كانوا همجــاً (3)

روايات إسلامية

كانوا همجاً (3)

قصة طويلة

عبد الودود يوسف

طغوان يريد سدّاً!

رأى الناس رجلاً طويل القامة.. أسود الوجه.. يسير في غرفة ملكية جيئة وذهاباً بعصبية ظاهرة..

فتح الباب ودخل رجل أبيض الوجه، أشقر الشعر.. همس: أنا في خدمة السيد الرئيس.. صاح طغوان: أريد عملاً يرفع شأني بين جماهير شعبي.. وفي العالم كله يا سوخوف..

همس سوخوف: أما أن يرفع شأنكم بين شعبكم فهذا ممكن.. لكن أن يرفع اسمكم في العالم كله فهذا مستحيل، لأن الناس يفهون.. فلا ينطلي عليهم الدجل..

قال طغوان بعصبية: لا.. أريد مشروعاً حقيقياً.. أبهر به العالم كله.. ابتسم سوخوف وهمس: حسناً.. سنفكر لكم يا مولانا الرئيس سنفكر لكم.. وخرج مسرعاً..

ويمر شهران:

رفع طغوان سماعة هاتف بدائي وقال: سوخوف: لم ترد عليّ جواباً بعد.. أريد مشروعاً.. وقد فكرت أنا بالمشروع.. إنه مشروع سد عظيم فما رأيك؟ فأجابه سوخوف: حسناً سآتيك حالاً.

سنبني السد.. سداً مدهشاً.. طوله عشرة آلاف متر.. وعرضه عشرة آلاف متر.. وارتفاعه ألف متر.. فما رأيك؟ ابتسم سوخوف بسخرية وقال: أراك مهندساً عظيماً يا سيدي الرئيس.. لقد حددت أبعاد السد منذ الآن..

لكنني لا أعرف نهراً في العالم عرضه عشرة آلاف متر.. همس طغوان: إن عندنا عشرة أنهار.. نجمعها مع بعضها.. ونجعل لها مجرى عريضاً مقداره عشرة آلاف متر.. ونبني على ذلك المجرى سداً.. فما رأيك؟ همس سوخوف: عظيم.. عظيم.. قاطعه طغوان: وسيكون أعظم سد في العالم.. تنشر أخباره وكالات الأنباء، وتصوره التلفزيونات.. وأعطي أنا بعدها التصريحات الرنانة التي تعادل حجم هذا السد الذي سيكون أكبر سد في العالم.. فما رأيك؟.. أليس هذا المشروع عظيماً؟..

حسناً.. حسناً.. سنبني السد.. سنبنيه، لكن يجب أن نحسب أولاً تكاليفه.. سأعطيك قائمة التكاليف بعد أيام.

سوخوف يناقش رجلاً كبيراً أصلع عريضاً.. يقول له: سيدي، إن المجنون طغوان يريد أن يبني سداً.. مهما كلفه ذلك.. يجيبه: لكن السد لا ضرورة له.. وليس عنده أنهار عريضة ليبني عليها السدود.. أجابه سوخوف: إنه يريد الشهرة يا سيدي ولو لم يكن عنده نهر لبنى سده على البحر.. لكنه قال إنه سيجمع أنهاره كلها في نهر واحد، ويجعل مجراه عشرة آلاف متر ليبني عليها سداً ضخماً.. إن للمشروع فوائد عظيمة لنا يا سيدي.. نشترط عليه أن نقرضه تكاليف السد، بفائدة مضاعفة، ونفرض عليه أن لا يشتري لبلده بضائع إلا من عندنا.. وبالتالي تأخذ أموال بلده كلها، ويصبح هو تابعاً لنا.. فما رأيك؟!.. أجاب الأصلع: مشروع عظيم.. ما هي تكاليف السد الحقيقية؟.. إن تكاليف السد ألف مليون دينار.. قاطعه الأصلع: إذن نقول له إن التكاليف هي عشرة آلاف مليون دينار.. ونفرض عليه فائدة مقدارها عشرون ألف مليون دينار.. ونقول له: إن عليه أن يسدد ديون السد من محاصيل بلاده على أن يحسب سعرها بنصف ما تباع به.. وبالتالي فإن مجموع ما سنأخذه منه يبلغ ستين ألف مليون دينار.. على أن يدفع كل سنة ألفي مليون دينار.. فنكون قد أخذنا منه ضعف ثمن السد في أول سنة.. والباقي كله ربح لنا.. فما رأيك؟ همس سوخوف بفرحة: عظيم.. عظيم.. لكنه قد يطالبنا أن نحول لحسابه رشوة ألف مليون دينار.. فماذا نفعل؟ فأجاب الأصلع:

تعطيه إيّاها من الدفعات الخمس الأولى فما رأيك؟..

