طاحون الشياطين(6)

رواية

طاحون الشياطين

شريف الراس

الفصل الثامن

ما إن وصلنا إلى الشرفة ورأينا المشهد حتى صرخت الطفلة وداد وهي تبكي بتوسٌّل:

- كفى كفى.. حرام عليكم.. هكذا قتلوا أهلي عندما حاصروهم في الحمام وأطلقوا الرصاص عليهم.

*        *       *

كان الوضع على النحو التالي:

قفص كبير، طول ضلعه حوالي متر، ووجوهه الأربعة مصنوعة من شبك يشبه شبكة صيادي السمك غير أنه من أسلاك معدنية رفيعة.

في قلب القفص حوالي مئتي طير فري مضطربة مذعورة تتصادم وهي تطير مضمخة بدمائها، فتصطدم بسقف القفص فتقع لتصطدم بدمائها، وهي توصوص بأصوات الاستغاثة ولا مغيث، بل مزيد من طلقات الرصاص من بندقية الصياد "زهير بك" الذي كان واقفاً على بُعد لا يزيد عن خمسة أمتار، وهو يصوب بندقيته نحوها ويطلق النار ويضحك معتزاً برجولته، ثم يطلق نار العين الثانية ويضحك مزهواً ببطولته، ثم يحشو عيني بندقية الصيد بطلقتين جديدتين ويعيد العملية بلا توقف، ويظل يضحك مبتهجاً بقدرته على التصويب الدقيق بينما الطيور الحبيسة التي تنفر دماؤها إلى خارج شباك القفص تتلاطم مع بعضها متخبطة مذعورة مستغيثة وهي تستحم بدمائها.

صرخت الطفلة الباكية مرة أخرى بتوسل يهز قلب الصخر:

- كفى أرجوكم.. هكذا قتلوا أهلي.

وضعت يدي على ماسورة البندقية وخفضتها إلى الأسفل وسألت هذا المولانا الأحمق:

- ألم تسمع رجاء الطفلة؟.. ماذا تفعل يا رجل؟

أجابني بمنتهى البرود:  

- كما ترى.. إنني أصطاد.. فعلام الاعتراض يا مولانا؟

الحاج رضوان أمر الأطفال بأن يذهبوا.. وأبو غزوان تقدم نحوي ملاطفاً:

- فليكن صدرك واسعاً يا صاحبي.. عمرك ما مارست هواية الصيد؟.. زهير بك مشى كل هذا المشوار الطويل ليمارس هواية الصيد.. فكبار رجال الأعمال يحبون الخروج للصيد لأنه أفضل مهرب لهم من مشاغل الأعمال المضنية..

- كان بإمكانكم أن تصطادوا على الطريق.

- طول الطريق لم نوفق برؤية أي طريدة.. وها أنت ترى أن الشمس أوشكت على المغيب.. إذن لم تبق أمامنا أية فرصة.. فهل تريد لصديقك زهير بك أن يرجع وجعبة صيده فارغة؟

نظرت إلى أخي فوجدته ما يزال واقفاً مطرق الرأس، صامتاً، ويداه معقودتان تحت صدره، ينتظر نهاية هذه الورطة بفارغ الصبر. مؤكد أنه لو عرف أن هذا ما سوف يحدث لما قدم صندوق الفري هدية للضيوف رداً على هدية الفواكه والحلوى.

قال الصياد وهو يرفع يدي عن ماسورة البندقية:

- يا مولانا.. إن كان قلبك رقيقاً إلى هذا الحد فذلك لأنك طبيب إنساني.. أما بالنسبة إلينا فإننا نقول: أُحل لكم صيد البر والبحر.

- لكن ما تفعله الآن ليس صيداً، وإنما أنت ترتكب مجزرة ليس فيها أي شفقة أو رحمة. فالرجولة تقضي بأن يترك الصياد للطريدة فرصة الحرية لاختيار أي سبيل للنجاة.. وأنت الآن تقتل مساجين.. هل رأيت إنساناً يقتل مساجين ثم يدعي بأنه انتصر عليهم؟

فقال بتأكيد وشماتة:

- نعم لقد رأيت.. فأنا لا أقتل غير الطيور.. بينما ذلك الآخر – وأنت تعرفه جيداً – اصطاد ألف إنسان أعزل محصورين في السجن.

أرخيت يدي وانسحبت من الساحة كلها، وأردت أن أمشي بعيداً عن صوت طلقات البارود واستغاثات الطيور الحبيسة التي تتخبط بدمائها.. غير أن أبا غزوان مشى معي وظل يرافقني ونحن نمضي خائبين تحت أشجار المزرعة.. حاول أن يعزيني:

- لا تزعل يا دكتور أحمد.

- لكن ما يفعله هذا التافه حرام.. وحشية.. غدر.. كان بإمكانكم أن تسلكوا سلوكاً إنسانياً فتذبحوا هذه الطيور بالسكين.. ما المانع؟!

- لا ينفع.. فأصول لعبة التباهي في أوساط المجتمع المخملي أن تكون هذه الطيور قتيلة البارود.. وإلا فكيف يستطيع أن يؤكد بأنه اصطادها من الفلاة بقدرته الخارقة. لذلك فإنه سيعلقها الآن من أرجلها بخيوط، ويزين بها مقدمة سيارته، ليدخل العاصمة دخول الفاتحين، ويقول للناس: "انظروا ما أوفر حصيلة هذا الصياد الماهر". وعليه بعد ذلك أن يدخل مبنى "نادي العظماء" وهو في ثياب الصياد، والخدم يمشون خلفه في موكب استعراضي حاملين هذا الصيد الوفير، فتشهق الزوجات بشهقات الإعجاب، مع أنهن يعرفن أن الرجل أعجز من أن يصطاد عصفوراً، وإنما هو قد حصل على هذه الضحايا بنفس الطريقة التي يمارس فيها أزواجهن رجولتهم: بالمال.. وإلا فلماذا أنشأ وزير الحرب مزرعة تربية الفري؟..

نودي على أبي غزوان فمد يده ليصافحني مودعاً، فاستوقفته قائلاً:

- مؤكد أنك إنسان طيب يا أبا غزوان .. وقد تضحك إذا أخبرتك بأنني تصورتك بصورة رجل تفوح من كرشه رائحة طباخي رؤوس الغنم الزنخة.. غير أنّ ما رأيته أكد لي بأن الرجل الزنخ هو ذلك الديوث.. كيف تصادقه يا رجل؟.. بل كيف تخضع له – عدم المؤاخذة – خضوع الأجير؟

- المصلحة يا دكتور.. أريد أن أعيش.. ظروف حياتنا صعبة وقاسية بشكل لا يمكنك أن تتصوره أبداً.. إذن فعلينا أن نحني رؤوسنا ريثما تمر العاصفة.. والمثل يقول: اليد التي لا تستطيع أن تعضها قبّلها وأنت تدعو عليها بالكسر..

- كل هذه المبررات مرفوضة يا أبا غزوان.. كرامة الإنسان أهم من المال.. وإن كان ارتباطك به لمصلحة تجارية أو مالية فبإمكانك أن تجد أي مصدر رزق آخر بعيداً عنه. وإن خفت الجوع فليخسأ الجوع. أنا مستعد لأن أرسل إليك راتباً شهرياً من ألمانيا.

