة وقوة الأسر. انظر مثلاً قول الفارعة ترثي أخاها ابن طريف:

أيا شجرَ الخابورِ مالكَ مورِقاً      كأنكَ لم تجزعْ على ابنِ طَريفِ

حياتهم زاخرة بالبطولة والشجاعة والتضحيات. معظم شعرائهم وأبطالهم قضوا شهداء. لكن اجتهاداتهم الدينية، أو ما يسمى مواقفهم الفكرية والسياسية تتسم بالتطرف والفجاجة، مثل تكفيرهم الإمام علي رضي الله عنه، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وتكفيرهم من وافق عقيدتهم ولم يقاتل معهم، وإباحتهم قتل أطفال المخالفين ونسائهم، وقولهم بأن أطفال المشركين في النار مع آبائهم، وأن التقية غير جائزة في قول ولا عمل..)

توقف حسان عن المشي. برقت عيناه.

(لكنهم مع ذلك يظلون مسلمين من أهل القبلة والشهادة. إن كفروني لا أكفرهم. ومثلهم كثير في الجماعات الإسلامية من حيث الاتفاق والاختلاف في التأويل والاجتهاد، بما لا يخرج من الملة. ولهذا سعينا إلى إقامة (الجبهة الإسلامية) في سورية، وإلى جمع كلمة المسلمين في العالم. أما الحاكم الذي يعلن الكفر البواح، أو يناصب الله تعالى ورسوله عليه السلام –العداء، أو يحاول استئصال شأفة الإسلام، أو ينكر معلوماً من الدين بالضرورة، فلا لقاء بيننا وبينه إلا السيف. وإذا تحالف هذا الحاكم الطاغية في داخل سورية وخارجها مع من يعينه علينا وعلى تحقيق أهدافه الباغية، فإن لنا أن نحالف ضده من يعيننا عليه ويقربنا من أهدافنا ويحطم أهدافه، وإذا اقتضتنا المعركة أن نهاجر أو نشرد أو ندخل السجون، فإننا نستعين بالصبر والصلاة، وبكل مباح يروح عن أنفسنا في ظلمات السجون.)

نظر حسان إلى السماء من خلال النافذة الخلفية وجد الظلام قد خيم، والنجوم البعيدة قد سطعت. أنشأ يدندن:

"لو كان عندي نسيجُ السماء،

الموشى بأنوار الليل والنهار

لفرشتْه تحت قدميكِ

لكنني فقير..."

على حين ارتسم في مخيلته صورة ساباطُ طويل قديم يكتنف الظلام معظم جوانبه، وتسقط عليه أضواء مصباح نفطي، فتضيء نتوءات الأحجار المرصوفة على الجدران في ثلثه الأول حيث اندفع فيه شابان هاربان من مطاردة ليلية، فاستلقت أمامهما أشباحهما عملاقة متطاولة. كانت ملامح الطالب الجامعي واضحة تجعله يتذكرها.

"لكنني فقير...."

"لكنني فقير...."

"لكنني فقير...."

الليلة الثانية عشرة

مساء يوم السبت 14 حزيران 1980

-1-

دخل حسان الربيعي غرفة التحقيق الأنيقة الفخمة. الوقت ما يزال في أول المساء. كان يجلس على المنضدة المحقق الطويل البسام الأسمر، لكنه يلبس هذه المرة حلة عسكرية صيفية ناعمة بأكمام قصيرة وحواش مصقولة. وعلى المقعد الوثير الكائن في الزاوية اليمنى المقابلة للمنضدة جلس محقق جديد بلباس مدني داكن، في العقد الخامس من عمره ممتلئ الجسم مربوع القامة، أسود الشعر قصير الرقبة، تكاد حلته السوداء تضيق به، يضع على عينيه نظارة طبية سميكة.

حين جلس حسان في قبالة المنضدة، كان المحقق الجديد على يسار حسان مباشرة.

- أخ حسان. كيف حالك اليوم؟ (قال المحقق الطويل)

- شكراً. بخير.

- وجدنا بين أوراقك الخاصة طلباً وجهته إلى الأستاذ المحامي إسماعيل العظمة للعمل عنده.

- صحيح.

- لكنك لم ترسل الطلب.

- على كل حال الاتفاق معه حصل.

- أخ حسان. أحيطك علماً بأن الأستاذ إسماعيل صديقي وأستاذي، وهو أستاذ الكثيرين من أمثالي في بلدنا. كن مطمئناً لن يصيبك مكروه، فكن صريحاً معنا.

- وأنا كذلك.

- لا. حتى الآن لم تعترف بعلاقتك بالتنظيم، ولا برئاستك لجهاز الإعلام.

- لا علاقة لي. كما ذكرت سابقاً.

نثر المحقق الطويل مجموعة أوراق تحت يده. شرع يقرأ بصوت مسموع في واحدة منها، أو يكتب على ورقة أخرى.

* حسان الربيعي: رئيس جهاز الإعلام و المسؤول عن نشرة (النداء).

* فارس سلمان: نائب رئيس الجهاز.

* عبد الحكيم السيد: عضو –محرر.

* أحمد الأشقر: محرر مترجم عن الإنكليزية.

