من مذكرات طبيب مسلم مغترب (1)

من مذكرات طبيب مسلم مغترب (1)

د. محمد حكمت وليد

(1)

دعوني أحدثكم يا إخوتي عن شاب عرفته من زمن.. كان ولا يزال صديقاً لي أثيراً إلى نفسي، أحببت فيه استقامته ونزاهة خلقه ورجاحة عقله رغم أنه لا يزال في مقتبل العمر، لم تغز بعد جحافل الشيب شعره الأسود، ولم ترتسم بعد تجاعيد السنين على محياه، وإذا سألتموني ما اسمه فلن أضنّ عليكم بهذا، لأنني أعتقد أنه سيكون صديق كل واحد منكم، يحبه كما أحببته، ويقدره كما قدرته.

صديقي هذا يدعى "أمير مؤيد العظم" شاب دمشقي، أسمر اللون، أسود العينين عالي المنكبين، لوحتُه شمس سورية التي تطل من سماء دمشق اللازوردية وكأنها زورق ذهبي يبحر في عباب من الزرقة اللامتناهية، في عينيه تصميم وعزم، وفي قسماته شموخ يطاول شموخ قاسيون، ولكن في طباعه دماثة، وفي خلقه حلاوة، دماثة استمدها من بساتين دمشق الغنّاء، وحلاوة أخذها من غوطتها الساحرة وبرداها العذب، يجري فيروي أوصال التربة الظامئة، ويبرد من لهيب الأشجار الخضر الناضرة.

كان أمير هذا زميل الحداثة والصبا، جلسنا معاً على مقاعد الدراسة أطفالاً صغاراً ثم انتقلنا إلى ثانوية "جودة الهاشمي" يافعين ندرس معاً، ونلهو معاً، وطالما رافقتنا صداقتنا في نزهة قصيرة نقوم بها معاً على ضفة نهر بردى نتبادل فيها الأحاديث التي لا تنتهي، ولست أدري اليوم، ماذا كان يجول في عقولنا الصغيرة في تلك الأيام البعيدة وأياً كان ذلك فلا أزال أذكر إلى الآن تلك الأيام وأستروح من ذكراها الراحة والأنس.

كانت التكية السليمانية تواجه مدرستنا على الضفة الثانية من النهر، وكان موعد لقائنا دائماً يوم الجمعة قبيل الصلاة، حيث اعتدنا أن نؤدي صلاة الجمعة في صحن المسجد الخارجي جالسين على البسط الممدودة حول البحيرة الصغيرة في وسطه، مصغين إلى المؤذّن يردد أن لا إله إلا الله، فتتجاوب له جنبات المكان.. متخللاً ذلك خرير نافورة المياه وسط البحيرة الجميلة التي تعكس أشعة الشمس.. وإذا النفس في إلهام سماوي عجيب.

كنا صديقين ساعتها.. وكان صديقنا الثالث هو المسجد الجميل يطل علينا بمئذنته الرشيقتين السامقتين في الفضاء تناجي إحداهما ربها قائلة أشهد أن لا إله إلا الله.. فتجيبها الأخرى وأشهد أن محمداً رسول الله، في ترنيمة أبدية لا تنتهي، أما قبته الجميلة فقد تربعت بين المئذنتين السامقتين وقد تناثرت من حولها القباب الصغيرة الأخرى في هندسة معمارية أخاذة وكأنها أم ترعى أطفالها الصغار في حنان ورعاية.

ومضت السنوات سراعاً، وصلنا بعدها إلى نهاية الدراسة الثانوية، وشاء لي القدر أن أنتسب إلى كلية الآداب، أما هو فقد انتسب إلى كلية الطب وحلمه الكبير أن يصبح أخصائياً شهيراً في أمراض الأنف والأذن والحنجرة، ولست أدري ماذا كانت فلسفته وراء ذلك، ولكني أعرف أن والده رحمه الله قد توفي عقب نزف شديد من حلقه، ولعل ذلك قد ترك انطباعاً عميقاً في نفسه جعله يختار هذا الفرع من الاختصاص الذي ليس هو بالمقصود كثيراً بين جمهور الأطباء.

وخلال دراسته الجامعية.. نضجت شخصية أمير، وكان ظله محبوباً من كل أساتذته ورفاقه، كان أمير ذكي الفؤاد مرهف الحس، طيّب القلب من غير بلاهة، متديناً بطبعه من غير دروشة، لم يحاول إيذاء أحد من الناس، ولكن قلّ من يستطيع أنْ يستغله أو يؤذيه، وكأني به يتمثل قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لست بالخب ولا الخب يخدعني".

كان يحبّ المطالعة والبحث، وأجمل ساعات فراغه هي التي يقضيها في المكتبة الظاهرية في دمشق القديمة يجول ببصره وخاطره في الكتب المنمّقة، يقلب في صفحاتها خواطر الأجداد ونوابض قلوبهم، وربما جرته قدماه في مناسبة أخرى إلى المركز الثقافي الألماني أو الفرنسي اللذين يطلان بشرفاتهما الفخمة على أحداث شوارع العاصمة السورية وأجملها، وهناك كان يقضي الساعات الطوال متابعاً ما كان يجري هناك من مناقشات ومحاضرات، مسروراً حيناً، غاضباً أحياناً أخرى، ولطالما دخل مع رفاقه في مشادات فكرية عنيفة.

لم يُنكر أمير أن على مجتمعنا الإسلامي المعاصر أن يتطور، ولكن في عقله الغضّ الناضج كان هناك فرق كبير بين: هضم وتمثل لحضارة قوم سبقونا ردحاً ليس بالطويل في عمر الزمن، وبين تقليد قردي أعمى وانجذاب انعكاسي ساذج لكل ناعق شرقاً وغرباً، ونادراً ما كان أمير يفقد أعصابه في غمرة النقاش، أو يتعصب لرأيه تعصباً أعمى، ولكنه كان يقارع الحجة بالحجة في منطق هادئ يحسده عليه الكثيرون.

وقضينا في الجامعة وقتاً طويلاً.. وبينما كنت أجول في صحبة المتنبي وديوانه، وأستمع إلى الجاحظ يحدثني عن نجلائه، وإلى المعري يقصّ عليّ أحاديث جنته وجحيمه كان هو يجلس بين مناضد التشريح ومخابر العقاقير والأدوية دارساً متأملاً منبهراً من عظمة الخالق وبديع خلقه.

ودار الزمن دورة، وإذا أنا في حفلة صغيرة جميلة أقامها في بيته يحتفل بتخرجه من كلية الطب، .. الله .. ما أجملها من سويعات هنية تلك التي مرّت كحلم شارد، كانت أمه تغدو وتروح مزهوة بابنها الوحيد التي سهرت لياليها ترعاه، وقضت أيامها تثقفه وتهذبه، ولطالما داعب أجفانها حلم جميل أن تراه أمامها طبيباً شاباً يسرّ قلبها ويملأ ناظريها. ودار الزمان دورة ثانية، وإذ أنا في حفلة خطوبته على ابنة عمه هدى، كان يوماً حاراً من أيام دمشق القائظة، وأقداح البرتقال تدار في فناء بيتهم الذي تظلله عرائش الياسمين، وقد اصطفت الكراسي في وسطه حول فسقية بديعة، زينتها بنقوش زاهية أنامل فنان دمشقي قديم.

كنت أرقب ما يجول بعين ملؤها السعادة والرضى، وإذا بأمير يأتي إليّ ويقول: أتذكر يا محمد عندما حدثتك يوماً عن أمنيتي في أن أصبح طبيباً مختصاً في الأنف والأذن والحنجرة؟.. قلت: نعم. قال: فإني قد عقدت النيّة على السفر إلى بريطانيا للاختصاص إن شاء الله، وقد قبلت في جامعة لندن، وأرجو من الله تعالى أن ييسر لي أمري ويحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي، وأنت تعلم أن حظي من اللغة الإنجليزية ليس بالذي أحسد عليه. ورغم أن ذلك كان صدمة لي وحرماناً من صحبة أمير ولو لسنين من عمر الزمن، لكني تحاملت على نفسي، وكظمت ما في قلبي، وقلت له وبسمة تعلو شفتي سر على بركة الله يا أخي، وليكن طلب المعرفة رائدك، ورضى الله غايتك ومطلبك، وليجعل الله لك من القرآن نوراً، ومن خشية الله خير مراقب وخير نصير ولكن لي أمنية واحدة يا أخي حبذا لو تحققها لي.

- على الرحب والسعة يا أخي.. وما هي؟...