أجاب سوخوف: حسناً.. حسناً.. أنت عبقري يا سيدي..

ويقتربان..

سوخوف مع طغوان: وافقت دولتي على بناء السد الذي تريد.. قاطعه طغوان وهو يقفز: حسناً.. حسناً.. نحن نشكر أصدقاءنا العظام.. نشكرهم.. يقترب منه ويهمس: وهل حسبتم حساب رصيدي الخاص؟! قاطعه سوخوف قائلاً: طبعاً.، طبعاً.. ألف مليون دينار هدية لسيادتكم لتستعينوا بها على نوائب الدهر؟.. فهل يكفي هذا.. قاطعه طغوان وهمس: لا بأس.. مبلغ معقول.. لكن عليكم أن ترضوا الوزراء والمديرين والمساعدين والعمال.. همس سوخوف: أما العمال فسنوزع عليهم الخمور مجاناً.. ونأتيهم بالشقراوات أيضاً مجاناً.. عبس طغوان وهمس: والمديرون والوزراء: أجاب سوخوف: أما الوزراء والمديرون فلهم الشقراوات مع أكياس الدنانير يا مولاي.. قاطعه طغوان: حسناً.. لنبدأ العمل فوراً.. أسمعت ما أقول: فوراً.. أريد أن أعقد أول مؤتمراتي الصحفية حول السد.. لم أعد أستطيع الصبر..

رأى الناس جميعاً سداً هائلاً تحته نهر صغير جداً، لا ماء فيه ثم تصدعت الأرض من ثقل كتلة السد، وانهار السد.. وانهارت مع انهياره عزة الأمة.. وأصبحت كلها عبيداً للمجرمين المستعمرين لقرن من الزمان..

جرس الهاتف يرن ويظهر رجل يقول: أما كان الشعب نفسه قادراً على بناء السد بنفسه؟!

أجاب المذيع: الخبراء يرون أن السد أصلاً لا حاجة له.. فهو عمل يقصد منه الدعاية لشخص الطاغية طغوان.. ويقصد به امتلاء خزانة ذلك الطاغية بالمال الحرام..

يسأل مواطن آخر: لماذا لم يوقف الشعب هذه المشاريع الضارة؟

أجاب المذيع: تعال انظر إلى موقف الشعب..

نرى أمامنا مباني ضخمة مكتوباً عليها: جامعة الوطن.. والجامعة الحديثة.. وجامعة الحرية.. نرى الطلاب يقرؤون الصحف عن أخبار السد.. ويتهامسون.. ثم يهزون قبضاتهم غضباً.. ثم يتجمعون ويسيّرون مظاهرة يهتفون بها: السد سيأتينا بالاستعمار.. لا نريد السد.. وفجأة ظهرت المدرعات والسيارات المصفحة.. ونصبت المدافع.. وبدأ إطلاق النار.. فأنقذفت جثث الطلاب في الهواء وقتل الجميع.. وتهدمت الجامعة.. أصدرت الحكومة عشرات البيانات قالت فيها: إن هؤلاء الطلاب خونة يقاومون تقدم البلاد.. مخربون لا يريدون رفعتها لا يريدون نهضتها..

امتلأ الناس في الخلافة الراشدة بالأحزان.. وهمسوا جميعاً: ما هذه الهمجية؟ ألا لعنة الله على هؤلاء الحكام.. إنهم خونة.. إنهم مجرمون.. إنهم لصوص.. بينما كان المذيع يقول: سادتي.. سأستعرض معكم أرصدة بعض السلاطين والملوك التي بقيت في البنوك لم يستفيدوا منها لأنهم قتلوا في دولهم.. أو ماتوا.. وذكر سبعين ملكاً وسلطاناً.. كان أقلهم يملك الذهب بالقنطار والأمتار المكعبة، وأكثرهم كان يملك ألوف ملايين العملات الذهبية المختلفة.. ولا تنسوا الوزراء والمديرين فكلهم في الشكل سواء..

تمثلت أمامهم جميعاً صورة أمير المؤمنين في دولة الخلافة الراشدة.. كيف أنه يملك بيتاً مثل بيوتهم.. وله راتب مثل رواتبهم، له ميزة واحدة فقط وهي أنه يستطيع أن يشتري أي كتاب يريده على حساب الدولة.. وما كان الكتاب يحوجونه لذلك فكانوا جميعاً يهدونه مؤلفاتهم..