* عمار شومان: عضو –محرر.

* إبراهيم ماضي: مترجم عن التركية.

أدرك حسان أن هذه المعلومات صحيحة، لكنه قرر أن ينكر ما يخصه، وما يترتب على ذلك من معلومات.

- أخ حسان. قل لي إذا لم تكن أنت المسؤول على هذه المجموعة، فمن منكم هو المسؤول؟!

- أنا لست مسؤولاً عن أحد. عملي تنقيح أسلوبي لا غير.

- من هو المسؤول الإعلامي الأول إذن؟

- المسؤول عني أبو حسن؟

- من هو أبو حسن؟

- علي فستق.

تدخل في الحوار المحقق الجديد فقال بصوت أجش يوحي بأنه مدخن مزمن:

- علي فستق شخصية لا وجود لها.

- صحيح يا أخ حسان؟

- إنه أحد طلابي. وهو الذي يسلمني المواد الخام ويستلم مني المواد المنجزة.

- هل يعقل أن يكون أحد طلابك مسؤولاً عنك؟! (ابتسم متعجباً).

- في التنظيم لا اعتبار للأعمار.

تساءل المحقق الطويل بتجاهل:

- لأي اعتبار إذن.

- الاعتبار للولاء لأشياء أخرى.

مرة أخرى تجاهل المحقق:

- مثل ماذا؟

- مسؤولية جهاز إعلامي في جماعة منظمة سياسية... هي مهمة تنظيمية سياسية. وأنا إنسان أديب إعلامي لا خبرة لي بالسياسة.

- هل هناك فرق بين الإعلام والسياسة؟

استراح حسان لمثل هذا السؤال، لأنه يعينه على التملص من المأزق.

- طبعاً هناك فرق كبير، لكل منهما علومه واختصاصاته ومعاهده.

- أنا لا أرى فرقاً في ذلك، والدليل على كلامي أنك إعلامي وسياسي في وقت واحد.

- هذا رأيك، مع احترامي لك.

- لا داعي للمجاملة.

- شكراً.

- مناقشتك، رأيك بالعلاقات التنظيمية وبمواصفات مسؤول الإعلام وما شاكل ذلك تدل على خبرتك بالإعلام والسياسة معاً.

- عفواً. هذه أمور عامة لا تخفى على أحد.

ابتسم المحقق الأسمر الطويل. رفع رأسه وترك الكتابة. ثم قال:

- علي فستق حتى الآن لا وجود له لدينا، فمن يكون المسؤول الإعلامي بين أفراد هذه المجموعة.

- أنا لم ألتق بأفراد هذه المجموعة.

- إنهم يعرفونك.

- بعضهم أصدقائي أو طلابي.

- أنت وقعت على جداول رواتبهم.

- لا أذكر ذلك أبداً.

- مرة أخرى. فارس سلمان مجاز بالتجارة والاقتصاد، ولا يصلح مسؤولاً عن جهاز الإعلام. عبد الحكيم السيد أصغر منك سناً، ويعتبرك أستاذه لا يصلح مسؤولاً للإعلام بوجودك. أفضل شيء أن يكون إبراهيم ماضي الدرويش هو المسؤول الأول للإعلام.

أدرك حسان سخرية المحقق. لم يحمله ذلك على الاعتراف. إنه مصمم على الإنكار مهما كانت النتائج.

- قصاب باشي طخوه. (قال المحقق الطويل وابتسم).

لم يدر حسان مراد المحقق من هذه المعلومة فسكت. أعاد المحقق.

- قصاب باشي طخوه. (ابتسم) ألا تعرف قصاب باشي؟

- عفواً. لا أعرفه.

- إنه شخصية مشهورة!

ظن حسان أن صاحب الاسم من رجال السلطة البارزين، وأن المجاهدين قد قتلوه، وأن المحقق أراد أن يسره بنقل هذا الخبر الهام إليه، وهو المحروم من الأخبار.

- لا مؤاخذة لم أتذكره.

- نحن اطلعنا على مراسلاتكم مع مراسليكم في داخل سورية، ومنها الرسائل التي تلحون فيها على تمحيص الأخبار ونقدها وتوثيقها. قصاب باشي اسمه الأول أحمد. عمره (55) خمسة وخمسون عاماً. يعمل مزارعاً. وقلعوا أظافره قبل أن يقتلوه.

- عفواً. الآن عرفته.

- تعرفه شخصياً؟!

- لا. أنا من حلب وهو من حماة. إنه أحد شهداء نيسان الماضي رحمه الله. اغتالته السلطة مع الدكتور عمر الشيشكلي وخضر الشيشكلي والدكتور عبد القادر قنطقجي.

- ثلاثة أطباء قتلوا في يوم واحد؟

- في بلدنا اليوم عجائب أكبر. هل تعلم أن الدكتور خضر الشيشكلي المسن هو أحد زعماء الكتلة الوطنية ضد الاستعمار الفرنسي، يقتل اليوم بصب الأسيد عليه في بيته، ثم ينهب ما فيه من تحف أثرية؟ وأن ابن أخيه الدكتور عمر الشيشكلي، رئيس جمعية أطباء العيون في سورية قلعت عيناه، وألقيت جثته في حقل قرية مجاورة لحماة، وأن الدكتور عبد القادر قنطقجي، طبيب الجراحة العظمية، قد ألقوا جثته بعد التعذيب الوحشي على طريق قرية الشيخ غضبان، أي على مسافة ثلاثين كيلومتراً عن المدينة؟!