- أن تكتب لي بين الفينة والأخرى ما يجول بفكرك وخاطرك عن تصوراتك وانطباعاتك عن البلاد التي تزورها، والناس الذين تعاشرهم، فإن ذلك مما يسرّ قلبي ويشرح صدري.

ووفّى أمير بوعده...

وكان البريد يحمل إليّ بين الفينة والأخرى رسائل تفيض بالأمل والإيمان، رسائل إنسان مسلم صدمته الحياة في لندن بعنف، ولكنها لم تفقده توازنه، بهرته أنوارها ولكنها لم تعميه عما تخفيه من ظلام.. رسائل إنسان غريب، تفيض بالاستجابة والتحدّي.. والقبول والرفض، ولعل قراء الغرباء سيجدون فيها متعة وأُنساً كما وجدت..

فإلى اللقاء مع أمير في العدد القادم بإذن الله.

(2)

انقطعت أخبار أمير عنّي فترة من الزمن، تاقت فيها نفسي إليه، واشتقت إلى حديثه الطلي الجذّاب، وذات صباح حمل إليَّ البريد رسالة منه تقول:

أخي محمد..

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

معذرة لتأخري بالكتابة إليك، ولكن منذ أن حطّت قدميّ بلاد الإنكليز، أحاطت بي الكتب إحاطة السوار بالمعصم، واشتغلت بالدراسة حتى ملّت نفسي واشتاقت إلى النزهة والترويح. قضيت في جامعة لندن أشهراً ثلاثة، حضرت خلالها إحدى الفصول الدراسية. قررت بعدها الانتقال إلى مستشفى أمراض الأذن والأنف والحنجرة في برمنغهام.

كان موعد سفري مساء السبت الأخير من شهر تشرين الثاني، فقررت زيارة بعض معالم لندن قبل أن أغادرها، وقصدت دار البرلمان البريطاني الشهير، وكان ذلك في صباح ذلك اليوم الذي قررت فيه مغادرة لندن، حملني قطار الأنفاق عبر الدهاليز المظلمة من إحدى ضواحي لندن حيث أسكن مع عائلة إنكليزية إلى محطة وستمنستر في قلب المدينة، ووجدتني أتجول متمشياً على ضفة نهر التايمز.

كان هذا اليوم على غير عادة أيام لندن في مثل هذا الوقت من كل عام، فالشمس ساطعة وكأنها حسناء خفرة من خلال الضباب المتكاثف أطباقاً في كبد السماء، ولكن يبدو عليها اصفرار، وفي عينيها أمارات الجزع لأنها تعلم أن عهدها لن يطول.. وأن جيوش الضباب لن تلبث أن تتكاثر ثانية ملقية بها في أحضان الوحدة الموحشة، وأياً كان فقد استأنست نفسي بدفء الأشعة الذهبية التي طال غيابها، ولم تلبث أن هبّت نسمة باردة من جهة الشمال، فدسست يدي في جيوب المعطف السميك وتابعت المسير.

كان دار البرلمان الإنكليزي، أو كما يحلو للإنكليز أن يسموه –أبو المجالس النيابية في العالم- يطل على ضفة النهر وإلى جانبه تبدو كنيسة وستمنتسر، وخلفهما احتلت الأفق بعض العمارات الحديثة الأمريكية الطراز، وكان نهر التايمز يجري متدفقاً غزيراً وبين الفينة والأخرى كانت تقطع الجسر قوارب سياح ملونة مزينة جاءت تتهادى في خيلاء تملأ ناظريها من هذا المنظر الجميل.

كان العلم الإنكليزي وقتها يرفرف فوق مبنى البرلمان مشيراً إلى أن جلسة المجلس النيابي في حالة انعقاد، وأن النواب يناقشون في هذه اللحظات أمور الساعة، كان العلم بخطوطه الحمراء والزرقاء المتقاطعة يثير في نفسي عواطف شتى متعددة وخواطر متضاربة، أليس هذا هو العلم الذي كان رمز الاستعمار في العالم إلى عهد ليس بالبعيد. أليس هو الرمز الذي بقي شعبنا يئن تحت نيره سنوات وسنوات في بلاد الرافدين وفي مصر والسودان، كم هي ذكريات أليمة تمرّ بخيالي كأبشع كابوس يحلم به نائم، ولكن أليس هو الرمز الذي يسعد أهله تحت ظله.. وينعمون في أرجائه بحرية الرأي والضمان الاجتماعي والتأمين الصحي؟.. ألم تتقدم التكنولوجيا في ربوع هذه البلاد، وتتفجر فيها الثروة الصناعية التي قلبت الموازين في العالم المعاصر.

كنت أحدّث نفسي بهذا وأقول إن الإنسان في هذه البلاد يعيش معززاً مكرماً في حماية القانون، يأخذ منه حقوقه كاملة ويقوم بواجباته هكذا في تناغم وتساوق، أليست هذه هي قمة السعادة في الحياة؟.. أليست هذه هي المدينة الفاضلة التي حلم بها أفلاطون؟.. لقد جلس فيها الناس يشرعون لأنفسهم حسب أهوائهم ورغباتهم واحتياجاتهم في جو ديمقراطي، تخضع فيه الأقلية لرأي الأكثرية.

وما زالت قدماي تنتقلان بي من مكان إلى آخر حتى دقت ساعة بغ بن مشيرة إلى أن الساعة قد قاربت السادسة مساء، وكان قد بقي لموعد القطار ما يقرب من الساعتين جلست بعدها على أحد المقاعد العامة، وقد أخذ مني التعب مأخذه، جلس بقربي شاب يبدو من زرقة عينيه وقسمات وجهه أنه إنكليزي، نظراته ساهمة وقد أجلس في حضنه كلبه المدلل يلعق أصابعه، ويحرك ذنبه في جذل ذات اليمين وذات الشمال.

وعلى عادة الإنكليز بادرني بالحديث مشيراً أن الطقس جميل ومنعش في هذه الأمسية وبالطبع لم يجد صعوبة في إقناعي بذلك، كما لم أجد صعوبة في إقناعه بأن الطقس الإنكليزي هو أسوأ ما في هذه البلد، هزّ رأسه موافقاً ولكنه أضاف:

- في اعتقادي أن أزمة البطالة التي نعيشها اليوم والتقلبات الاقتصادية التي تعصف بالبلد هي بلا شك أسوأ من تقلبات الطبيعة التي ألفناها وأصبحت جزءاً من حياتنا.

- وهل أنت عاطل عن العمل؟..

- نعم منذ تسعة أشهر.

- وكيف تنفق على نفسك الآن؟..

- إنني لا أنفق على نفسي فقط وإنما أعيل زوجتي وطفلاً في الثانية من عمره، وأنا أتلقى بدل العطالة عن العمل من مكتب الخدمات الاجتماعية.

كان الوقت عندها يمر سريعاً، ولم يبق لموعد القطار سوى ساعة واحدة فاستأذنت محدثي بالانصراف، وتركته جالساً في استرخاء وتوجهت إلى محطة القطار.

وخلال طريقي عادت نفسي تحدثني ثانية.. ألا يعيش هذا العاطل عن العمل في نعمة حقيقية، ألم يكفه مجتمعه ذل السؤال ويحْمِ طفله من الجوع والحرمان، أليس البشر قادرين على التشريع لأنفسهم ومعرفة مصلحتهم واحتياجاتهم.. وتجاذبتني هواجس شتى أقلقت فؤادي وأغمّت نفسي، وسرح بي الخيال، وهاجت بي الذكرى، فذكرت أمي ودمشق.. وبردى والتكية السليمانية.. وتذكرتك يا صديقي..

ألا تذكر يا أخي نقاشنا مع أحد الشيوعيين يوماً وقولك له أن مصلحة البشر متضمنة في شرع الله كما أنزل الله وكما بلغه عنه رسول الله، وأن سعادة البشر تنشأ من التصور الإنساني السليم لحقائق العقيدة من مصدرها الرباني، يكيّفون بعد ذلك على أساسها تعاملهم مع الكون ونواميسه ومع الأحياء وعوالمها، ومع بعضهم بعضاً تعاملاً يستمد أصوله من دين الله الحنيف.

وانتبهت فجأة أن قطار الأنفاق قد وصل بي محطة القطار يوستن التي سأغادر منها لندن إلى برمنغهام، وكانت محطة القطار هذه أنيقة نظيفة وأحسب أنها حديثة البناء، والناس مزدحمون فيها كأنهم في يوم الحشر، بين مسرع يريد اللحاق بقطاره، إلى واقف ينتظر إعلان موعد سفره، ولاحت لي في الأفق البعيد لافتة كهربائية تشير إلى غرفة للطعام فجلست هناك هنيهة أقضي ما تبقْى من الوقت بتناول كأس من الشاي، كانت المقاعد مزدحمة وكم كنت سعيداً عندما صادفت مقعداً خالياً منزوياً أجلس فيه.

