طاحون الشياطين(3)

رواية

طاحون الشياطين

شريف الراس

الفصل الثالث

عزيزتي هيلدا

أول ما حدث لي عندما أفقت في ضحى اليوم التالي أنني ما إن فتحت عينيّ حتى وجدت نفسي أهتف بدهشة مترعة بالبهجة:

- ما أشد بهاء الدنيا!! ما أشد سطوع الشمس!!

كان كل شيء وضّاء مُبهراً.

ويبدو أنني نسيت وهج شمس بلادي بعد كل هذه السنين في ألمانيا، وغيوم أوروبا وجوها الرمادي المتلبد أبداً.

وكان الأطفال الخمسة واقفين حولي فانفجروا ضاحكين.

وسألتني سلوى:

- أنا أحب الشمس أيضاً. هل هذه أول مرة ترى فيها الشمس؟

وجاءت أمنا شفيقة لتخبرني بأن الأولاد وقفوا حول رأسي منذ الفجر، ينتظرون أن أفيق ليسألوني: هل صحيح أنني أقوى من العسكر؟..

قلت لسلوى: تعالي حتى أتلمس حرارتك.

فقالت لي: أنا ما عدت مريضة.. هل صحيح أنك خالي؟

أجبتها بحب: طبعاً أنا خالك..

ثم نظرتُ إلى الأطفال الأربعة وقلت: أنا خالكم جميعاً.

فسألني خالد، ويبدو أنه أشدهم ذكاء:

- إذا كان عمنا رضوان عمنا.. وأنت أخوه.. فكيف تكون خالنا؟

قلت: بل أنا خالكم وعمكم وأبوكم وأخوكم وكل شيء.. وإلا فكيف صرت أقوى من العسكر؟.

فتبادلوا مع بعضهم النظرات صامتين. ويبدو أنهم اقتنعوا بصواب هذه الفكرة التي جاءت عفو الخاطر. لكنها فكرة مدهشة ومخيفة في الوقت ذاته، فعندما يكون المجتمع الإنساني طبيعياً، كما هو الحال في كل بلاد الدنيا إلا بلدنا، فإن للإنسان صفة واحدة في علاقته مع الأطفال. فهو أب أو أخ أو عم أو... الخ.. أما عندما يكون البلد مبتلى بحاكم طاغية يسلط عساكره المتوحشين لذبح الآباء والأمهات أمام عيون أطفالهم، ويطلق ضواريه الهمجيين لتقتل آلاف الأطفال، وتلاحق في الحقول الطينية الباردة وتحت المطر الأطفال المذعورين الهاربين من المذبحة، فإن من الطبيعي للإنسان الطبيعي أي الشريف أن يغدو أباً وأخاً وعماً وقاتلاً وشهيداً ولصاً ونبياً وكل شيء. فالمهم هو أن يدفع السكين عن هذه الأعناق النحيفة الناعمة..

ثم قلت لنفسي ساخراً: متى صرت فيلسوفاً يا حضرة المحترم؟. أم أنك أصبت بعدوى الأسلوب (الرضواني) في التفكير؟!

ثم وجدتني أسأل نفسي: ترى.. ألهذا الغرض استدعاني أخي؟.. هل يريدني أن أتبنى هؤلاء الأطفال؟.. ولماذا؟

سألتني فردوس، وهي الأجمل بينهن:

- هل صحيح أن عندك ثلاث بنات؟

فقلت لأمنا شفيقة:

- يبدو أنك أخبرتهم عن كل شيء؟

قالت: أحببت أن يألفوك، فينكسر حاجز خوفهم منك. إنهم يرتجفون ذعراً من رؤية أي إنسان غريب.. وفي الليل تنتابهم كوابيس مفزعة أثناء النوم.

ضمت ولدين تحت جناحيها وتابعت بحنان:

- يا عيني عليهم.. صور المذبحة الرهيبة.. صور العساكر وهم يطاردونهم في الحقول الطينية أثناء هربهم من المدينة.. صور لا يتحملها العقل تتفجر في عقولهم أثناء النوم..

فسألتها:

- إذن لهذا السبب هاجرتم إلى المزرعة في آخر الدنيا؟.. لماذا عفتم المدينة؟

قالت:

- ما هذا السؤال يا أحمد؟.. هل صحيح أنك لم تعلم بعد أن مدينتنا مُسحت من الخريطة؟ لقد دمروا بيوتنا ولم يبق منها شيء.. حتى قبر أبيك نسفوه.. حتى ضريح أمك نسفوه.. كل المدافن نسفوها.. طارت عظام أجدادنا في عراء الفضيحة.

صمتت برهة ثم سألتني:

- إذن ماذا كان يكتب لك الحاج رضوان في رسائله؟.

لم أحر جواباً.. كانت عيون الأطفال ما تزال ملتصقة بي.. غير أنني رأيتهم في شكل آخر هذه المرة. وعدت أعاني من شعوري بالتقصير حيالهم. لماذا لم أجلب لهم معي أي هدية؟.. لكن.. ما أدراني أنني سأجد في بيت أخي خمسة أطفال من أبناء المذبحة وهو الذي أخفى عليّ أخباراً أخطر بكثير؟..

قلت للأولاد، وأنا أرسم ابتسامة على وجهي:

- تعالوا اجلسوا حولي لأحكي لكم أجمل الحكايات.

أمنا شفيقة أفلتت طفلين من تحت جناحيها ونهضت فذهبت إلى المطبخ. أنا جلبت صور بناتي من الحقيبة، ورحت أستعرضها مع الأولاد وأحكي لهم الحكايات عن عائشة وسكينة وخولة والمدارس والنزهات والسيرك والقطارات والغابات وملاعب الأطفال وحديقة الحيوانات.

قالت وداد باعتزاز:

- ونحن عندنا صابر أفندي.. وله جرس في عنقه.

- من هو صابر أفندي؟

قالت الأم وهي مقبلة نحونا تحمل طعام الإفطار:

- هذا اسم حمارنا.. الأولاد علّقوا جرساً في عنقه لكنه لا يرن. لأنه حمار كسلان إلى حد أنه لا يهز عنقه.

فضحك الجميع.

كان طبق القش، الذي وضعته أمنا شفيقة أمامي على الأرض، عامراً بكل ما تشتهيه نفسي من المآكل: لبن خاثر، زبدة طازجة، بيض مقلي، عسل، بصل أخضر، نعناع، زيت، زعتر.. ما هذا يا أمنا شفيقة؟.. إنه طعام يكفي لإفطار عشرة أشخاص. مالكم لا تمدون أيديكم؟

قال خالد: نحن أكلنا قبلك بزمن قبل طلوع الشمس.