     

الله أكبر

أصيبت الدنيا كلها بالرعب.. واهتزت دولة الخلافة الراشدة بعنف.. حين رأى الناس المذيع يمسك بيده ورقة ودموعه تبلل لحيته.. عجبوا لذلك.. لكنهم كادوا يصابون بالجنون حين قال المذيع: إنا لله وإنا إليه راجعون أنعى إليكم أمير المؤمنين.. رضي الله عنه.. فارقته الروح منذ دقيقتين، ما كاد الناس يصدقون.. لولا أن الشاشة قد انتقلت فجأة ليرى الناس كلهم أمير المؤمنين مسجى في أحد المشافي.. والأطباء حوله كلهم يبكون..

بكت الأمة كلها عليه.. كان في قلب كل مؤمن، وكل إنسان في دولة الخلافة الراشدة التي تعم الأرض..!

مضت دقائق، وابتدأت البرقيات تنهال على مقر الخلافة.. ولم تمض ساعة واحدة إلا وطلبت جميع الولايات إجازة مدتها ثلاثة أيام، أغلقت الأسواق أبوابها إلا ساعتين في اليوم.. إلا مشروع السدود والأقنية لمنع الفيضان فقد استمر..

وكان الناس ينتظرون بياناً من رئيس مجلس شورى المسلمين.. فوراً انتقلت الإذاعة إلى مجلس شورى المسلمين.. اجتمع المجلس للبدء بإجراءات انتخابات جديدة، أعلن رئيس مجلس الشورى انعقاد المجلس بشكل دائم حتى يتم انتخاب خليفة جديد، وطلب إلى أمراء جميع أجزاء الدولة أن يتقدم الشعب بمرشحيه خلال ساعتين، على أن تبدأ مراسيم دفن أمير المؤمنين "عز الحق" انتقل مجلس الشورى كله إلى بيت أمير المؤمنين وابتدأ تغسيله وتكفينه، أعلن التلفاز أن الصلاة على أمير المؤمنين ستكون بعد ساعة في جامع الشهداء..

كانت الجموع تزحف بشكل هائل إلى ساحات مدينة "الإسلام" عاصمة الدنيا.. فلما صلى مجلس الشورى عليه راحت عواصم الدنيا تصلي صلاة الغائب على أمير المؤمنين، ودفن الخليفة "عز الحق" في أكبر ساحات "مدينة الإسلام" ضمن حديقة رائعة الجمال. فيها عشرة آلاف لون من الأزاهير، هي حديقة العاصمة الأولى.. وسميت حديقة عز الحق..

انتهت مراسيم الدفن وراحت البلاد تتصل بمرشحيها.. انقسمت الولايات إلى قسمين: قسم أجمع على توكيل مجلس الشورى باختيار المرشحين، وقسم قدم مرشحيه، كان المرشحون تسعة، واتفق مجلس الشورى على ترشيح ستة مرشحين آخرين.. وتركت بعدها مهلة يوم كامل ليتقدم من يريد ترشيح نفسه.. فلم يتقدم أحد..

شكّل مجلس الشورى فوراً خمس عشرة لجنة علمية وقضائية مهمتها دراسة تاريخ حياة كل من المرشحين.. لعرضها على الشعب فوراً.

وخلال ست ساعات وضعت الدراسات اللازمة..

قال المذيع: أيها المواطنون: هيا سجلوا على سجلاتكم تاريخ كل مرشح بعد ربع ساعة سنبث تاريخ الأخوة المرشحين..

بدأ المذيع يعلن:

المرشحون..

الدكتور حبيب الحق، دكتور في كيمياء الكون، أتقن علوم الإسلام الأساسية في سن التاسعة، وعمل ست سنين في إدارة المواصلات بين النجوم بعد تخرجه من الجامعة، وخلال دراسته تقدم بتسعين دراسة عن مجموعة من فنون الفضاء. اختص حتى سن الأربعين في مشاريع خدمة الأمة من خلال نتائج الفضاء.. كان على رأس اللجنة التي اخترعت السيار ة الجديدة، فأدار المشروع بنجاح عظيم.. تفوّق في دورة لإدارة معمل، ودورة لإدارة مجموعة من المعامل تنتج سلعة واحدة هي معامل تطوير الأسلحة النافعة، ثم أدار جميع معامل البلاد المختصة بمركبات النجوم، وتحويل التربة إلى معادن، وتصنيع مواد الفضاء، وصناعة المشافي الجاهزة، وأخيراً معامل السيارات ذات الخدمة العامة.

لم يعرف عنه خلق سييء.. إلا أنه يقنع العاملين معه بنجاح العمل ليلاً ونهاراً وطموحه قد يفوق طاقة مساعديه.. وله ستة أولاد، وزوجة واحدة.