ضحك أبو غزوان وسألني بروح ودية:

- هل ترسل إعانة شهرية لأخيك الحاج رضوان، مع أنه يعيل خمسة أيتام؟

- كلا.. إنه يرفض بعناد وإصرار.

- أرأيت إذن؟. إذا كان أخوك يرفض قبول الإعانة المالية منك.. فكيف تريدني أن أقبلها أنا الإنسان الغريب؟

- إذن كيف تقبل إعانة هذا التافه الزنخ؟

- لمعلوماتك يا دكتور.. أنا لا أسعى للاستفادة من هذا الرجل مالياً فحسب، بل إنني ألجأ إليه ليحميني أيضاً.

- يحميك من ماذا؟

- من القتل.. من الخطف.. من الترويع.. كل مواطن هنا مهدد بروحه وماله وعرضه ما لم يكن محمياً من واحد منهم..

- هذا التافه واحد منهم؟.. إن وضعه يوحي بأنه كلب من كلابهم التي تتوسل إليهم لأن يسمحوا له بأن يلعق أحذيتهم.

- تشخيصك صحيح تماماً.. ولكن لا تنس قائد سرايا الفتوحات زوج أخته.. لقد ظل زهير بك سنتين وهو ينصب شباك الإغراء أمام ذلك الخنزير عارضاً أخته بأساليب أكثر عهراً مما رأيته من بنت وزير أوقافنا اليوم، حتى استطاع "الوصول".. وكان يوم زواج أخته من ذلك الخنزير – فوق ثماني زوجات أخريات – أعظم أيام حياته على الإطلاق.. لأنه اليوم الذي انفتحت فيه أمام زهير بك أبواب المجد والثروة.. لا تستغرب يا دكتور.. فالدنيا عندنا مركّبة هكذا.. على الإنسان أن يكون وغداً لينهش ويعلو.. والوغد الصغير يستعين بالوغد الأكبر.. وهكذا.. وإلا فلماذا تظن أن هذه البنت "مفاتن" ترافق زهير بك؟.. لأن موسم مناقصات تشييد أقواس النصر الكرتونية أصبح على الأبواب. فعيد الثورة قادم بعد عدة أسابيع.

فقلت باستغراب يفضح مدى بلاهتي:

- ولكن أباها وزير.. فكيف يترك لها حبل الانهيار الأخلاقي هكذا؟

قال:

- لو لم يكن أبوها أشد منها عهراً ونذالة وحقارة لما قبل على نفسه أن يكون موظفاً برتبة وزير في عهد الخنازير.. أستودعك الله يا دكتور.. واسمح لي أن أقول لك بالعربي الفصيح: ربما كنت تفهم في الطب.. لكنك لا تفهم شيئاً في الحياة على الإطلاق.. لا تزعل مني.. السلام عليكم..

وتركني وانصرف.. وأنا جلست حيث أنا، وكانت الأصوات المزعجة قد هدأت.. ثم إنني سمعت صوت محرك السيارة، غير أن السيارة ظلت واقفة في مكانها.

جاءني خالد راكضاً ليقول وهو يلهث:

- قم يا عمي.. إنهم يتقاتلون.

- من ومن؟

- أبو مولانا وزوجته.

- دعهم يتقاتلون.. ناب كلب في جلد خنزير.. أما عرفت سبب الخلاف؟

قدم لي خالد بطاقة صغيرة وقال:

- السبب هو هذه البطاقة، فيها عنوان مكتب الزوجة ورقم هاتفها.. أعطتني البطاقة لأوصلها لك وكلفتني أن أسلم عليك، ولكن زوجها غضب كثيراً وشتمها مع أنها ليست عارية، وإنما هي مرتدية كل ثيابها.

ما ألطف براءتك الطفولية يا خالد!.. سألته:

- إذن ما دامت متسترة بثيابها فما هو سبب الخلاف؟

- سمعتهما، وهما يصرخان غاضبين، يذكران رجلاً مريضاً يبدو أنه مهم جداً.. والزوجة تريد أن توصلك إلى ذلك الرجل الكبير المريض.. قالت إنك إذا شفيته فإنها ستستفيد كثيراً..

- أخذت البطاقة من يده فمزقتها وأعدتها إليه:

- ارجع إليهم وارم هذا في وجوههم.. وقل لهم عمي يقول لكم: مع ألف سلامة..

ذهب خالد مسرعاً وهو شديد الحماسة لتأدية هذه المهمة، وبقيت جالساً أنظر إلى الأشجار والمساء.. (إذن فهذه الحقيرة تريد أن تستغلني بهذا الأسلوب البشع؟!).. ثم إنني سمعت صوت السيارة وهي تنطلق وتبتعد.. لا ردّكم الله.. إنني أبصق على أمثالكم أيها الكذابون الأنذال الذين فقدتم كل صلة بالشرف والصدق والحس الأخلاقي.

ثم سألت نفسي: ما بالك يا أحمد لاتني تهدد بأن تبصق في وجوه الآخرين؟ أما كفتك تلك الورطة مع إسكندر الحفيان؟.. أين أعصابك يا رجل؟.. إن كنت تريد أن تعيش هنا فلتكن لك أعصاب من فولاذ.. تعلّم من أخيك كيف تكظم غيظك وتخنقه بعنف حتى تكاد عيناك تنفجران.

كانت الشمس قد غابت تماماً، والنجوم بدأت تتلألأ في سماء العشية الرمادية المنعشة، وأنا قاعد أفكر ولا أعرف كيف أفكر أو بماذا أفكر.. إلى أن جاءني خالد مرة ثانية ليخبرني بأن الزاكي قد رجع.. ولكن وجهه، هذه المرة، مبلل بالدموع، قال:

- رجع الزاكي ومعه امرأة مقطوعة اليدين.

فنهضت كالملدوغ، وركضت مسرعاً إلى البيت.

*        *       *

الفصل التاسع

كان في البيت -بالفعل- امرأة مقطوعة اليدين.

وصلت وقلبي يخفق وجلاً وقلقاً ففوجئت بأن وجدت كل من في القاعة يقهقهون بالضحك وقد تحلّقوا حول هذه السيدة العجيبة التي ترتدي ملاءة سوداء ولا يظهر منها إلا وجهها ونهايتا يديها المقطوعتين عند الرسغين تقريباً. إن هذه الملاءة السوداء هي زي الخروج عند نساء مدينتنا، إذن فهذه السيدة العجيبة من مدينتنا، كما أن لهجتها الأنيسة إلى قلبي ذكرتني بصوت أمي وأختي وخالاتي.. ما الذي أوصلها إلى هنا؟.. من هي؟.. وماذا جاءت تفعل هنا في آخر الدنيا؟.. وكيف عرفت الدرب؟..

كانت عيناي تنخطفان إلى يديها اللتين بلا كفّّين.

وعندما رآني أخي واقفاً قال لها وهو ما يزال يضحك:

- أقدّم إليك أخي أحمد.