وما إن بدأت الرشفة الأولى حتى دخل القاعة رجل تبدو عليه أمارات الإعياء، يتلعثم لسانه بكلام متقطع غير مفهوم، انتفخ وجهه واحمرّت عيناه وبدا جلياً من مظهره أنه عاقر بنت الحان حتى ذهبت بلبّه، فجاء مخموراً يتطوح ذات اليمين وذات الشمال، وقف وسط القاعة يتأمل الحاضرين بنظرات زائغة، واختار أن يجلس بجوار فتاتين كانتا تتناولان بعض المرطبات، جلس أمامهما يتغزل بمحاسنهما في حالة امتزج فيها الهذيان بشيء من الهياج العصبي، فما كان من الفتاتين إلا أن غادرتا المكان دون أن تنبسا ببنت شفة، وعلى وجهيهما أمارات الامتعاض، فما كان من صاحبنا إلا أن قام من مقعده وجلس أمام رجل آخر يحدثه عن إعجابه بمباراة كرة القدم التي شاهدها صباحاً، وكان من نصيب المسكين أن يغادر القاعة على عجل أيضاً.

وما هي إلا بضع دقائق حتى وجد صاحبنا نفسه محاطاً بمقاعد فارغة من كل مكان فانتصب قائماً، ودخل من الباب المؤدي إلى مطعم المحطة، ولم يكن يفصل بين المكانين إلا حاجز من الزجاج، فجلست أرقب ما يجول بعين ملؤها الغيظ من جهة والإشفاق من جهة أخرى، وجلس المخمور عند إحدى الطاولات وتناول قائمة الأطعمة، وعندما حضر النادل لخدمته وقف أمامه والقلم بيده يكتب ما يطلب بكل أدب، ذهب النادل مسرعاً وقعد المخمور يحلم بالأطباق الشهية، وما هي إلا دقائق معدودة وإذا باثنين من رجال البوليس يدخلان المطعم، وبعد مقاومة بسيطة أجبراه على مغادرة المكان، واصطحباه إلى سيارة البوليس كانت منتظرة خارج المحطة.

كان الناس ينظرون إليه يمشي بين ضابطي البوليس بعيون متحجرة اختلط فيها عدم المبالاة بعدم الانفعال، وكأنهم أمام مشهد عنف في أحد أفلام الإجرام الأمريكية.

أتعلم يا أخي.. والله شعرت بالأسى لمنظر هذا الإنسان وهو يساق بادي الإعياء ميت العزة، مهدور الكرامة كقط بريّ قلمت أظفاره، بين رجلي البوليس اللذين اضطرا أن يعاملاه بشيء من الغلظة والخشونة لما بدا على سلوكه من علامات الميل للعدوان.

وعندما كان القطار يقطع بي المسافات قاصداً برمنغهام مرّت بخاطري حوادث يومي هذا كشريط سينمائي متواصل، إن المجتمع الذي أعطى هذا الإنسان كرامته عندما كفته ذل السؤال، هو نفسه الذي جرده من الكرامة ذاتها عندما أباح له اللذات الحرام، وأباح لغرائزه الدنيا أن تنطلق معربدة في دنيا شهوات، إنَّ شرائع البشر مهما سمت فستظل عاجزة عن إدراك الحقيقة العليا، وستظل أسيرة الهوى البشري، وإن شريعة الله هي الشريعة المثلى للبشر.

قال الله تعالى: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير).

(3)

كتب إليّ أمير في إحدى رسائله يقول:

أخي الحبيب محمد..

كلما طالت إقامتي في هذه البلاد، اشتاقت نفسي إلى سورية الحبيبة وإلى ربوعها الوارفة الظلال، ولا أكتمك يا أخي أنَّ الطبيعة هنا جميلة وخلابة، ولكن عبير الغوطة قد امتزج بدمي، وذكريات الشام الحبيبة تتردد في مسامعي وخلدي وكأنها قطعة من نفسي وفلذة كبدي، إنها حاضري وتاريخي القريب والبعيد، ألا ما أضيع الإنسان بدون تاريخ، وعلى ذكر التاريخ فإنني سأحدثك اليوم عن مشاهداتي في واحدة من أجمل مدن بريطانيا وأعرقها تاريخاً.

هناك في أقصى الشمال تنام أدنبرة على شاطئ البحر في تراخ ودلال وفي عينيها ذكريات تاريخ طويل، ولا أحسب أنه يعكر نومها الهنيء هذا سوى هبات رياح باردة تأتيها متدافعة مع أمواج بحر الشمال فتلفعها برداء ضبابي غامض له سحر الأساطير.

شددت إليها الرحال منذ شهور خلت، وذلك لحضور ندوة علمية عن أمراض الأذن عقدت في الكلية الملكية للجراحين، والحق يقال أن للقوم باعاً طويلاً في هذا المضمار، وقد أمضيت هنالك يومين حافلين، جال فيها المحاضرون في دهاليز الأذن ومتاهاتها وأمراضها يوسعونها استكشافاً وبحثاً ودراسة، وكجزء من البرنامج طاف بنا المؤتمرون في ربوع البلدة يعرفوننا على معالمها.

وقد كان مرافقي طبيباً اسكوتلندياً من مدينة ابردين، طويل القامة، أشقر الشعر، أزرق العينين، تبدو في قسماته ملامح العرق السكسوني الأصيل، كان يتكلم الإنكليزية بلهجة اسكوتلندية حادة جعلتني لا أفهم الكثير مما يقول، وعلى كل فقد كان دمثاً، حلو المعشر ولكنه متعصب لاسكوتلنديته بشكل مثير، وهو مستعد لأن يقضي معك الساعات الطوال في محاولة إقناعك بأن الشعب الاسكوتلندي هو شعب مستقل بخصائصه الثقافية وعاداته وتاريخه عن الشعب الإنكليزي، وأن أدنبرة هي درّةُ اسكوتلندة، وهي مركز الثقافة الأول في بريطانيا، وأنها تقوم الآن بالدور الذي كانت تلعبه مدينة أثينا في اليونان القديمة.

وسواء أكان مصيباً في رأيه أم مخطئاً فهذا لا يعنيني من قريب أو بعيد وإنما كانت نفسي تتشوق لرؤية معالم المدينة التي سمعت كثيراً عن جمالها، حطت بنا السيارات في قلب المدينة، ونزلنا نتجول في أنحائها، وكان أول ما قابلنا هو الشارع المشهور بشارع الأمراء، حيث انتصبت في وسطه نصب سكوت التذكاري.. شامخاً بقمته المستدقة، وقد بدت على محياه علائم كرّ الليالي ومرّ السنين، كانت المحلات التجارية تتراصف بعضها إلى بعض على يميننا، وعن الشمال امتدت الحدائق البديعة المنسقة، وقد تناثرت فيها الزهور الأخاذة في هندسة تأخذ بمجامع القلوب.

في الحديقة تمدد متحف أدنبرة وقد أحاطت برواقه صفوف من الأعمدة الحجرية الأيونية الطراز بتيجانها الأنيقة. وعلى مدّ البصر في الأفق البعيد تطالعك قلعة أدنبرة الشهيرة.. وقد تربعت فوق تلة بركانية مرتفعة وأحاطت بها بعض البيوت والأبنية القديمة التي تعطيها طابعاً أثرياً فريداً.

لقد كان منظراً جميلاً والحق يقال، ولكن الخيال الذي حملته كان أجمل، كان صورة أخرى أجمل من الحقيقة، ولعمري إن السعيد في هذه الحياة هو من لا تتحطم خيالاته الشاردة بقسوة على واقع الحياة. قلت لمحدثي: إنه منظر جميل حقاً.. قال: بل الأجمل منه أن تصعد وترى القلعة ومحتوياتها النفيسة، وأن تطل على المدينة التي ما زالت محافظة في الكثير من أنحائها على الطابع المعماري للقرون الوسطى.

وتابعنا المسير، كان الزحام شديداً، والناس تسير جيئة وذهاباً مختلفة الألوان والجنسيات، متنوعة اللهجات واللغات.. وبينما نحن سائرون إذا بنا نسمع أصواتاً غريبة، صنوجاً تدق وطبلات تقرع، وصيحات تتردد في الفضاء لا أفهم لها معنى، وما زال الصوت يقترب ويقترب حتى تبينت الخبر.