قالت فردوس: عمي رضوان أكل معنا وسافر.

قالت وداد: الزاكي سافر معه.

- إلى أين؟

- إلى الضيعة.. سيجلبان كيس طحين.

قال عبد الفتاح:

- لماذا لا تأكل؟.. تذوق هذا العسل فهو من عندنا.. عندنا ثلاث خلايا نحل.

وهكذا اكتشفت بأن عسكري الإحصاء، الذي لم يذكر الحمار من لائحة الثروة الحيوانية القابلة للنهب الشرعي، نسي خلايا النحل أيضاً.. وبرزت صورة وساف بوجقل والأزمات التي تفجرت ليلة أمس، وهي أزمات من المؤكد أنها سوف تؤدي إلى مضاعفات مزعجة. وأنا جئت لأقضي أسبوع راحة واستجمام، وأرى أخي وأعود.. ولم آت لأضيع في عتمة زنزانة رطبة في سجنٍ مجهول.. إذن فعليّ أن أتوجه بأسرع ما يمكن إلى العاصمة فأقابل جعفر الضاوي وأخبره بما حدث. وعليه أن يطفئ الفتنة السخيفة في مهدها.. لكن كيف أسافر ما لم يرجع أخي فأركب (هيئة الأمم)؟

قلت للأولاد: ما رأيكم في أن تقوموا معي فنتجول في المزرعة لتدلوني على كل شيء فيها؟

وخرج الأطفال معي في شبه مظاهرة احتفالية، كلها حماسة وفرح.

وكانت جولة ممتعة جداً، رغم أن الشمس كانت لاهبة محرقة. كل شيء أخضر ويانع ومشبع بالنضارة. مررنا على البقرة الضخمة ذات العينين الواسعتين التي ظلت تنظر ببلاهة وهي لا تتوقف عن الاجترار:

- مرحباً يا حفيظة..

وحين مررنا على الحمار المتهدل الأذنين حييناه أيضاً:

- طاب يومك يا صابر أفندي.

لكنه لم يحرك رأسه للالتفات إلينا. كان نائما ً وهو واقف. إنه ينتظر شيئاً ما. وكان يرافقنا في هذه الجولة الممتعة كلبنا قطّاش، الذي تخلى عن موقفه العدواني وغمرني اليوم بنظرات اللين والملاطفة. ربما كان أخي رضوان قد أمره بذلك في الصباح، فالحاج رضوان –حفظه الله- يحب أن يأمر فيطاع.. وأمس في الليل، عندما أطفئ المصباح وتمددنا لننام، وبعد أن حياني ب(تصبح على خير) سمعته يقول للنوم: (تعال يا نوم). فجاء النوم. إذن فمن غير المستبعد أن يكون واثقاً من أن الكلب يفهم أوامره ويعيها.

مددت يدي لأربت بها على رأس قطّاش مداعباً. فقال عبد الفتاح:

- هل تحب الكلاب؟.. عمي رضوان يقول إن الكلاب، في هذه الأيام، أحسن من كثير من الناس.

وأخبرتني وداد:

- عمي رضوان يعطف على كل الحيوانات.. يحب كل الحيوانات، هل رأيته كيف يطعم (شحادة) بيده؟.

وقال خالد:

- لكنه يحكي لنا حكايات عجيبة عن بشر تحولوا إلى أرانب وقطط وسلاحف وضفادع.

سألته مستغرباً:

- عجيب.. وكيف تحولوا هكذا؟

- بالرصاص..

- أي رصاص يا خالد؟

- رصاص البنادق التي يحملها الخنازير.

أفادت فردوس بالمعلومة التالية:

- عمي رضوان يكره الخنازير كثيراً.

ثم جلسنا في ظل شجرة لوز.. ورحت أجفف عرقي بالمنديل وأفتح قميصي لأتنسم الهواء. لكنني نظرت إلى مروحة مضخة الماء العالية فرأيتها واقفة. كان الهواء ساكناً. كأن حرارة الشمس اللاهبة تريد أن تخنق الحياة في هذه البادية الواسعة. ورغم ذلك فقد كان ظل شجرة اللوز لطيفاً ومنعشاً. وكان الأطفال الجالسون حولي فرحين. لقد وجدوا صديقاً يتحدثون إليه. أما القطاش، فقد أقعى ومدّ يديه وأرخى رأسه فوقهما وغفا.

والظل الأخضر النديّ، تحت شجرة اللوز، ينتهي عند الساقية، وهي الآن جافة وعلى امتداد الساقية صفان من أشجار اللوز، ثم أشجار المشمش، والخوخ.. وهناك في المزرعة أيضاً أشجار رمان وزيتون، وهي في مجموعها أشجار قليلة، لأن الحاج رضوان، على ما يبدو، زرعها للاستئناس أو لسدّ بعض الحاجة لا أكثر.. لأن همة الاستثماري موجّه لتربية الحيوانات. فهذا الحقل الريان أمامنا هو حقل برسيم، والبرسيم علف.. والعناية موجهة لحقل تربية الدجاج البياض (عددها أكثر بكثير مما رآه العسكري الإحصائي في الليل)، وهناك قاعة لتربية طيور الفري، وحظيرة للأغنام فيها أكثر من عشر نعاج. على أن المدهش والمفاجئ حقاً هو حقل تربية الأرانب فهو أوسع مشروع في المزرعة.. من أين خطرت هذه الفكرة لحاج كان سمكرياً ومصلح مواقد نفط ومحركات ومضخات، فأصبح خبيراً في تربية الأرانب! ولنفترض أنه (خطف) خبرته في تربية الدجاج من زيارات قام بها لمزارع الدواجن أو من الكتب، فمن أين كون خبرته في تربية الأرانب؟.. وماذا يفعل لو اجتاح هذه الآلاف من الأرانب مرض مفاجئ؟ هل يعرف كيف يعالجها وينقذها؟

كان فن الحاج رضوان واضحاً في صنع هذه الأقفاص الكثيرة التي حشر الأرانب فيها، وقد وفّر لها التهوية بابتكارات قد تبدو بسيطة، ولكنها تبعث على الإعجاب حقاً. والفن ذاته واضح في الأقفاص التي تملأ قاعة تربية طيور الفرّي، هذه الطيور الصغيرة والجميلة التي لها شكل طيور الحجل، لكنها أصغر.. هنا في قاعة تربية طيور الفرّي نلاحظ أن المشكلة ليست في توفير التهوية للتخفيف من وطأة حرارة الصيف، لأن هذا النوع من الطيور الصغيرة الجميلة يحب الحرارة، وإنما مشكلتها –على العكس- هي في توفير التدفئة الكافية في أيام الشتاء والبرد والصقيع، حتى يظل حبل الإنتاج مستمراً ومنتظماً. وهنا أيضاً ابتكر الحاج رضوان حلولاً بدائية لكنها مدهشة حقاً.

