امرأة في ظل الإسلام (2)

امرأة في ظل الإسلام (2)

رواية: ابتسام الكيلاني

اللقاء الرابع

في المرحلة الثانوية، أساتذة يبنون، وآخرون يهدمون

تشويه متعمد للتاريخ

المستقبل لهذا الدين

في جو ربيعي بين شجيرات النخيل وزقزقة العصافير.. وامتداد البحر كان اللقاء الرابع.

قالت زينب: ما أجمل هذا الكون! تُرى هل كل الناس يتمتعون بما خلق ربي من تناسق وتوازن وجمال؟

قلت: لاشك أن هناك من لا يلتفت إلى هذا أبداً، كما أن هناك من يستمتع ولكن بعيداً عن مشاعر القرب من الله سبحانه وأولئك هم الغافلون.

قالت زينب: لقد نسيت فئة أنساهم الظلمُ والطغيانُ الذي وقع عليهم، كلَّ مُتع الدنيا، وضمَّتْهم جدران باردة، ولازمتهم مطارق العذاب، ترى هل نسوا ذكر الله أم لا تزال قلوبهم عامرة به مضاءة بنوره، مطمئنة إلى رحمته.. فالله وحده يعلم ما حلّ بهم..

قلت: كأنك تتحدثين عن ظروف مرّت بك ولا تزال مرارتها تخالط مشاعرك التي عشت بها مطمئنة في ظل الإسلام، بالرغم من جرعات مُرّةٍ تناولتِها ولن يزول طعمها.

قالت: نعمْ وسأحدثك عن تلك الظروف في حينها، أما الآن فدعيني أعود إلى المرحلة الثانوية، وسأقص عليك بعض الأحداث التي مرّت بي في تلك المرحلة:

من الأحداث السعيدة جداً في هذه الفترة زواج أخي الكبير، وأخي لم يكمل تعليمه بعد الثانوية وإنما انغمس في العمل مع والده، وكان يهوى التجارة، وعنده فكر عملي لا يملكه الذين يحملون الشهادات العليا، لقد أسعدني زواجه من فتاة لا تكبرني بالكثير، فهي إحدى قريباتنا الخلوقات الواعيات وتحمل الشهادة الثانوية أيضاً. لقد أصبحنا صديقتين حميمتين، وكان سكن أخي في الطابق العلوي في البناية التي نسكنها.. وكثيراً ما باحت لي بأسرارها.. وبحت لها بأسراري، فكانت بمثابة أخت لي عوضتني عن الذي فقدته من خصوصية العلاقة بين الأختين، وكم حمدت ربي على ذلك.

وانتهت الإجازة وفتحت المدارس أبوابها واجتمعنا مرة أخرى أنا وفاطمة ومريانا في صف واحد. وعمّتنا الفرحة بعد أن بذلنا جهداً لنحقق هذا الهدف، وكانت أيامنا الأولى استعراضاً للمدرسين والمدرسات الذين سيتولون مهمة تعليمنا في ذلك العام وربما بقية الأعوام. وتراوحت مشاعرنا بين التقدير والإحباط.. وأحياناً الصدمة واليأس.

وتعود إليَّ أحداث ذلك الماضي وسأذكر لك بعضها:

سأبدأ بأستاذ الدين لقد كان كبيراً في السن وضعيف الشخصية، وإن كان غزير المعلومات، ولكن أين مَن يسمع وينتبه فكانت الحصة تُستغل في أمور كثيرة، ككتابة الواجبات أو استذكار الدروس أو التهريج. وقد حاولنا أن نحول الحصة إلى مناقشات مفيدة، ولكننا فشلنا أنا وفاطمة وبعض الطالبات الواعيات وحاولت معنا مريانا إذ حضرت بعض الحصص بالرغم من أن التلميذات المسيحيات مسموح لهن بعدم حضور حصة الدين، وهكذا مرّت أعوام وحصة الدين صفر في تأثيرها وخاصة أن علامة الدين لا قيمة لها في سجل الدرجات، ولا حول ولا قوة إلا بالله.. فهي تُحذف من مجموع الدرجات ولا أثر لها في الرسوب والنجاح.. والهدف معروف.. أن تُهمل هذه المادة ولا يهتم بها.

أما أستاذ اللغة العربية فقد كان أديباً وشاعراً معروفاً، وكنا في حصته ملزمات بالإصغاء فَهِمْنا أم لم نفهم، والويل لمن تأتي بحركة أو تتلفظ بكلمة، فإنها تواجه بغضبة كبرى، لأن أي حركة أو صوت يمكن أن يقطع سلسلة أفكاره، فهو لا يستعين بالمخطوط والمكتوب على الورق, وإنما بما خُط في ذاكرته من معلومات حول الشاعر أو الأديب الذي يقدم لنا معلومات عنه، ولاشك أننا كنا نستمتع بحصته رحمه الله، وإن كان بعضنا يسرح بأفكاره بعيداً عن الحصة وما فيها، وفي نهاية الحصة تدبّ فوضى لا مثيل لها، وتقوم بعض الطالبات بتقليد الأستاذ في ثورة غضبه وتنطلق عاصفة من الضحك، بينما أكون منشغلة في استرجاع بعض ما قاله الأستاذ من معلومات قيمة وتدوينها في دفتري قبل أن أنساها، لأنه كان يضيق بتقليب الورق وحركة الأقلام.

وأما أستاذ الفلسفة وعلم النفس الذي لازمنا خلال الفترة الثانوية، فقد كان ذا شخصية قوية نتعامل معه باحترام ومحبة، بالرغم مما قيل عنه من أنه لا يؤمن بالله، وأنه من المعجبين بكارل ماركس ونظريته التي لا ترى في الإنسان إلا الجانب المادي، وإلى آخر ما نادت به هذه النظرية من مساواة مزيفة لا تتجاوز ملء البطون بالحد الأدنى من حاجات الإنسان. ومع ذلك فقد كان أستاذنا ذا خلق واستقامة، مخلصاً في مهمته، وكان معجباً ببعض الشخصيات الإسلامية وكثيراً ما كان يذكرها ويستشهد بها، أمثال عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد رضي الله عنهما والمعتصم.. وإن كان يردّ ما فيهم من عظمة إلى تفوق العربي وأصالته، ولم نكن نجرؤ على مناقشته في هذه الأمور.. ولم يكن هو أيضاً يتعرض لمثل هذه الأمور خلال حصصه، فهمه الأكبر هو إدخال المعلومات في أذهاننا.

ولقد علمتُ فيما بعد أنه عاد إلى حظيرة الإيمان والتقوى، بعد أن خابت آماله في شخصيات كان يعتبرها مثله الأعلى في تحقيق العدل والحرية أو ما يسمونه الاشتراكية، ولكن عند الامتحان وعندما وصلت تلك الشخصيات إلى ما كانت ترجو من مراتب ومسؤوليات، أصبحت المنفعة الكبرى تعود إلى ذواتهم.. همّهم الأكبر الاستمرار، ولم ينفذوا شيئاً من المبادئ المثالية التي كانوا ينادون بها.

وهكذا أحس أنه خُذل، خذله عقله، وخذلته حساباته، وخذلته نظريات ليس لها أي أساس يدعمها سوى تصورات ومخططات البشر، وفكر أن يعود إلى دينه ويتعرف عليه.

وأما السبب المباشر في تحوله هذا فقد حدث به تلاميذه عندما سألوه عن تبدّل لمسوه في حديثه وتصرفاته، قال:

- في ليلة شديدة البرودة من ليالي الشتاء كنتُ في سهرة عند أحد الأصدقاء، نتذاكر أحلامنا وما آلت إليه، وأنا في طريق العودة، والضياع يلفّني ويشلّ تفكيري، انزلقت قدمي وهويتُ في حفرة لم أنتبه لها وسمعت صوتي ينادي يا الله. وشعرت بقشعريرة غريبة سرت في جسدي.. وخيّل إليّ أن كل من حولي يردد نفس النداء، الله.. الله.. قطرات المطر تعبر.. وصرير الريح ينادي.. وحفيف الأشجار يهمس.. والبرق يضيء والرعد يزمجر.. مهرجان كوني.. يعلن الحقيقة الكبرى.. أن للكون رباً لا إله إلا هو، وخرجت من الحفرة والنداء يلاحقني.. نداء الكون لخالقه كيف غفلت عنه؟ أين كانت حواسي؟ بل أين كانت روحي؟.. الآن شعرت بها تصحو.. تنطلق.. تعلو.. تناجيه.. سبحانه.. هل يعفو؟.. هل يقبلها في معيته.. وغمرني إحساس بالطمأنينة والرضى، وعدتُ إلى البيت مسرعاً لأغسل رجس الإلحاد عن جسدي بعد أن زال عن روحي.. ووقفتُ بين يدي الله أناجيه وأشعر بيديه الرحيمتين تستقبلاني، أبكي تسيل الدموع من عيني.. يملؤني شعور عجيب بالراحة والرضى، ولم أنم تلك الليلة أبداً، بل رحتُ أراجع الماضي في نور الحقيقة التي أضاءت في أعماقي.. ربي لقد عدت إليك فاقبلني..

قلت لزينب: ما أحلى هذه العودة يا زينب، ألست معي أن هذه المشاعر لا يتذوقها إلا التائبون الذين يمدون أيديهم إليه سبحانه، فتشف أرواحهم، وتنطلق ويحسّون للحظات أنهم معه جل جلاله في رحاب عفوه ومرضاته.. وقد أعلنها لهم إنه يحب التوابين ويحب المتطهرين. قال تعالى: )إن الله يحب التوّابين ويحب المتطهّرين( البقرة (222).

فلماذا لا تنطلق أرواحهم في رحاب حبّه ورحمته.. سبحانه..؟

قالت: فعلاً إنها مشاعر من الصعب جداً أن تصوّرها الكلمات.. وكم أسعدتني عودة ذلك الإنسان إلى رحاب الإسلام، فقد كنا جميعاً نلمس صدق كلماته ومدى إخلاصه في مهمته.