كانوا مجموعة من الشبان والشابات لا يتجاوز عددهم أصابع اليدين، وقد ارتدوا الألبسة الطويلة الفضفاضة الصفراء، وقد حلقوا شعورهم إلا خصلة طويلة عقصوها وتركوها تتدلى إلى الخلف على عادة الرهبان البوذيين، حمل بعضهم طبلات مستطيلة علقوها بأعناقهم، وحمل البعض الآخر ما يشبه الصنوج والمزاهر.. والكل بعزف ويغني وينشد..

خارا كريشنا.. هارا رارا

هاري كريشنا.. هارا ري..

لم يكونوا من الشرق الأقصى بل إنكليز، راحوا يزرعون الأرض جيئة وذهاباً وهم في عالم غيبي خيالي حالم.. أو هكذا خيّل لي..

قلت لمحدثي وهل نحن في أدنبرة أم في إحدى شوارع بانكوك؟ من هؤلاء وما هي حاجتهم؟.. قال: إنهم فرقة من أتباع كريشنا الفيلسوف البوذي الشهير، ولهم معبد في لندن، وهم يعملون الآن على إنشاء معبد آخر هنا في اسكوتلندة، كان الناس يمرون بهم والنادر منهم من يعيرهم التفاتة أو يلقي عليهم نظرة، إلا مجموعة من الأطفال راحوا يتطلعون إليهم بنظرات ممزوجة بالدهشة وحب الاستطلاع. سألت طفلة أمها وهما تسيران بسرعة: من هؤلاء يا ماما؟ فأجابتها بامتعاض: أسرعي هذا هراء تطالعنا به هذه الأيام صباح مساء. ولما اقتربنا منهم أكثر كان أحدهم يوزع المنشورات والقصاصات على الناس يشرح فيها معتقدات كريشنا وتعاليمه.

قلت لمحدثي: وهل أتباعهم هنا كثيرون؟ قال: ليسوا بالقلة وأعدادهم في تزايد مستمر خصوصاً بين الأحداث والشباب. قلت أولست ترى في هذا ظاهرة تستحق النظر والتأمل في أوضاع البلد عندكم؟ قال: بلى.. فإن أدنبرة كما قلت لك مركز ثقافة كبير، وبها حرية الأديان وحرية الدعوات والتعبير عن الرأي، وهم يعبرون عن رأيهم بطريقتهم الخاصة. قلت: نعم وأرجو ألا تحسب كلامي هذا تهجماً عليكم، ألا يعني هذا أن مجتمعكم بدأ يحسّ في داخله وفي أعماق نفسه شيئاً لم تملأه ثقافة أدنبرة وهي متوفرة للمواطنين قبل أن تتوفر للغرباء، وحاجة لم تشبعها جامعات أدنبرة ولا كنائسها ولا محلاتها التجارية الأنيقة المليئة بكل متع الحياة الفاخرة؟..

قال: إن كان هؤلاء يستحقون الحياة فدعوتهم ستنتشر ويكتب لها البقاء، أما  إذا كانت كاذبة فسيعفي عليها النسيان كما طوى الكثير مما قبلها، وهذه ظاهرة صحة في مجتمع ديمقراطي عريق، قال هذا وقد احتد قليلاً وكأنما كلماتي قد أثارت فيه شعوراً كامناً بالقلق مبهماً غامضاً يحسّ به ولا يعرف ما هو.

كان ركب كريشنا يسير على الرصيف أمام المحلات التجارية، وبين الفينة والأخرى كان ركبهم يمر على منعطفات في داخل المحلات حيث انزوى شاب وفتاة غابا في عناق طويل، أو ضم أحدهم الآخر في وضع أحبوا أن يعلنوا فيه للملأ أنهم حيوانات لا تستحي أن تجاهر بحيوانيتها، وقفوا ينظرون إلى ركب كريشنا بعيون حامدة ملؤها البلاهة والدهشة والاستغراب. ولما رأيت صاحبي –وهو الديمقراطي الأصيل- يتأفف هكذا من النقد الذي يوجه لمدينته ومدنيته، أيقنت أن هؤلاء القوم لا يزالوا يعيشون في أحلام الماضي عندما كانت بريطانيا ملكة البحار وسيدة العالم.

ورحت أسائل نفسي.. أهي حقاً ظاهرة صحة أم هي ظاهرة مرض.. في يقيني أنها ظاهرة خطيرة لا يحسبون حسابها، أنا لا أعتقد أن كريشنا سوف يحكم يوماً وست منستر، ففي تعاليمه من النقص والسطحية والوهمية الكثير، الشيء الذي يعجزها عن أن تكون منافساً حقيقياً للعقول والقلوب في العالم ولكن ما أستطيع أن أراه هو أن في ذلك تعبيراً عن الإفلاس العقيدي الذي يتخبط فيه هؤلاء القوم، فقد دخلوا كنائسهم فلم ترو لهم غليلاً، واجتمعوا بمنظماتهم الديمقراطية فأشبعت بطونهم وأطلقت شهواتهم، ولكنها تركت فراغاً في نفوسهم وقلوبهم جعلتهم يلهثون وراء كل من يلوح لهم ببارقة نجاة حتى ولو كان كريشنا.

كان هذا يجول في خاطري ونحن نسير في شارع الأمراء، وأصوات هارا كريشنا تتردد في الأفق فتغيب في ضجة الزحام، وتختلط بأصوات باعة الصحف والسيارات وبأجراس كنيسة تدق في الأفق البعيد.

وساءلت نفسي.. ولكن أين الإسلام؟ أين المسلمون؟.. ألم يقل الله تعالى: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" أليس في هدى القرآن وتعاليمه رحمة لهذه القلوب التي أوقعها بؤسها في أوهام البوذية وشرك الروحانيات السلبية التي لا تلبث أن تتحطم أمام صخرة الواقع وتحديات الحياة.

أنا أعتقد كما تعتقد يا صديقي أنه لا شك في ذلك. ولكن أين هم المسلمون يعرضون قيم الإسلام كتباً ودراسات..

وأين هم يعرضون مثله نماذج حيّة تتحرك..

وأين هم يعرضون تشريعه دولة قائمة لها هويتها بين الدول..

(4)

كتب إليّ أمير يقول:

رنّ جرس الهاتف بشدة، ففتحت أجفاني ببطء أغالب النوم الذي لم يزرني إلا بعد طول عناء، أمسكت بسماعة الهاتف وأنا بين النائم واليقظان، وأجاب صوت عرفت أنه ممرضة الإسعاف في نغمة تدل على الهلع والاستعجال..

- أسرع يا دكتور.. إن المريض ينزف بغزارة والدم يغطي كل ثيابه ووجه، ولقد فحصه طبيب الإسعاف وقال إنه بحاجة إلى استشارة طبيب الأذن والأنف والحنجرة، عندها وثبت من سريري مسرعاً.. نظرت إلى الساعة فإذا هي الواحدة بعد منتصف الليل، واعتذرت لضيف النوم الذي لم يزرني إلا منذ دقائق قائلاً: إنه ليس في اختياري أن أتركه هكذا مسرعاً ولكننا معشر الأطباء كتب علينا أن بيننا وبين السهر عقوداً وارتباطات كتبناها على أنفسنا يوم اخترنا الطب طريقنا في الحياة.

لم تمض إلا دقائق قليلة حتى كنت في غرفة الإسعاف، كانت سيارة البوليس تنتظر عند الباب الخارجي، والأطباء والممرضات يروحون جيئة وذهاباً. كان المريض متمدداً على طاولة الفحص وقد أمسكت بيديه اثنتان من الممرضات تحاولان تهدئته وهو في حالة ثورة وهياج صائحاً: دعوني أذهب إليه.. سأهشم رأس هذا الخنزير القذر.. سأعلمه كيف يحترم الفريق الإنكليزي في المستقبل.

- فقلت في نفسي حسناً، حتى هنا يعتبرون الخنزير قذراً، والخنزير سبة يرمى بها من يراد أن يحتقر ويُهان.

كانت رائحة البيرة تفوح من فمه كلما تكلم، فتنتشر في الغرفة الصغيرة محيلة إياها إلى جو خانق، كان المريض حديث السن، طويل الشعر ذا جثة ضخمة، يغطي الدم جزءاً كبيراً من وجهه مع بعض الجروح التي كان بعضها سطحياً وبعضها عميقاً قرب الأنف والخدين، وكان واضحاً أن المريض قد ضُرب بآلة قاطعة.