من بلاد السودان.. وعضو في مجلس الشورى العام.

     

الدكتور حميد الله دكتور في طب الخلية الدماغية، حفظ القرآن عندما كان في العاشرة، وأتقن معه علوم الإسلام، كان الأول باستمرار حتى تخرجه في الطب عالج ستين حالة جديدة من أمراض الخلية الدماغية، تفوق في أدب الإدارة، وأدار مشافي الخلية الدماغية في دولتنا الراشدة، وقاد حملة القضاء على أمراض الأعصاب، وقدم بحثاً عن إعادة الخلايا الدماغية إلى حالتها الفطرية، مما ساهم في رفع سوية الذكاء ثلاثة أضعاف ما كان عليه، أمه راضية عنه، وأبوه يعتب عليه أنه لا يترك وقتاً لراحة جسده، أولاده خمسة، أهم ما يأخذه عنه زملاؤه أنه لا يتركهم يشاركونه في الأعمال الصعبة الشاقة، بل يقوم بها بنفسه، ويميل إلى العزلة أحياناً..

أهم دوراته الإدارية: دورة في إدارة محدودي الذكاء، ودورة في إدارة مجمعات الصناعات الشعبية وعمالها، عضو في مجلس الشورى، ورئيس لجنة الصحة العامة، والمعامل الصحية، من ولاية أفغانستان.

     

الدكتور سليم الدين بن أحمد، دكتور في فقه الإدارة، دخل عشر دورات في فنون المؤسسات العسكرية، ودورة في إدارة مجمعات المواد الغذائية الحيوانية وقام خلال عشرين سنة بإدارة هذه المجمعات، حتى انتخب عضواً لمجلس الشورى.. يؤخذ عليه أنه أهان يوماً مساعده لأنه تأخر عن أداء بعض المهمات في دقائق، مما أدى إلى ضياع مليون وثلاث مئة ساعة عمل في مجمعات المواد الغذائية، وطلب إبداله رغم كفاءته.. ولد في مكة، ولا زال أبوه هناك..

وكان من بين المرشحين رئيس مجلس الشورى، وأحد عشر أميراً من أمراء الولايات.. مشهورون.. وتاريخ حياتهم معروف للأمة كلها..

اعتذر ستة من أمراء الولايات، لأسباب أوضحوها تدور حول إيمانهم أن المرشحين الآخرين هم أقدر منهم.. وأنهم لا يريدون ارتكاب معصية بالتقدم إلى منصب هناك من هو أرضى لله منهم في إدارته.

كما اعتذر رئيس مجلس الشورى وأيد الدكتور حبيب الحق مرشحاً للإمارة.. فتنازل بقية أمراء الولايات للدكتور حبيب الحق..

بقيت المعركة ما بين حبيب الحق، وسليم الدين ابن أحمد، وحميد الله.

كانت أعمار الثلاثة في حدود الخمسين سنة، وكانوا أقوياء الأجسام.. عمالقة في الذكاء والعلم والخبرات.

أعلن المذيع أن القادة الثلاثة سيتناقشون في قضية إدارة البلاد بعد قليل أمام الجمهور..

تقدموا إلى قاعة التلفاز حسب بداية أسمائهم مرتبة على الأحرف الأبجدية، حبيب الحق أولاً، ثم حميد الله، ثم سليم الدين بن أحمد.

أما حبيب الحق فكان طويلاً أسود اللون يلبس ثياباً بيضاء نقية، مزخرفة أفريقية رائعة الألوان، كانت الهيبة كلها متجلية في طلعته.. أفريقيا مدهشاً.

همس معظم الرجال في الخلافة الراشدة: الله أكبر.. إنه عظيم حقاً..

أما حميد الله، فهو أبيض اللون، أشقر الشعر مربوع القامة، يضج وجهه بالنور، أما سليم الدين بن أحمد، فكان أسمر الوجه عربياً صميماً، طويلاً نحيفاً، شامخ الرأس عنيف النظرات، كأنه شعلة من لهب..

عانق بعضهم بعضاً.. كأنهم الود كله.. ثم جلسوا.. وراح الناس ينظرون بشوق إلى هؤلاء العمالقة العظام احمرّت وجوه الثلاثة بالخجل.. تقدم رئيس مجلس الشورى وقال:

إخواني.. هؤلاء هم خير الأمة علي الإطلاق، تمثلت فيهم روح الإسلام، يزينهم العلم، وتهديهم الحكمة، أذكياء النفوس، خبراتهم كالجبال.. وأخلاقهم القرآن..