أما حوض الأسماك فقد جعله بين المنبع والمصب، فالحاج رضوان الذي يستغل الرياح في تحريك مضخة الماء، نصب برج المضخة فوق أعلى نقطة في أرض المزرعة، والمروحة الكبيرة جداً التي تتوّج هيكل المضلعات الحديدية، تدور بفعل الرياح فتضخ الماء من أنبوب صغير يصب في بركة ذات جدران إسمنتية بارتفاع قامة الإنسان.. إنها بركة صغيرة لكنها كافية لأن يسبح فيها الحاج رضوان هو والأولاد. هكذا أخبروني، وأخبروني أيضاً أن "عمهم" يسميها "الحاووز".

فإذا فاض الماء عن حافة الحاووز العليا فإنه يجري في ساقية إسمنتية صغيرة منحدراً إلى حوض السمك.. وهذا الحوض المليء بالأسماك النشيطة ذات الحجوم المتساوية، هو عبارة عن حفرة كبيرة في أرض ما تزال أعلى من مستوى أرض الحقول المزروعة. هكذا يجري الماء منها، بعد أن تستفيد منه الأسماك، فينزل منحدراً إلى الساقية التي تذهب متغلغلة بين ألواح الحقول المنسّقة بانتظام.

وكان حوض الأسماك هذه هو الشيء الوحيد في المزرعة المحاط بسياج من الشباك الحديدية المتينة، بارتفاع مترين، أخبرني الأولاد بأن "عمهم" نصبه ليحمي الأسماك من الذئاب والثعالب والضواري التي كانت تأتي في الليل لتخطف الأسماك.

ورأيت داخل هذا السياج، حول الأسماك، عدداً من أفراخ البط الأبيض.

ترى هل ربَّى الحاج رضوان هذا البط هناك عمداً؟.. ففضلات البط، حين تترسب في قاع الحوض، تساعد على إنبات عُشيبات مائية خضراء تتغذّى بها الأسماك ذاتها تغذية طبيعية. ترى هل يعرف أخي ذلك؟..

والسؤال الأهم من هذا: كيف عثر على الماء في هذه المنطقة بالذات؟

*        *       *

نبح الكلب فجأة فطيّر من حقل اهتماماتي كل هذه التساؤلات. كان ينبح موجهاً نظراته الغاضبة نحو خط الأفق هناك، عند نهاية الدرب فوق التلة الشرقية.

كان ثمة دراجة نارية مقبلة من هناك.

وفيما صعّد قطاش من توترات نباحه الغاضب، وانطلق كالسهم ليتصدّى لذلك الطارئ الغريب، كان الأولاد قد فروا مسرعين ليلجأوا إلى البيت.. وخالد التفت إليّ قائلاً:

- تعال اختبئ أنت أيضاً.

- كان واضحاً أن ذعرهم الغريزي أنساهم ما توهموه بأنني أقوى من القتلة، أو أقوى من "الخنازير" حسب مصطلحاتهم المحلية.. وسمعتُ سلوى بنت أختي خديجة –وكانت أصغرهم سناً- وهي تحجل خلفهم في خطواتها المضطربة وتنادي بأعلى صوتها:

- يا أمنا شفيقة.. علّقي صورة الخنزير الأكبر.

غير أن أمنا شفيقة التي خرجت من باب البيت وهي تجفف يديها بطرف ثوبها كانت ثقيلة هذه المرة. فقد فردت كفها فوق عينيها وحدقت إلى البعيد، وحين رأت الدراجة النارية وعرفت راكبها قالت تطمئن نفسها:

- لا حاجة بنا لتعليق الصورة، فهو لن يدخل بيتنا أبداً هذه المرة.

توقف الرجل هناك عند سياج الزيزفون الشوكي، وراح يصرخ طالباً حجز الكلب عنه. والواقع أن "قطاش" الرائع الذي سبقنا إلى مدخل المزرعة، جابهه بشراسة وغضب وأنياب مخيفة. ولم يتوقف عن النباح إلا عندما وصلت أمنا شفيقة وأمرته بأن يهدأ ويذهب، فسكت ولكنه لم يذهب، بل ظل واقفاً ينظر إلى ذلك الرجل بعينين تنضحان حقداً واحتقاراً وارتياباً، وظل يهمهم غاضباً طول الوقت، كأنه ينتظر اللحظة التي تأمره فيها أمنا شفيقة بأن ينقضّ على ذلك الرجل فينقضّ عليه ويمزقه إرباً إرباً.

وكان الحوار قد بدأ:

الرجل: هل الحاج رضوان موجود؟

شفيقة: (بنزعة عدائية) ماذا تريد منه؟.. هل لديك خبر كاذب هذه المرة أيضاً.

الرجل: (باستعطاف تمثيلي) أستغفر الله يا سيدتي.. أهكذا تقابلون الضيوف؟

شفيقة: (وكنت قد وصلت ووقفت حدّها) أكسرُ رجلَك لو عتّبت إلى هذا البيت. اتركونا بحالنا يا ناس.. لقد هاجرنا إلى آخر الدنيا حتى نستريح من رؤية أمثالك من المخلوقات البشعة.

الرجل البشع: (مع ابتسامة صفراء) سامحك الله يا سيدتي.. أهكذا تقولين عني؟

شفيقة الرائعة: إذن ماذا تقول عن إنسان كذاب؟

الرجل البشع فعلاً: أعوذ بالله.. متى كذبت عليكم؟

شفيقة الرائعة: إنك لم تصدق معنا ولا مرة.. أول مرة جئت لتخبرنا بأن خديجة لم تُقتل، وأنك رأيتها بعينيك هاتين اللتين سيأكلهما الدود.. وقبضت ثمن الإخبارية الكاذبة ألف ليرة.. هل نسيت؟

الرجل البشع: لا تظلميني يا سيدتي.. فأنا فاعل خير لا أكثر ولا أقل.. سمعت خبراً مفرحاً عن بنتكم فعملت معروفاً وجئت من آخر الدنيا لأنقله إليكم وتطمئن قلوبكم.. فماذا أذنبت؟.. هل ضربت الحاج رضوان على يده حتى يدفع لي الألف ليرة أم أنه هو قدّمها لي بنفسه مكافأة على البشرى؟

شفيقة: ها قد مرت سنة وأكثر.. أين خديجة؟

التفت الرجل البشع إليّ وقال:

- أرجوك يا أخ.. أحكم بيننا يا محترم.. صحيح أنني أراك هنا لأول مرة، عدم المؤاخذة، ولكنني أقبل بك حَكَماً بيننا.. أنا –طول هذه السنة- لم أنقطع عن خدمة هؤلاء الجماعة فهل من العدل أن أطعن في شرفي واتّهم بأنني كذّاب؟

فجابهته أمنا الرائعة بحزم قاطع: كذاب وألف كذاب..