قالت الممرضة وقد ضاقت به ذرعاً تُمسك بيده فيفلت منها محاولاً القيام.. هؤلاء هم زوّار الليل، سكارى خرجوا من الحانات بعد أن تغلق أبوابها في الحادية عشرة مساء فلا يجدون خيراً من الشوارع يترنحون فيها، وغير أنفسهم يوسعونها ضرباً وعنفاً. أشرت على الممرضة بإعطائه إبرة مهدئة وبإجراء صورة شعاعية مستعجلة للجمجمة وعظام الوجه، وقبل أن تبلغ الإبرة كامل تأثيرها سألت المصاب –وكان اسمه جون- عن الذي حدث وكيف أصيب هذه الإصابة البالغة. راح جون يتكلم كلاماً متقطعاً، يلثغ بالحروف والكلمات فتخرج ممطوطة مشوهة، واسترسل يقول:

ذهبت مع صديقي إلى البار نشرب قليلاً ونتمتع بمشاهدة كرة القدم بين الفريق الإنكليزي والإسباني في التلفزيون، آه كم كانت مباراة جميلة وشيّقة، ألم تشاهدها يا دكتور؟ حتماً أنك شاهدتها. لقد كنت وما زلت من عشّاق كرة القدم التي لعبتها منذ نعومة أظفاري في الشارع وفي المدرسة، إن كرة القدم في دمي وأعصابي وهي متعتي وأُنسي، ألا تلعب كرة القدم يا دكتور؟ أنا واثق أنك تلعبها، ألم تشاهد الفريق الإنكليزي، إنه فعلاً رائع عظيم، أما شاهدت ستيفن وهو يسدد الضربات الصاروخية في مرمى الفريق الإسباني، آخ الإسبانيون هؤلاء الصعاليك.. إنهم أقزام كرة القدم جاؤوا إلى هنا وهم يظنون أن بإمكانهم التغلّب على فريقنا، ولكن أين هو هذا الملعون بيتر.. وأراد القيام والنظر لما حوله..

فقلت له: أنا فهمت أنك وكرة القدم حبيبتان متلازمان، وأنها أعز عليك من صديقتك التي تبدلها كل يوم، ولكن لم تقل لي كيف جرحت هذه الجراح البليغة؟

قال: انتظر قليلاً، ولماذا أنت مستعجل يا دكتور، قلت لك هذا الخنزير النجس بيتر كان يشاهد معنا المباراة، ولكنه كان يسخر من الفريق الإنكليزي متهماَ إياه بعدم المهارة والفن، إنه فعلاً وقح.. وهل يفهم هو أصول اللعب حتى ينصب من نفسه حكماً على أمهر اللاعبين في العالم.. أنذرته بالكف عن تعليقاته الساخرة هذه، ولكنه أبى، فكان من الطبيعي أن أسدد إليه لكمة أطاحت به إلى الطاولة المجاورة، طبعاً يجب أن ينال عقابه... هذا البغيض الشرس.

- بلى وماذا حدث بعد ذلك؟..

- بعد ذلك.. لا شيء ضربني بزجاجة الويسكي التي كانت أمامه على الطاولة.. ولكن أين هو.. دعني أقوم، سأهشم رأس هذا الخنزير بقبضتي هذه.

وفي هذه اللحظة أُخذ المريض لإجراء الصورة الشعاعية، ولدى معاينتها تبيّن وجود كسر في الأنف، وكسر آخر في العظم الوجني مع عدة قطع من الزجاج متوضعة عميقاً ضمن جرح الوجه، كان هذا يعني إجراء عملية جراحية مستعجلة.

سألت المريض عن كمية البيرة التي شربها، فقال لي: أنه لا يشرب عادة إلا قليلاً قدحاً أو اثنين، ولكنه اليوم وبمناسبة المباراة الكبرى شرب حوالي سبعة أقداح.

لقد كان المريض الذي حدثتك عنه لا يتجاوز العشرين من العمر، قوي البنية سليماً معافى، ولكنه كالملايين أمثاله لم يجد حوله من المثل ما يشغل وقته وفراغه، فراح إلى ملاعب كرة القدم نهاراً وإلى الحانات ليلاً، أرجو ألا تفهم من كلامي هذا أنني ضد الرياضة أو أن يتمتع الناس بلعبة كرة القدم وسواها، ولكن ما يدهشني هو أن تلعب هذا الدور البارز في حياتهم وتستأثر باهتماماتهم وعواطفهم وانفعالاتهم.. أفهم من الرياضة ممارسة تقوّي الأجسام وتسمو بالنفوس وتنقي القلوب، لا مهرباً من خواء روحي وفكري ومتنفساً تلهي به الحكومات شعوبها، وتعصباً يحل من النفس محل الهوى، وأداة يهشم بها الناس رؤوس بعضهم بعضاً. إن حوادث الشغب وجرائم أنصار القوى الرياضية المختلفة قد أصبحت من المشاكل التي تواجه البوليس عقب كل مباراة.

وكنا ذكرت فقد أصيب هذا المريض بجراحه ليلة السبت، وعلى ذكر ذلك أحب أن أقول أن ليلة السبت هذه قد دخلت الأدب الطبي من أوسع أبوابه، فهناك مرض يدعى (شلل يوم السبت) يصيب السكارى الذين يكثرون من شرب الخمر في عطلة نهاية الأسبوع ، فيثملون في تلك الليلة ، ويستندون لفترة طويلة بآباطهم على مساند كراسيهم، فتنضغط أعصاب الضفيرة العضدية عندهم ، مسببة شللاً في اليد.

 وكانت ليلة حافلة قضيناها في غرفة العمليات، لم يطلع علينا صباحها إلا وقد أخذ منا الإعياء كل مأخذ.. إنها ليلة أخرى من ليالي السبت.. ليالي العربدة والجريمة في ديار الغرب.

هذه يا صديقي حالة من الحالات التي نصادفها دائماً، وهي تزيدني كل يوم قرباً من الإيمان.. الإيمان الذي يملأ النفس ويغمرها بالنور الإلهي الذي يسمو بها عن صغائر الأمور ، وأدران الشهوات .  

(5)

أخي الكريم محمد:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

دعيت لحفلة أقامها أحد زملائنا الأطباء الهنود، واسمه "سراج الدين" بمناسبة تخرجه وحصوله على شهادة الزمالة في جراحة الأنف والأذن والحنجرة. كانت أمسية لطيفة حضرها كل أعضاء الشعبة تقريباً, قدمت لنا خلالها أشربة الزنجبيل المبردة وأطيب المأكولات الهندية اللذيذة. كان صاحبنا بمنتهى الغبطة والسرور، وقد أخذ منه الفرح كل مأخذ، فلا تراه إلا جائلاً بين الحاضرين بخفة ومرح، يمازح هذا ويداعب ذاك.

وجلسنا بعد فترة نتحدث معاً، وقد دهشت عندما أخرج كتيباً صغيراً عليه رسم التاج البريطاني عرفت أنه جواز سفر بريطاني، وقال:

- لقد كسبتها.. لقد كسبتها..

- وما هي التي كسبتها بالله عليك؟..

- الجنسية البريطانية بالإضافة إلى الشهادة..

- قلت بغيظ: وأي شرف تجلبه لك الجنسية البريطانية؟..

- ليست القضية شرف أو قلة شرف، وإنما اكتساب الجنسية البريطانية يفتح لي أبواب العيش في هذه البلاد.

- أو تنوي الإقامة في هذه البلاد؟

- نعم، لقد اشتريت بيتاً في أحسن مناطق المدينة، وسيارتي ألمانية أنيقة حديثة الصنع، وأنت تعلم أن زوجتي إنكليزية.. فقلت لنفسي ولماذا لا أستوطن في هذه الديار.. إذا كانت تحفظ لي كرامتي ورفاهيتي..

- ولا تنوي العودة إلى الهند مطلقاً؟..

- وماذا أعمل هناك يا أخي.. إن الفقر يفترس الناس، ومرتبات الدولة ضئيلة ولا تسد الكفاف، أما العمل الحر فقد سيطر عليه بعض الأطباء المتنفذين والدجالين وأن مريضنا هناك فقير لا يستطيع أن يدفع للطبيب الأجور العالية التي يستحقها، وإذا دفع هذا فذلك يعني أنه ربما يتنازل للطبيب عن كل ما يملك من دريهمات قليلة أو متاع قليل..