وكان الفرق واضحاً بينه وبين أساتذة آخرين، وأذكر بهذه المناسبة أستاذ التاريخ وكان غير مسلم، وكان مخرباً لعقولنا يحشوها بالأباطيل بدل أن يبنيها بالحقائق، كان حريصاً على تشويه تاريخنا، وجعلنا نشعر بالضآلة والقصور، كان يردد دائماً:

"ماذا فعل العرب للإنسانية؟ إن ما فعلوه لا يعدو ما فعلته شمعة تعجز عن إنارة ما حولها، أين هم مما فعله الرومان والبيزنطيون؟ أين هم من حضارة اليوم؟ إنهم لم يصنعوا أية حضارة، وقد نعطيهم أكثر من حقهم إذا قلنا إنهم كانوا مجرد ناقلين عن الآخرين".

وكان حريصاً على إظهار تكريمه للمرأة، من خلال ترديده لبعض العبارات مثل: نحن وراء المرأة ولو قادتنا إلى جهنم، والنساء أولاً.. وأمثال هذه العبارات التي يعبرون بها عن تحضّرهم، وجريهم وراء شعارات غربية الهدف، منها خداع المرأة ثم استغلالها.. وقد اغترّ بأفكاره كثير من الطالبات.

وكانت تدور أحياناً مناقشات بيننا وبينه، أعني بعض الطالبات اللواتي لديهن بعض الثقافة وإن كان ضئيلاً. وأذكر أنني رفعتُ أصبعي يوماً فقال:

- ماذا تريدين؟

قلت: أريد أن أدافع عن أمتي يا أستاذنا.

فسمح لي أن أذكر أن التطور الهائل الذي حصل لمادة الرياضيات بدأناه نحن.

وأن أحكام الميراث في قرآننا هي أول ضوء أخضر في هذا الميدان.

كما أننا دخلنا علم الفلك من باب واسع حرصاً على تحديد أوقات الصلاة والعبادات.

وأن ابن خلدون هو مؤسس علم الاجتماع.

وأن فرانسيس بيكون وكذلك روجر بيكون أبوَي الفلسفة التجريبية كانا تلاميذ الحضارة الإسلامية، ورسل الحضارة الإسلامية إلى بلادهم.

وأن لغتنا العربية كانت لغة العلم لعدة قرون كالإنكليزية الآن.

وأن علومنا وجّهها الإسلام لمصلحة الإنسانية.

وأننا أول من نادى بحرية الإنسان وكرامته.

وأن علومنا لم توجه أبداً ضد إنسانية الإنسان وكرامته كما يحدث الآن.

فابتسم ابتسامة صفراء وقاطعني قائلاً:

- هوني عليك أنا معك في كل ما قلت ولا داعي لكل هذا الحماس ولا تنسي أنني عربي مثلك.

ووجدت نفسي أجهش بالبكاء، ودقّ الجرس وخرج من الفصل وقد امتقع وجهه.. والتفت حولي رفيقاتي يرددن:

- لماذا تبكين؟ لقد أثلجت صدورنا بما قلت؟.. لقد امتلكت جرأة لم نمتلكها، هوّني عليك إنه لن يستطيع أن يؤذيك أبداً.. نحن جميعاً معك.

قلت من خلال دموعي:

إنني لا أخشاه أبداً، إن معي ربي وكفى به حامياً ونصيراً.

قلت لزينب: هل كل الطالبات وقفن معك؟..

قالت: أغلبهن كنَّ معي وإني سمعت إحداهن تقول:

لماذا كل هذا الهجوم؟ إنه أستاذنا وليس عدواً لنا وإنما يريد دفعنا إلى الأمام لنجاري الغرب في حضارته.

وردّت عليها أخرى:

- إنه لا يريد منا إلا أن نكون أذناباً وأتباعاً تجري وراء الغرب إلى مالا نهاية بعد أن يقتلع جذورنا ويمحو مشاعر العزة والكرامة من نفوسنا.

وسألت زينب عن موقف الأهل، وهل كانت تنقل لهم ما يجري في المدرسة؟ قالت:

- نعم كنت أنقل لهم مثل هذه الأمور وأجد التوجيه، وأكتسب معلومات جديدة من خلالها..

- من أنا؟

من أي أرض نبتّ وما هي جذوري؟

وقد كان تعليق أحد إخوتي:

- إنك ستواجهين حرباً مستمرة إذا أردت فعلاً أن تعيشي في ظل الإسلام وتتغذي من جذوره، فعليك أن تستعدي لذلك وتواجهي هذه الحرب بالحكمة والموعظة الحسنة، ولابد من العلم والمعرفة.

أما أبي فقد ذكر لي بعض الكتب التي تفيد في هذا الموضوع، وفيها شهادة من آخرين على سمو وإنسانية الحضارة الإسلامية، ومن الكتب التي ذكرها: كتاب للألمانية زغريد هونكه، ومن أقوالها في هذا الكتاب:

"لا مبالغة من القول بأن المسلمين هم مبتكرو التجربة بالمعنى الدقيق للكلمة، وهم المبدعون الحقيقيون للبحث التجريبي، وقد أبدعوا في علوم البصريات والكيمياء والطب، وجهودهم هي الأساس لما نشهده اليوم من تقدم علمي".

أما جوستاف لوبون فقد عدَّدَ في الطب وحده ثلاثَ مئة كتاب نقلها الغرب من العربية إلى اللاتينية.

قلت لزينب:

- وهناك أمر مهم جداً ذكره أولئك الذين شهدوا للحضارة الإسلامية، وهو أن ما أنتجته تلك الحضارة كان لمصلحة الإنسان وليس لتدميره وقهره، وإنتاج تلك الحضارة شمل الناس جميعاً دون تعصب أو عنصرية، هذه العنصرية التي نلمسها اليوم في تعامل حضارة القرن العشرين مع الإنسان، حيث يسمح لإسرائيل مثلاً أن تمتلك كل أنواع الأسلحة المدمّرة لمواجهتنا وإبادتنا، ثم نُمنع نحن من امتلاك أي سلاح فعّال، وتُتهم بالإرهاب والتطرف عندما ندافع عن حقوقنا. وقد قرأت بحثاً للدكتور عبد الحافظ حلمي عميد كلية العلوم في مصر يقول فيه:

"لقد تحولت العلوم لأول مرة في التاريخ الإنساني إلى مسألة عالمية وإلى تراث إنساني يثور على القوميات والعصبيات الضيقة حيث انصهرت الحضارات السابقة في بوتقة الحضارة الإسلامية.."

ويقول: إنه ذكر في أحد المؤتمرات العلمية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه:

"هلاك أمتي في عابد جاهل وعالم فاجر".

فما كان من منظم المؤتمر العالم السويدي إلا أن علّق قائلاً:

"لو عرفنا هذا الكلام من قبل لجعلناه شعاراً للمؤتمر".

قالت زينب:

- أمثال هذه الاعترافات كثيرة جداً وإن كان كثيرون أيضاً قد شوّهوا الحقائق وطمسوها، ومن يسعى وراء الحقيقة لابد أن يجدها.

قلت: وربما كان من أحدث هذه الاعترافات ما قاله ولي العهد البريطاني بمركز الدراسات الإسلامية في أكسفورد وهو ينتقد جهل الغربيين بالإسلام إذ قال:

"إن جوهر هذا الدين يكمن في حفاظه على نظرة متكاملة للكون حيث يرفض الفصل بين الإنسان والطبيعة، وبين الدين والعلم، وبين العقل والمادة.."

قالت زينب:

- الحمد لله أنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور، والحمد لله والرحمة لمن وجّهني للمطالعة والقراءة ولفت نظري إلى الكون، فرأيتُ إبداع الخالق وعشت في ظل شريعته، إن إبداعه سبحانه موجود في كل ما يقع عليه بصر أو يحيط به علم.. أو تسمعه أذن.. أو تمسّه روح.

وضحكت زينب قائلة:

- والآن أعود بك لاستعراض بعض أحداث الفترة الثانوية وقد شُغلنا عنها بيقظة نحسها كلما وجهت إلينا سهام تريد اجتثاثنا من الجذور، ولعل في هذه السهام خيراً لنا فقد طال رقودنا ولولاها لما صحونا أبداً.

وأعود لأستاذ التاريخ الذي حاول أن يوجد علاقات مع بعض التلميذات ويبدو أن سيرته وما يفعل وما يقول وصلت إلى المسؤولين فنقل من مدرستنا، وجيء لنا بأستاذ آخر كان اليأس يقطر من كلماته، وكانت أصداء انهزام العرب والمسلمين، أمام الصهيونية تتردد مع أنفاسه، فالدولة اليهودية أُنشئت، والشعب الفلسطيني مشرّد، واغتصبت الأرض، وأعلنت الهدنة، وتبخرت الشعارات، وكان يردد دائماً:

"بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء"..

ولم أسترح لهذه النغمة المتشائمة اليائسة فذكرتُ لأبي فوجّهني إلى أحد كتب محمد الغزالي رحمه الله، وفعلاً وجدت ما أنعش الأمل في صدري، وأحسست أن المستقبل لهذه الأمة، وأن عليّ أن أعلن ذلك وأن أُنقذ أستاذي من يأسه.

قلت لزينب: يعجبني فيكِ هذا السعي الدائم للكشف عن حقيقة هذا الدين.

قالت: إنه واجب كل مؤمن أن يكون الإسلام ينبوعاً لأقواله وأفعاله، وهكذا في إحدى حصص التاريخ وجدت الفرصة سانحة لأقول ما عندي.

قلت: أتسمح لي بكلمة يا أستاذ؟..

قال: تفضلي بكل سرور.

قلت: إن رسولنا الكريم بشّرنا في أحد أحاديثه أن المستقبل لهذا الدين ولهذه الأمة.

قال: أي حديث تقصدين؟

قلت: قال رسولنا الكريم:

"ليبلغنّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر".

قال: إذن هناك تعارض بين الحديث وحديث الغرباء؟

قلت: لا تعارض. هذه الغربة تعترض المسلمين خلال مسيرتهم، إنها سنة الحياة، علو وهبوط.. ينصرون الله فينتصرون، ويخذلون شريعته فيهزمون، وهكذا ولكن النهاية لهم إن شاء الله تعالى.