- ما هي علاقة عبد الوهاب شعار بالتنظيم؟ (قال المحقق الطويل)

- لا علاقة له.

- ماذا يقال له؟ أبو...؟

- أبو زهير.

- هذا اسم حركي. ليس بين أولاده الثلاثة ولد بهذا الاسم.

- أنت يا أخ حسان مسؤول جهاز الإعلام. (قال المحقق بنبرة مطمئنة).

- أنت أبو ايش؟ (قال المحقق الثاني)

- أنا أبو مجاهد.

- اسمك الحركي؟ (قال المحقق الثاني).

- ليس لي اسم حركي.

- ألم يخاطبوك بأبي سالم؟!

- لا.

استمرأ حسان الإنكار. صمم بشدة على عدم التنازل في الاعترافات بعد أن اعترف باسمه الصريح.

- هل تعرف عبد الكريم الجندي؟

- لا أعرفه.

- هل تعرف شيئاً عنه؟ (نهض المحقق الطويل من مجلسه. وقف بجوار المنضدة، وقد عقد ذراعيه على صدره بشيء من الاسترخاء.)

حاول حسان أن يخمن المراد من هذا السؤال. لم يجد شيئاً ذا بال. قال:

- أعرف أنه كان من رجال السلطة السابقين.

- وماذا أيضاً؟

- كان رئيساً للمخابرات العامة.

- وماذا؟

- غير محمود السيرة.

- حسن، وماذا؟

- نحن في بلدنا قصص وأخبار كثيرة يختلط فيها الواقع بالخيال، والحقيقة بالباطل.

- أرغب أن أسمع شيئاً عن عبد الكريم الجندي.

- هناك روايات متضاربة حول موته. انتحر أم اغتيل؟

- غيره.

- كان مستهتراً في لباسه وتصرفاته.

أبدى المحقق اهتماماً. اقترب من حسان قليلاً. قطب حاجبيه:

- مثلاً؟

- وبخ أحد الحزبيين في مجلس عام، لأنه يدخن سجائر أجنبية، وحينما اجتمعا في لقاء حزبي أخرج "الجندي" من جيبه علبة سجائر أجنبية وقداحة من الذهب الخالص، وقال لذلك الرفيق: لا يحسن بنا نحن الثوريين أن ندخن أمام الناس كما ندخن في السر.

ضحك المحققان. استدار المحقق الطويل. تذكر التدخين. مال على منضدته أشعل سيجارة فاخرة من قداحة أنيقة براقة.

- غيره.

- سمعت قصة لا أشك في صدقها، يرويها أناس موثوقون عن الأستاذ صباح الركابي نقيب المحامين في سورية. موجزها أن اتحاد المحامين العرب شكل وفداً برئاسة الأستاذ الركابي لمقابلة عبد الكريم الجندي، وللمطالبة بالإفراج عن عدد من المعتقلين من المحامين السوريين. بعد مماطلة دامت أياماً وشهوراً سمح لهم الجندي بمقابلته. وفي خلال اللقاء كان (الجندي) مشغولاً عنهم أو متشاغلاً بطائر صغير جميل يداعبه في قفصه. حتى إذا فرغ أعضاء الوفد من الكلام (وفيهم المصري والسوداني والسوري والفلسطيني والمغربي والجزائري...) قال (الجندي): أنا مستعد لأن أفرج عن المحامين إذا أجابني رئيس الوفد عن سؤال واحد. ما هو اسم الطائر والبلد الذي كان يعيش فيه؟ ولدهشة أعضاء الوفد استطاع رئيسهم أن يحزر الجواب الصحيح الذي لم يرد في كتب الحقوق ولا كتب الحيوان. لدى استفسار أعضاء الوفد من رئيسهم بعد الانصراف من عند هذا (الجندي) عن مصادر علمه المدهش. أجابهم بأن له جاراً يبيع الطيور الجميلة من بلابل وحساسين، وأنه في أحد الأيام كان في زيارة لدكان هذا الجار الذي تطوع بتعريفه بأنواع هذه الطيور، ولحسن حظه وحظ المحامين السوريين المعتقلين أنه علق في ذاكرته اسم طائر منها واسم البلد الذي يعيش فيه.

- ما اسم هذا الطائر المذكور وما موطنه (قال المحقق الأول بجد).

- لا أعرف. (أجاب حسان بجد أيضاً).

- فكيف نفرج عنك إذن؟!

ضحك المحققان وحسان.

- هات الطائر حتى أسميه لك. أما كيف أسميه وأنا لا أراه!

- كيف تقول أنا لا أفهم في السياسة.

- ولا في الطيور أيضاً.

مص المحقق الطويل سيجارته بشدة. نفخ دخاناً كثيفاً. أشاح بيده متصنعاً الأناقة واللباقة المفاجئة في وقت واحد قائلاً:

- طيب ما أسماء أعضاء قيادتكم؟

- أنا غير منظم. (أجاب حسان بهدوء بالغ. لم يتحرك عضو فيه.)