وعندما استمر الحوار بعد ذلك شعرت بأن كلمة "بشع" هي أقل ما يمكن أن يوصف به هذا الإنسان النذل الكريه الذي ظل واقفاً بإصرار، وقد أمسك قرني مقود دراجته، ينتظر الثغرة التي يتسلل منها ليضرب ضربته الاستغلالية الجديدة، فقد فهمت من ذلك الحوار المثير أنه استغل مأساتنا بفقدان أختنا خديجة ليبتزّنا بوقاحة فاجرة خلال عمليات متتالية استمرت طول السنة الماضية كلها..

فمرة قبض من أخي عشرة آلاف ليرة لقاء أن يصطحبه معه "سراً" إلى معتقل مجهول، يستطيع أن يرى فيه خديجة ويتحادث معها أيضاً. وبعد أسبوع من الأسفار والتنقلات ادّعى آسفاً بأن "الشخصية الكبيرة" الذي أخذ المبلغ كله، طُرد من وظيفته لأن السلطة اكتشفت تواطؤه بعملية مماثلة.

ومرّة جلب معه إلى هنا رجلاً يرتدي ثياب ضابط كبير "ما أدرانا أنها ثياب ممثلين؟؟" كان ضابطاً حقيقياً بشحمه ولحمه ونياشينه والنجوم الكثيرة على كتفيه. (وذبحنا له خروفاً ودفعنا له المبلغ الذي طلبه" خمسة وعشرين ألف ليرة.. فقد كانت البشرى التي جاء بها إلينا مذهلة. فخديجة ليست حية ترزق فحسب، بل إنها ليست سجينة ولا معتقلة أصلاً، وإنما هي تعيش معززة مكرمة بعد أن اكتشف المسؤولون أنها بريئة من أية تهمة، وبما أنها صيدلية فقد تقرر أن يستفاد منها لتعمل ممرضة في أحد المعسكرات، ريثما تبرد الحديدة وتهدأ الأمور، كما أن عمل الممرضة واجب وطني وخدمة إنسانية سوف تتباهى خديجة بها عندما يطلق سراحها وتعود.. متى تعود؟.. وكيف؟.. قال الرجل البشع إنه أقنع صديقه الضابط الكبير بأن يطلب تعيينها في الوحدة العسكرية التي هو آمرها. وبذلك فإنه سوف يرعاها بعينيه ويحميها ويعاملها كما لو كانت أخته.. وحين تتم عملية النقل هذه علينا أن ندفع لسيادته مبلغاً مماثلاً.. ودفعنا طبعاً.. وانتظرنا أسبوعاً وأسبوعين ونحن نتقلب على جمر النار، إلى أن جاء الرجل البشع ليخبرنا بأن صاحبه الضابط الكبير، الذي لا يحق لنا أن نسأل حتى عن اسمه، قد نقل إلى خطوط القتال الأمامية بمواجهة العدو مباشرة. لم يذكر أي عدو، وإنما شجعنا على أن لا نفقد الأمل، فهو قد عثر على مجند في ذلك المعسكر، برتبة عريف، مستعد لأن يصور فيلماً عن خديجة وهي تداوي الجرحى، ويقدمه لنا لقاء مبلغ آخر.. إلخ..).

هل يُعقل أن يصل الانحطاط بمخلوق بشري إلى هذا الدرك من النذالة ولعق دماء المنكوبين والمتاجرة بمآسيهم وابتزاز لهفتهم القاتلة؟.. وهذا الرجل البشع الواقف أمامي والمصرّ على أن لا يذهب إلا بعد أن يحقق عملية ابتزاز جديدة، هل هو إنسان؟ وطار صوابي فتقدمت منه وبصقت في وجهه:

- اذهب من هنا قبل أن أجتزّ بلعومك وألعن والد والديك.. هيّا..

مسح وجهه بكمّه وقال حانقاً:

- تبصق بوجهي؟.. سوف تدفع ثمن ذلك غالياً.. تذكّر كلامي.. سوف يأتي يوم قريب تقبّل فيه حذائي متوسلاًَ إليّ أن أنقذك من الإعدام.. نحن لسنا من الذين يُبصق في وجوهنا.

فقلت له:

- إنني أبصق بوجهك وألعن أجدادك وأجداد الذين يشدّون أزرك ويسلّطون أمثالك على الناس.. هيا.. اذهب..

فهزّ يده بوجه شفيقة منذراً متوعداً:

- هل سمعت ما قال؟.. إنه يشتم السيد الرئيس شخصياً. لن تستطيعي أن تنكري ذلك في التحقيق.

آنذاك تبيّن لنا أنه لم يبق أمامنا إلا "قطاش" لوضع حد لهذه المهزلة المؤلمة والسخيفة.. فأمرته:

- عليك به يا قطاش..

وسرعان ما ركب الرجل البشع دراجته وانطلق بها خائفاً يسابق الريح، وقطاش يلاحقه نابحاً خلفه.

وانفجرنا ضاحكين..

ما أجمل تألق ضحكة الانتصار على وجه هذه الأم الرائعة التي يتوهج محياها الوردي الشفاف بنضارة التقى والورع والصفاء والأنس..

غير أنني –وأنا أضحك من صميم قلبي- أحسست بلدغة دموع ساخنة فوق وجنتيّ، وكان الأولاد قد وصلوا إلينا فرحين، فسألني خالد مستغرباً:

- هل تبكي؟.. لماذا تبكي ما دمت قد أثبتّ مرة أخرى أنك أقوى منهم؟

وأخبرتني فردوس بهذه المعلومة المفيدة:

- عمي رضوان يزعل منك إذا رآك تبكي.. عمي يريد أن لا يبكي أحد..

التفتُّ إلى أمنا شفيقة ورجوتها أن تأخذ الأولاد إلى البيت ويتركوني وحدي.. قلت:

- أريد أن أخلو بنفسي هنا تحت هذه الشجرة.

فنصحني خالد بأن أجلس على الشرفة، تحت ظلال عريشة العنب "فهناك يجلس عمي وحده حين يريد أن يتكلم مع حاله".

وجلست وحدي على الشرفة، تحت عريشة العنب.