قال: أحسنت وشكراً لك لقد أعدت إليّ بعض الثقة، وأيقظت في أعماقي مشاعر كانت نائمة.

قلت: هناك حديث آخر في هذا الموضوع..

قال: ما هو؟ اذكريه لي.

قلت: قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم:

"إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها".

قال: إن هذا يبعث في النفس التفاؤل، ولكن لابد من الحركة والعمل، ونحن نيام توالت علينا الصدمات فانهزمنا من الداخل والخارج، إن وضع أمتي يكاد يقتل كل أمل في نفسي إننا أبطال في مواجهة بعضنا بعضاً..، جبناء في مواجهة أعدائنا.. سحرتنا المناصب والكراسي، فبتنا عبيداً لها.. عسى المولى عز وجل أن يخرجنا مما نحن فيه.

قالت زينب: وسأحدثك عن مدرِّسة لها في نفسي أثر لا يُمحى، إنها أستاذة العلوم ، وأنت تعلمين أن الشهادة الثانوية في زماننا كان لها ثلاثة فروع: فرع أدبي وفرع علمي وهذا خاص بالشباب، وفرع خاص بالبنات ويشمل مواد علمية وأدبية، ويؤهّل الفتاة للانتساب لأي فرع من فروع الجامعة.

أستاذة العلوم هذه كانت ذكية متفهمة لمادتها قريبة من الطالبات، والمهم أنها مؤمنة عن علم ويقين، فقد كانت تفتح لنا في كل يوم نوافذ تطل على قدرة الله ورحمته، فكانت حصة العلوم بمثابة مناجاة لخالق الكون ومدبره تقربنا منه سبحانه، وكأننا في صلاة خاشعة، لقد كان هذا شعوري خلال الفترة التي درّست لنا فيها تلك المدرِّسة العظيمة، ومن بعد أصبح عندي القدرة أن أفتح النوافذ وأرى آثار القدرة الإلهية تحيط بي من كل جانب.

قلت لزينب: وأظن أن هذا الدافع كان وراء دراستك للطب، وأذكر أننا عندما كنا في المدرسة الابتدائية كان حلمنا أن ندرس الإسلام والفقه.

قالت زينب: نعم فكرت أن أتخصص بمادة العلوم فلقد استهوتني هذه المادة، فالله سبحانه جعل الإنسان خليفة في هذه الأرض ليتفاعل مع موجوداتها، ويتعرف على خيراتها، ويستفيد مما سُخّر له، وأظن أن تأخرنا نحن المسلمين نابع من إهمالنا للعلم، لقد أهملنا جانباً مهماً في ديننا.

قلت: فعلاً لقد ابتعدنا عن هذا الميدان كثيراً، واستغله غيرنا بعد أن وقف دينهم المحرف في طريقهم فأبعدوه، أما نحن فديننا يدعو إلى العلم ويحضّ عليه، وقد امتلأت صفحات القرآن الكريم بنداءات موجهة لأولي الألباب، وقد علّم الله آدم الأسماء كلها أي ما يتعلق بهذا الكون من أجل استغلاله والاستفادة منه، وعمل أجدادنا ما في وسعهم واستجابوا لنداءات القرآن الكريم فأبدعوا وأفادوا واستفادوا.

قالت زينب: لقد أخذ أكثر المسلمين جانباً واحداً من الدين التزموا به هو جانب العقيدة والعبادة، وأهملوا الدعوات الأخرى الموجّهة إليهم وقد جاءتهم في كتاب الله بأساليب مختلفة متنوعة تنبه إلى أهمية العلم وعلو شأنه:

)هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟ إنما يتذكر أولو الألباب( الزمر 9.

)يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات(.. المجادلة11.

)ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يجعله حطاماً إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب( الزمر21.

وهكذا نسوا حظاً مما ذُكِّروا به، فانتهى الأمر بهم إلى هذا الحضيض الذي هم فيه، واستيقظ الآخرون وسَعوا وراء المادة فأنشؤوا تلك الحضارة، التي يلمس كل عاقل زيفها وعفنها، بالرغم من المظاهر المادية التي تبهر الفهوم، وأنشأتها الأيدي والعقول، ولكنها حضارة في جانب واحد ولم تحقق، ولن تحقق السعادة للإنسان.

والآن سأحدثك عن مدرِّسة الفيزياء، لم تكن مسلمة، وكانت تحارب الإسلام وكل مظهر من مظاهره، ترفض أن نضع الحجاب في حصتها، قالت لنا في إحدى المرات:

"ألا تخجلن من تلك الأغطية؟ ألا تشعرن بالإهانة؟ لماذا تسترن ما خلق الله؟

- وبماذا أجبتن؟

قلت: أتسمحين لي بالكلام..؟

فسكتت لحظة.. ثم قالت: نعمْ تفضلي.

قلت: أما لماذا نستر ما خلق الله؟ فاللباس سمة من سمات الإنسان وقد ميّزه الله به عن الحيوان، وكلنا نستر ما خلق الله.

وأما أن نشعر بالإهانة فلماذا؟ إننا ننفذ أمر الله ونحن مدركات لحكمته سبحانه، إنني أشعر بالإهانة عندما يكرهني أحد على مخالفة أمر من أوامر الله، وأستجيب مضطرة.

أما أن أستحيي من حجابي فلماذا؟ وأنا أدرك أن فيه احتراماً وتقديراً للمهمة التي يجب على المرأة أن تقوم بها بعيداً عن إثارة الشهوات ولفت الأنظار.

قلت لزينب: أحسنت لقد قلت هذا الكلام في زمن لم تكن فيه المرأة تستغل كما تُستغل الآن. لقد أضحت في كثير من المجتمعات مجرد جسد يعرض، وسلعة تباع.. ألا تذكرك عروض الأزياء بعروض الجواري؟ ولكن مع الفرق فالجواري كن كاسيات ولكن أولئك شبه عاريات.

قالت زينب: نعم هذا ما يخطر لي كلما طالعتني أجساد كاسية عارية.. في المجلات أو الصحف أو التلفاز أو الشارع، ولكن مدرّستي هذه لم يعجبها كلامي. وقالت:

- إنك فيلسوفة وإن كانت فلسفتك لا تعجبني.. إنها فلسفة العبيد.

قلت لزينب: عجباً لهؤلاء أي منطق يتبعون؟.. الراهبات يرتدين ما يشبه لباس المسلمة فلماذا لا يُوجّه لهن مثل هذا الكلام؟.. حتى فرنسا بلد الحرية والثورة ضاقت بفتيات مسلمات، سترن ما أمر الله بستره، وتوجهن لطلب العلم، فأغلقت الأبواب في وجوههن، وأعلن المسؤولون هناك أن هذا تحد للحضارة الفرنسية، أي حضارة هذه التي يهددها الاحتشام. ويرتفع في ظلها العري والإباحية؟

قالت زينب: يا عزيزتي.. إنها الكراهية التي لا منطق لها.. وفي إحدى المرات راقبتنا ونحن نصلي في ركن مهمل، خصصناه لصلاتنا، إن خشينا أن تفوتنا الصلاة، وعندما انتهينا من الصلاة اعترضت قائلة:

- لماذا هذه الحركات العجيبة في الصلاة؟ ألا يكفي أن يناجي الإنسان ربه بكلمات؟

قلت: لقد تذكرت سؤالاً وجهه ليوبولد فايس "محمد أسد" قبل أن يسلم إلى أعرابي رآه يصلي، إنه نفس السؤال، لماذا هذه الحركات؟ ورد عليه الأعرابي رداً جعله يفكر بهذا الدين طويلاً، كان رد الأعرابي:

"إن الله خلق روحي وجسدي فأنا أعبده بروحي وجسدي".

وفي أحد الأيام تأخرت في الصلاة قليلاً ودخلت غرفة الصف بعد دخول المدرسة بلحظات قليلة.

قالت المدرّسة: أين كنتِ؟

قلت: كنت أصلي.

قالت: ولماذا الصلاة كل يوم؟.. وهل تتعطل أمور ربك إذا لم تصلي له كل يوم؟..

قلت: لا تتعطل أموره سبحانه.. إن الأمر كله بيده، ولكن تتعطل أموري أنا لو انقطعت صلتي به.. وأحسست بغصّة: لماذا يُقاوم الإسلام، ويُفسح المجال لأي ناعق أن يقول ما عنده ويعلنه على الملأ ويتحدى به العالم، ولو كان تأليهاً لبشر.. أو تعصباً لقوم.. أو حتى عبادة لبقر وحجر. وهكذا مرت تلك الأيام بحلوها ومرها.

قلت لزينب: المهم أنك لم تتخلي عن ذلك الظل الذي اخترته وأحببته.

قالت: نعمْ إنه ظل الإسلام الذي منحني الرضى والطمأنينة.. طوال حياتي وفي كل الظروف التي مرت بي، فالحمد لله رب العالمين، وسأحدثك إن شاء الله في اللقاء القادم عن صاحبات لي رافقنني في معظم الطريق ولهن أثرهن في حياتي.

 

اللقاء الخامس

اهتمام الإسلام بالأسرة

قوامة الرجل هل هي لمصلحة المرأة

المرأة والعمل

الطلاق لماذا؟

وبدأت زينب الحديث:

- لقد كنت ذكرت لك شيئاً عن رفيقتيّ العزيزتين، فاطمة ومريانا، ولكن الحكاية لم تنته فلكل واحدة منهما قصة سأسردها لك، وسأبدأ بفاطمة:

لقد رافقتني فاطمة طوال مرحلتي الدراسية، وتخرجنا معاً في كلية الطب بعد الاختصاص بطب الأطفال، وكنا مغرمتين بالعمل في هذا الميدان، وقد اختارت فاطمة العمل في مشفى خاص، أما أنا فقد كانت لي عيادتي الخاصة، وهذه رغبة والدي رحمه الله.. وقد كان يشرف على المشفى الخاص طبيب جراح، درس في الخارج وكان ماهراً في عمله محبوباً من الجميع، وكانت فاطمة تحدثني عنه باستمرار، كنا صديقتين وأختين، ألف بيننا الإيمان والرضى، وحديثها كان ينم عن الإعجاب والتقدير لإنسان أمضى فترة طويلة من حياته في بلاد بعيدة، لا تدين بالقيم التي يؤمن بها، بل وفي كثير من الأحيان تحارب قيمنا هذه، ومع ذلك عاد أشد تمسكاً بما يؤمن، وكأن رحلته إلى تلك البلاد كانت سبباً مباشراً في توجيهه ليختار طريقه، ويصمم على السير فيه مهما كانت الظروف.