- أنت تعمل في تنظيم. (اصطنع المحقق الجد والتأكيد).

- أعمل موظفاً، مجرد موظف.

- حتى لو كان الأمر كذلك، ألا يمكنك أن تعرف أحداً في القيادة؟

- أعرف أبا حسن، علي فستق.

- هل هو عضو قيادي؟

- ما أدري.

زاد المحقق من تقطيب وجهه. رفع صوته. أطفأ سيجارته بقوة. اقترب من مجلس حسان أكثر.

- ماذا تدري إذن؟

- أدري أنني في ورطة. (التمس حسان مظاهر الهم والحسرة. حاول إظهارها بوضوح في حركة يديه المشيحتين يميناً ويساراً وفي بحة صوته المتهدج.)

- أنا لا يمكنني أن أتصور أنك لا تعرف اسم المراقب العام.

- أنت حر في تصوراتك. وأنا أحترم رأيك على كل حال.

عاد المحقق إلى مقعده خلف المنضدة بهدوء. قلب الأوراق التي أمامه:

- إن أجوبتك حتى الآن غير مقنعة كلها. نحن نعلم اسمك الحقيقي قبل أن تبوح به، ونعلم أسماء قيادتكم كلها حتى المراقب العام، ولا أدل على ذلك من أننا نصارحك أنك أحد أعضاء القيادة بلا أدنى شك، و المسؤول الإعلامي فيها، فلماذا الإنكار والإصرار على الإنكار؟!

- أنا لم أشك لحظة واحدة بمعلوماتكم وخبرتكم المتقدمة في تحصيل المعلومات وتوثيقها. وهذا ما يحملني على قول الحقيقة باطمئنان، مؤكداً أنني غير منظم، فضلاً عن أن أكون عضواً قيادياً. إن حسن ظنكم المبالغ بي، وقبولي الدخول في الورطة التي أنا فيها، هما السبب في استنتاجكم بأنني عضو قيادي.

ارتفع صوت حسان بغير قصد منه، كما ارتفع صوت المحقق الطويل أيضاً.

- نحن لا نستند الآن إلى الاستنتاج (وضع المحقق يده على الأوراق).

- إذن لماذا تحرصون على اعترافي لو سمحت؟! (قال حسان بلهجة معاتبة).

- لأننا لا نريد أن نتعامل من موقع الثقة المتبادلة.

- ألسنا الآن في موضع الثقة المتبادلة؟!

سكت حسان قليلاً لكي يعرض بما هو فيه من سجن وتقييد يمنعان من الاطمئنان والثقة. ثم استأنف كلامه لكيلا يغضب المحققين:

- ألم أعترف باسمي الصريح؟!

- لكن بعد ماذا اعترفت به؟!

- ألم أصرح بطبيعة عملي منذ البداية؟! إن واجبي يدعوني إلى الاعتراف بجميلكم، وبحسن معاملتكم وطريقتكم الناجحة في التحقيق.

- أنت تعلم أننا قادرون على التعذيب وانتزاع المعلومات والاعترافات بطرقنا الخاصة. (قال المحقق صاحب الصوت الأجش.)

- طبعاً أعلم. وهذا هو الفرق بينكم وبين النظام السوري الذي اختلفنا معه، وحاربناه وهاجرنا إلى بلدكم الكريم الطيب بكل ثقة واطمئنان.

قام المحقق الطويل من مجلسه، حرك يده اليمنى في الهواء احتجاجاً:

- الثقة.. الثقة... أين الثقة التي تتحدث عنها؟

- إن لجوءنا إلى بلدكم أول مظهر من مظاهر الثقة والاطمئنان.

- ثم ماذا بعد ذلك؟ (لوح المحقق بيده اليسرى)

- البقية تعرفونها.

- إذا كنت تشير إلى اعتقالكم، فاعلم أننا لم نعتقل كل أعضاء القيادة، وكان بإمكاننا أن نفعل ذلك. فسافر منهم من سافر، وبقي من بقي.

- مع جهلي بالسياسة أعترف أن هذه خطوة تعين على الثقة.

سكت المحقق برهة يتأمل العبارات الأخيرة (أهي جادة أم ساخرة):

- تصور نفسك في مكاننا. ماذا تصنع مع جماعة، تقود ثورة مسلحة من أرضنا وبغير علمنا؟!

- حقاً! واسمح لي أن أطلب منك أن تتصور نفسك في مكاني أسيراً معتقلاً تعصف بك الأوهام والهموم (صمت حسان قليلاً، ثم استدرك)، وأنت إنسان عادي بريء لا ناقة لك ولا جمل بكل هذه الدوشة.

- أليس بإمكاننا أن نسلمكم إلى حكومتكم ونرتاح من هذه القصة؟

- ضميركم لا يسمح لكم بذلك.

- وضميركم؟!

- ضميرنا واثق مطمئن (قال هاتين الكلمتين بهدوء وتشديد الحروف) إلى نزاهتكم وحكمتكم وإلى بُعد نظركم.

- بعد نظرنا.. ها؟! (قال المحقق هذه الكلمات باستغراب ممزوج باحتجاج).