ها قد أصبحت متورطاً بشبكة من المشاكل المتداخلة مع بعضها. أصلحك الله يا حاج رضوان.. ما كان أغناني عن هذه الزيارة..!

كانت عناقيد العنب ما تزال صغيرة، بحبوب خضراء صلبة وحامضة.. وكان ضوء الشمس يبدو من خلال أوراق الدالية الخضراء بأشكال وألوان زاهية، كأنه عندما يمر بمصفاة الأوراق الخضراء لا يبقى منه إلا الذهبي والأصفر والبرتقالي. ثم إن هذه الدالية أكبر من عشرة أغراس مماثلة في الكروم التي يزرعونها في ألمانيا على سفوح الجبال المنحدرة لعلها تتعرّض أكثر لشمس غير موجودة عندهم. كما أن هناك في تلك البلاد الرمادية يحاولون اصطياد المزيد من أشعة الشمس بأن يعرشوا أغصان الكرمة على أسلاك منصوبة عمودياً، مثل الجدران. (ورغم ذلك فإن العنب عندنا ينضج قبل موسمهم بشهرين أو أكثر، فالشمس عندنا أقوى) هكذا كان يخبرني الحاج رضوان عندما كنا نتنزه معاً في أرياف فيسبادن الجميلة أثناء تلك الزيارة الصيفية الطويلة قبل خمس سنوات. وكان يقول لي: (الزراعة هي شمس وتربة وماء.. وشمسنا أسطع وتربتنا أخصب ومياهنا وفيرة.. غير أن المشكلة هي: الإنسان.. فمقابل هذه العناصر الثمينة الثلاثة عليك أن تضع في الكفة المقابلة عنصراً أثمن بكثير، ألا وهو الإنسان.. هنا، في ألمانيا، عقل الإنسان أسخى من أرضهم.. هناك، عندنا الوطن، الأرض أكثر سخاء. ومن لطف الله بنا أنه لم يجعل أرضنا من مستوى شحة عقول الذين يتولون مقدّراتنا.. إذ لو كان الأمر كذلك لمتنا من الجوع).

وكان، في مثل تلك الحالة من الحديث، يحطّ على لازمة ثابتة بأن يقول:

- اللهم نجّنا من الكارثة.

- أية كارثة يا حاج رضوان.

- لا أعرف.. ولكنني متأكد من أننا مقبلون على كارثة فظيعة لم يقرأ أحد عن مثلها في الكتب.

- لا تبالغ يا حاج رضوان.. فتوجُّسات القلب ليس من الضروري أن تتحقق دائماً.

- إنها ليست توجسات قلب يا أحمد.. بل هي رؤية العين الواضحة المبصرة بدقة.. إن مقدمات الكارثة أصبحت جاهزة مكتملة.. والمقدمات تستجر النتائج.. وما تطبخ منه تأكل منه.. أليس هذا هو منطق العقل؟.. عندنا يا أحمد تم تمييز الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وقسموا المخلوقات إلى قسمين: خنازير وكلاب.. والخنازير وحدهم بيدهم الأسلحة وكل شيء.. وكل من يرفض أن يعيش كالكلب يقتل.. وبيننا وبينهم حد الدم.. والعجيب والمخزي أن بعض الناس الذين قبلوا خاصية الكلبنة زادوا على ذلك بأن راحوا يتمسحون بأذيال الخنازير ويلعقون أحذيتهم العسكرية القاسية.. لكن بقية الناس ترفض هذا.. وقد تعلن عن رفضها فتتفجر.. وآنذاك تأتي قطعان الخنازير فتبيدهم بلا شفقة أو رحمة.

هل كان الحاج رضوان يرى مأساة مدينتنا قبل وقوعها بأربع سنوات؟

*        *       *

جاء القط شحادة وهو يمشي رصيناً كسولاً متمهلاً، فوقف أمامي ونظر إليَّ بلا مبالاة.. ثم تمدد على جنبه، فوق أرض الشرفة، ومد يديه ورجليه، وتثاءب وأغمض جفنيه آمناً هانئاً لا يهمه شيء يحدث في هذا العالم.

أنت مخلوق سعيد يا شحادة.. أنت آمنٌ تماماً.. لا يقلقك شيء..

العصافير أيضاً هانئة سعيدة، وتصفق وتطير من شجرة إلى شجرة.. أما الأشجار ذاتها فهي الأكثر شعوراً بالأمن والاستقرار. إنها واقفة منتصبة في مكانها..تزهر وتثمر وتورق وتؤوي العصافير وتتمايل مع نسمات الريح.. وها إن رياحاً خفيفة بدأت تحرك مروحة المضخة الكبيرة التي وصل صوت صريرها إليّ: زيق.. زيق.. زيق..

وجاءت أمنا شفيقة لتدعوني إلى الغداء.. وقالت:

- وبعد الغداء تنام لتستريح، ثم تأخذ الأولاد إلى الحاووظ ليسبحوا معك.

 الفصل الرابع

مالت الشمس إلى المغيب، والحاج رضوان لم يرجع بعد. وكانت عيون الأطفال –كيفما راحوا وجاءوا- تظل مصوبة إلى النافذة الشرقية المفتوحة. كانوا ينظرون من خلالها إلى نهاية الدرب هناك عند خط الأفق. غير أن أياً منهم لم يُفصح عن قلقه أو ينطق بكلمة تساؤل حول تأخر (العم) الذي يشعرون بأنه إذا ما اختفى فقد ضاعوا تماماً.

فسألتُ شفيقة:

- لم تخبريني عن اسم هذه الضيعة التي سافر الجماعة إليها.

- اسمها المبعوجة.

- وهل هي بعيدة.

- لا شيء بعيد على من معه سيارة.. غير أنها أقرب قرية إلينا. وفيها مركز للأمن.

- يعني.. وساف بوجقل هناك.

- نعم.

- تخمينك أن الحاج رضوان ذهب لمقابلته؟.

- لا أدري.. الله أعلم.

- يعني.. هل كان مضطراً لأن يتركني هكذا وحدي في أول يوم من وصولي؟.. هل أنتم مضطرون لشراء الدقيق؟..

- أما آن لك أن تعرف أخاك؟.. فجأة يطلع برأسه موال ويريد أن يغنيه.. ما هو الموال الذي طلع برأسه اليوم، قبل طلوع الشمس.. الله أعلم.. غير أن قلبي بارد تماماً.. إذ أنه من غير المعقول أن يغيب عنك طويلاً. لا لأنه يحبك فحسب، بل لأن مواويله أصبحت تتغنى بك أنت وحدك، في الفترة الأخيرة.. أحمد وأحمد وأحمد.. هكذا يذكرك بلا لقب دكتور ولا شيء.. وكلما فاتحته بأي موضوع يقول لي: (اصبري حتى يأتي أحمد فنرى.. وما يريده الله يكون).

