بعض من ذكرياتي (1)

د عثمان قدري مكانسي

بعض من ذكرياتي (1)

بقلم : د عثمان قدري مكانسي

من مواليد 1947تشرين الأول من أبوين أدين لهما بما علماني وربياني من معين الخلق الإسلامي ، رحمهما الله تعالى ، وجعلهما في عليين.

كان مسقط رأسي في حلب الشهباء،  حي المغاير ،فكل بيت فيه مغارة طبيعية كان أجدادنا يخزنون فيها مؤونة الشتاء في الزاوية الأعمق الباردة ويبيّتون حيواناتهم في الطرف الأعلى

وانتقلنا إلى منتصف المدينة ومركزها،  وأنا في التاسعة من عمري ، وكنت أكبر إخوتي ، وكانت دارنا مطلة على سطح اسواق المدينة المشهورة بسقوفها العالية المتصلة من باب أنطاكية إلى سوق الزرب ،مرورا بالسقطيّة والعطارين ، وكنت أرى من ساحة البيت  سطح  القبلية  الضخمة للجامع الأموي الكبير في حلب ،وجزءاً كبيرا من ساحته الخارجية ، وكان الأذان حين يصدح به المؤذنون في الأوقات الخمسة يملأ الدار ، فالمئذنة قريبة منا ، وما أجمل أن يكون المسجد الجامع المكان المفضل لصلاتنا!!

يظن الناس أنني " مشاغب " فقد تنقلت في المرحلة الابتدائية بين مدارس اليرموك في الكلاّسة والوحدة العربية في حي الجلوم والعرفان في سوق " المحمص" والحمدانية قرب باب القلعة ، مع أنني كنت الثاني في الترتيب في الصف الثاني ،وكنت الأول في الصف الثالث والرابع في الصف الرابع ، ولعل كثرة حركاتي في فترة الطفولة وسرعة الإجابة مع حدتها يوحي إلى الإدارات أنني كذلك.

أما المرحلة الإعدادية ففي مدرسة " إسكندرون في حي العقبة، بين باب الفرج وباب الجنائن، ولعلي في هذه المرحلة شعرت باستقرار شخصيتي واستقلالها ،

درست الأول الثانويّ في ثانويّة "هنانو"  قرب القلعة وحي القصيلة ، والسنتين الأخريين في ثانوية " المأمون " في حي الإسماعيلية .

كان والدي رحمه الله تعالى من الأغنياء حين كنت في الابتدائية ، ثم فقد كل ما يملك حتى افتقرنا لرغيف الخبز، إذ ابتلاه الله تعالى بشركاء نصابين أكلوا ماله، ونجح في الابتلاء ،فلم أكن أسمع منه سوى قوله "حسبي الله ونعم الوكيل" فعشنا زهاء عشر سنوات في فقر مدقع، لكن الله تعالى منّ علينا بالصبر والإيمان ، فتجاوزنا هذه المحنة ونحن أسرة متماسكة مؤمنة ، وكان للوالدةرحمها الله تعالى أبلغ الأثر في تربية أبنائها ،إذ كانت مثقفة ،لبيبة شاعرة تروي القصة بدقائقها،  وتصورها تصويرا حيا كأنك ترى الأحداث ، وتعايشها.

كنت أعمل في حرفة الوالد ـ صناعة الخيش ـ حتى خمس عشرة يوما قبل امتحان الشهادة الثانوية، لنؤمّن القدر الأقل من مستلزمات الحياة لأسرة كبيرة ، وسألت والدي ـ غَيرةً من زملائي العاكفين على الكتب ـ أن يسمح لي أن أعود للدراسة والتحضير ، فقد يفتح الله عليّ فأنجح في الامتحان ، ولو نجحت في الامتحان فلن أجمع من الدرجات ما يؤهلني للدخول إلى الجامعة،ـ  هكذا كان الوالد يفكر ـ إلا أن عاطفة الأبوّة دفعته أن يدعني وما أردت،  وهو يدعو لي بالتوفيق , على أن تكون الدراسة في الدكان،أرد على المكالمات الهاتفيّة ، وأرتب المواعيد، فقد كنا نعمل لحساب التجار الآخرين، وليس بين أيدينا رأس مال  نعتمد عليه في بيع أو شراء ،

كنت أسهر الليل كله أركز فيه على ما فهمته في أثناء العام الدراسيّ ، ثم أصلي الفجر ، وأنام قليلا ثم أذهب إلى قاعة الامتحان تشيعني دعوات والديّ الحبيبين رحمهما الله وأجزل لهما المثوبة، فقد كانا نبعاً من حنان ومثالاً للتضحية ، جاء الوالد مرة ليلة العيد ونحن صغار بحلوى ، فقسمها بيننا، ولم يترك لنفسه نصيباً ، فقالت له الوالدة : يا ابن خالتي ـ فأمُّ كليهما خالة الآخرـ ِلمَ لَمْ تأخذ نصيباً؟ قال: فرحتي بهم يأكلون ويفرحون ألذ إليّ وأطيب ، ولسوف يتركون شيئأً فآكله. فكانا ينظران إلينا فرِحَيْن حتى انتهينا، فنام الجميع فأكلا. لم أفهم ما قاله إذ ذاك ،لكن صورتهما وحديثهما هذين أخذا مكانهما في ذاكرتي صغيراً،حتى فهمتهما كبيرا . ما لعينَيّ تدمعان وقلبي يزداد وجيبه كلما ذكرتهما؟!  اللهم ارزقهما الفردوس الأعلى ، وجنات النعيم.