قلت: الحمد لله هناك كثيرون يعودون من مثل هذه الرحلة وقد خلت عقولهم من كل قيمنا وأخلاقنا يعودون أتباعاً وذيولاً لقيم أخرى.. ويؤمنون بنظريات هي الضياع والذل والتبعية.

قالت زينب: وهذا ما جعل فاطمة تحترم هذا الإنسان.. ويبدو أنه هو الآخر قد رأى في فاطمة إنسانة عاقلة لم يغرقها التيار الجارف، الذي انحدر بكثير من الفتيات إلى هاوية التقليد الأعمى لكل ما هو غربي، رأى فيها المرأة المتحضرة، المتعلمة التي تأبى أن تتنازل عن هويتها، مظهراً وعقيدة، ومع ذلك تلتقط الخير أينما وجد لتستفيد منه وتفيد، وقد أخبرتني فاطمة أنه أرسل إليها أخته لتسألها عن رأيها فيه، وهل تقبله زوجاً لو تقدم إليها؟ فأجابتها أن الأمر بيد والدها، وأما رأيها فيه فهو إنسان عظيم بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى.

وهكذا تزوجا، وكان زواجاً ناجحاً مباركاً، وغمرتني الفرحة، إنها أسرة جديدة تتكون، لتدعم البناء الحضاري لأمة تسعى قوى الشر مجتمعة لتركيعها وإذلالها.

وفي نفس العام تم زواجي من قريب لي، طبيب له عيادة خاصة به، وأحسست أني سأبني أسرة تدعم الكيان الإسلامي العظيم الذي أعيش في ظله، وسأحدثك فيما بعد عن أحداث حياتي تلك.

وأعود إلى فاطمة، لقد سار مركب الحياة بها وبزوجها مساره الصحيح، حياتها طبيعية فيها الألفة والمودة والرحمة، ولا تخلو من خلافات تحسم لصالح المركب الذي يجب أن يستمر ليحضن البراعم الندية، ولقد رزقها الله بولد ثم ببنت، واستمرت علاقتي بها لم تنقطع وكثيراً ما أخذتُ بمشورتها وأخذتْ بمشورتي.. الزوج كان القيم وهو المسؤول الأول وهي إلى جانبه تعينه ويعينها.. تحمل له الحب والاحترام، إنه يقوم بواجبه على خير وجه، لم يتخلَّ عن اهتمامه بأسرته بالرغم مما يحمل من مسؤوليات جسام في الخارج، لم يفعل كما يفعل كثير من الرجال حينما يتركون العبء على المرأة فتخيب آمالها وتشعر أن الزوج قد أخلَّ بالعهد وتخلى عن مهمة ألزمه الله بها.

قلت لزينب: إن كلماتك عن القوامة عبّرت عما في نفسي، وإن كان كثير من الرجال يسيئون فهمها ويظنون أنها سيادة دكتاتورية، بينما آخرون يتخلون عنها ويتركون تكاليفها لتحملها المرأة، فتشعر بالظلم وأنها تحمل أكثر مما تستطيع، كما أن كثيرات من النساء يسئن فهمها ويعتبرن قوامة الرجل ظلماً لهن ويرفضنها، وخاصة اللواتي سحرتهن مقولة حقوق المرأة.

قالت زينب: فيما قلت كثير من الحقيقة ولكن أنا على يقين أن أي امرأة لو خُيِّرَتْ بين رجل ضعيف لا يريد حمل المسؤولية التي كُلّف بها، وبين رجل قوي لا يتخلى عن مسؤوليته تجاه أسرته، لاختارت الرجل القوي المسؤول.

وهكذا كان شعور فاطمة دائماً أنها أحسنت الاختيار، ولم تخف مشاعر الإعجاب في داخلها نحو الزوج العزيز، وإن كانت تشكو أحياناً من ثورات غضبه، نصرة لحق أو دفعاً لظلم، وتقول: أخاف عليه ممن يدوسون الحق ويرفعون راية الظلم خاصة أنهم أصحاب سلطة، وكنت أطمئنها أن الأمر كله بيد الله تعالى.

وجاء اليوم الذي اختاره الله فيه، لينضم إلى قافلة الشهداء عندما أعلن كلمة الحق في وجه الظلم والطغيان الذي عم.. حتى وصلت أنيابه إلى نقابة الأطباء التي هو مسؤول عنها.. فلم يستطع السكوت.. فكان أن جاء زوار الفجر فأخذوه.. وقد أنهى صلاته وجلس للدعاء.. وقريباً من بيته قتلوه.. وروت لي فاطمة التفاصيل وفي عينيها دموع.. قالت: أرجو أن تكتب له شهادة في سبيل الله.. وهذا سيعزيني ويخفف عني.. لقد اغتالوا حتى الدموع في عيني.. فهذه الدموع التي ترينها هي أول دموع تظهر بعد اغتياله.. رحمه الله.

وسألتها: ماذا ستفعلين؟

قالت: سوف أغادر البلد ومعي ابني وابنتي، وسأجاهد لأضمن لهما ولنفسي حياة سليمة والله سبحانه لن يتخلى عنا، وسأجد بعونه تعالى من يقف إلى جانبي..

وفعلاً جاهدت وأعانها الله فهي الآن مسؤولة في هيئة صحية دولية.

وسألت زينب: هل استمرت الاتصالات بينكما؟

قالت: لم تنقطع صلتي بها وأنا معها وهي معي وإن بعدت الشقة، وقد علمت منها أخيراً أن ابنها قد أنهى دراسته العليا واستلم عملاً مهماً، وأما ابنتها فقد تزوجت من أستاذ جامعي بعد أن تخرجت في كلية الهندسة، وقد نقلت لي خبراً سرني عن ابنتها، وهو أنها تريد أن تمارس حقاً منحه لها الإسلام وتخلت عنه كثير من النساء، أتدرين ما هو هذا الحق؟

قلت: لا أدري لعله حق العمل.

قالت: لا إنه حق التفرغ للأسرة والبيت الذي هو مملكة المرأة وموطن راحتها وطمأنينتها.

 قلت: إن الإسلام لم يمنع المرأة من العمل خارج البيت ضمن حدود الشريعة، وقد عملت المرأة المسلمة في صدر الإسلام أعمالاً كثيرة.. وفي كافة المجالات.

قالت زينب: نعم لا شك في ذلك ولكن الإسلام لم يوجب عليها العمل خارج البيت كما أنه لم يحرمه إن رغبت فيه ووجدت فيه خيراً لها ولمجتمعها.

قلت: إن ما دفعت إليه المرأة فنادت به وطالبت به هو ظلم كبير لها، لقد غرروا بها وجعلوها تحمل حملين ثقيلين في آن واحد.. العمل في البيت والعمل خارج البيت.. ولقد ذكر محمد رشيد العويد في كتابه "رسالة إلى حواء" استفتاءً قامت به مجلة ماري كير الفرنسية شمل 2،5 مليون فتاة عن رأيهن في الزواج من العرب ولزوم البيت، فأجابت 90% منهن بنعم. أما الأسباب فهي:

مللت المساواة مع الرجل.

مللت حالة التوتر الدائم ليل نهار.

مللت الاستيقاظ عند الفجر للجري وراء المترو.

مللت الحياة الزوجية التي لا يرى فيها الزوج زوجته إلا عند اللزوم.

مللت الحياة العائلية التي لا ترى فيها الأم أطفالها إلا حول المائدة.

قالت زينب: لا شك أنهن صادقات مع أنفسهن ويصورن الحقيقة التي يعشنها.. فعلاً هذا ما حدث ويحدث.. المرأة العاملة تحمل بطيختين بيد واحدة.. وتئن ولا يلتفت إليها أحد.. وما التقيت بامرأة عاملة إلا وشكت من حمل تنوء به.. هذا عدا أمومة وئدت وديست بالأقدام.. وحُرم الطفل من قلوب راعية رحيمة مستعدة لتحمل كل الأعباء. لقد اغتالوا الأمومة.. تلك المهمة السامية.. التي كلفت بها المرأة ولا تستطيع القيام بها إلا الأم.. ومن أجل ذلك وضعت الجنة تحت قدميها.. بينما مهمات الحياة الأخرى يمكن لأي إنسان أن يملأ فراغها.. سواء كان رجلاً أو امرأة.. من خلال العلم والعمل.

قلت: لقد نطقت بالحق يا زينب، إن دعاة حقوق المرأة يريدون وأد أهم حق من حقوق الإنسان.. وهو أن ينشأ في رعاية أمّ متفرغة له. ما أشقى تلك الأمّ التي تسلّم ولدها لحضن آخر لتذهب هي إلى عمل يمكن أن يقوم به أي رجل أو أي إنسان آخر.. ومظلوم ذلك الطفل الذي حرم صدر أمه ورائحة أمه ولمسات أمه.