- أية مواضيع يا أمي شفيقة؟.. مثل ماذا؟

- مثلاً.. عندما أسأله: كيف سنعلم هؤلاء الأطفال إذا بقينا هنا في الصحراء؟. يجيبني: (اصبري حتى يأتي أحمد). لماذا لا نبيع هذه المزرعة ونرجع إلى بلدنا؟.

كانت تحدثني من غير أن تنظر إليّ، فقد كانت تحدثني وهي جالسة تمشط شعر سلوى الواقفة أمامها مطرقة الرأس. المشط في يدها اليمنى التي تصعد وتنزل بحركة متأنية فيها رقة وحنان، بينما كفها اليسرى تقبض الشعر الأشقر وترخيه وكأنها تنتشي بمداعبة شلال من حرير له وهج الذهب الناعم.

وكانت قد بدلت ثياب الأطفال بعد خروجنا من حمام السباحة في الحاووظ، فألبستهم ثياباً جديدة نظيفة. (هل هي متواطئة مع أخي على خطة لإيقاعي في (عشق) هؤلاء الأطفال عشقاً يلزمني بأن أغير خط حياتي كله؟.. هل كان اقتراحها بأن أسبح معهم في الحاووظ أول فخ لجر رجلي إلى حالة العشق هذه؟.. إنني لن أنسى ما حييت تلك اللحظات الرائعة التي عشناها ونحن نغطس في الماء النظيف المنعش، ضمن ذلك الحوض الإسمنتي الضيق، تحت سماء الله الواسعة مباشرة. كانوا يضحكون مبتهجين وكنت أضحك معهم وأنا أكثر منهم سعادة. كنا نتراشق بالماء ونضحك. وكنا نغطس لنتبارى في طول المدة التي يستطيع كلٌ منا أن يظل تحت الماء أكثر، ثم نُخرج رؤوسنا من تحت الماء مسرعين ونشهق بنَفَس الحياة المبهر، ونضحك.. وكنا لا نعرف كيف نبتكر ألعاباً جديدة، رغم ضيق المكان، فكنت أحمل (خالد) فوق كتفي، وأحمل سلوى على ساعدي الأيمن ووداد على الساعد الأيسر، وأقول لعبد الفتاح وفردوس: (تعلّقا برقبتي).. وأقول لهم أيضاً بحماسة طفولية متدفقة: (هل صدقتم الآن بأنني أستطيع أن أحملكم جميعاً؟). فتداعب سلوى خدي بكفها الصغير وتسألني بدلال: (خالي.. هل بناتك سعيدات هكذا؟).. (لماذا يا سلوى؟).. (لأنني أحب أن أرى كل أطفال الدنيا يضحكون). كان حمام الحاووظ مغطس تطهير خرجتُ منه وأنا أشعر بأنني إنسان جديد. لقد استطاعت هذه المياه الطاهرة المقدسة أن تذيب عن جسدي الجلد المستعار الذي لبسني طول كل هذه السنين في ألمانيا: الوقار.. الأصول..المنطق العقلي الجامد.. الحسابات الدقيقة.. لقد ذاب (الإنسان العقل) وخرج من جلده الإنسان الأصلي الحقيقي. نظيف. نقي. طاهر. حي. حتى مسام البشرة في جلدي صارت تتنفس هواء صحياً حقيقياً. وعندما طلعت من الماء لأتجفف بالمنشفة شعرت بأن الشمس والتراب والأشجار لم تعد غريبة عليَّ)..

كانت أمنا شفيقة قد أنجزت تمشيط شعر سلوى، وأجلست أمامها (فردوس) الجميلة ذات الشعر الطويل، وراحت تحبكه جديلة.. وواصلت حديثها معي من غير أن ترفع عينيها عن الجديلة:

- أخوك رجل صالح يا أحمد.. وأظن أنّ الله سبحانه وتعالى لن يخيبني إذا قلت إنه سيكون من أصحاب الجنة. غير أنه إنسان عجيب. فحتى حنفية الماء التي لاحظت أنت بنفسك أنها بحاجة إلى إصلاح، وهذه صنعته، قلت له: لماذا لا تصلح الحنفية؟.. أتدري بماذا أجاب؟.. (انتظري إلى أن يأتي أحمد).. حسناً.. ها قد جاء أحمد فهل أخرجنا الزير من البير؟

توقفت عن حبك جديلة شعر الطفلة ونظرت إليَّ لتقول:

- أنا يا ولدي امرأة عجوز على أبواب القبر. وقد شبعت من الدنيا. رأيت فيها الحلو والمر. صحيح أنني امرأة محجبة عاشت بين أربعة حيطان، ولكنني رأيت من الدنيا كل ما يجعلك توقن بأن الحياة مهزلة سخيفة. غير أن عزائي كان في نعمة الله علي بأخيك. كنت أقول لنفسي: (يا شفيقة لنفترض أن الله سبحانه وتعالى فتح عليك أبواب السماء في ليلة القدر.. فماذا تطلبين منه؟).. سأقول له (لي طلب واحد.. وهو أن تُنعم عليَّ في الآخرة بما أنعمته عليَّ في الدنيا، وهو أن أظل مع هذا الزوج الصالح)..

صمتت برهة، وتنهدت بحسرة، ثم تابعت:

- غير أن أخاك تغير كثيراً في السنة الأخيرة، بعد المذبحة.

واستعرَضت الأطفال بنظراتها كأنها لا تريد أن تفتح سيرة "العَرَق" أمامهم، أو أنها تتحاشى أن تزعزع صورة الحاج رضوان "العظيم" في نفوسهم.. فسألتُها بحنان:

- وأنتِ؟.. ألم تتغيري أنت أيضاً؟

- نعم تغيّرت.. تغيرت في شيء واحد، وهو الأساسي.. إذا رأيتُ ليلة القدر فإنني سأتوسل إلى ربي – وهو قادر وكريم - أن يمنحني القوة والعزم سنوات أخرى بما يكفيني لأن أربّي أولادي هؤلاء على الشكل الذي يرضي ربي.. أنا لم يبق لي من هدف في الحياة غير هذا يا أحمد.. فإذا مت بعد ذلك فإنني أغمض عينيّ على أعظم سعادة يمكن أن يخفق بها قلب أم، وهو أنني أترك خلفي خمسة أولاد صالحين.