-2-

حين أعيد حسان الربيعي إلى زنزانته رقم (10) وخلا إلى نفسه. جلس على فراشه الإسفنجي في مؤخرة الغرفة: وجهه قبالة الباب، وظهره مستند إلى الجدار.. بعد أن أعاد ترتيب الفراش والأغطية والوسادة. كان هدوء الليل قد بدأ يزحف على المدينة، والضوضاء تنسحب شيئاً فشيئاً. معظم السجناء في الزنزانات الأخرى قد أووا إلى مضاجعهم، وبدأت تنهداتهم وأصوات شخيرهم تتردد بين الفينة والفينة.. الحارس الأسود الضخم كان يتمشى في الرواق، ينتظر انصراف بقية السجناء إلى النوم، ليقف عند الباب الوحيد للرواق وينال قسطاً من الراحة، جميعاً تناولوا عشاءهم وشرابهم وقضوا حاجاتهم. الذين طلبوا إلى التحقيق عادوا إلى زنزاناتهم. لا يوجد اليوم نزلاء جدد. الأمر على ما يرام. الزوجة والأولاد بانتظار العودة صباحاً مع قائمة مطولة من الأغراض وما تيسر من الهدايا. انقضى أسبوع وأنا هنا لا أستطيع العودة. الهدايا سوف تكون عذراً مقبولاً لعائشة وللأطفال...)

أطل الحارس من كوة الزنزانة (10).

- لم تنم يا حاج. (قال ذلك بلهجة متوددة).

- سوف أنام قريباً. (أجاب حسان مبتسماً)

همَّ الحارس أن يسأل حساناً عما يشغل باله. هم أن يسأله فيما إذا كان له زوجة وأولاد، لكنه تذكر تعليمات السجن. فصارت نظراته الحانية، وإطلالته الطويلة نسبياً تتكلم بالنيابة عنه. بادله حسان النظرات. كرر له الابتسام. أحس لأول مرة بأن هذا الحارس يخفي وراء ضخامته ولونه الأسود شيئاً إنسانياً عميقاً لا تفصح عنه العبارات.

- لا تتردد في أن تنبهني إلى صلاة الصبح إن كنت غافلاً عنها. (قال الحارس).

- شكراً. سوف أفعل إن شاء الله.

- تصبح على خير.

- وأنت بخير.

بدأ شريط التحقيق الأخير يكر أمام حسان. محقق جديد. أسئلة جديدة. الغرفة الأنيقة الفاخرة الأثاث نفسها: (ما غرضهم من السؤال عن عبد الكريم الجندي! لا علاقة لي به، وما أظن أن لهم أدنى علاقة به أيضاً. هل أراد المحقق أن يتسلى بطرف ونوادر هذا الرجل، أم أراد أن يستدرجني للكشف عن اهتماماتي، معلوماتي السياسية؟ هذا ما أرجح. أم تراه أراد الاستطراد بالحديث قليلاً، ريثما يلتف به مفاجئاً إياي بسؤال هام؟ أم أراد أن يشعرني بالفرق الكبير بين معاملتهم ومعاملة أمثالهم من رجال المخابرات السورية، ليكسب رضاي وودي فثقتي؟! لأعترف أنني لم أكتشف الغرض الحقيقي من وراء السؤال عن رجل مات، وبليت عظامه، وانتهى دوره. ليس في الأمر ما يقلق. إنما تأكيده على صفتي القيادية، وكشفه لأعضاء الجهاز الإعلامي ومهماتهم، فهذا الأمر المثير للقلق. لم يكتف بذلك. يريد أن يكشف أسماء أعضاء القيادة، واسم المراقب العام أيضاً. لن يكون له ذلك. يزعم أنه يعلم كل شيء. مع ذلك يستوضحني ويستجوبني. يا رب أصرفه عني وأيدني بعون منك...)