قالت زينب: أذكر بهذه المناسبة حادثة مؤسفة كان لها أثر عميق في حياتي:

زميلة لي رافقتني في كل المراحل الدراسية ما عدا العليا.. وكانت مهووسة بشيء اسمه حقوق المرأة وعمل المرأة.. وحملت لواء الدعوة إلى تحررها وسفورها.. وعاشت بعيدة عن تعاليم الدين وقيمه.. واختارت مهنة التدريس لتثبت أفكارها.. وترأست جمعية نسائية تدعي الدفاع عن حقوق المرأة.. وكانت تشكو دائماً أن ابنتيها لا ترضخان لمبادئها.. هذه الزميلة تعرضت لحادث مأساوي، فلم تقو على تحمله، وقد تجلت فيه حكمة المولى عز وجل.. جاءها المولود الذكر بعد طول انتظار.. ومع ذلك لم يحجزها عن القيام بمهمات تعتبرها مقدسة، وضعت الصغير الذي لم يتجاوز عمره الأشهر في عربة، لتنطلق إلى ميدان العمل الهام، واستدارت لتغلق الباب، فسبقتها العربة لتهوي بالطفل إلى أسفل السلم، وتوفي الطفل وانهارت الأم ولم تقو على تحمل الصدمة، وفقدت استقرارها النفسي.. ونفرت من كل متع الدنيا، وبعد فترة قصيرة لحقت بطفلها واستقرت في رحاب من حاربت تعاليمه واستهانت بقيمه.

قلت: لاشك أن الإيمان بالله والشعور بوجوده، خير معين للإنسان على تحمل أحداث الحياة، وأظن أن رصيد هذه المرأة من الإيمان كان صفراً، ولذلك تهاوت بهذا الشكل، والله أعلم.

قالت زينب: النفس الراضية المطمئنة هي النفس المؤمنة، التي تستعين بالله وتلجأ إليه في الشدائد، فيُعينها ويُهوّن عليها الأمر، ولقد مررت بتجارب مماثلة سوف أحدثك عنها عندما أحدثك عن مراحل حياتي الأخرى، والآن لنعد إلى ابنة فاطمة التي تريد أن تمارس حقاً تخلّى عنه كثير من النساء، وهو حقها في الاستقرار بالبيت، ولتؤدي مهمة أساسية ستُسأل عنها يوم القيمة، وقد أيدها زوجها فيما ذهبت إليه، وبالأمس وصلتني رسالة منها تعبّر عن سعادتها وإحساسها بالرضى مع الزوج والأولاد، وأنها تمارس هوايات محببة إليها مثل الخياطة.. والمطالعة.. وحضور الندوات والمحاضرات.. وأن وقت الفراغ لا وجود له في حياتها.. وتسأل هل الوقت الذي يصرف في منح المحبة والرحمة للأولاد والزوج والناس يعتبر وقتاً ضائعاً؟

قلت: وبماذا أجبتها؟

قالت: طبعاً أجبتها بأنه وقت مأجور لأنه يصرف على أسمى مهمة على وجه الأرض، فالأسرة التي تُؤسّس على المودة والرحمة هي أسرة مستعدة للعطاء، والمرأة هي الشعلة الدائمة التي بإمكانها أن تمد الوجود كله بمشاعر الخير والنماء من خلال بيتها وأسرتها، ومع ذلك فكثيرات من النساء يسعين وراء السراب، ثم يكتشفن أنهن خُدعن، وحمّلن أنفسهن ما لا تطيق.

قلت: ولكن ألا تظنين أن المرأة مضطرة في كثير من الأحيان إلى طرق أبواب العمل خارج البيت، سعياً وراء الرزق، ولتأمين حاجات الأسرة، لأن دخل الرجل لا يكفي، أو هو عاطل عن العمل لسبب من الأسباب، أو غير موجود؟

قالت زينب: لاشك أن كثيرات لهن مثل هذه الظروف.. في هذه الحالة يجب أن تمنح التقدير الذي تستحقه والمعونة التي تحتاجها.. وأن تُراعى ظروفها، من قبل الأسرة والمسؤولين عن عملها، سواء الدولة أو المؤسسات الخاصة..

قلت: لاشك أن المرأة تتعرض لظلم كبير في هذا المجال، حتى إنها في كثير من البلدان تمنح أجراً أقل من الرجل مع أنها تقوم بنفس العمل، عدا عدم مراعاة ظروفها في فترة الحمل والولادة، ثم عدم منحها الفرصة الكافية للإشراف على الطفل وهو في أمس الحاجة إليها.

قالت زينب: بل وأكثر من ذلك ففي بعض البلاد (العربية) لا يسمح لها باستحضار مساعدة لها، تحل محلها في البيت حال انشغالها بالعمل، وحجتهم في ذلك أن راتبها دون الحد الذي نص عليه القانون، وإذا كان راتبها يسمح واستحضرت مساعدة، أخذوا منها ضريبة ضخمة تعادل ما تأخذه المساعدة ويتكرر هذا كل عام، (وهذا ما حصل في بعض دول الخليج بالنسبة للمرأة غير المواطنة).

قلت: إن هذا ظلم كبير للمرأة العاملة.. ولا أدري كيف يفكرون ويحكمون، وهل بإمكان امرأة غير مطمئنة على بيتها وأطفالها أن تعطي وتبذل؟ إن المرأة تظلم في هذا الجانب، ولا أدري لماذا لا تهتم الجمعيات النسائية بمثل هذا الظلم.. عوضاً من المناداة بتحرير المرأة من دينها وقيمها وأخلاقها.

قالت زينب: إنه التقليد الأعمى للغرب دون وعي، ودون دراسة للواقع لمحاولة تصحيح المسار وإزالة العقبات.

قلت: لقد أخذنا الحديث بعيداً في موضوع المرأة والعمل، والآن أرجو أن تحدثيني عن رفيقتك مريانا، فقد أخبرتني أن لها قصة، وقد بدأتها لي في لقاء سابق، وأرجو أن أسمع ما بقي منها.

قالت زينب: إن مريانا صنف نادر من البشر، وفي حياتها دليل على أن الإنسان مؤمن بالفطرة، فقد نشأت في بيئة مسيحية متدينة، ومع ذلك فقد كنت أشعر أنها قريبة مني وأنها تعيش معي في ظل الإسلام، ففي إحدى الجلسات جرّنا الحديث إلى قضية صلب المسيح عليه السلام.

قلت لمريانا: كيف يعذب البريء ويهان ولماذا؟ هل من العدل أن يعاقب عيسى عليه السلام على خطيئة ارتكبها آدم عليه السلام، ويكون فداء للبشرية ليخلصهم من خطيئة ارتكبها أبوهم؟! أين المنطق في هذا؟

قالت مريانا: لا أدري وإن كنت تثيرين في نفسي تساؤلات كامنة لا أجرؤ على البوح بها. إنهم يرددون دائماً أن أمور الدين هي فوق المنطق والعقل.

قلت: هذا غير صحيح فليس في أحكام الدين ما يتنافى مع العقل والمنطق، وإن كانت هناك أمور لا تستوعبها عقولنا لأنها لم تُخلق لهذا، مثلاً ليس لنا أن نبحث في شأن الذات الإلهية، فعقولنا لم تُخلق لهذا، ولكننا ندرك بالعقل أنه سبحانه واحد أحد لم يلد ولم يولد.. وأما بالنسبة لخطيئة آدم فقد حلّها قرآننا الكريم ببساطة إذ قال سبحانه وتعالى:

)فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم( البقرة 37.

وأما أن يعاقب البريء عوضاً عن المخطئ فهذا منتهى الظلم، وقرآننا ينهى عن ذلك إذ يقول:

)ولا تزر وازرة وزر أخرى( الإسراء 15.

أي لا يعاقب البريء بدل المذنب، فهذا ظلم وحاشا لله أن يكون ظالماً كما أن في ذلك إلغاء لمسؤولية الإنسان عن أعماله وقد نفى القرآن الكريم قضية صلب المسيح عليه السلام فقال:

)وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم( النساء 157.

قالت مريانا: كلماتك تريحني لأنني في كثير من الأحيان أشعر بالضياع، ولا أدري أين الحقيقة في ألوهية المسيح؟ أين الحقيقة في بنوة المسيح؟.. وأين الحقيقة في الأقانيم الثلاثة؟..

وهكذا كانت تنتهي نقاشاتنا غالباً، وأنهينا المرحلة الثانوية معاً، وكانت تؤازرني في مواقفي دائماً وتشعرني أنها تعيش معي في ظل الإسلام، وإن لم تأخذ بشيء من مظاهره، وبعد انتهاء المرحلة الثانوية اختارت مريانا دراسة اللغة الفرنسية وآدابها.. ولم تنقطع لقاءاتنا، وقد أسرّت لي أنها معجبة بابن عم لها لم يكمل تعليمه بعد الثانوية، وانشغل بإدارة أعمال أبيه بعد وفاته، كما أنه يتودد لها، ولكنها لن تتزوج قبل انتهاء دراستها.

وحصلت على الشهادة الجامعية، وعُينت مُدرّسة في إحدى المدارس الثانوية في بلدتنا، وحققت أمنيتها وتزوجت من ابن عمها، وغمرتها السعادة وأنجبت ابنها الأول، وانشغلت كل منّا عن الأخرى فترة من الزمن، انشغلت مريانا بأسرتها وعملها، وهي المدللة المرفهة وحيدة أبويها، كما انشغلت بأسرتي وبولدي الأول، تجربتي الأولى في الأمومة.. قلقي وانشغالي وأنا بعيدة عنه وهو بأيد ليس فيها حس الأمومة ولا تحركها عاطفة الأم، وكانت خالتي هي اليد الحنونة التي أطمئن لها على فلذة كبدي.. ولبّت رغبتي وجاءت لتعيش معي.. بعد أن انقطعت فترة عن عيادتي وعملي.. هكذا مرت الأيام ولم أتصل بمريانا ولم تتصل بي، ويشاء الله أن ألتقي بها في حفلة مدرسية دعيت لها ووجدتها في قمة الشقاء والحيرة.

قلت لزينب: لماذا الشقاء والحيرة، بعد أن تزوجت ممن تريدين وأصبحت أماً؟

قالت: خدعها قلبها فلم تلتفت لعيوب كثيرة في الزوج الذي اختارته، ومع ذلك صبرت وتحملت الكثير، فالطلاق محرّم في شريعتها، وجاء اليوم الذي لم يعد فيه مجال للتحمل، فالزوج عاشق لأخرى وهو يلتقي بها دائماً.. بل أحضرها إلى مزرعته، وأقام لها بيتاً ويتعامل معها كزوجة متحدياً تعاليم دينه وقيم مجتمعه، وعادت مريانا إلى كنف أمها وأبيها مع ولدها، تتجرع كأساً مُرّة لا نهاية لها. وسألتني ما الحل، أشعر كأنني معلقة في الفضاء بين السماء والأرض؟ وقالت: تخيلي أرسل لي بالأمس يرجوني أن يسجل ابنه الذي جاءه من عشيقته على اسمي فرفضت ولا أدري ماذا أفعل.