انتهت أيام الامتحان ، وقلبي يميل إلى أنني من الناجحين ،دون أن يجزم بذاك،وأنّى لي أن أعلم الغيب ؟ لكن الأسى والحزن يعصفان بهذا القلب الضعيف كلما تذكرت أن الدرجات التي قد أنالها لا تؤهلني لدخول الجامعة ، ولئن أهّلتني ـ وهذا احتمال بعيد ـ من أين أدفع قسط التسجيل في الجامعة على ضآلته؟ يا رب رحماك،، رحماك يارب.

وجاء اليوم الموعود لظهور النتائج ، وانطلق الطلاب إلى جريدة الجماهيرـ ليعرفوا ما يكون ، فكنت ترى وجوهاً مسودّة كئيبة ، ووجوهاً ضاجكة مستبشرة ـ وهذا نجاح أو رسوب دنيويٌّ يمكن تجاوزه في سنة قادمة، فماذا يفعل الخاسر في الآخرة؟!! وليس له من رجعة!! وكنت جالساً في الدكان والجرائد تمر من أمامي ، وبائعها ينادي  " أسماء الناجحين والناجحات" ويكرر النداء... ، وأنا لا أجرؤ أن أشتريها أو أنظر فيها، أو أقول لأحد ابحث عن اسمي. 

مرت ثلاث ساعات على الأقل وأناعلى هذه الحال، ثم انتفضت انتفاضة اللديغ ، أمشي في سوق الخياطين المجاور، لا ألوي على شيء، فرأيت أحدهم يتصفّح الجريدة، ويقلبها بهدوءِ مَن يطّلع دون أن يعنيه ما يقرؤه، فتقدمت منه بهدوء مشوب بالخوف والرجاء، فنظر إليّ يقول أأنت من هؤلاء؟ لم أستطع أن أجيبه ، فعاد إلى  الصفحة فقلبها لأرى اسم مدرستي في الصفحة التالية فوراً، وخفق قلبي خفقانا سريعاً ،  ودارت الدنيا بي ،

يا الله هذا اسمي في أول السطر ،رأيته سريعا، فحبره ـ لأنه أول الأسماء ـ غامق، يريك نفسه دون بحث وعناء، وتركت الدكان إلى البيت ـ وقد كان قريباً جدا ـ أبشري أمي ، أبشري،لقد نجح ولدك، وقبلت يديها ورجليها، واحتضنتني كطفل صغير بين ذراعيها ، بل أنا طفل بين يديها في كل آن وحين ، ولئن كبرت وصرت رجلاً إن سعادة الدارين تحت قدميها. وكانت فرحة الوالد أعمق من البحر وأعلى من الدِيَم ،

 لا أدري لماذا يتبرع الثقلاء بالتشويش على الفقراء والدراويش الذين يريدون أن يكونوا بشراً،  يشقون طريقهم في هذه الحياة؟ ولماذا تكسير الأجنحة ، وتوهين العزائم؟! ما الذي يستفيدونه من إيذاء المشاعر وإيغار الصدور؟!لقد كان مجموع الدرجات يؤهلني للدخول إلى الجامعة, فلماذا لا أفعل إن استطعت؟!

بدأ تسجيل الرغبات في الجامعة، ومضى يوم إثر يوم ، وأنا أضرب أخماساً بأسداس، فالتسجيل يحتاج خمسين ليرة ، وهذا المبلغ ـ على تفاهته ـ عزيز، وقد باعت الوالدة أواني عرسها ـ العزيزة عليهاـ بثمن بخس دراهم معدودة لم تفِ بالغرض ، وبقي يوم أو يومان لانتهاء التسجيل وكادت الفرصة تضيع عليّ ، وأجلس حزيناً تظهر الكآبة عليّ ، بل أنا الكآبة بعينها في حانوت جدي ـ والد أمي ـ فيسألني : هل بدأ دوام الطلاب في الجامعة؟ فأقول : لا أدري . فيتعجب من جوابي الباهت ويقول : متى دوامكم إذاً؟ فأسكت ، فيفهم القصة من عنوانها، فينعتني بأ.....الصفات ، ويسبغ عليّ من صفات ذوات الأربع!! ما ترتاح لها نفسه ، ويعطيني مئة ليرة لأذهب سريعا إلى الجامعة،فأسجل خياراتي ، وأولها اللغة العربية وآدابها،   ولأكون في يوم من الأيام مع إخواني الأدباء ـ إن صح أن أكون أديباًـ خادما للقرآن ولغة القرآن، أعيش لديني ، وأموت لديني