حاول حسان طي صفحات التحقيق باستبعاد الاحتمالات والهواجس، لكن صفحة أخرى انتشرت أمامه. استلقى على الفراش يهرب منها. لم يستطع. لقد انتصب أمامه ثلاثة أطباء مضرجين بالدماء. أحدهم تسيل الدماء من عينيه، والآخر من أطرافه المقطعة، والثالث تذوب جثته في لجة من سائل يغلي، وتتصاعد منه أبخرة ضبابية، ذات رائحة نفاذة تخدش الحواس جميعاً. شعر حسان كأن سيل الدماء يصب في غرفته، وسحب الدخان الكثيفة تتكاثف فوقه. إنه لم يشهد المجزرة النيسانية في حماة، لكنه سمع قصتها في باريس:(يا أستاذ أنا أعرف الدكتور عمر الشيشكلي كما تعرف نفسك. إنه صديق الطفولة، وزميل الدراسة من الصف الأول حتى نهاية المرحلة الثانوية. كنت ألعب معه منذ الصباح إلى المساء، فأبيت في بيت أهله. كان يذهب معي إلى البستان وإلى العاصي، فينام معي في بيت أهلي. يا أستاذ، الدكتور عمر في شبابه طويل القامة، أبيض البشرة، أشقر الشعر مثل القمر. أخته تعشقه، فكيف أنا الذي قضيت حياتي كلها معه. رغم دراسته الطب في الجامعة، واشتغالي بالتجارة لم تنقطع صداقتنا ورحلاتنا معاً. كان دائماً متفوقاً في الدراسة، متفوقاً في اللعب، متفوقاً في الكرم والشجاعة ماذا أقول لك؟ أنت لا تعرف الدكتور عمر. أنا أعرفه. أعرفه. كما أعرف نفسي وأكثر. هل تصدق أنني بدأت التجارة برأس مال منه. كان شريكي، وربحت المال الكثير، ولما أصبحت في عداد التجارة المرموقين تنازل عن حصته كلها، وقال: لا أطلب منك قرشاً واحداً لنفسي. كل ما أطلبه منك أن تجعل حصة ثابتة من أرباحك السنوية لأعمال الخير. للفقراء، للمحتاجين، للمستشفيات، للمدارس. من يفعل هذا المعروف في هذا العصر يا أستاذ؟ الدكتور عمر فعل هذا وأكثر. أنا أعيش من خير بيت الشيشكلي يا أستاذ، وتعيش معي مئات الأسر المستورة وعشرات الطلاب الفقراء... ثم يجيئني البارحة خبر استشهاد عمر وعمه الدكتور خضر وصديقي المزارع أحمد قصاب باشي؟!..)

كان صاحب هذه الكلمات رجلاً كهلاً في العقد الخامس من عمره، طويل القامة عريض المنكبين، حنطي اللون أجعد الشعر، يلبس جلابية بيضاء مخططة بخطوط أشد بياضاً، زبد الانفعال يتناثر من فمه، وهو يغدو ويروح في بهو (الفيلا) الفاخرة التي يسكنها في إحدى ضواحي باريس الحالمة. وحوله يجلس على الأرائك الوثيرة كل من حسان الربيعي ومرافقه عبد الوهاب شعار ومساعد التاجر الحموي رفيق النشار، وضيفان آخران. الوقت ليلاً.

(لحم أكتافي هذا –يا أستاذ- نبت من فضل الله علي، ومن فضل بيت الشيشكلي. ثم يأتي مسافر حموي هارب من سورية ليقول لي: قتلوا عمر يا أبا عبد الله. قتلوا الدكتور خضر والدكتور قنطقجي. هكذا صارت الناس أغناماً تذبح؟ أي ناس يا أستاذ؟ كرام الناس. أشراف الناس. يا أستاذ. ما عيشتي أنا وأولادي وأموالي بعد هؤلاء الأحباب. ما قيمة الحياة؟)

كان حسان قبل وصوله إلى هذه (الفيلا) قد رتب كلاماً كثيراً ليقوله أمام هذا التاجر ليشرح له القضية السورية، وليحثه على التبرع للمجاهدين والمنكوبين، إذا هو يفاجأ بالتاجر يتولى عنه الكلام:

(أنا وأولادي وأموالي تحت الطلب –يا أستاذ- وإذا لم تسمحوا لي بالانضمام إليكم، فسوف أسافر بنفسي، وأحمل السلاح. أيام الفرنسيين كنت طفلاً، ومع ذلك حملت الرسائل، ونقلت الطعام والرصاص للمجاهدين، فهل تحرمونني من هذا الشرف؟!).

لم يكن حسان يطمع أن يدعوه إلى حمل السلاح وهو الرجل المترف الكهل.

(هل رأيت الدكتور خضر –يا أستاذ. الدكتور خضر صاحب بيت الأمة، الدكتور خضر له عينان كعيني النسر الكاسر. هل رأيته يخطب في شباب حماة يدعوهم إلى مقاومة الفرنسيين؟ هل رأيته يقود حملات التبرع، والتطوع للجهاد في حرب فلسطين؟ لماذا قتلوا هذا الرجل المجاهد بعد أن بلغ الثمانين؟ ألأنه حارب الفرنسيين واليهود وأرضعنا حليب الوطنية والفداء؟!

تصور الدكتور خضر يذوب بالأسيد يا أستاذ. أنا لا أستطيع أن أتصور)

تهدج صوت أبي عبد الله، جحظت عيناه. اغرورقتا بالدموع. واحتبس لسانه بالكلام. استدار، وخرج مسرعاً من البهو إلى غرفة أخرى يداري بكاءه. انطلقت امرأة من غرفة طرف البهو تلحق بأبي عبد الله إلى الغرف التي دخلها، لعلها زوجته قد أشفقت عليه.

نهض أحد الضيوف، وكان جالساً في طرف البهو، لا يلقي له الحاضرون بالاً، ظناً أنه أحد سكان البيت من مساعدي التاجر أبي عبد الله. لم يكن ظنهم مبالغاً في تقديره. قال:

(أيها الضيوف الكرام. أيها القادمون من ثرى سورية الحبيبة. أيها المجاهدون الأبطال. اسمحوا لي أن أعرفكم بنفسي. أنا شعبان الأدهم. أمي من حماة، ووالدي من طرابلس. أعمل الآن ملحقاً ثقافياً في إحدى السفارات العربية بباريس. تربطني بأبي عبد الله صاحب هذا القصر العامر صداقة حميمة.)