رنّ الجرس فالتفتنا جميعاً نحو الباب المفتوح، فوجدنا الحمار الصابر واقفاً وهو يهز رأسه يمنة ويسرة كأنه يريد أن يطرد عن جبهته ذبابة مضجرة.

فضحك الأطفال، وقال خالد:

- هذا صابر أفندي يريد أن يذكّرنا بأنه حان أوان عودته إلى الإصطبل للمبيت. فنظرت أمّنا شفيقة إليّ وأصدرت الأمر الصريح التالي:

- عليك أنت أن تأخذ الحمار وحفيظة إلى الإصطبل.. وهذا السبع خالد سوف يغيّر ثيابه بسرعة ويلحق بك ليساعدك في الأعمال الأخرى.

كان خالد هو الأكبر بين الأطفال الخمسة، وقد طار فرحاً لأن "أمّنا" وثقت به فكلفته بعمل من أعمال الكبار.. وما أسرع أن جاءني وهو يرتدي ثوب العمل ويحمل منجلاً وقفّة كبيرة. قال:

- علينا أن نَحُشّ البرسيم الأخضر ونقدّم علفاً لحيوانات الإصطبل يكفيها طول الليل.

فسألته: وهل هناك غير الحمار والبقرة؟

قال: ستجد في الإصطبل أكثر من عشر نعجات.. وعندنا أيضاً ثمانية خراف يربيها عمي للتسمين..

فقلت لنفسي: معنى هذا أن ذلك اللص، ليلة أمس، فاته أن يكتشف الكثير من ثروتنا الحيوانية..

ومضيت مع خالد نقوم بالواجبات، فبعد أن أحكمنا قفل باب الإصطبل على تلك الحيوانات التي اطمأنت إلى عشائها الأخضر الوفير، توجهنا إلى قاعة تربية الدجاج، فجمعنا موسم اليوم من البيض الطازج الوافر، ورتبناه في حاويات من الكرتون، ووضعنا أمام كل قفص ما يكفي دجاجاته من الماء والعلف المجروش، وأضأنا المصابيح وخرجنا فأقفلنا الباب (كنت أنفّذ أوامر خالد بدقة وإتقان).. وقمنا بالأعمال ذاتها في قاعة تربية الفرّي، غير أنني توقفت طويلاً أمام الخزانة الحاضنة المليئة بمئات من أفراخ الفرّي المدهشة بجمالها والطريفة جداً بوصوصتها وحركاتها.. ثم نقلنا إلى قاعة الأرانب كميات من البرسيم الأخضر اليانع قد تكفيها لثلاثة أيام، غير أن "خالد" أكد لي أننا إذا تفقدنا هذه الأرانب في صباح الغد فلن نجد أيّ أثر لعود برسيم واحد.. والواقع أن قاعة تربية الأرانب هي الأكثر إثارة للدهشة والإعجاب.. فأنت لا ترى في هذه القاعة إلا الآلاف من الآذان الطويلة البيضاء المنتصبة، والعيون الحمراء الواسعة التي تعبّر عن البلاهة والهزل في نفس الوقت، والأنوف المرتجفة باستمرار.. وكانت الأرانب الصغيرة هي الأكثر جمالاً وإثارة.. وكان من الواضح أن الحاج رضوان تعلّم من مصدر ما، ذي خبرة، أن يستخدم الأقفاص لعزل جماعات الأرانب حسب الأعمار..

همس خالد في أذني بسر خطير:

- عمي يقول إن تربية الأرانب أربح صنعة.. فنحن في كل فترة نبيع حوالي خمس مئة أرنب.. نبيع اللحوم للفنادق، ونبيع الجلود للتجار، أما الأحشاء فإننا نقدّمها علفاً للأسماك.. ما رأيك؟

قلت: هذا شيء مفرح فعلاً.

وحين رجعنا كانت الأم شفيقة قد أعدّت مائدة العشاء.

*        *       *

غابت الشمس، ومرت الساعات بطيئة ثقيلة، وأغلقنا النافذة، وأشعلنا المصباح، وقامت أمنا شفيقة إلى غرفتها لتلجأ إلى الله بالصلوات الطويلة، مؤكد أنها تتوسل وتتضرع رافعة كفّيها إلى السماء، فمن المخيف جداً أن لا يرجع الحاج رضوان، وقعد الأطفال حولي صامتين قلقين، وكانت عيونهم تنخطف نحو النافذة الشرقية رغم أنها مغلقة، وكانت آذانهم تتنصّت باتجاه الباب المغلق أيضاً، فربما صدرت عن الكلب قطّاش أية نأمة تنبئ بالوصول، وأنا –حتى أتهرّب من الأسئلة المضنية التي تدور في ذهني منذ الصباح- حاولت أن أحكي للأطفال حكايات.. كانوا يصغون إليّ، ولكنهم لم يتأثروا بحكاياتي، بل إن القط شحادة المدلل نام في حضن سلوى التي ذبلت أجفانها نعساً، وحين نصحتها بأن تذهب للنوم قالت:

- لا أستطيع أن أنام قبل أن برجع خالي..

فقال خالد:

- لا تنتظروا أن ينبح قطاش، فهو عندما يسمع صوت هيئة الأمم لا ينبح..

فسألته بدهشة مفتعلة:

- وهل يستطيع قطاش أم يميّز صوت محرّك سيارتنا عن صوت غيرها من السيارات؟

فأجابني بحماسة وثقة:

- إنه يعرف صوت سيارتنا، في الليل، من بين ألف سيارة.. ثم إن لديه حاسة شم خارقة.. كما أنه قوي جداً. فإذا ما هاجمنا الآن لصوص فإن "قطاش" يغلبهم ويطردهم.. لا تخف..

فقلت له:

- سأحاول أن لا أخاف..

وقلّدت لهم حركات مهرّج السيرك فلم يضحكوا.. ولم تنفرج أساريرهم إلا عندما سمعوا صوت هدير محرّك السيارة مقبلاً من بعيد.. وجاءت أمنا شفيقة من غرفتها، بوجهها الوردي المحاط بهالة بيضاء من غطاء الصلاة الفضفاض وأصدرت أمرها بأن نفتح مزلاج الباب.

تبين لنا أن الحاج رضوان لم يذهب إلى قرية المبعوجة، ولم يقابل وسّاف بوجقل أكبر مسؤول أمن في هذه الديرة وضواحيها، وإنما سافر إلى العاصمة، وبسبب طول الطريق فقد تأخر في العودة حتى نهاية السهرة، وعاد هو والزاكي شبه محطّمين من شدة التعب، نظراً لأن السفر في سيارة هيئة الأمم هو تعذيب حقيقي، حسب تعبيره.