من عجيب الأمر أن كل واحد من هؤلاء العمالقة الثلاثة قد طلب بإلحاح أن يتنازل لأحد أخويه، والآن ليتفضلوا بعرض مناهجهم وبرامجهم، وأنتم أيها الناس بعد ذلك الحَكَمُ، تقدم سليم الدين بن أحمد، فصمتت الدنيا كلها.. قال: الحمد لله وحده، واسع الحمد عظيم المنّة، المنعم علينا بالإسلام وبنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم..

إن برنامجي إن شاء الله تعالى يتمثل في نقطة واحدة هي: تصفية آثار الجاهليات الهمجية تماماً، حتى لا يبقى لها أثر في هذه الأرض التي باتت تسجد لله وحده.. إن الخطوات الحاسمة التي خطاها أمير المؤمنين "عز الحق" في هذا السبيل مجيدة حقاً.. لكن الزمن لم يسعفه، وقد اختاره الله إلى جواره ونحن أحوج ما نكون إليه، لكن سنة الموت باقية إلى يوم القيامة، ومحمد رسولنا صلى الله عليه وسلم قد مات.. وأقول لكم إنني أتمنى يا إخوتي أن تختاروا للخلافة أحد الكريمين العظيمين، حميد الله أو حبيب الحق، وسأكون عوناً لهما وسنداً.. والحمد لله رب العالمين.

ثم تقدم حميد الله.. وقال: الحمد لله الذي أتمّ علينا نعمه، وأكرمنا بدينه، وأرسل لنا خاتم الأنبياء محمداً صلى الله عليه وسلم.

إن برنامجي بسيط كبرنامج أخي خلاصته أن أدرس جميع المؤسسات التي تقوم عليها الخلافة الراشدة، وأصفي كل تعويق فيها.. وأضع كامل الضمانات كي تستمر خلافتنا الراشدة إلى ما شاء الله.

وأؤكد لكم أن سليم الدين وحبيب الحق هما أفضل مني.. فأزكيهما لكم وأسأل الله أن يجعلنا عوناً لأي منهم إن اخترتموه.. والحمد لله رب العالمين، وعاد إلى كرسيه.

وتقدم حبيب الحق، وقال: إن برنامجي مؤلف من نقطتين:

أولاهما: أن أسعى بخطوات أوسع في تسخير الكون كما أمر الله.. وأقدّر أن تصفية بقايا الجاهليات الهمجية من مجتمع الخلافة الراشدة يدعمه أن نستعين بطاقات الكون كله لخدمة الإنسان..

أما الأمر الثاني: فهو الحرص الشديد على دعوة الأقليات غير المسلمة في مجتمع الخلافة الراشدة بشكل يؤدي إلى دخولها في الإسلام، لتسجد الأرض كلها سجدة واحدة لله عز وجل وأعلمكم أنني سأستعين بالكريمين العظيمين، سليم الدين، وحميد الله، وأذكر لكم أيها الإخوة في كل مكان أنني أدعوكم إلى انتخاب أحد هذين العظيمين لما أرى لهما من فضل عظيم، وخبرة فذّة، وقوة على إدارة شؤون الأمة.. والحمد لله رب العالمين..

توجه رئيس مجلس الشورى إلى الناس وقال: والآن هل لدى أحد منكم سؤال؟

رنت هواتف الغرفة كلها دفعة واحدة، رفع رئيس مجلس الشورى أحدها فظهرت صورة امرأة قالت: لقد شعرت بالحيرة أمام إخوتنا العمالقة الثلاثة.. ولدي اقتراح: أن ينتخب إخواننا الثلاثة من يرونه مناسباً بينهم للخلافة، ليكون اختيارهم قدوة لنا أثناء اختيارنا لأحدهم..

ابتسم رئيس مجلس الشورى وقال أن أؤيد هذا الاقتراح فهل يقبل إخوتنا المرشحون الثلاثة به...؟!...

وافق الثلاثة عليه، وأعطى رئيس مجلس الشورى ورقة لكل منهم وقلماً..

وقال تفضلوا انتخبوا واحدا منكم... فكتب كل واحد منهم اسما على ورقة وأعطاها لرئيس مجلس الشورى... وفتح رئيس مجلس الشورى أول ورقة فوجد عليها اسم حبيب الحق، وفتح الثانية فوجد عليها اسم حبيب الحق، وفتح الثالثة فوجد عليها اسم سليم الدين...