- قلت: أولا تحسب يا صديقي أنك بهذا تتنكر للجميل، لقد عشت في بلدك الذي رباك وتعهدك حتى ترعرعت، ووفر لك فرصة العلم التي لم تتوفر للكثيرين سواك.. حتى إذا اشتد ساعدك وتوقعت منك بلادك ردّ الجميل.. سخرت منها ولوّحت لها بجواز السفر الإنكليزي الذي تحمله، أولا تعتقد في دخيلة نفسك أن إخوانك الهنود هم بحاجة إلى خدماتك وعلمك، وأنك لو لم تعالج المريض الإنكليزي هنا لتوفر له الكثيرون ممن يستطيعون علاجه، أما المريض الهندي فقد ترك هناك مخذولاً مهجوراً معذباً مريضاً..

قال: أنت تكلمني بلغة العواطف التي لا تجدي فتيلاً، فلكل إنسان رأيه في هذه الحياة، وهو حر في اتخاذ الخطوات التي يرتئيها مناسبة لمصلحته ومستقبله.

قلت: أولاً تشعر وأنت المسلم أنك مسؤول أمام الله ورسوله تجاه إخوانك المسلمين وقد علمت أن المسلمين هم أفقر الناس في الهند، ونسبة الأميين بينهم هي أعلاها بين بقية الطوائف والسكان.. وأنت لا تتوقع بالطبع من بلد فقير كالهند –على الأقل في ظروفها الحالية- أن تدفع لك ما تدفعه بريطانيا أو أمريكا، ولكن الأمر في اعتقادي يحتاج إلى شيء من الإيثار والتضحية.

قال: ربما عدت في المستقبل البعيد إلى وطني، فأنا لا أقبل لرفاتي أن تثوى مثواها الأخير إلا في تربة الوطن.

وقد كان أحد المدعوين طبيباً إنكليزياً يبدو من طريقة تصرفاته أنه صديق حميم لسراج الدين، تعرفت عليه.. وجلسنا نتحدث.. وقد علمت أنه ولد في الصين لأب قسيس بروتستاني، كان يدير مطبعة لطباعة الكتاب المقدس في الصين قبل أن تقوم فيها الثورة الشيوعية، ومع قيام الثورة اضطر هو وغيره من المبشرين إلى الرحيل، على أنهم من العناصر غير المرغوب فيها في دولة اشتراكية تقدمية.

قلت: أو تذكر شيئاً من أيام طفولتك في الصين؟..

قال: لا فقد غادرناها ولي من العمر سنتان، فلم تحتفظ ذاكرتي من ذلك إلا بشيء بسيط من المخيلات والأشباح، ولكنني مع ذلك فأنا عائد إلى "آسيا" في الصيف القادم.

قلت: أهي سياحية رحلتك هذه؟..

قال: لا، وإنما حصلت على عقد عمل في إحدى المستشفيات التبشيرية التي بنيت حديثاً في ولاية "بيهار" في الهند، لقد عملت هناك منذ عدة سنوات لفترة قصيرة وأنا أشعر أن لي رسالة هناك يجب عليّ تأديتها لتخفيف آلام الإنسانية المعذبة.

وفتح محفظته.. وأبرز لنا صوراً عن المستشفى التبشيري الذي كان يعمل فيه، وصوراً أخرى التقطت له مع بعض الناس المحليين هناك من المرضى وذويهم بلباسهم الوطني الفضفاض، وصوراً أخرى له ولزوجته، وقد ارتدى هو عقالاً على رأسه وبجانبه زوجته تركب حماراً، وقال كنا هنا نقدم تمثيلية عن حياة المسيح في المسرح المرفق بالمستشفى، وأنا أمثّل هنا دور يوسف النجار، أما زوجتي فتمثل دور مريم خلال الرحلة إلى مصر، وهكذا ترى أننا نقوم بتطبيب الناس نهاراً، ثم نقوم بنقل الرسالة المسيحية لهم ليلاً، إننا نشعر أننا نكون أنانيين حقاً إذا لم ندل الناس على طريق الحق الذي أدى إلى خلاصنا نحن..

قلت:والخلاص مم؟..

قال: من الخطيئة..

قلت: أما نحن المسلمين.. فنعتقد أننا ولدنا على الفطرة، ولسنا خاطئين ولسنا بحاجة إلى من يخلصنا، وأن أعمالنا في هذه الحياة شراً كانت أم خيراً هي التي تقرر مصيرنا في الآخرة، إن خيراً فخير.. وإن شراً فشر. ولكن قل لي بالله عليك ممن تتلقى مرتبك وأنت تعمل في هذه المستشفى؟

قال: من مجلس الكنائس الإنكليزية، وهو منظمة تقوم بأوجه جمّة من النشاطات الخيرية والإنسانية في بريطانيا وفي العالم.

سبحان الله.. أوليست هذه هي المأساة بعينها.. أوليست هي المأساة التي تبكي لها القلوب وتنعصر لها الأكباد.. يبذل المسلمون عصارة نفوسهم وجهودهم في إعداد الإخصّائيين في كل فرع من فروع العلم والمعرفة آملين بذلك خيراً وتقدماً في مجال الحياة، حتى إذا حان قطاف الثمار جاء غيرهم يقطفها، وبهذا لا تزداد البلاد المتخلفة إلا تخلفاً، والبلاد المتقدمة إلا تقدماً، وبعدما يغتصب الأقوياء الإخصّائيين المثقفين من البلاد المتخلفة يبقوم عليها ضعفها وتخلفها وجهلها، فيرسلون لها الإخصّائيين الأجانب بصورة مبشرين متعصبين ليفتنوها في دينها ويصيبوها في عقيدتها لا شك أن الذنب ذنب الغاصب في اقتطاف الثمرة، ولكنه أيضاً ذنب التفاحة المغتصبة وذنب من زرعها ولم يحمها.

من الحقائق الثابتة هنا أن عدد الأطباء الأجانب –والمسلمون يشكلون نسبة كبيرة منهم- يشكل ستة من كل ثمانية من الأطباء الشباب العاملين في التأمين الصحي البريطاني، ومن الحقائق التي يعترف بها حتى الإنكليز أنفسهم أنه بدون هؤلاء الأطباء فإن نظام التأمين الصحي سينهار.. وكأن البلاد المتخلفة مزرعة يزرع فيها الأخصائيون ليصدروا بعد ذلك إلى البلاد المتقدمة.

لاشك أن للمشكلة جذوراً عميقة، بعضها ديني وبعضها اجتماعي واقتصادي.. ولكن الحقائق مرّة وبمنتهى المرارة، ولعل الأخِصّائيين الذين باعوا وطنهم واستوطنوا بلاد الغير يعودون لنفوسهم وضمائرهم ودينهم، فيهبوا لنجدة وطن يستغيثهم وإني لأسأل الله تعالى اليوم الذي أنهي فيه دراستي بأقصى سرعة.. أعود بعدها لخدمة وطني وديني.

(6)

أنا.. والقسيس

مخطئ من يظن أن المسيحية في بريطانيا قد أصبحت أثراً بعد عين، أو أن الإنكليز قد ودعوا المسيحية وداعاً لا لقاء بعده.

ومخطئ كذلك من يعتقد أن المسيحية لا تزال تلك القوة الفعالة التي تحرك ضمائر الناس ووجدانهم وتملي عليهم فلسفتها في تصوراتهم وسلوكهم.

وإن ناظراً إلى مكتب الإحصاءات القومي يرى أن خمساً وسبعين بالمائة من عامة الشعب البريطاني لا يؤمنون بالمسيحية ولا بأي دين على الإطلاق، ولكن يرى من جهة أخرى أن حركات الأحياء المسيحية والجهود التبشيرية الضخمة التي يقوم بها مجلس الكنائس البريطانية في آسيا وأفريقيا لها من الحيوية والفعالية ما ليس لغيرها من المؤسسات والمنظمات.

وبريطانيا وإن كانت بلد الإنكليز، إلا أنه تعيش فيها أقليات من مختلف الأجناس والعقائد، ورغم أن دين الأغلبية هو المذهب البروتستانتي، إلا أنك ترى فيها اليهودي والبوذي والمسلم والسيخ، وترى الإنسان الأبيض والأسود والأصفر.

وأذكر أنني كنت في المستشفى ذا يوم، وإذا برجل في متوسط العمر، وقد خط الشيب فوديه.. وارتدى حلة سوداء وقميصاً أسود ذا ياقة بيضاء فعرفت أنه قسيس بروتستانتي.

اقترب مني بلطف وقال: من أي بلد أنت يا دكتور؟..

قلت: من سورية.