رجل كهل مربوع القامة. أبيض البشرة. شعره شايب. مصقول بعناية. ذو نظارة طبية. يتمايل قليلاً في وقفته، لعل ذلك من أثر شراب مخدر. يستعين بيديه في توقيع عبارات خطابه المنمق. حركاته تجمع بين إشارات الخطباء العرب القدامى ورجال (البروتوكول) الحديثين.

(أيها الأبطال القادمون من البلد الأم. أيها المنقذون لشرف الأمة والتاريخ. أيها الصانعون لمستقبلنا الزاهر. اسمحوا لي أن أفرش الأزهار أمامكم، وأن أضع تاج الغار والفخار على هاماتكم...)

عاد أبو عبد الله مسرعاً يحمل محفظة جلدية منتفخة. جلس ووضع المحفظة أمامه. قاطع الخطيب قائلاً:

(يا شعبان وفر خطاباتك البليغة. الشباب من أهل الأفعال. ليسوا من أهل الكلام...) استأنف شعبان خطابه كأنه لم يسمع مقاطعة أبي عبد الله:

(أيها المجاهدون الأبطال. إذا لم أكن ثرياً مثل أبي عبد الله. وإذا لم يكن لي زوجة ولا أولاد، فأنا أملك قلباً نابضاً بحبكم، وأملك أن أقدم نفسي خادماً لكم، وأعرض عليكم الآن أن أدعو لكم رؤساء التحرير في أربع صحف من كبريات الصحف الفرنسية، لتعقدوا مؤتمراً صحفياً، يوضح قضيتكم وقضيتنا للعالم أجمع. أنا بانتظار إشارتكم. والسلام عليكم.) قبل أن يجلس انحنى إلى الأمام انحناءة مؤدبة جداً ثم استعاد وقوفه، ثم جلس بهدوء.

اقترب أبو عبد الله من حسان وهمس بأذنه قائلاً:(نحن الآن في مساء يوم السبت. كل المصارف في باريس معطلة. أنا الآن لا أحمل مالاً نقداً. خذ هذه المحفظة، واجعل بيني وبينكم وسيطاً لتقديم كل ما تطلبون مني.)

فتح حسان المحفظة. وجدها ملأى بأنواع الحلي الذهبية المجوهرات واللآلي الفاخرة. أغلقها وقال لأبي عبد الله بامتنان: (نحن باقون حتى صباح الاثنين. نحن نفضل التبرع النقدي لسهولة الحمل والانتقال بين الدول. من فضلك دع هذه المحفظة الآن. لنتفق على موعد آخر مساء غد.) قال أبو عبد الله: (أمرك.) رفع صوته وقال لمساعده: (اتفق مع الشباب على موعد في "حي بيغال"، وأحضر لهم كل ما تستطيع جمعه من...) اتجه إلى حسان بالسؤال:

(أي عملة تفضلون؟) أجاب حسان: (المارك الألماني)...

*  *  *

بعد أربع وعشرين ساعة وعلى ضوء مصابيح الشارع العام التقت سيارتان صغيرتان في أحد منعطفات (حي بيغال) الباريسي. نزل حسان من إحداهما. اقترب من السيارة الأخرى التي لم يكن فيها غير مساعد أبي عبد الله يسوقها. بعد المصافحة استلم حسان حزمتين كبيرتين من الماركات الألمانية ملفوفتين بأوراق صحفية، ثم عاد إلى السيارة البيضاء التي جاء فيها على طريقة المهربين الدوليين. أعصاب باردة خطوات واثقة. ملامح طبيعية. كأن شيئاً لم يكن.

*  *  *

 (يا أستاذ أنا أعرف الدكتور عمر كما تعرف نفسك.. هل رأيت الدكتور خضر –يا أستاذ؟ له عينان كعيني النسر الكاسر.... لحم أكتافي هذا نبت من فضل بيت الشيشكلي يا أستاذ... تصور الدكتور خضر يذوب بالأسيد يا أستاذ. الدكتور عمر قلعوا عينيه. الدكتور قنطقجي ذبحوه. هكذا صارت الناس أشراف الناس أغناماً يا أستاذ؟!)

أفلح حسان في طي صفحات الواقع القريب والبعيد. استطاع أن يستغرق في نوم عميق بعد أن شهر سلاحاً مجرباً لديه، ألا وهو التسليم بقضاء الله وقدره. إنه يبذل جهده في اختيار الخير وتجنب الشر، مسدداً ومقارباً، ثم يكون ما يكون. بمعنى آخر ماذا يفعل لضحايا مجزرة حماة النيسانية ولمئات المعتقلين والمشردين غير التعاطف معهم والتنديد بظالميهم، وتبني قضيتهم، والدفاع عنهم. ألم يتعرض هو للسجن والمطاردة؟! ألم يحمل لواء المعارضة من أجلهم ومن أجل أمنهم ومستقبلهم؟ إن الذي يقلقه هو الاضطهاد الذي زادت وطأته عليهم، لكن هل هناك مخرج آخر؟! (فإلى النوم، النوم حتى العظم، ففي النوم على الأقل مهلة تعقبها راحة. والراحة تعين على الاستبصار. وحل المشكلات التي يمكن حلها. إلى النوم...)