ابتسم سليم الدين وحميد الله بشكل رائع والسرور يهزهما هزا وقالا معا: لي الشرف أن أكون قد انتخبت أخي ورئيسي حبيب الحق... أما حبيب الحق فقد أشرق وجهه بنظرة حازمة، وقال: اللهم إني أسألك العون كله...

ورنت هواتف غرفة التلفاز كلها، وقال رئيس مجلس الشورى: ليقل الشعب الآن كلمته الحرة....أنا بانتظار رأي الأمة خلال ساعتين... والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

ظهر المذيع وقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. إن هذه الأمة العجيبة هي أمة الإسلام العظيم.. ما أروع هذا الذي حدث!!! أمة فيها خمسة آلاف مليون إنسان تنتخب خلال ساعتين أعظم رجالها!!.

ابتسم وقال: والآن أيها السادة ما رأيكم أن أعرض عليكم خلال الساعتين التاليتين وحتى تأتي نتيجة الانتخاب فيلما عن الهمج المجرمين كيف كانوا ينصبون رؤساءهم وقادتهم: رنت جميع أجراس هواتف الغرفة كلها بالموافقة..

فقال المذيع:

فورا سترون الهمج بأجلى صورهم:

 

الحكام الهمجيون..

ظهرت على شاشة التلفاز صورة ملك يقول لمن حوله: بايعوا ابني ملكا عليكم.. وإلا ذبحتكم.. فقال الجميع.. لا حاجة لذلك يا مولانا.. نحن عبيدك وعبيد ابنك.. وبايعوا ابنه الشاب ملكا.. فرح الشاب أنه أصبح وليا للعهد، ومضت سنوات دون أن يموت أبوه، وفي خمارة قال لرفاقه: لقد اشتقت أن أكون ملكا فما العمل؟!.. أجابه واحد منهم وهو يهز رأسه من أثر الخمر: اقبض على أبيك، واعزله.. واستلم الملك فورا..

قال الشاب: حسنا.. قوموا بنا إلى قصر أبي.. فدخلوا القصر وذبحوا أباه وأعلنوه ملكا..

قال المذيع: انظروا شكلا آخر من طرق الوصول إلى الحكم.

رأى الناس مجموعة من عسكر المماليك مجتمعين في اصطبل.. قال أحدهم:

الرأي عندي أن نقتل السلطان، ونجعل واحدا منا سلطانا، فما رأيكم؟؟

أجابوا جميعا: عندها نأكل العسل، ونلبس الحرير.. ونستريح من خدمة السلطان.. وأوامره.. هيا إلى العمل.. ركبوا خيولهم وجمعوا جنودهم.. ودخلوا قصر السلطان متظاهرين بالحب له.. فلما أصبحوا في بلاطه أعلنوا النداء عليه.. فهجم السلطان عليهم.. وهجم معه جنده.. فقتلوهم جميعا.. لكن أحدا أعوانه طعنه بخنجر وقال: أيها الغادر تقتل أتباعك!!!! ثم صرخ: أنا السلطان.. فقال الناس كلهم: أنت السلطان.. أنت السلطان.. نحن جنودك يا سلطان؟!

ظهر المذيع وقال: وتارة أخرى يكون تولي السلطة بشكل آخر، تعالوا نرى:

ظهر عدد من القادة في قصر كبير، يتهامسون: السلطان قد مات.. فاختاروا سلطانا منكم قبل أن يقفز إلى كرسي السلطة رجال غيركم.. قال واحد: أنا أختار طومان باي، وقال الثاني وأنا أختار مومان باي.. وراحوا يتناقشون... طومان أم مومان.. وأخيراً.. همس طومان لهم: لكم نصف أموال المملكة إن جعلتموني سلطانا.. فوافقوا كلهم عليه، فلما اعترض مومان باي ذبحوه كلهم وخرجت من قصر السلطان جنازتان.. جنازة السلطان القديم وجنازة مومان باي.

رن الهاتف في غرفة التلفاز: فرفع المذيع السماعة فظهر على الشاشة رجل قال: أين الشعب في ظل هؤلاء الحكام...؟

ابتسم المذيع ابتسامة ساخرة وقال: الشعب؟!... كان الشعب يعيش مسحوقا.. علماؤه مضطهدون، وقادته ملاحقون إنه بقرة السلطان يحلبها كلما أراد فالشعب مصدر المال، وعند الضرورة يترك السلطان شعبه لأعدائه دون أن يحميهم فيقومون هم بحماية أنفسهم وبلادهم..

ففي أيام السلم هم الذين يدفعون الرسوم، وفي أيام الحرب هم المقاتلون.. بنوا حياتهم بعيدا عن حكوماتهم، وهل تنهض شعوب حكوماتها غادرة فاجرة خاسرة؟!...