دخل علينا عندما كان الأطفال على وشك التوجه إلى غرفتهم للنوم. دخل وهو يحمل حقيبة سفر جديدة، من نوع حقيبتي، وابتسامته تملأ وجهه المغطّى بالغبار، وقال للأطفال بصوت يتهدج بالفرح:

- الحمد لله أنني وصلت قبل أن تناموا.. وأجمل من هذا أن أراكم لابسين ثياب العيد.. (أخي يحب استعمال الأسماء المبهرة، فالثياب الجديدة التي ارتداها الأطفال بعد حمام السباحة اسمها "ثياب العيد" أما الثياب التي ارتداها الزاكي عندما رافقه في هذه الرحلة الطويلة فاسمها "ثياب الوجاهة" وهي جديرة بهذا الوصف لأنها ثياب أمير بدوي. كان متلثماً بكوفية من لون المسك لحوافّها شراشيب بيضاء صغيرة تشبه أزهار الياسمين ونهاياتها مشكولة فوق الرأس ببريم أسود رفيع مصنوع من شعر الماعز اللماع، وكان يرتدي ثوباً (جلابية) من الحرير الأبيض، المقلّم بخطوط متوازية لمّاعة ذات لون سماوي هادئ، والقبّة وفتحة الصدر مطرّزتان بخيوط من الحرير أيضاً، ترسم باللونين الرمادي والكحلي تشكيلات لطيفة من الزخارف العربية القديمة، وهو يزيّن صدره بحزام جلدي مائل، ينزل من الكتف إلى الخاصرة المقابلة، لينتهي بجعبة جلدية على شكل مسدس، لكنها في الواقع محشوة بورق صحف.. وهو يرتدي فوق ذلك "دامراً" من الجوخ الكحلي الثمين، المطرّز ببنود حريرية بيضاء تطريزات جميلة.. غير أن هذا ما كانت عليه حال "ثياب الوجاهة" قبل السفر، أما الآن فإن ما أصابها من لطخات دهون السيارة وشحومها جعل الأم شفيقة تضرب بيدها على صدرها استنكاراً وهي تأمر الزاكي بأن يذهب إلى المطبخ فيخلع عنه هذا "السخّام" ويرميه في طبق الغسيل، كان واضحاً أن السيارة تعطلت بهما عدة مرّات أثناء الرحلة).

جلس الحاج رضوان بيننا، ووضع يده على الحقيبة، وقال للأطفال:

- احزروا ماذا في هذه الحقيبة.. إنها حقيبة عمكم أحمد أيضاً.. وهو عندما جاء أمس لم يقدر أن يحمل الحقيبتين معاً، فترك هذه أمانة في العاصمة، فذهبتُ وجلبتها لكم..

ثم نظر إليَّ قائلاً:

- أخبرهم عما فيها يا أحمد..

وفتح الحقيبة بسرعة، ثم فرد يديه على اتساعهما وقال بفرحة من يكشف غطاء كنز:

- إنها مليئة بالحلوى والدّمى والألعاب.. انظروا.. كلها هدايا رائعة جلبها لكم عمكم أحمد من ألمانيا.. لأن عمكم أحمد يحبكم مثلي وأكثر..

عقدت الدهشة لساني..

إذن هذا هو الموّال الذي طلع في رأس أخي اليوم؟.. لا أظن أنني بحاجة إلى أي جهد فكري "لأكتشف" المخطط الذي يبيّته، إنه يريد أن يتعلق الأطفال بي بل إنه يريد أن "يُجيّر" إليَّ كل حبهم له وثقتهم به.. ولكن لماذا؟.. مم هو خائف؟ هل يريد أن يغيب عن الساحة؟..

غير أنني، في اللحظة ذاتها، وجدت نفسي أقول لأخي بشيء من التحدي:

- ومن أخبرك بأنني لا أحبهم أكثر مما تحبهم أنت؟.. خذوا يا أولادي..

ورحت أنثر الهدايا عليهم بفيض من الفرح الهائل.. بل إنني شاركتهم البهجة بأن فتحت بعض علب الحلوى ورحت أقضم مما فيها بتلذّذ واضح، وكانت هذه العلب جميعها من الأنواع الأجنبية المستوردة، وكذلك الدمى والثياب والألعاب والهدايا الأخرى، كلها كانت مدموغة بكتابات أجنبية، لقد حَبَك أخي خيوط اللعبة بدقة وإتقان.

نظرت إلى أمنا شفيقة فلاحظت أنها نسيت ما كانت فيه من غضب وحنق، وصارت أكثرنا بهجة وسروراً. قالت للأولاد:

- هيّا يا أولاد.. ليحمل كل منكم أغراضه وتعالوا إلى غرفتنا لننام.

فقلت لهم:

- لن يذهب أي واحد منكم قبل أن يعطيني قبلة..

(من أين جاءتني هذه الجرأة؟..)

فعانقني الأطفال وأنا أقبّلهم. هزتني –في لحظة سريعة صاعقة- مشاعر حنان تنغرس بقوة إلى أعمق صماصيم القلب، وقررت وعاهدت على أن لا أتركهم ما حييت.. إن كنت رجلاً جديراً بالحياة والاحترام فهذا هو دربي: أن أحمي هؤلاء الأطفال وأعيش من أجلهم.

ولكنني لم أُفصح عن ذلك لأخي الذي كان في غاية النشوة والسعادة والارتياح.

وعندما عانقته سلوى ولفّت ذراعيها البضّتين حول عنقه وقبّلته قبلة المساء زفّت إليه النبأ المفرح:

- خالي أحمد سبّحني معه بالماء اليوم. ولعبنا كثيراً.. وضحكنا..

ففتح عينيه على اتساعهما وقال مبتهجاً:

- صحيح؟.. يعني.. هل تحبين خالك أحمد؟

- كثيراً..

- عظيم.. عظيم.. وأحمد يحبكم أكثر..

ثم ربَت على مؤخرتها الصغيرة بضربتين خفيفتين من يده وقال:

- هيّا الحقي بإخوتك وناموا.. ناموا بسرعة..

فذهبت سلوى مسرعة إلى غرفة الأولاد، وأغلقت خلفها الباب..

كان من الواضح أن الحاج رضوان مقبل بكل نفسه الليلة على أن يسكر سكرة فظيعة، ذلك المشروب الذي لا تذكره أمنا شفيقة أبداً، وإنما ترمز إليه بمصطلح رمزي طريف "السمّ الهاري".

وأصدر الحاج رضوان أوامره بأن تبدأ السهرة الرائعة، إذ قال للزاكي:

- هات السم الهاري من مخبئه. وأنعِم علينا بألذ المأكولات.

وضحك مسروراً.

 يتبع