وخففتُ عنها وقد شعرت بقسوة معاناتها.

قلت لزينب: فعلاً مشكلتها ليس لها حل في ظل شريعة تُحرّم الطلاق كما تحرّم الزواج بثانية، ألست معي أن الطلاق في كثير من الأحيان هو مطلب للمرأة وحل لمشكلاتها.

قالت زينب: هذا صحيح وقد نظم الإسلام قضية الطلاق بدقة وحكمة، ووضعه بيد الرجل أو بيد المحكمة، وذلك لأن الطلاق بالنسبة للرجل خسارة كبيرة لن يقدم عليها إلا مكرهاً، فسيخسر مع الزوجة المهر والنفقات التي أنفقها، ولذلك غالباً ما يلجأ الرجل للمحاكم وتسعى المحكمة لإعادة الاستقرار وإيجاد الحلول، فإن تعذر ذلك يكون الطلاق هو العلاج المناسب لمصلحة الأسرة، كما أنه الدواء المر لحفظ الكرامة لكلا الزوجين.

قلت: ماذا تقصدين بكرامة الزوجين؟

قالت: شعور الرجل بأن الزوجة لا تريده، أو شعور المرأة بأن الزوج لا يريدها، كما هو الحال بالنسبة لمريانا، فالحل هنا هو الطلاق بالنسبة لمجتمع يحافظ على القيم. أما في المجتمعات الأخرى فالحل أن تجاري المرأة الرجل وتبحث عن البديل، وهنا الطامة الكبرى التي ستدمر الأسر ثم المجتمع، ويتشرد الأطفال، وتنشأ الأجيال في جو بعيد كل البعد عن الجو السليم. فالكل يلهث وراء شهوته بعيداً عن إنسانية وكرامة الإنسان.. وسعياً وراء المادة والجنس والرفاهية.

قلت: الشيء المميز بالنسبة للطلاق في الإسلام.. أنه منظم بدقة وحكمة، فهو قد وضع للضرورة ولمصلحة كل الأطراف، كما أنه أبغض الحلال إلى الله، وهو حق للمرأة كما هو حق للرجل وإن كان على المرأة أن تلجأ للقضاء، أو تتفق مع الرجل وبذلك يتم التفريق أو المخالعة.

قالت زينب: نعم أذكر بهذا الخصوص قصة تلك المرأة، وقد وردت في "صحيح البخاري" و"موطأ الإمام مالك" وغيرهما واسمها حبيبة بنت سهل، جاءت إلى النبي صلوات الله عليه وسلامه فقالت:

"يا رسول الله ما أعيب عليه من خُلق ودين ولكن أكره الكفرَ في الإسلام.."

تقصد أنها لا تألف زوجها، وتعايشه وهي مكرهة، وتخشى على نفسها من الانحراف إن لم يفرق بينهما، فأمر النبي الكريم أن ترد عليه حديقته التي هي مهرها وفرّق بينهما، ولم ينكر عليها ما طلبت، إنه الإسلام دين الفطرة ودين الكرامة.

قلت لزينب: الحل في ديننا موجود ومع ذلك فنسبة الطلاق في بلادنا قليلة إذا قيست بما يحدث في البلاد التي تخلّت عن القيم وكثُرت فيها المغريات، وزالت مشاعر المودة والرحمة وحلت محلها دوافع الشهوة والهوى، فديننا أوجد لنا الحلول من خلال مراعاته للفطرة والواقع البشري، ومشكلة كمشكلة مريانا لن تجد لها حلاً في ظل الديانات التي لم تستوعب حقيقة الإنسان.. وأنه ليس ملاكاً، كما أنه ليس حيواناً تسيّره الغرائز والشهوات ولا شيء غير ذلك.. فما رأيك؟

 قالت زينب: ليس رأيي ولكنه الواقع فكثيرات يعانين مما عانت منه مريانا ولا حل إلا في الانحراف والضياع.. أو الهروب كما فعلت مريانا.. لقد قررت أن تذهب بعيداً وتنشغل بالعلم فسافرت إلى فرنسا، وقررت أن تنال الدكتوراه في الأدب الفرنسي، وهناك لمست لمس اليد ما يعانيه مجتمع يقال إنه متحضر من انحراف وضياع في جوانبه الإنسانية، وإن بدا ضالعاً في التقنية والعلوم.

واستمرت المراسلات بيني وبينها.. وأخبرتني أنهم يعاملونها كمسلمة، لأنها عربية، وأنها تسكن مع أسرة عربية مسلمة وهذا يريحها نفسياً.. وأنها تسعد بحضور ندوات ومناقشات تُبحث فيها أمور كثيرة، وقد أخبرتني في إحدى رسائلها أنها حضرت محاضرة تحدثت فيها إحدى السيدات عن الإسلام وأنه الدين الذي وقف إلى جانب المرأة وأنقذها من ظلم الجاهلية.. وبعد انتهاء المحاضرة وُجهت أسئلة كثيرة للمتحدثة.. أحسنت الإجابة عنها.. وأن أحدهم أراد أن يحرجها فقال:

- حديثك جميل ومقنع عن الإسلام، ولكن ألا تؤمنين معي أن تعدد الزوجات فيه ظلم كبير للمرأة؟

وكان رد المحاضرة أكثر إحراجاً فقالت:

- أنا أود أو أوجه سؤالاً للرجال: مَن منهم مكتف بزوجته؟!

- فلم يجب أحد.. فقالت:

- هذا يكفيني الآن وسنتحدث في المحاضرة القادمة عن تعدد الزوجات إن شاء الله تعالى.

قلت لزينب: إنهم يغضون طرفهم عن تعدد الخليلات ونتائجه المدمرة، ويوجّهون سهامهم لتشريع إلهي حكيم وُجد لمصلحة الجميع.

قالت زينب: وهكذا وجدتُ مريانا شيئاً فشيئاً تتقرب من الإسلام، تستقي من منابعه، وتجد فيه الحل لمشكلتها، ولم تكن مفاجأة لي عندما أخبرتني أنها اختارت الإسلام منهاجاً لحياتها بعد اقتناع ودراسة، وأنها ستبقى في فرنسا لتتقي المصادمة مع أسرتها.. وإن كان أبواها وافقا على اختيارها، وسجّلا باسمها معظم ما يملكانه من عقارات فهي وحيدتهما، كما أعطيا ابنها ما يكفيه، وقد سافرا إليها مراراً وأيداها بكل ما تفعل، أما ابنها فله حريته وله اختياره عندما ينضج عقله، ويكتمل وعيه، وقد فضّل اللحاق بأمه إلى ذلك البلد ليكمل تعليمه، خاصة أن أباه لم يمنحه الرعاية الكافية.

قلت: إذن لقد وجدت مريانا حلاً لمشكلتها في الإسلام، ولكن هل بقيت بلا زوج؟

قالت: بل تزوجت أخيراً من فرنسي اهتدى إلى الإسلام بعد أن بحث طويلاً عنه، فانتقل من مبدأ إلى آخر ومن عقيدة إلى أخرى ثم حط رحاله في رحاب الإسلام، وأعلن أنه وجد فيه الحقيقة التي بحث عنها طويلاً، وهو يعمل في ميدان الأدب والصحافة، أما مريانا فانصرفت إلى التدريس في مؤسسة تشرف عليها هيئة عربية إسلامية.

قلت: وبذلك حُلّت جميع المشاكل حتى مشكلة زوجها السابق أيضاً فيما أظن، فبإمكانه أن يحول علاقته المحرمة إلى علاقة شرعية.

قالت: لا علم لي بما حل بذلك الزوج وبعلاقته وما حُكم ما فعل وهل لفعله حل؟ المهم أن الله تعالى يسّر لمريانا كافة أمورها، وهي تعيش الآن حياتها مستقرة يظللها الرضى والاطمئنان وصدق الله العظيم إذ يقول:

)ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً( الطلاق 4.

وسأحدثك في اللقاء القادم ‘إن شاء الله عن أمور مرّت في حياتي ولا تزال محفورة في ذاكرتي، والآن وداعاً وفي أمان الله أنت وكل الذين يستظلون بظل رحمته سبحانه وتعالى.

 

اللقاء السادس

الأمومة رسالة المرأة الأولى. نظام الإرث هل ظلم المرأة؟

في معية الله سبحانه تهون الصعاب

قطرات المطر تضرب النافذة بشدة.. وحان موعد اللقاء بزينب فهل ستأتي؟

منذ لحظات كانت أشعة الشمس ظاهرة من خلال الغيوم، أما الآن فقد غطت الغيوم جوانب السماء.. سبحان الذي يغيّر ولا يتغيّر.. الكون كونه.. والمُلك ملكه.. والأمر أمره.. والكل عبيده يأمر فيُطاع، واستباحت قطرات المطر الأفنية والشوارع، أما التراب فهو في شوق لها وسيمتصها بسرعة ويتفاعل معها، وأما الشجيرات العطشى فقد فتحت الأكف تنتظر اللقاء بشوق ولهفة، كأنها إنسان اشتدّ به الظمأ لقطرات من الماء، وها هي تأتيه بقوة من فوق.. من ربّ السماء، فيرفع يديه ويستقبلها بشوق بينما تضيق الأفنية والشوارع ببرك المياه، كما يضيق بها العابرون والمارون، ناسين أنها رحمة من الله وأن الحياة لن تستمر على الأرض لو انقطعت عنها هذه الرحمة، فسبحان الذي جعل من الماء كل شيء حي..

وانتشلتني من متعة التأمل طرقات على الباب، إنها زينب لقد أصابها البلل وبادرتني قائلة:

- هل تصدقين أنني كلما سمعت قطرات المطر تعزف موسيقاها الرتيبة انبعث في داخلي هاتف يدعوني للخروج لكي أستقبل مظهراً من مظاهر رحمة الله، وهكذا أخرج غير مبالية بما يحدث لي.