فقالت:

- أهلاً وسهلاً.. تشرّفنا بالدكتور أحمد.. تعال اضحك معنا على جحا.. فهؤلاء الأطفال ضحكوا كثيراً عندما حكيت لهم بعض حكاياته.

ما أعجب أمر هذه المرأة المجهولة!.. كيف عرفت أنني طبيب؟.. وما أشد ذكاءها وما أسرع بديهتها.. ويبدو أنها لمحت كل هذه التساؤلات على وجهي فبادرتني قائلة:

- أنت معروف ومشهور عندنا يا دكتور، وشباب المدينة كانوا يتحدثون عنك كثيراً بإعجاب واعتزاز، أنت من مفاخر مدينتنا.

قلت: أشكرك.

فقالت وهي تبتسم وترفع يدها بلا كف:

- لا تتسرّع بالشكر يا حكيم.. لأنني لم أنجز كلامي، فنحن لا نعتز بك وحدك لأنك لم تكن بيضة الديك، فأنت تعرف أن ألمانيا وفرنسا وإنكلترا وبلاد السويد وكل بلاد أوروبا مليئة بالناجحين من أبناء مدينتنا الذين نبغوا في الطب والهندسة والذرّة وأدق علوم العصر، وبعضهم أوسع شهرة منك، فأنت لم تتجاوز شهرتك نطاق أوروبا، بينما الدكتور هشام بن الحاجّة نظيرة الله يرحمها، يأتون إليه من أمريكا إلى ألمانيا ليأخذوه بطائرة خاصة إلى أمريكا فينجز معجزة طبية ويرجع.. أليس هذا صحيحاً؟

أجبتها، وقد هدأت نفسي وانفرجت أساريري:

- نعم هذا صحيح، والدكتور هشام من أعز أصدقائي هو وأبناء وطننا الآخرون. نحن لم ننقطع عن بعضنا.

- حسناً تفعلون.

- لكنك يا سيدتي تعرفين عني أشياء كثيرة وأنا لا أعرف بعد حتى ما هو اسمك.

ابتسمت وقالت بروح مرحة:

- لن أذكر لكم اسمي.. دواعي الأمن التي ستعرفها في الوقت المناسب تفرض عليّ عدم ذكر اسمي الحقيقي، وأنا راضية بالاسم الذي أطلقه عليّ الناس بعد الأحداث: ذات اليدين المقطوعتين، على وزن: ذات النطاقين.

فقلت:

- لكن كيف نناديك؟ هل نناديك: يا ذات اليدين المقطوعتين؟ مستحيل..

- يمكنك أن تناديني باسم حركي.. سعاد مثلاً.. فأنا كلما لجأت إلى بيت جديد أتخذ اسماً جديداً، عندكم هنا اسمي سعاد.

ثم استدركت على الفور:

-  هذا إذا قبلتموني دخيلة عليكم.

فقلت لها فوراً وبتأكيد حاسم: أنت هنا لست دخيلة علينا بل أنت هنا في أحداق عيوننا.. هذا بيتك يا سعاد وأنت أختنا وأنا شخصياً أتكفل بحمايتك ما حييت، والله على ما أقول شهيد.

فقال أخي بروح مشبعة بالغبطة والرضى:

-  بارك الله بك يا دكتور أحمد.. وملائكة السماء ترضى عليك.. إنك حقاً ابن الحاج رضوان الفشاش.

كان أخي في قمة النشوة والسعادة، فها إن مخططه قد نجح نجاحاً كاملاً. لقد رسم لأن أرث عنه الحمل الثقيل (لأنه يريد أن يسافر بعيداً عن هذه الدنيا –حسبما كان يخبرني في كل جلسة خلوة بيننا)، وهو لم ولن يصارحني بذلك، فهذه عادته.. حتى في حال التعبير عن عواطفه فإنه لا يستخدم لغة الكلام، بل يترك لرادار قلبك أن يستشعر اهتزازات موجة العاطفة التي يبثها قلبه، ولذلك فإنه لم يعانقني قط عند أي وداع لسفرٍ طويل، رغم أنني الحب الكبير والوحيد في حياته –بعد أختنا خديجة رحمها الله- وعندما وصلت إليه في هذه الزيارة بعد شوق أمضّه وأمضّني خمس سنين فإنه لم يعانقني ولم يفصح عن عاطفة الشوق والفرح بكلمة واحدة، لأنه من المفترض بي –حسب نظريته- أن أكون شاعراً بذلك من غير كلام، إن العاشق الحقيقي، في اعتقاده، هو الذي لا ينطق بأية كلمة حب، لأنه ما لم تكن عاطفة الغرام في قلبي العاشقين معاً هائلة وصاعقة إلى حد الاستغناء عن دور الكلام، فإن ذلك الغرام (فالصو) ولهذا كان أخي ضد كل أغنية غرامية ترد فيها كلمة "أحبك" إذ ما دام الطرف الآخر بحاجة لأن يقال له ذلك بالعربي الفصيح -ومع الحلف بأغلظ الأيمان أحياناً- فهو إذن غير جدير بالغرام، لأنه ليس إنساناً بل بقرة، وعلى هذا الأساس فإن الحاج رضوان كان يجلّ عاطفة الحب الصامت الذي في قلب القط شحادة حياله، وكان يقول لي: "انظر كيف ينام هذا القط في حضني نومة العاشقين بصمت يعبر عما يعجز الكلام أن يعبر عنه".

هذا في حالة التعبير عن العواطف.

أما في حالة التعبير عن الأفكار فالنظرية ذاتها قائمة، فالمفترض بك أن تكون لديك الأفكار التي لدى الشخص الآخر إذا كنت مطحوناً مع هذا الشخص الآخر في طاحونة المحنة الواحدة، وهذا كان شأنه في مخططه المصيري الذي رسمه لنقل أمنا شفيقة والأطفال من فوق كتفيه إلى فوق كتفيّ، فعلى الرغم من ضخامة هذه العملية فإنه لم يصارحني بها حتى ولو تلميحاً، وإنما انتظر أن أبادر من نفسي بالإعلان عن قبول ذلك المخطط الرهيب الذي لا أعرف عنه شيئاً، والذي ربما قضى هو شهوراً عديدة في التفكير به تفكيراً اقتضاه الكثير من السهر والتدخين والسكر أيضاً.

وخلال هذه الأيام الخمسة التي انقضت من أسبوع الزيارة كنت أكتشف الفخاخ التي نصبها بمقتضى المخطط إياه، وكنت أعلن القبول والموافقة، غير أن استجاباته لمواقفي لم تكن مستقرة.. لم يكن يشعر بأنني جاد وحاسم، ذلك لأن قبولي بمخططه كان من باب الرضوخ أو الإذعان لمشيئته هو، أما الآن، عندما بعث القدر بهذه السيدة المسكينة وحلت الضربة القاضية فإن تعهّدي بكفالتها كان اندفاعاً ذاتياً متيناً وأكيداً وجازماً، والمدهش أن مجيء هذه السيدة لم يكن ضمن مخطط الحاج رضوان وإنما جاء من القدر.. من السماء.