قال: نعم.. لقد تبادر لظني أنك عربي، لقد زرت مراكش منذ فترة قريبة فلي قريب هناك يعمل بالتبشير.. وكم وددت لو أستطيع زيارة الشرق الأوسط.. مهبط الأنبياء.. أعتقد أنت مسلم أليس كذلك؟

قلت: بلى.. هذا صحيح..

قال: إن الإسلام قريب من المسيحية وبينهما في المبادئ تشابه كبير.. وأنا أستغرب أن يتفرق أصحاب الأديان وربهم واحد.. لقد تأثر الإسلام كثيراً بالنصرانية، فقد تحدث الكتاب المقدس عن الله والأنبياء واليوم الآخر وكذلك فعل القرآن..

قلت: إن لي في الموضوع رأياً آخراً.. فليست القضية قضية تأليف كتاب أو بحث حتى ينقل أحد الكاتبين عن الآخر.. ولكن وكما نعتقد نحن المسلمون فإن الديانتين السماويتين من الله.. وأن الله الذي أرسل عيسى قد أرسل محمداً وما جاء من تشابه في رسالتيهما فإنه يشير إلى وحدة مصدرهما وهو الله تعالى..

قال: ولكن لو كان مصدرهما واحداً لتشابها تماماً وكلُّنا يعرف أن بينهما أيضاً الكثير من نقاط الخلاف..

قلت: نعم.. وذلك لأن المسيحية بدّلت وبقي الإسلام على صفائه، فحصلت الفروق.

قال: وكيف؟

قلت: لأن المسيحيين قد عدلوا عن تعاليم التوحيد الصافي كما نزلت على عيسى عليه السلام، إلى تعاليم للتثليث كما ارتآها بولس من أب وابن روح قدس..

قال: ولكنها إرادة الله الذي أراد التضحية بابنه المسيح.. وجعله يتألم عمداً وعن سابق قصد ليغفر بذلك خطايا بني آدم.. فكل بني آدم خطّاؤون وللمغفرة هم محتاجون..

قلت: قد يعتقد إخواننا المسيحيون أنهم خاطئون منذ الولادة.. ولكننا المسلمين نعتقد أننا ولدنا على الفطرة الصافية.. وما يقرر مصيرنا في هذه الدنيا هو أعمالنا.. إن خيراً فخير.. وإن شراً فشر.. وليس لمخلوق أن يغفر ذنوب الآخر.. ولن ينفع مذنباً أن يموت آخر في سبيله.. وكل نفس بما كسبت رهينة.

قال: غريب!!

قلت: بل وأكثر من هذا، فحتى ولو أراد الله غفران خطايا بني آدم.. فهو قادر عادل جبار.. وإذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون.. ولن يحتاج في ذلك إلى بعض العصاة ليصلبوا "ابنه" ويدقوا في أيديه المسامير.. وتعالى الله أن يكون له ولد.. فهو الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد..

قال: ولم لا يكون لله ولد.. وهل يُخِلُّ بعظمته أن يكون له ولد..

قلت: نعم..

قال: ولمَ؟

قلت: إن الكمال المطلق هو الله.. والقدرة المطلقة هي الله.. والمعرفة المطلقة هي الله.. وليس الله كأحد من البشر.. وما كان له أن يتخذ زوجاً ولا ولداً، ولو اعتقدنا غير ذلك لكنا آثمين في حقه تعالى جاهلين بحقيقته.

قال: ولكن المسلمين يؤمنون بيسوع المسيح.

قلت: نعم فهو نبي مرسل.. عيسى هو رسول الله.. كلمة الله وروحه وليس ابناً لله وليس هو الله..

قال: أو تعتقد أن الإسلام هو دين الله الخالد؟..

قلت: وهل في هذا شك؟

فال: وما الدليل؟

قلت: لو نظرت في الكتاب الذي أنزل على محمد –صلى الله عليه وسلم- وفي الكتاب المقدس لوجدت الدليل..

قال: وكيف؟

قلت: إن العهد القديم هو كتاب اليهود.. والعهد الجديد هو كتاب النصارى، بينما القرآن هو كتاب البشرية كلها.

وقد حفظ القرآن كما أنزل على نبيه محمد –صلى الله عليه وسلم- لأنه يعلم أنه هو الدستور الخالد.. ولم يحفظ التوراة ولا الإنجيل لأنه يعلم أنها مؤقتة لزمانها.. لهذا اختلف المسيحيون حول صحة أناجيلهم ولغاتها وترجماتها.. ولم يختلف المسلمون حول قرآنهم.

قال: ولكن الكتاب المقدس يخاطب البشرية كلها.. وليس اليهود والنصارى.

قلت: لو كان ذلك صحيحاً، أما كان حريّاً بالأناجيل أن تنظم حياة الناس الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بالإضافة إلى أمور العقيدة؟..

لقد اهتمت الأناجيل بالناحية الروحية للإنسان.. وأهملت ما عداها تاركة ما لقيصر لقصير, وما لله لله..

وحاشى لكتاب ينزله الله.. ليكون دستور البشرية الخالد.. أن يترك جانباً هاماً من حياتهم يشرعه قيصر حسب أهوائه.

فالمسيحية كما هي في الأناجيل تعاليم روحية.. سمت بروح أتباعها عن وثنية روما ومادية اليهود.. وجاءت لتهذب اليهود في وقتها.. وأفسحت المجال بعدها للإسلام.. ليكون عقيدة القلب، وغذاء الفكر، وشريعة الحياة، ولم يترك القرآن جانباً من الحياة لقيصر ولا لكسرى.. وفي هذا الكمال، وفي غيره النقص.

قال: أو تعتقد أن محمداً رسول؟

قلت: ليس هذا فقط وإنما سيّد الأنبياء.

قال: ولكن إنساناً تزوج تسعاً.. هو إنسان شهواني.. وشهوانيته تهبط به عن آفاق الروح العليا.

قلت: وهل قرأت سيرة النبي محمد؟

قال: لا..

قلت: لو درستها لما قلت هذا، فالشهواني هو الذي يجري معربداً وراء النساء ولقد تزوج محمد الشاب وهو في الخامسة والعشرين من خديجة الكهلة وعمرها أربعون وبقي مخلصاً لها حتى توفيت وهو في الخمسين من عمره، وقد ذوت فيه فورة الشباب، ومعظم زيجاته التالية كانت لأسباب سياسية أو اجتماعية كما ترى في سيرته.

ولكن لنأخذ الموضوع من وجهة نظر أخرى.. لو قال لي أحد من الناس أن تشرشل هو إنسان شهواني لكذبته.. دون أن أعرف شيئاً عن حياته الخاصة:

قال: لماذا؟

قلت: السبب واضح.. ومنطقي.. فلو كان تشرشل شهوانياً لما تركت له حيوانيته متسعاً للتخطيط العسكري المحكم، والتفكير الاستراتيجي البارع، الذي سار ببريطانيا وسط قنابل الحرب العالمية الثانية، وخرج منها منتصراً رافع الرأس، إن الإنسان الشهواني هو الذي يهدم، وليس له حول ولا قوة على البناء والإبداع.

هل يعقل لنبي ينتشر دينه في كل أرجاء المعمورة، ويؤمن به مئات الملايين. الإنسان الذي دكّت تعاليمه العروش والمماليك، وعبرت تعاليمه المكان والزمان حتى رأيتني اليوم وأنا أحد أتباعه واقفاً أمامك.. هل يعقل لمن بنى هذا الطود الشامخ أن يكون إنساناً شهوانياً؟

قال: إن كلامك حق وبه منطق..

قلت: ليس هذا هو المنطق فقط.. ولكنها الحقيقة.. وأنا آسف إذ أقول أن التعاليم الكنيسية هي التي روّجت مثل هذه الأفكار اللامنطقية.. لكي تجعل من تعصب أتباعها وجهلهم عقبة في سبيل ارتداد أتباعها عن النصرانية ودخولهم الإسلام.

قال: أنا معك.. هو لا يعقل أن يكون شهوانياً.. بل هو إنسان عاقل ومفكر وحكيم ولكن بعض تعاليمه تنبو عن المألوف وعن الطبيعة البشرية.

قلت: وما قصدك؟

قال: لقد سمح لأتباعه أن يتزوجوا أربعة نساء.. وأباح لهم الطلاق.

قلت: قبل أن أحدثك في مزايا التعدّد وضرورة الطلاق هل لي أن أسألك عن ظروف إباحة الطلاق في إيطاليا..