حين دبت اليقظة في أوصال السجناء بعد أذان الفجر الذي يسمع في ذلك الصباح الهادئ... كان حسان يتخبط في كابوس حلم رعيب. لقد رأى فيما يراه النائم أنه وقع في يد أعدائه الألداء، فاقتادوه إلى سجن مضاعف الجدران والأبواب الحديدية المثقلة بالأقفال والحراس الأشداء، لكنه استطاع مع إخوانه المعتقلين أن يضعوا خطة للهرب، فهرب هو وصديقه الحميم عبد الوهاب شعار من المهجع الذي حشر فيه ستون سجيناً. تفرقوا في جنبات السجن المتعددة الواسعة، يريدون النجاة من هلاك محقق. كانت آخر مرحلة من رحلة الهرب أمام حسان وعبد الوهاب أن يصعدا درجاً حلزونياً طويلاً جداً، أشبه ما يكون بدرج مئذنة عالية، لعله درج برج من أبراج سور عال. ولما وصلا إلى قمة هذا الدرج بقيت أمامهما نافذة تنقلهما إلى العالم الخارجي، إذا استطاعوا عبورها. لكن النافذة مؤطرة ومغطاة بقضبان حديدية ثخينة، لا تسمح بالمرور أو الالتواء. عالج حسان وعبد الوهاب هذه القضبان. استطاع عبد الوهاب المرور بعد جهد شديد، وجاء دور حسان للمجاهدة، فحاول، وحاول وتصبب عرقاً، وضاق به الوقت، وفيما كان يحاول يائساً قرع عليه باب الزنزانة (10) يدعوه الحارس للاستيقاظ، استعداداً للوضوء فالصلاة. فلما أفاق وتبين أنه كان في حلم قال: (الحمد الله على كل حال. اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يذهب بالسيئات إلا أنت. ولا حول ولا قوة إلا بالله.)

اقترب الحارس من زنزانة حسان يدعوه للخروج إلى دورة المياه. كانت نوبة الحراسة ما زالت للحارس الأسود الضخم. ما إن فتح الحارس باب الزنزانة حتى انطلق حسان على غير عادته، كالسهم يعدو من أقصى الزنزانة نحو الباب الحديدي الذي انفتح، ووقف بجواره الحارس الأسود. فوجئ الحارس الضخم بحركة حسان الشاذة. قبل أن يصحو الحارس من الفجأة المباغتة، كان حسان قد أمسك بمنشفته التي علقها على قفا الباب الحديدي، حيث يوجد نتوء صغير في مؤخرة المزلاج، يسمح –بصعوبة- بتعليق شيء مثل هذه المنشفة. كان يخشى حسان أن تسقط منشفته على الأرض فتتسخ، فإذا هو يغضب الحارس غضباً شديداً. جحظت عينا الحارس. تحدب ظهره. انفرج ذراعاه العبلتان. كشر فكاه. انقدح شرر غريب في ملامحه. همَّ بالهجوم على حسان دفاعاً عن نفسه أو إحباطاً لمحاولة إجرامية كاد يقترفها حسان. لكن السرعة التي أحدثت هذا الالتباس كانت هي أيضاً سبباً في توضيح مراد حسان وفي إعادة الوضع الطبيعي، الذي حمل الحارس على صرف النظر عن اقتراف عمل دفاعي أو هجومي عنيف. واكتفى بعد صمت المفاجأة أن دمدم وزمجر قائلاً: (والله إن عدت إليها لأرفسنك بهذا البوط على وجهك، وأقذفنك بضربة واحدة فتلتصق بذاك الحائط..)

لم يجب حسان بحرف واحد. الموقف لا يحتمل الجواب والتوضيح. صحيح أن الزنزانة لا يوجد فيها مسمار للتعليق. وصحيح أن حساناً لم يرد ترويع الحارس. لكن ما العمل لتجفيف المنشفة، ولحفظها من الاتساخ غير الذي كان؟ لم يكن بد مما فعله حسان، كذلك لم يكن بد مما فعله أو رد به الحارس على فعل حسان، فوقع الإشكال: (هل من مشكلات الدنيا من هذا النوع؟ وإذا لم تكن كلها كذلك فما نسبة المشكلات التي من هذا النوع؟!)

خرج حسان إلى الممر الطويل صوب دورة المياه. وهو يمضغ مرارة حقيقية بين فكيه. إن الراحة التي كان ينشدها في النوم لم تحصل. ذكريات التحقيق والمجزرة النيسانية لم تزل تعصف في ذهنه، وقد أضيف إليها الحلم الرعيب والمواجهة غير المقصودة مع الحارس الأسود: (يا رب أما لهذا الليل من آخر؟ إن السجن في الحلم صعب، فكيف هو في الواقع. وإن السجن ها هنا صعب، فكيف هو في سورية وفي سجن تدمر؟ لقد كثرت سجون سورية، وكثرت صور القهر والاستبداد في ظل الأحكام العرفية حتى أصبحت سورية سجناًِ كبيراً، فمتى يكون الفرج الأكبر؟).

             

* أديب سوري يعيش في المنفى