كان الجميع فرحين بهذا الوعد الشجاع الذي قطعته على نفسي، وكان الأطفال أكثرنا سعادة بذلك، خصوصاً سلوى التي وقفت بمواجهة هذه السيدة المدهشة وسألتها بصوتها اللطيف:

- هل صحيح أن اسمك سعاد؟

- الإنسان حر في اختيار الاسم الذي يعجبه.. وأنا اخترت اسم سعاد.

- وماذا يعني سعاد؟

- سعاد يعني الشمس.. الشمس اسمها سعاد.

فقالت سلمى:

- أنا أحب الشمس.

فضمتها سعاد إلى صدرها بيديها المقطوعتين وقبلتها بابتهاج وهي تقول:

- يا روحي عليك أنت يا حلوة يا قمّورة.. الليلة تنامين عندي.

والتفتت مباشرة إلى الأطفال الآخرين وقالت:

- كلكم حلوين.. وكلكم أذكياء.. هذا واضح من عيونكم.. وبما أنني سأصير خالتكم إذن فمن حق كل واحد منكم أن ينام عندي ليلة.. بالدّور.

فسألوها فرحين:

- وهل تحكين لنا حكايات؟

- طمّنوا بالكم من هذه الناحية.. عندي حكايات لها أول وليس لها آخر..

وشرعت تحكي لهم حكاية أخرى عن جحا، فيضحك الأطفال، ثم يتصل الحديث بعد ذلك ويتقلب من موضوع مثير للفضول إلى موضوع أشد إثارة للفضول، لكن السيدة سعاد كانت –بحكمة ولباقة- تعرف كيف تعرض من المعلومات ما يجوز أن يُطرح أمام الأطفال، وتخبئ الباقي منتظرة وقت ذهابهم للنوم.. لهذا فإنها، من بين كل نصوص الدعاء التي تحفظها، لم تعلم الأطفال الليلة إلا "دعاء ما قبل النوم" وهو عمل ملأ قلب أمنا شفيقة سعادة وسروراً وحرّك لسانها بالاعتراف بأن هذه السيدة الرائعة ليست إنسانة عادية وإنما هي "هدية أنزلها الله علينا من السماء" فهي معلمة مدرسة، ومثقفة حقيقية، وتعرف كيف تعلم الأطفال ما كانوا محرومين من تعلمه، وهكذا فإننا بدلاً من أن نرجع إلى المدينة رضوخاً لحاجة الأطفال إلى مدرسة فإن المدرسة جاءت إلينا لنظل مقيمين في هذه الجنة بعيداً عن الناس والمشاكل والهموم، فالحمد لله رب العالمين.. والأهم من كل هذا أن سعاد كانت تحدّث الأطفال بأسلوب مشوّق جداً جعلهم يتعلقون بها تعلقاً شديداً.. ثم إنها فاجأتهم بهذا السؤال:

- من منكم صار يعرف دعاء ما قبل النوم؟

أجابوا بحماسة:

- الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا.

- ومتى نتلو هذا الدعاء؟

- قبل النوم طبعاً.

- إذن هيا بنا إلى النوم ما دمنا قد تلونا الدعاء.

فذهب الأطفال إلى الغرفة وقد نسوا أنهم لم يتناولوا طعام العشاء بعد، لذلك لحقت بهم أمنا شفيقة لتطعمهم في الغرفة، ولاحظتُ أنها أغلقت الباب خلفها، ولكنني واثق من أنها تعرف كيف تلتقط أهم ما في حديث سعاد الذي استمر بعد لنفهم منه أنها لم تنزل علينا من السماء وإنما جاءت إلينا راكبة في سيارة الباص -إياها- التي لمحركها صوت هدير طاحون النهر، والتي يقودها ذلك الواشي السمين المصاب بضيق التنفس، ولم تأت وحدها وإنما جاء معها هذا الشيخ العجوز الذي لاحظتُ أن أخي يتحدث عنه بمنتهى الاحترام والإجلال ويسميه الشيخ عبد القادر.

كان الشيخ عبد القادر قد نام منذ أن اتكأ على الفراش الممدود فوق المصطبة، في أي ركن شئت من هذه القاعة، وكان من الواضح أنه عانى من يوم متعب جداً إلى حد الإنهاك، فهو شيخ قد تجاوز سن الثمانين، ورحلة اليوم –وقد جرّبتها أنا قبلهما- تطحن الزير سالم أبا ليلى المهلهل، فكيف بهذا الرجل العجوز الذي لا يكاد يستطيع الكلام لشدة ضعفه ووهنه؟..

قالت لي سعاد:

- حين تعود إلى ألمانيا، بالسلامة إن شاء الله، وتقابل الدكتور هشام فإنه سيفرح كثيراً إذا أخبرته بأنك رأيت جدّه.

وأشارت إلى الرجل العجوز النائم.. ثم تابعتْ:

- الدكتور هشام يحب جدّه إلى درجة تفوق أي تصور، وهو محق في ذلك، فهذا الرجل العجوز –لا تغرّك شيخوخته- من أشجع الرجال.. يكفيه أنه الوحيد الذي تطوّع لتهريبي في هذه المغامرة الطويلة الصعبة.. أنت تعرف أنك في كل ربع ساعة تصطدم بحاجز مخيف في الطريق ويقولون لك: (هات هويتك) وترتجف القلوب رعباً من فتنة غير متوقعة.. قلت له: (يا جدي إنك تغامر بحياتك.. فهم إن لقطونا فلن يقتلوني قبل أن يقتلوك أمامي لزيادة التنكيل بي) فكان يقول: (وهذا ما تشتهيه نفسي يا ابنتي.. فما أجمل أن أكسب نعمة الشهادة بعد سن الثالثة والثمانين!.. لا تخافي.. فهذا العجوز الشائب قادر على أن يحميك ويوصلك سالمة إلى مزرعة الحاج رضوان الفشّاش بعون الله.. ثم إنني أريد أن أسألك: ماذا بقي لي في هذه الدنيا حتى أخاف عليه؟ أنت تعرفين أنه لم يبق من عائلتنا أحد ولو كان هشام هنا لولى) ومشى معي طول الطريق بهمّة وبأعصاب متينة، ولم يدركه التعب إلا عندما نزلنا من ذلك الباص المزعج وسرنا على أقدامنا باتجاه المزرعة. صارت خطواته بطيئة ثقيلة، وضغط على نفسه كثيراً حتى لا يتوكأ عليّ، إلى أن وصلنا إلى تلك التلة التي تلقانا فيها هذا الشاب الشهم وكلبه المدهش.

وأشارت إلى الزاكي الذي كان واقفاً يصغي لحديث سعاد بفضول وشغف.. غير أنه تراجع ليهرب عندما سمع قولها:

- لا تؤاخذوني.. أنا إنسانة فضولية وأحب أن أعرف كل شيء.. هل يمكنكم أن تخبروني لماذا يظل الزاكي ملثّماً هكذا؟

نظر الحاج رضوان إلى الزاكي وهو يبتسم قائلاً:

- إنه لا يريد أن يكتشف الناس أنه بلا فم.