تعالوا لننظر إلى أساليب أخرى تصنع فيها الحكومات:

ظهرت على شاشة التلفاز صورة أناس يهتفون، يخطب فيهم رجل يقول: انتخبوني.. أقلب حياتكم نعيما.. وبؤسكم جنات.. ما رأيكم؟! يقولون: كم تدفع...!... غيرك دفع فيقول لهم: أنا شريف.. لا أدفع، إن رأيتموني شريفا فانتخبوني... تقترب الصورة من رجلين ضمن المجتمع يقول أحدهما للآخر... سيدنا الخطيب سيدفع لكم ما تريدون.... لكن ليس أمام الناس... استروها.. فتنتقل همسات بين المجموع: سيدفع.. سيدفع.. سيدفع.. ثم يصرخون جميعا، يعيش النائب الحر... يعيش... وبعدها نرى ذلك الخطيب يدخل إلى البرلمان بسيارة فخمة جدا... يصفق له النواب... ثم يجعلونه رئيسا للجمهورية.. يدخل إليه مندوب شركة، يقول له: سيدي... أنا أتعهد مشروع بناء مصانع الإسمنت، يجيبه: حسنا: كم تدفع.؟!... فيجيبه: نصف ثمن المشروع... فيقول رئيس الجمهورية: أنا موافق.. لو تعهدت أنت كل المشاريع لأعطيناك إياها.. فما رأيك!!... فيجيب: كم تبلغ أموال تلك المشاريع فيجيبه الرئيس: خمسة آلاف مليون.. نصفها لك.. ونصفها لنا ولجماعتنا... يتصافحان بحرارة... وترسوا المشاريع كلها على صاحبنا وشركاه.

يظهر المذيع ويقولك انظروا بعدها ماذا حدث في بلد مثل الكونغو...

يرون رئيس الجمهورية في غرفة مملوءة بالليرات يقول: هذا المال كله حصيلة عام واحد فإذا بقيت عشرة أعوام كان لدي عشر غرف مملوءة.. يا سلام.. يحيا الوطن... في غرفة ثانية يظهر مجموعة من الضباط يتهامسون: مرتشي..حرامي.. سرسري... يجب أن نطرده من حكم البلاد..

بعدها نرى مجموعة من الدبابات تسير مسرعة حتى تطوق القصر الجمهوري والإذاعة، ونرى الضباط قد قتلوا رئيس الجمهورية، وربطوه من رجله وجروه في الشوارع.. ونسمع الإذاعة تنادي: يا شعب الكونغو العظيم، نريدك حراً... سنبني لك المصانع.. سنخلصك من الرشوة، ستعيش مكرما معظما.. انظروا إلى غرف الرئيس التي ملأها بالأموال.. إنها من أموال الشعب.. فيخرج الشعب في مظاهرات هائلة.. يحيي الأبطال المغاوير...

بعدها نرى جماعة الضباط الكونغوليين يعانق بعضهم بعضاً.. يقول أحدهم.. نحن عشرة، ولكل واحد منا غرفة مملوءة بالذهب من غرف رئيس الجمهورية الراحل...

ما رأيكم.؟!.. ويتقاسمون.. ويعودون إلى سيرة أسوأ من سيرة الرئيس القديم..

نرى الشعب يتساءل: أين الحرية..؟!.. أين الكرامة.. يخرج في مظاهرات.. فتهجم الدبابات، لتسحق الناس، وتحرق الشوارع.. والدور والأسواق.. ويصرخ القادة في الإذاعات: لقد قتلنا الأشرار.. من أعوان رئيس الجمهورية الخائن السابق.. لا مكان بيننا للظالمين وأعوانهم... في سبيل العدل سندمر كل أعوان الرؤساء السابقين.. ويعود الناس إلى بيوتهم، يداوون جراحهم، ويبكون قتلاهم... ليعيشوا في ظل ظلم أعظم من سابقه بكثير..

يظهر المذيع ويقول: هكذا كان الهمج الفجرة المجرمون يحكمون شعوبهم.. إن هؤلاء سيلعنهم الله.. وسيلعنهم الناس إلى يوم الدين.. فاحمدوا الله أنكم قد خلقتم في ظل هذا العدل العظيم..

والآن تعالوا ننظر إلى وحشية أفظع هولا.. وحكم أعظم شراً..

يرن جرس الهاتف فيرفع السماعة فيظهر مواطن يسأل: هل ظهرت نتيجة الامتحانات؟!..