قال: تعني إباحة الطلاق كقانون مدني رغم معارضة البابا الشديدة له.؟؟

قلت: تماماً.. هذا ما قصدته. وإن كانت لي كلمة أقولها هنا، فهي أن رب محمد الذي أوحى بالقرآن إلى محمد عرف أن الطلاق ضرورة في بعض الحالات، فأباحها لنا في حدود، وقد ألهم محمداً أن الطلاق هو أبغض الحلال إلى الله.

لقد اضطر المسيحيون إلى محاربة الكنيسة عشرين قرناً، ثم رقصوا في ساحات روما عندما أبيح لهم الطلاق، ولم يضطر المسلمون إلى مثل ذلك فقد وهبهم هذا الحق من هو أعلم بالنفوس وعلمهم كيف يستخدمونه.

قال: والزواج بأربع؟

قلت: خير من البغاء السري والعلني، والزواج بأكثر من واحدة ليس القاعدة، ولكنه ضرورة في بعض الأحيان وللضرورة أحكام، وإذا تأملت في الحلول البديلة لوجدت أن نظام التعدد هو الأفضل.

قال: لقد اجتاح المسلمون العالم بحد السيف، وفي هذا انتهاك لحق الإنسان بينما انتشرت المسيحية بالحسنى والسلام..

قلت: هل لي أن أضرب مثلاً؟..

قال: نعم.

قلت: افترض أنك مسيحي جالس في بيتك، وأنا المسلم حاملاً البندقية في يدي قد أستطيع أن أسلبك مالك مثلاً، أو جهاز التلفزيون الذي عندك أو أي شيء تملكه ولكن هل تعتقد أنني أستطيع أن أغيّر ما في قلبك؟

قال: لا..

قلت: وفي أحسن الاحتمالات فإنك تقول لي أنك أسلمت، وتضمر المسيحية في قلبك حتى إذا وهن سلاحي، أو صار لك سلاح أقوى، جهرت بعقيدتك وانقلبت عليّ أنا الذي أجبرتك على تركها.

قال: هذا صحيح.

قلت: لو نظرت لمعاملة المسلمين للشعوب المفتوحة لرأيت أنهم لم يجبروهم على ترك دينهم، وإنما عرضوا عليهم الإسلام أو الجزية.. ولو لم تؤمن الشعوب التي اعتنقت الإسلام كدين حق لتركته مباشرة بعد توقف مجد الفتوح الإسلامية الأولى.. يوم خمدت قوة الإسلام العسكرية.. وأكثر من هذا.. لم يكن المسلمون دائماً هم الفاتحين يوم انتشر الإسلام.. فقد كانوا أحياناً من المغلوبين.. وفي خبر المغول البرهان.

قال: أعرف عن المغول أنهم قبائل نصف متحضرة سكنت آسيا الوسطى.

قلت: وقد زحفوا على الخلافة الإسلامية فحطموها في أركانها الأربعة.. وجعلوا ماء دجلة يجري أسودَ لأيام عديدة لكثرة ما أُلقي فيه من الكتب كما تقول الرواية.. كان المغول والتتار غزاة منتصرين.. وعساكر جبارين.. والمسلمون قبائل متفرقة.. ومدائن خربة.. ومع ذلك فقد حصلت المعجزة، اعتنق المغول الإسلام، وآمنوا به بشدة، وقاموا بعد ذلك ينشرون الإسلام في الأرض.. وكان لهم في الهند الملوك العادلون والأباطرة العظام..

قال: أو حدث ذلك حقاً؟..

قلت: أنا لا أختلق كلامي هذا.. ولو شئت لقرأت التاريخ.

إن الإسلام انتشر في أفريقيا الوسطى وفي أندونيسيا وماليزيا عن طريق الدعاة والتجار.. والذين لم يطلقوا رصاصة واحدة.. وفي عهد لم تكن فيه للإسلام سيوف تحمله إلى هذه البقاع.

قال: يجب عليّ فعلاً أن أعيد قراءة التاريخ.

قلت: وأنا واثق أنك عند قراءتك له، ستغير الكثير مما تعتقد أنه الحق الآن..

ونظر صاحبي في الأفق نظرة ساهمة عليها علائم التفكير العميق.. فبادرته.. لقد سألتني حتى الآن الكثير، فهل لي أن أسألك بدوري سؤالاً؟

قال: تفضل..

قلت: لم لم يحرم المسيحيون الخمر؟

قال: أنا شخصياً لا أشربها.

قلت: ولكن المسيحي الذي يشربها لا يعتبر مخالفاً لتعاليم المسيح..

قال: قليل من الخمر وليس الكثير.

قلت: ولعل قليلاً من الخمر مع قليل من الخبز.. يجعلك ترتوي من دم المسيح وتشبع من لحمه..

قال: أنا بروتستانتي.. ولا أؤمن بهذه العقيدة، فهي كاثوليكية الشكل والتطبيق.

قلت: حسناً.. ولكن لو نظرت إلى بريطانيا.. التي علمها الإنجيل.. أن قليلاً من الخمر يحمي قلبها لرأيت أنها قد أصبحت تعاني من أزمة يسمونها الكحولية ومن جماهير يسمونهم الكحوليين.. والكحوليون هم سادة من ارتكب الجريمة..

قال: هذا صحيح..

قلت: أوليس حرياً بشريعة أنزلها الله لتحكم عباده.. أن تخلصهم من هذا الغول الاجتماعي وتمنعه..

قال: ولكن المسلمين بشريون رغم تحريم الخمر في دينهم.

قلت: أن يشرب بعضهم فهم قلة نسبياً، ومن يشرب منهم الخمر يعرف أنه عاص وقد يتوب العاصي يوماً.. أما البريطاني السكير فهو لا يشعر حتى بالذنب..

قال: هذا صحيح.. وللكنيسة الآن نشاط مشهود في الحملات ضد الكحولية والكحوليين.

قلت: نعم ولكن في رأي الإسلام أنّ سحق رأس الأفعى خير من بتر ذنبها، وأن الضرب على يد المجرم خير من معالجة ضحاياه.

قال: ولكن أحب أن أذكرك بخاطرة طالما داعبت خيالي..

قلت: وما هي؟

قال: إذا نظرت إلى العالم المسيحي وجدته متعلماً متحضراً متمدناً مثقفاً.. وإلى العالم الإسلامي وجدته فقيراً جاهلاً مريضاً مستعبداً.

قلت: هوّن عليك.. إن الازدهار الصناعي الغربي اليوم ليس مسيحياً وإن حصل في بلاد تدعي أنها مسيحية..

لا يوجد هناك دين للطيارة.. ولا للسيارة.. ولا لحقنة البنسلين.. واليابانيون قد صنعوا خيراً من صنعتكم وهم وثنيون.

التكنولوجيا أداة حيادية يستعملها المسلم والكافر والمسيحي.. ويوم يوفق المسلمون لتطبيق التكنولوجيا في مجتمع مسلم سيرى العالم أمام عينيه المدينة الفاضلة" سيعرف الغربيون كيف يحيا الإنسان المثالي.. وإنما لا أدعي أن المسلمين الحاليين هم المثال الحي للإنسان المسلم.

لقد ازدهرت أوربا عندما تركت دينها.. وانحطت بلادنا الإسلامية عندما تركت دينها..

قال: ولكن الإسلام يبقى حبراً على ورق.. ما لم تقدموا للعالم ذلك النموذج المسلم الحي الذي تتكلم عنه.. فالمبادئ لا تحيا في الكتب وإنما على سطح الأرض.. في المدن والقرى والأرياف وفي المصانع.. ومحاريب العبادة وهياكل الفنون.

قلت: هذه والله كلمة حق.. أشهد لك بها.

قال: ولكن يبدو أنك مسلم متعصب.. أوكل المسلمين أمثالك؟

قلت: لست متعصباً وليس كل المسلمين أمثالي. ولكني مسلم فهم دينه على النحو الذي يرجو أن يرضي الله ورسوله.. فلم تنطل عليه أحابيل المبطلين.. ولو فهم كل المسلمين دينهم على حقيقته لكانت الدنيا غير الدنيا التي تعيش فيها اليوم.

وإن سميت هذا تعصباً فإنك حرّ والنعوت تختار منها ما تشاء.. ولكن لو سميته صدقاً مع النفس.. وفهماً للعقيدة لوافقتك على ذلك..

قال: لقد كان حديثنا ممتعاً حقاً.. ولديّ الآن رغبة أن أدرس الإسلام.. وأطلع عليه أكثر من أية فترة مضت.

قلت: أدرس الإسلام.. وأرجو لك الهداية.. وستجدني مساعدك إن شاء الله..

يتبع