فضربت سعاد بيدها على صدرها استغراباً وسألت:

- إذن فكيف يعيش؟.. بلا يدين يمكن للإنسان أن يعيش.. أما بلا فم؟؟

فقال الزاكي من تحت لثامه:

- لا تصدّقيهم يا سيدتي.. هذا عمّي يحب أن يمزح.

قلت له: إذن فأنت لم تتركنا هرباً من تلك المرأة.. خبّرني يا زاكي: هل لمحت سعاد والشيخ فوق تلك التلة بينما نحن لاهون عابثون؟

قال:

- أتريد الصدق؟.. قطاش لمحهما قبلي.. لاحظت أنه ثبّت عينيه على تلك الناحية بارتياب، فحدّقت النظر فرأيت شبحين من بعيد، فأمرت (قطاش) بأن يلزم الصمت ويمشي معي، وذهبنا إلى هناك فوجدنا هذه السيدة وهذا الشيخ، وحين عرفت أنهما ضيفان علينا نصحتهما بالمكوث هناك بعيداً عن الأنظار إلى أن يذهب ركاب السيارة، فقد علمت من هذه السيدة أنها لا تريد أن يعلم أحد بقدومها وأنا ماذا يدريني إن كان ركاب السيارة جواسيس؟.. لذلك بقيت معهما إلى أن خلا الجو.

ضحك أخي وقال:

- أحسنت صنعاً يا زاكي.. ولكنك نسيت أن سائق الباص لن يغمض له جفن قبل أن يخبر وسّاف بوجقل بأنه جلب إلينا امرأة مقطوعة اليدين.

فقالت سعاد:

- أنا لم أكشف عن يدي من تحت الملاءة طول الطريق.. فضيحة..

فقال أخي: على كل حال توقعوا مجيء هذا الوساف اللعين بين لحظة وأخرى.

فأيدت سعاد صواب هذا التحسّب، وأخبرتنا بأن ذلك السائق السمين لا يحبنا وأنه يسمّي مزرعتنا باسم: طاحون الشياطين.

قلت: رغم ذلك فإن (وساف) لن يأتي هذه المرة.. أنا متأكد من ذلك.

فالتفت أخي إليّ ساخراً: أوَتعتمد على حماية صاحبك جعفر الضاوي؟..

لا تغلط يا أحمد.. فريثما نخبرهم بأننا من أزلام جعفر الضاوي يكونون قد قتلونا جميعاً.

فقالت سعاد: بل ربما قتلوكم إذا عرفوا أنكم من جماعة هذا الرجل الخطير الذي يجلس في الأعالي بين المتصلين مباشرة بالطاغية الأكبر.. ألم تسمعوا بما حدث في محلجة القطن؟.. (بدأت تخصني بالحديث وحدي) فعندما اعتقلوا كل من وصلت إليه أيديهم من رجال المدينة وشبانها لم تتسع المدارس، فأخذوا حوالي تسعين رجلاً بالشاحنات العسكرية إلى محلجة القطن على الدرب القبلي، ورموا بهم هناك في مستودع رطب بارد ليس فيه إلا الجدران الإسمنتية، والسقف الإسمنتي والأرض الإسمنت، والدنيا شتاء ومطر وبرد. وتركوهم هناك ليموتوا من البرد. ثم جاء إليهم ضابط كبير كتفاه مليئتان بالنجوم و النسور الذهبية، جاء ومعه رجال حاشيته المسلحون المتحفزون لسماع أمره بإعدام هؤلاء الناس والتخلص منهم. غير أنه فوجئ بهؤلاء المساكين يهتفون باسمه: "يعيش البطل ضرغام الخضور.. يعيش البطل ضرغام الخضور" فانفرجت أساريره وأمر رجال حاشيته بأن يجلبوا لهم طعاماً وبطانيات.. وانصرف.. وسرعان ما جيء لهم بطعام وبطانيات. غير أن..

فقاطعتها: من هو هذا الضرغام الخضور؟

- هل صحيح أنك لا تعلم من هو ضرغام الخضور؟ إذن ماذا تعرف؟

- أعرف أن القوات العسكرية التي ذبحت مدينتنا هي سرايا الفتوحات التي بقيادة شقيق الطاغية الأكبر شخصياً.

- هذا صحيح.. ولكن هناك قوات عسكرية أخرى، اسمها (كتائب الصمود) كانت تعاون سرايا الفتوحات بل تتنافس معها في أعمال الفتك والقتل والتدمير، وهذه كانت بقيادة الخضور.

فقلت: إذن كم كانت المذبحة وحشية ورهيبة؟

فنصحني أخي بأن أحتفظ بتساؤلاتي إلى ما بعد سماع بقية القصة، ورجا الضيفة أن تكمل حديثها.. قالت:

- بعد قليل جاء ضابط صغير ومعه فرقة موت وسأل المساجين المساكين غاضباً: (أأنتم الذين قلتم عن ضرغام الخضور إنه بطل؟ إن كان بطلاً حقاً فليأت لإنقاذكم). والتفت إلى رجاله آمراً: (رشوهم) فرشوهم.. وسقط الجميع شهداء، رحمة الله عليهم. راحوا ضحية الاعتقاد بأن أفراد العصابة الذين فوق هم جهة واحدة..

التفت أخي إلى الزاكي وقال له:

- بدلاً من أن نضيع الوقت بهذه الأحاديث التي لا تنتهي قم فجهز المخبأ. رتب الأوضاع فيه لشخصين اثنين. فربما اضطرت سعاد والشيخ عبد القادر للمبيت فيه طوال الليل.

وقال لسعاد:

- اطمئني تماماً. عفاريت الجن لا تعرف مكانكما.

وكانت أمنا شفيقة قد رجعت إلينا بعد أن نام الأطفال. ولكنها ظلت واقفة. وتلك حالها عندما تكون مضطربة قلقة.. لذلك فإنها سألت سعاد:

- أأنت متأكدة بأنهم يبحثون عنك؟

قالت سعاد:

- حان الأوان لأن تعرفوا كل شيء فأنا ملاحقة منذ خمسة أشهر لأنني ارتكبت إثماً عظيماً جداً.. ماذا فعلت؟.. كل ما فعلته أنني سربت إلى منظمة العفو الدولية رسالة شرحت فيها قصتي بالتفصيل.. فعندما حدثت المذبحة الوحشية جاءوا فقرعوا علينا الباب صارخين: (فليخرج الرجال إلى الشارع).. زوجي رحمه الله كان سائق شاحنة، عمره ما حمل سلاحاً ولا تدخل في السياسة، حين سمع الأوامر أطاع، قام وفتح الباب وخرج إليهم. سألوه (أما عندك أولاد؟). قال: (عندي ولد واحد.. عبد المجيد.. طالب بكالوريا). كنت أضم عبد المجيد إلى صدري بقوة، ولكنهم نادوا على عبد المجيد فخرج إليهم وهو في بيجامة النوم.. لحظة خاطفة مثل البرق أطلقوا الرصاص وكوموا عبد المجيد وأبا عبد المجيد جثتين أمام الباب، فخرجت مسرعة وأنا أبكي وأصرخ بغضب: (ماذا فعلتم؟؟.. ألا تخافون الله؟؟..). ويبدو أنهم لاحظوا أن يديّ مليئتان بأساور الذهب. فقد كان أبو عبد المجيد رحمه الله يصر دائماً على أن لا أصرف قرشاً واحداً على مصاريف البيت، فهي مصاريف يريد أن يتكفل بها وحده، لذلك كان يشجعني على أن أجمد قيمة رواتبي بمصوغات ذهبية ( من كان يتوقع أن يأتينا ذلك اليوم الأسود؟).. لم يستطيعوا سحب الأساور من يدي. وكانوا مستعجلين، فقطعوا يديّ بالفأس وأنا أصرخ وأتوسل وأستغيث. ثم مضوا فرحين بغنيمتهم النجسة وتركوني والدماء تنفر بغزارة من كلتا يديّ.