قلت: أهلاً وسهلاً بك وإنني في انتظارك، وقد شغلني المطر كما شغلك، أما الآن فإنني على استعداد للاستماع إليك والتعرف على الأحداث التي عشتها، ولا تزالين تعيشينها في ظل الإسلام، هذا المنهج الذي تستقيم النفوس في ظله، وتجد الفطرة فيه الراحة والسلام.

قالت: أحداث مؤلمة مرّت في حياتي كغيري من البشر، سأذكر بعضها لك، وإن كان الظل الذي لجأت إليه حماني، وكان إحساسي دائماً مع ربّ قريب مجيب، يسمعني ويعلم ما بي، وهذا هوّن عليّ الألم وسهّل لي الصعب، وها أنذا أبدأ بأول حادثة في حياتي، وفاة أمي رحمها الله.. فقد كنت صغيرة. بكيت وتألمت.. صورتها لا تفارقني حتى الآن ودعواتي لها لا تنقطع أبداً، وأجد راحة كبرى عندما أتذكر أن الموت آت، وهناك سنلقى الأحبة ومنهم أمي منبع الرحمة والحب.. وبالرغم من أن أيدياً كثيرة امتدت لي وانتشلتني مما بي، ولكن يدي أمي لهما طعم خاص في نفسي، لا أستطيع وصفه ولا جدوى من الكلام فيه. ولا أنسى حنان أبي والرعاية التي أحاطني بها، ثم زواجه ممن ترعانا وتسهر على راحتنا، ولم يشغله زواجه الجديد عن الاهتمام بنا وتفقّد أحوالنا وتأمين كل ما نحتاج إليه.

قلت: هكذا يكون الراعي الذي يشعر بمسؤوليته أمام الله.. يذكّرني هذا بزميلة لي توفيت رحمها الله وتركت ثلاثة أبناء أصغرهم في الثانية من عمره وأكبرهم في التاسعة من عمره، وتزوج الأب بفتاة صغيرة إرضاء لنوازع نفسه، ناسياً واجبه نحو صغاره، وكان أن شغلته عن كل شيء، بل أكثر من ذلك كان يغار على زوجته من ابنه الكبير، ويمنعها من أن تقدم للأبناء أية معونة فلهم غرفتهم وفيها متاعهم وعليهم أن يتدبروا أمرهم. وقد ساءت أحوالهم كثيراً، لولا الرعاية الدافئة التي كانوا يجدونها عند جدتهم لأمهم كلما لجؤوا إليها ليجدوا عندها بعضاً مما كانوا يجدونه عند أمهم وأبيهم في الأيام الماضية.

قالت زينب: شتّان بين من هو عبد لنزواته وشهواته وبين من هو عبد لربه سبحانه، لقد كان أبي رحمه الله نموذجاً لعبد من عباد الله الصالحين.. فبالرغم من تعلقه بخالتي وحدبه عليها، وهذا مما كان يمكن أن يضايقني أحياناً، لولا إحساسي أنّ المودة والرحمة حق لها كما كانتا حقاً لأمي رحمها الله، بالرغم من ذلك لم يتغير شيء بالنسبة لاهتمامه بنا. وهكذا سارت بي الحياة سيرها الطبيعي دون عثرات، وأنهيت دراستي، وعملت في الميدان الذي أحببته، وتزوجت من إنسان اختارني واخترته بملء إرادتي، إنه قريب لي يعرفني وأعرفه.

قلت لزينب: هل أفهم من هذا أن ما ربط بينكما كان ميلاً عاطفياً؟

قالت: لا أستطيع أن أحدده كنت أشعر أنني سأنسجم معه وستكون بيننا مودة ورحمة وسنكوّن أسرة سعيدة. العاطفة موجودة ولكن العقل كان موجوداً أيضاً ولم يكن بعيداً.

قلت: وهل تحقق ما أحسست به؟

قالت: نعم تحقق إلى أبعد الحدود، وعشت حياة مستقرة مملوءة بالرضى بين عيادتي وبيتي.

قلت: ألم تحصل بينكم خلافات؟

قالت: هذا شيء لابد منه وخاصة في البداية، ولكن كنا نسارع إلى تسويتها ببعض التنازلات. وغالباً ما تكون من جانبي، فقد كان في طبيعة زوجي شيء من العند والتمسك بالرأي، ومع ذلك فقد كان ليناً بعيداً عن العنف، ويصل إلى ما يريد باللين ولكن لا يتراجع، وبعد أن فهمته أصبح بإمكاني أن أتكيف معه. وجاء ابني الأول وتذوقت مشاعر الأمومة، كما كان يلازمني إحساس مؤلم كلما غادرت البيت تاركة ولدي لمن استعنت بها لتحل محلي في غيابي، إنه إحساس من ترك قلبه في مكان وحلّ هو في مكان آخر، إنه شعور مؤلم لا يقدّر مدى مرارته إلا أمّ سلّمت فلذة كبدها ليد الله أعلم بما ستفعله بمن لا يستطيع التعبير ولا الشكوى، وهكذا ودون توقف توالت عليّ مشاق الحمل والولادة، وجاء بعد محمود سميّة وإسراء، وقررت أن أتوقف لفترة فقد أصبح الحمل ثقيلاً، كما قررت أن أهجر العيادة، فبيتي وأطفالي أحق بوجودي ورعايتي، ومرّت فترة وجاء طارق. وأشفقت عليّ إحدى خالاتي وجاءت لتعيش معي، بل مع أطفالي وتكون عيني التي تهتم بهم وترعاهم أثناء غيابي، وهنا تأتي حادثة أخرى مؤلمة في حياتي وهل تخلو الحياة من الآلام؟

قلت: ولكن هناك فرق بين من تؤلمه الحياة ولا سند له من إيمان بالله ورضى بما قدّر وقضى، وبين من تأتيه الآلام فيتقبلها بالصبر والرضى لأنها من عند الله، ولأنه يُثاب حتى على الشوكة يُشاكها. وقد نبّهنا مولانا سبحانه لنكون دائماً على استعداد كما في قوله تعالى:

)ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشّر الصابرين، الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون( البقرة 155، 156، 157.

قالت زينب: الحمد لله على كل حال ففي معيته سبحانه يهون الصعب، لقد امتدت يد الطغيان إلى أخي الكبير، الذي حدثتك عن سعادتي بزواجه في لقاء سابق، أخذ من بيننا في ظلام الليل وغاب عنا.. ومرت الأيام والشهور ولم ندر عنه شيئاً أهو حي أم ميت؟ أين هو؟ ماذا يفعل وماذا يفعلون به؟ ولماذا خلا بيته من أب صالح؟ لا أحد يدري؟ وكانت ضربة قاسية مؤلمة لنا جميعاً، وخاصة بالنسبة لأبي، أما أطفال أخي الأربعة فقد كانت تملأ عيونهم الحيرة والخوف، وسؤال لا جواب له: أين أبي؟.. وتحاول الأم المسكينة أن تكفكف الدمع وتقول شيئاً فلا تستطيع، لو كان الموت.. لو كان لقاء الله لهان الأمر فالموت نهاية كل حيّ.

قلت: وكيف انتهى هذا الأمر؟

قالت: إنه لم ينته وكأنه لا نهاية له، تستيقظ الآمال أحياناً بأن الفرج آت وبأننا سنراه قريباً، وتمر الأيام والسنوات ولا يحدث شيء.. إن الله سبحانه يمنح الصبر لعباده المخلصين فيصممون على الاستمرار في الحياة ولولا ذلك لانهار كل شيء، خاصة أن ما حدث لنا قد حدث لكثيرين غيرنا، وقد كانت عاصفة قاسية تلقاها أبي كما تلقى سيدنا يعقوب فقدان ابنه وردد أبي كما رددنا معه )فصبر جميل والله المستعان..( يوسف 18.

قلت: وماذا فعل أبوك رحمه الله؟

قالت: لقد حاول أن يفعل شيئاً ولكن الأبواب مغلقة، فقرر أن يسعى لإزالة آثار هذه العاصفة بعد أن قدّر لها أسوأ الفروض وهو أن لا يعود أخي أبداً.

قلت: كيف سيزيل هذه الآثار؟

قالت: لقد كانت أسرة أخي شغله الشاغل رحمه الله، وكأنه تيقّن أن هذه الغيبة لا نهاية لها، فقرر أن يفعل ما يضمن لأسرة الغائب حياة كريمة قبل أن يحين الأجل في يوم لابد آت، فقد يفقدون الجدّ بعد فقدهم الأب والموت نهاية كل حي.

قلت: وماذا فعل من أجلهم رحمه الله؟

قالت: استدعاني في أحد الأيام مع أخوي غسان وعمر، وأخبرنا أنه سيوصي لأولاد أخي الغائب بما يخص والدهم من الميراث، أراد أن يسمع رأينا في الموضوع فوافقنا جميعاً، بل طلبنا منه أن يخصهم بما يشاء من ثروته حتى لو أوصى لهم بكل ما يملك فنحن موافقون.

فرفض وأخبرنا أن نظام الإرث في الإسلام لا مثيل له في أية شريعة أخرى، وأنه نظام يقوم على العدل والرحمة، وعلى أن المال مال الله، وأن الإنسان إذا حانت وفاته، انقطعت صلته بماله إلا في حدود الثلث، فله الحرية أن يهب هذا الثلث لمن يشاء.

قلت لزينب: لاشك أن نظام الإرث الإسلامي نظام رائع، ومع ذلك هناك من يحاول أن يجد فيه مثلباً، مثل قولهم: بأن فيه ظلماً للمرأة إذ أعطاها نصف نصيب الرجل..