إنه لمن المذهل حقاً أن سعاد كانت تروي هذه الوقائع بهدوء ورصانة، كأنها تحكي حكاية قرأتها في جريدة مترجمة عن سيدة في اليابان.. هممت بأن أسألها: (كيف استطعت أن تصيري هكذا؟. من أين جاءتك هذه الشجاعة في ما لمسناه من سلوك حتى الآن؟). ولكنني لاحظت أن الجميع مطرقون صامتون فأطرقت صامتاً. غير أن الأسئلة كانت مثل البراكين داخل هذا الرأس الذي ما عاد يطيق التفكير: أيُعقل أن تبلغ الهمجية بأولئك القتلة هذا الحد المروع من الدناءة والوحشية وتفحم الضمير؟.. وماذا تم بشأنهم بعد ذلك؟.. هل عوقبوا أم كوفئوا؟.. أم أن رئيسهم المباشر قتلهم غيلة بدوره أيضاً ليقدم تلك الغنيمة النجسة إلى سيده قائد سرايا الفتوحات أو قائد كتائب الصمود.. وماذا تقول يا دكتور أحمد لو أن بعضاً من هذه الأساور هي التي تتزين بها "مفاتن"؟.

سألت هذه السيدة المنكوبة:

- هل اسمك محفور على تلك الأساور؟. (نسيت أنني لا أعرف اسمها أصلاً).        

فسألتني بدورها:

- ماذا تقصد من هذا السؤال؟

قلت، متراجعاً عن فكرتي الجنونية:

- لا شيء..

جاء الزاكي ليخبرنا أن المخبأ صار جاهزاً.. فيه فراش وماء ومصباح أيضاً.

غير أننا لم نسمع هذا الخبر تقريباً، لأن الأذهان كانت مأخوذة إلى مأساة هذه المرأة الباسلة التي ما لبثت أن تلقت هذا السؤال من أمنا شفيقة:

- يا ست سعاد. نفهم من كلامك أنك أنت التي يجب أن تلاحقيهم لا العكس.. فأنت المجني عليها وهم المرتكبون.. فماذا حدث بعد ذلك؟.. لماذا يلاحقونك؟.

قالت سعاد:

- منظمة العفو الدولية أرسلت إلى حكومتنا الرشيدة مذكرة تعرض فيها مأساتي وتسأل: (هل ما ورد فيها صحيح؟).. طبعاً سيكون الرد: (أبداً. هذا غير صحيح، بدليل أنه لا يوجد في بلادنا السعيدة كلها امرأة مقطوعة اليدين).. ولذلك فإن كل الأجهزة السرية تبحث عني لإخفائي من الوجود.. وها إنني منذ خمسة أشهر من بيت إلى بيت حتى لجأت إليكم.

سكتت هنيهة ثم قالت:

- أنا جائعة. ألا عشاء عندكم؟.

وسرعان ما وُضع طبق القش على الأرض أمام أخي الجالس على طراحته المعهودة.. وها هو قد بدأ يميل الآن على جنبه الأيمن فيتكئ على وسائده بارتياح واضح، ثم ينظر إليّ بعينين تقولان جهراً: (أشكرك يا أحمد). لكنه لم ولن ينطق بذلك..

وجيء بالطعام، فقامت سعاد ومشت إلى الشيخ النائم وأيقظته:

- قم يا شيخ عبد القادر.. تعال إلى العشاء.

فقال بصوت واهن:

- دعيني نائماً.. أنا تعبان.

فألحت عليه:

- بل يجب أن تقوم.. فأنت لم تأكل لقمة منذ الصباح. ولو أخبرتك من سيتعشى معنى الآن لنهضت نشيطاً مثل الحصان.. معنا أحد رفاق الدكتور هشام في ألمانيا.

فهب الرجل المسكين وهو يتلفت إلينا غير مصدق. فقال له أخي:

- تعال يا شيخنا.. هذا أخي الدكتور أحمد وأنت تعرف أنه، مثل حفيدك، طبيب في ألمانيا.

جاء الشيخ الجليل وعانقني وقبلني: (دعني أشم فيك رائحة هشام). ثم جلس إلى جانبي ليأكل وهو يقول بحماسة:

- حدثني كل شيء عن هشام.. حدثني عنه حتى الصباح.

غير أنه لم يأكل. وإنما كان يلقم هذه السيد الرائعة مقطوعة اليدين. كان من المستحيل عليها أن تأكل وهي بلا يدين. فكان الشيخ الجليل يجهز اللقمة ثم يضعها في فم السيدة. وكان الحاج رضوان قد اعتذر عن المشاركة في الأكل لأنه شبعان، بينما أمنا شفيقة واقفة تبكي بصمت، والزاكي جالس هناك في ركن القاعة أمام صحن طعامه وكفّاه لا يتحركان. أما أنا فقد اشتهيت أن تنشق الأرض وتبلعني. (أين النخوة في رؤوس الرجال الذين تركوا نساءنا يصلن إلى هذا المصير المروع؟).

الشخص الوحيد الذي ظل متشبثاً بشجاعته بيننا، في هذا الموقف الرهيب، هو: سعاد التي غصبت وجهها على أن ترسم ابتسامة وهي تسألنا:

- ما لكم لا تأكلون؟. هل هذه أول مرة ترون فيها إنسانة مقطوعة اليدين؟.

بقينا صامتين.. إلا الزاكي، فقد تخلى عن عزلته وجاء إلينا وهو ينشج بالبكاء قائلاً:

- عمي أرجوك.. هل تسمح لي بأن أتولى أنا تلقيم الخالة؟

ففوجئ الزاكي بسعاد تقول له:

- لا تبك يا مسخوط.. فقد ولى زمن البكاء.. انظر إليَّ أنا. مالك تظل واقفاً هكذا؟.. تعال وأطعمني بيديك فنحن نكمل بعضنا.. أنا بلا يدين وأنت بلا فم.

فجلس الزاكي إلى جانبها وهو ما يزال مضطرباً.. فقالت له:

- وأنصحك بأن لا تقول عني (خالة).. لأن الزواج من الخالة حرام. ومن الذي يعلم الغيب؟.. فربما تزوجنا..