قالت: حاشا لله أن يظلم، بل يكفي المرأة أنه لأول مرة في التاريخ يصبح لها حق في الإرث، بعد أن كانت وما تملك ملكاً للرجل، لاشك أن الظلم يجري في قوانينهم التي وضعوها فكانت ظالمة لفئة ما، بعيدة عن العدل والحق، فمنهم من لا يورث إلا الولد الأكبر ذكراً كان أو أنثى، ومنهم من يوصي بثروته لكلب أو هرة أو راقصة، ومنهم من يحرم الأولاد والأسرة ويوصي بالثروة لجهة من الجهات، أين هذا من عدله سبحانه وتعالى.

قلت: صحيح أن الرجل له ضعف نصيب المرأة من الميراث، ولكن هو المكلف بالإنفاق عليها، فقد راعى الإسلام ناحية التكافل بين أفراد الأسرة، كما راعى الحاجة ولم يحاب أحداً، فالله سبحانه لا يضيع أحداً، الخلق جميعاً عياله، رجال ونساء:

)أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض..( آل عمران 195.

وهل تعلمين أن المرأة في حالات كثيرة تأخذ مثل ما يأخذ الرجل، فقضية النصف هي بالنسبة للأولاد كما ورد في الآية الكريمة:

)يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين..( النساء 11.

قالت: كيف؟ هل يوجد حالات تأخذ فيها المرأة مثل الرجل؟

قلت: نعم وسأذكر لك بعض هذه الحالات، وهناك من أحصى ستاً وعشرين حالة ترث فيها المرأة نصيباً يعادل نصيب الرجل أو يزيد عليه، وسأذكر لك بعض هذه الحالات:

- إذا ترك المتوفى إخوة وأخوات له من أم فهم شركاء في الثلث بالتساوي بين ذكر وأنثى.

- إذا توفيت المرأة وتركت زوجاً وبنتاً فإن البنت ترث النصف ويرث والدها زوج المتوفاة الربع فترث البنت ضعف أبيها.

- إذا ترك المتوفى أولاداً وأباً وأماً يرث الأب والأم الثلث بالتساوي لكل منهما السدس.

وهكذا تجدين أن القضية لا علاقة لها بالذكورة والأنوثة.. وإنما مبنية على عدل الخالق وحكمته في إعطاء كل إنسان ذكر أو أنثى حسب حاجته وحسب ما حمّل من أعباء، والله يعلم مالا نعمله، ونحن واثقون من حكمته، وأن منهجه خير منهج، فهو يناسب فطرة الإنسان ويمنحه سكينة الروح إلى جانب الاكتفاء المادي.

قالت: حقاً لن يجد الإنسان الراحة إلا في ظل نظام يستوعب حاجاته الروحية والمادية، والإسلام هو النظام الوحيد الشامل الذي ما ترك ناحية من نواحي الحياة إلا وسنّ لها ما يلزمها من خطط ووسائل.

قلت: ولكن للأسف الشديد لا ينفذ هذا النظام على الأرض، إلا في جوانب محدودة منه، بينما يعيش في ظلّه من آمن به وسعى إليه، وارتضاه منهجاً لكل لحظة من لحظات حياته.

قالت: أحمد الله وأرجو أن نكون من هؤلاء أنا وأفراد أسرتي، وهكذا حقق والدي لأسرة أخي حياة كريمة، وقدّم لهم كل ما يستطيع مادياً ومعنوياً، متبعاً تعاليم شريعته التي قامت على العدل والتكافل، وبعد عدة سنوات توفي والدي رحمه الله، وقد اطمأن علينا جميعاً، وودعنا وهو يردد الشهادتين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، ولا أنسى أبداً ابتسامة ارتسمت على وجهه توحي بالرضى والاطمئنان، وبالرغم من أن الموت متوقع وسيلفّنا جميعاً في يوم ما، مع ذلك كان فراقاً مؤلماً هزّني من الأعماق، لولا إيماني بأن لقاءات ستجمعنا في دار أرحب، وما الموت إلا الانتقال من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة.

قلت: مما لاشك فيه أن الموت حقيقة تواجه الإنسان في كل لحظة، ومع ذلك يتصرف البشر وكأنهم خالدون مخلدون على هذه الأرض، فكيف كان سيكون الحال لو انتفت هذه الحقيقة؟! تخيلي ذلك.

قالت زينب: ماذا؟ تريدين أن أتخيل حياة بلا موت على هذه الأرض؟ حسناً.. إنني أتخيل البشر وقد انقلبوا وحوشاً يأكل بعضهم بعضاً.. فالحمد لله على نعمة الموت.

وهكذا بعد وفاة والدي رحمه الله استمر بنا الحال، أسرة متعاونة مترابطة، تجمعنا الأخوة والمنبت الواحد والظل الواحد، وكذلك بالنسبة لأسرتي الصغيرة.. حتى جاء ذلك اليوم، وأعتبره يوم الابتلاء والامتحان الأكبر بالنسبة لي، كان يوماً من أيام العشر الأخيرة من رمضان وابنتي سمية تصوم رمضان كله للمرة الأولى، وهي طفلة في الثامنة من عمرها، وخبّرني زوجي من مقر عمله أن أخاه قد جاء لزيارته، وكان يقيم في مدينة أخرى، وتذكرت أنه يلزمني في البيت بعض الأشياء من أجل الضيف، فقررت الذهاب لشرائها، وأسرّت لي سمية أنها تود الذهاب معي، فالمدرسة طالبتها ببعض المستلزمات وعليها إحضارها، وأذنتُ لها، وغمرتها الفرحة وانطلقت لتنتظرني في الخارج، ريثما أكمل استعدادي. وخرجت لتفاجئني ضوضاء وتجمّع على الدرج، ولا أدري كيف استوعبت الخبر، لقد سقطت ابنتي وهي تنزلق فرحة على سياج الدرج.. وارتمت أمام أحد أبواب الجيران.. وحملها الجار إلى المشفى القريب.

قلت: يا الله ما أصعب هذا الموقف!.. وماذا فعلت؟.. إنني أرى الدموع تسيل من عينيك الآن بلا بكاء..

قالت: لم أفعل شيئاً، دموع حارة سالت من عيني كما تسيل الآن، وكما تسيل كلما تذكرت، وهرولت ناحية المشفى، ووجدتها في غرفة الإنعاش، وقد تحلّق حولها الأطباء، ودخلت ووضعت يدي على جبهتها الباردة، كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة.. قطرات من عرقها لامست يدي.. خصلات شعرها الأشقر بدت مبتلة، زرقة لوّنت جانب رقبتها، أغمضت عينيها.. وانتهى كل شيء.. ركعت إلى جانبها وأمسكت بيدها وتمنيت أن أبقى هكذا إلى مالا نهاية.. وخيّل إلي أنها همست لي: صبراً سنلتقي غداً في الجنة.. لقد فتحت الجنة أبوابها.. وكانت دائمة السؤال عن الجنة وأحوالها، ومتى ستفتح أبوابها؟.. ومتى سنشرب من كوثرها؟ وها هي تذهب إليها صائمة ظمأى.. واحتضنها أبوها ورأيت الدموع في عينيه.. وهمس:

إنني لا أصدق..

وهمست: سيكون لقاؤنا في الجنة إن شاء الله تعالى.

وقال أحدهم: صبراً ستكون لكما ستاراً من النار يوم القيامة إن شاء الله.. وكما قال سبحانه:

)واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين، الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون( البقرة 45.

قلت لزينب: لاشك أن الأمر في غاية الصعوبة، وخاصة عندما يكون فراق الأحبة مفاجئاً لنا.. ولكن من صبّر نفسه صبّره الله.

قالت: لقد كان الأمر فوق احتمالي.. عندما حملوها إلى مقرها الأخير ورأيت الدموع في عيون إخوتها، أحسست أن ناراً اشتعلت في صدري.. شعور ما عرفته من قبل.. فقد فقدتُ الأم والأب والأخ.. ولكنها فلذة كبدي.. وصبّرت نفسي، وتذكرت أن اللقاء آت لا ريب فيه، وفي معيته سبحانه تهون الصعاب، والآن أقول: الحمد لله الذي أمدّني بنعمة السلوان، وأعانني على الصبر.. وقد لازمني في مصيبتي وعده سبحانه:

)ومن يتّق الله يكفّر عنه سيئاته ويُعْظِمْ له أجراً( الطلاق5.

وقد جنيتُ خلال ذلك ثماراً كثيرة أهمها الاطمئنان والرضى.

قلت: شتّان يا عزيزتي بين من ناداه ربه فلبّى وأطاع، وبين من سمع النداء فنفر واستعلى، وشتّان بين من يجني في معارك الحياة الاطمئنان والرضى، وبين من يجني الخوف والتوتر والقلق.. هناك من يلجأ إليه سبحانه ملتمساً منه العون والرضى فيرضيه ويعينه، وهناك من يواجه الدنيا منفرداً فيتهاوى بين يدي طبيب نفسيّ لا يملك من أمر نفسه شيئاً.. أو في وادي اليأس والضياع فلا يجد منفذاً للنجاة إلا الانتحار.

قالت: إنه فضل القرب منه سبحانه، وكلما ازداد قرب الإنسان من ربه هانت عليه الصعاب، وجنى ثمار التقوى فانحلت مشاكله واطمأن قلبه، وقد لاحظت كما لاحظ الجميع أنني أقدر على التحمل من زوجي.. ترى هل المرأة أكثر صبراً من الرجل؟.. لا أدري.. فكثيراً ما لاحظت دموعاً في عينيه وكثيراً ما سمعته يردد:

"إنني لا أستطيع أن أصدق، ولا أحتمل أن يضم التراب من كانت زهرة يانعة تملأ البيت ضحكاتها وأسئلتها.. كيف.. كيف يضم القبر من كانت حركة مستمرة لا تستقر ولا تهدأ إلا عند النوم؟"

فكنت أخفف عنه وأذكره برحمة الله وحكمته.. وأن ابنتنا ليست في القبر ولا في التراب، إنها إن شاء الله طائر يغرد في جنبات الجنة مع أطفال آخرين استضافهم المولى عز وجل في رحابه.. فكان يهدأ.. والآن لقد أطلت عليك وأثقلتُ عليك وعلى نفسي.. أستودعك الله وإلى لقاء قادم بإذن الله تعالى.