فانفجر الجميع ضاحكين،ومُسحت الدموع وأقبلت النفوس على الطعام بشهية مفتوحة.. غير أن القلوب، في أعماقها، ظلت قلقة متوجسة.. متى يداهمنا وساف بوجقل؟. وهل هذا الأرعن هو الخطر الوحيد؟. إن قلبي يود لو يتهرب من هذه المخاوف الغامضة التي تتعاوره من كل جانب. ويبدو أن سعاد لاحظت ذلك عليّ (لأن الآخرين صاروا خبراء مهرة في عملية الكظم) فسألتني مبتسمة:

- لا تهتم ولا تغتم يا دكتور أحمد.. مالك؟.

أجبتها:

- لا أعرف. ولكنني أحس بأن إبليس مقرفص لنا الليلة.

فضحكت سعاد وهي تقول:

- حلوة قرفصة إبليس هذه.. إنك لم تنس التعابير المحلية.

- الصدق أنه تعبير من ابتكار أمنا شفيقة ولم أسمعه من غيرها.

ونبح الكلب (قطاش) فقال أخي وهو ينظر إلى النافذة:

- اذكر الذيب وهيء له القضيب.. ذكرتم إبليس اللعين فجاء إليكم ولكنه ليس مقرفصاً بل هو راكب سيارة.

حدق الزاكي ببصره إلى مصباحي السيارة المقبلة وسط ظلام الليل وقال:

- هذا صوت سيارة وساف بوجقل.

فأصدر أخي أمره:

-       إلى المخبأ بسرعة.. السيدة والشيخ يجب أن يختفيا تحت سابع أرض.

 الفصل العاشر

مرت تلك الأزمة بسلام.

فقد توقفت السيارة عند سياج الزيزفون، وسمعنا صوتاً غليظاً ينادي من هناك:

" أين أنتم يا هذا الربع؟".

فانفرجت أسارير أخي وقال بارتياح:

- هذا صاحبنا أبو شعلان الرجّ. فلنذهب إليه نحن لأنه لا همة لديه لأن يأتي هو إلينا.

ونهض وهو يقول لي:

- قم معي يا أحمد.. هات المصباح وتعال.

- ضروري؟!

- إن شئت أن تبقى فابق. ولكنك ستخسر خسارة كبرى. لأنك –ما حييت- لن تتعثر بمخلوق أطرف من هذا "الرج". تصور برميلاً حقيقياً وصدئاً أيضاً، وهو محشو بكميات هائلة من الغباء والترهل والادعاء، ولهذا البرميل يدان تشبهان مخباطين، وعلى كم إحدى اليدين رسم شريطتين على شكل ثمانيتين فوق بعضهما لتمييز رتبته العسكرية الرفيعة، فهو شرطي عتيق. ثم ضع مكان البرميل كرة مكان الرأس، واجعل فيها حفرة مفتوحة دائماً لتدلق فيها أي نوع من الخمور الرديئة تصل إليه اليد. ذلك هو أبو شعلان الرج رئيس مخفر المبعوجة الذي لا تتوقف يداه عن فتل شاربيه الضخمتين باعتزاز وهو يقول متباهياً: "أنا مطوع البادية"..

ثم ابتسم الحاج رضوان وأضاف:

- تصور أن مطوع البادية الهمام لا همة لديه لأن ينزل من سيارته فيمشي مئة خطوة إلينا.

كان الزاكي قد وصل إلى ذلك الرجل قبلنا، ومعه "قطاش". وحين وصلنا إليهما، ومعنا المصباح، اكتشفت أن من أهم أسباب برود همة السيد الرج أنه محشور حشراً بين مسند ظهر الكرسي من خلفه وبين إطار مقود السيارة المضغوط في كرشه.كما اكتشفت أن أخي حين وصفه لي نسي – أو تعمد- أن يتحدث عن رائحته.. أعوذ بالله.. من المؤكد أنه لم يغتسل منذ بداية الصيف، لا هو ولا ثيابه. فقد كانت رائحة عرقه المتيبسة على ثيابه، طبقات طبقات، "تفوح" بخميم كريه لا يطاق.

وقد جرى الحوار على النحو التالي:

الرج: انتهى الموضوع يا حاج رضوان.. (يتجشأ) فقد عرفت الحقيقة من الزاكي. تصبحون على خير. (يضع يده على المفتاح ليشغل محرك السيارة ويذهب).

أخي: (يستوقفه) أية حقيقة يا أبا شعلان؟..انتظر رجاءً.. دعنا نفهم ما يجري.

الرج: جئت لغرضٍ واحد وهو أن أعرف: هل جاء عندكم اليوم رجل عجوز جداً ومعه امرأة ترتدي ملاءة سوداء؟. فأكد لي الزاكي (يتجشأ) أنه لم ير رجلاً عجوزاً جداً ولا امرأة ترتدي ملاءة بيضاء أو سوداء.. (يفتل شاربيه الضخمتين) طبعاً لا داعي لأن أنزل وأفتش المزرعة لأتأكد بنفسي من صحة الأمر، لأنه لا الزاكي ولا أبوه ولا جده يجرؤ على أن يكذب عليَّ.. أنا مطوع البادية كلها.. (يهم بأن يذهب).

أخي: (يضع يده على مقود السيارة) على كل حال أرجو أن تقبل شفاعتي بهذا الرجل المسكين سائق الباص فلا تؤذه لأنه نقل إليكم هذه الوشاية الكاذبة.

الرج: ما أطيب قلبك يا حاج رضوان!. صحيح أنك على باب الله.. فها أنت تحاول أن تستدر عطفي على ذلك الرجل الفاسد مع أنه ما جاءنا مرة إلا ورماك بوشاية تقتل جملاً. مع أن الملازم وساف لا يدفع فلساً واحداً على أي من تقاريره اليومية الإلزامية، وهو على كل حال يظل أقل لؤماً من ذلك الرجل الذي جاءنا منذ ثلاثة أيام ليرميكم بتهمة كافية لأن تبيد عشيرة بكاملها.

أخي: (بقلق حقيقي) أعوذ بالله. من هو ذلك الرجل؟

الرج: لا أعرفه.. لكنه يركب دراجة نارية. قال إنكم تشتمون الرئيس وتبصقون على صورته (يتجشأ).

أخي: أستغفر الله.. من أين جاءتنا هذه المصيبة؟.. الله شهيد بأننا أبرياء من هذه التهمة يا أبا شعلان.

الرج: أنا لا أعرف شيئاً.. صحيح أنني مطوع كل هذه البادية التي تراها عينك، ولكنني لا أتدخل بمثل هذه الأمور، فهي من اختصاص الملازم وساف.

أخي: وماذا فعل الملازم وساف؟

الرج: سجل ذلك في دفتره. ولكنه قال للرجل: "اذهب إلى من هم أعلى منا حتى يحققوا في شكواك".. آنذاك أدركت أن ما أخبرني به العساكر صحيح.

أخي: وماذا أخبرك العساكر؟

الرج: قالوا إن الملازم وساف يخاف منكم.. مؤكد أنه يخاف منكم.. بدليل أنه الليلة تذرع بعشرين حجة حتى لا يأتي بنفسه فيحقق في قصة العجوز والمرأة. مع أن ذلك من اختصاصه. أما أنا فاختصاصي الجرائم الثقيلة: قتل.. اعتداء.. نهب هتك أعراض. (يفتل شاربيه) أنا مطوع البادية.

أخي: إنني أستغرب ما أسمعه الآن يا أبا شعلان. فنحن نحب حضرة الملازم ونحترمه مثلما نحبكم ونحترمكم جميعاً، فأنتم – يا رجال الأمن – تضحون بأرواحكم في سبيل حماية أرواحنا..

الرج: غير أنه صار يخافكم ويحذركم منذ أن عرف أنكم من جماعة جعفر الضاوي.

أخي: (مستنكراً باستغراب) نحن من جماعة جعفر الضاوي؟. يشهد الله بأنني عمري ما رأيت هذا الرجل أو تبادلت معه كلمة واحدة.

الرج: إذن فهذه المزرعة ملك من؟.. يا ويلنا نحن إذا ثبت أنها مزرعة جعفر الضاوي وأنتم وكلاؤه، ويا ويلكم إذا ثبت العكس.. آنذاك تكون فعلاً مزرعة الشياطين كما يسميها سائق الباص.

أخي: إذن هكذا يتصور حضرة الملازم؟

الرج: نعم.. ولذلك فإنه نزل إلى العاصمة ليتأكد من حقيقة الأمر بنفسه.. ويبدو لي أن جماعته، في العاصمة، نصحوه بالتمهل والصبر ريثما يرجع الضاوي من السفر.

أنا: وهل السيد جعفر الضاوي مسافر؟

الرج: (همساً) الكلام بيننا.. فالملازم وساف خصني شخصياً بهذا النبأ السري الخطير.. جعفر الضاوي مسافر إلى ألمانيا ليجلب معه طبيباً معيناً قالوا إنه يستطيع شفاء الرئيس الذي.. (ينتبه) ولكن ما لنا نحن ولهذه الأمور؟. فلنرجع إلى مخفر المبعوجة بسلام.. تصبحون على خير. (يشغل محرك السيارة).

أخي: انتظر لحظة يا أبا شعلان.. (للزاكي) اذهب بسرعة وهات لأبي شعلان خمسة أرانب.. (للرج) أنت تحب الأرانب.. أم تفضل صندوق بيض؟

الرج: (مضطرباً) لا يا صاحبي.. كان الله بيني وبين أي شيء يتعلق بهذه المزرعة المخيفة..

وانطلق بسيارته مبتعداً.. فنبح "قطاش" خلفه.

ها إن الأمور تتطور بخط تصاعدي مخيف.. فما العمل؟

استدرت لأعود إلى البيت فأنام، بعد هذا اليوم العاصف، لكنني توقفت إذ رأيت أخي يجلس على حافة رحى الطاحون التي تشبه مصطبة دائرية كبيرة.. سألته:

- ألا تريد أن نعود إلى البيت؟

- تعال واجلس معي هنا.. أريد أن أتحادث معك كلمتين.

والتفت إلى الزاكي:

- خذ المصباح معك. فنحن نريد أن نسهر وحدنا على ضوء القمر.. وارجع إلى أمك فساعدها في إخراج الشيخ والسيدة من المخبأ.. ناموا ولا تنتظرونا.

انسحب الزاكي صامتاً، على عادته، وبقيت وأخي جالسين على رحى الطاحون، المزرعة خلفنا والسماء والبادية أمامنا. كان القمر هلالاً نحيلاً، غير أن نوره اللطيف منسجم مع هذا الهدوء والسكينة والصفاء الذي يشمل الكون كله.

قال أخي:

- نحن ظلمناك يا أحمد.. فالإنسان، بعد غيبة طويلة، يزور أهله ليستريح ويفرح ويتذكر أيام الطفولة والصبا وينعش نبض الحياة في عواطفه.. ونحن ماذا قدمنا لك في هذه الزيارة؟.. لا شيء غير الهم والغم والمشاكل.

بقيت صامتاً. لأنني إذا أردت أن أتكلم فماذا أقول؟

سألت نفسي: ما أجمل الليالي المقمرة في هذه البادية!..

ثم سألت نفسي: أليس عجيباً أنني الآن، بعد هذا اليوم المليء بالمتاعب والمشاكل، أشعر بأنني مستريح تماماً، وأن الأفكار التي في رأسي صارت واضحة ومحددة ومستقرة. صحيح أننا جالسان في عتمة الليل وحيدين في هذه البادية اللانهائية، غير أن أفكاري واضحة وقلبي مطمئن. وكان قطاش ما يزال واقفاً أمامنا وهو في حالة التنبه واليقظة. كان واقفاً خلف سيارتنا "هيئة الأمم" المستقرة أمامنا مثل صندوق أسود كبير.

فاجأني أخي بهذا السؤال:

- ماذا قررت أن تفعل؟

أجبته:

- هذا موضوع لا يحتمل نقاشاً، فالطبيب ملزم إنسانياً بأن يعالج أي مريض حتى لو كان عدوّه، وإن جاء جعفر الضاوي ليأخذني لمعالجة الرئيس فإنني سأذهب معه.

فقهقه أخي ضاحكاً وقال:

- الطبل في الشرق والعرس في الغرب.. أنا يا أحمد حين سألتك: "ماذا قررت أن تفعل؟" لم أوجّه سؤالي إلى أحمد الطبيب، بل إلى أحمد الإنسان الذي..

توقف عن الكلام ثم ما لبث أن قال كمن يحدّث نفسه:

- فلنترك هذا الموضوع إلى حينه.. فالظاهر أنه لم يستكمل نضجه بعد.. قم بنا لننام، فأنا أمامي أعمال شاقة غداً، سيأتي أبو غزوان تاجر الدواجن مع شاحنة ضخمة، وعليَّ أن أملأها بصناديق البيض وأقفاص الأرانب والفري، وقد نبيعه نصف الأسماك أيضاً.

- إذن يجب أن أنام لأنهض في الغد نشيطاً وأساعدك في هذه الأعمال.

- لا.. أنت والزاكي تسافران في الغد إلى العاصمة، من حقك أن تعيش يوماً أو يومين في أجواء الرفاهية المريحة، وتأخذان معكما الشيخ عبد القادر لأنه من الأفضل أن لا يراه أبو غزوان أو غيره هنا.

وعندما رجعنا إلى البيت سمعته يتمتم:

"وما تشاؤون إلا أن يشاء الله"..

ثم تمدد على طراحته المعهودة، وأرخى رأسه على وسائده وهو يقول:

"فوضت أمري إلى الله.. نعم المولى ونعم النصير"..

ثم أغمض عينيه ونام.

وأنا أغمضت عيني لأنام، ولكن ذهني كان في أشد حالات التنبه واليقظة، والأفكار المؤرقة تتزاحم ليخرج كل منها فينفرد في ساحة الاهتمام. لماذا قرر أخي فجأة أن يبعدني عن المزرعة؟ هل شعر بدنو ساعة الحريق؟..

بقيت أتقلب على نيران الأرق زمناً.. إلى أن سمعت أخي يقول وهو مغمض العينين:

- ارم كل شيء خلف ظهرك ونم.. وغداً يخلق الله مالا تعلم.

وهكذا كان..

 يتبع