يظهر رئيس مجلس الشورى ويقول: أصر الأخ الدكتور حبيب الحق على أن تجري الانتخابات ليختار الشعب أحد المرشحين الثلاثة.. وقد بدأت الانتخابات كالعادة ابتداء من الأسرة، إلى الزقاق إلى الحي إلى المدينة إلى الولاية.. وقد أخبرت معظم الولايات بنتائج انتخاباتها.. وبقيت بعض الولايات.. وقد انصبت ثلاثة أرباع الأصوات على الدكتور حبيب الحق... ويليه الدكتور سليم الدين... ويليه الدكتور حميد الله.. فيمكننا أن نعتبر أن حبيب الحق قد أصبح أمير المؤمنين فلتبدأ البيعة له منذ هذه اللحظة من مجموع الأمة... رأى الناس رئيس مجلس الشورى يعانق أمير المؤمنين الجديد حبيب الحق، ويبايعه بعده: سليم الدين وحميد الله.. وراح الشعب كله يبايع حبيب الحق أميرا للمؤمنين...

 

همجية في ظل الخلافة الراشدة..!؟

فوجئ الناس برئيس مجلس الشورى يقترب في غرفة التلفاز وهو يقول:

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. ولازال يقترب حتى ملأ الشاشة فرأى الناس في وجهه غضباً عجيباً... لقد انتفخ وجهه واحمر لونه، وراح يهتز من الغضب ثم قال: يبدو أن آثار الجاهلية الهمجية لازالت موجودة بيننا بقوة... انظروا إلى هذه الرسالة ماذا يقول صاحبها، إنه يقول:

الأخ رئيس مجلس الشورى..كيف ترشحون للخلافة رجلا من السود.. ألم يبقَ في دولة الخلافة الراشدة من البيض أحد.. لا أقبل أن يكون رئيسي من الزنوج السود..

ضجت الدنيا بالغضب، وأحنى أمير المؤمنين رأسه وهو يبتسم ابتسامة ساخرة،...

قال رئيس مجلس الشورى: يبدو أن صاحبنا قد نسي أعظم ما في ديننا من عدل.. نسي أن رسول الله يقول: "لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى".. ونسي قول الله تعالى: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم..)

ظهر رئيس مجلس إدارة المظالم، وقال أرجو أن يوضع هذا الرجل تحت إشراف القضاء.. ويعرض على لجنة طبية.. فقد يكون مجنونا.. فإذا تأكد القاضي أنه صحيح العقل فأرجو أن يدخل في دورة التربية والتثقيف في أحد معاهد تأهيل المواطنين إسلاميا، وإذا كان قد دخل مثل هذه الدورة فأرى أن يصدر فيه القاضي حكما قضائيا مناسبا...

ظهر رئيس معهد التربية التثقيفية وقال: قد دخل المواطن دورة مناسبة ككل المواطنين، وقد وجدنا في إضبارته أنه يعاني شذوذا في سلوكه مع بعض الغباء..

اتصل القاضي وقال: أرجو أن يوضع في مصحة ثقافية أولا.. وسأرسل إليه أحد معاوني لدراسة واقعه النفسي والعقلي والأخلاقي والاجتماعي. وسنوافيكم بالنتائج فورا بعد ساعة إن شاء الله..

تكلم مدير معاهد التربية والتثقيف وقال: لدينا فيلم عن موقف الهمجيات الجاهلية من قضايا العرق واللون، فهل ترغبون أن يعرض على المواطنين؟!!..

أجاب رئيس مجلس الشورى: حسناً.. حسناً يعرض الفيلم فوراً ريثما يأتي تقرير القضاء عن الرجل..

 

العنصرية الهمجية

رأى الناس شاباً أسود اللون يحاضر في طلابه السود كلهم، والطلاب يقولون: إنه عالم كبير.. اخترع ستة عشر اختراعاً ميكانيكياً، يصافحه الطلاب بحرارة بعد المحاضرة.. يسلم عليه زميل من زملائه، يقول له: أنا جائع.. تعال نتناول بعض الطعام في أول مطعم.. يقتربان من مطعم كبير نراهما متوجهين إلى مدخله، نلاحظ وجود لافتة على المدخل.. يقف الرجلان أمامها غاضبين: نقرأ اللافتة فإذا فيها: ممنوع دخول الكلاب والسود. يقول المحاضر لصاحبه: لندخل ولنرى ماذا سيفعلون.. يدخلان، فيحاول الخدم منعهما.. لكنهما يدخلان بالقوة، ويجلسان على إحدى موائد الطعام.. لكن مدير المطعم يتدخل، يقترب منهما ويصرخ بهما: هيا اخرجا.. وإلا ضربتكما.. وهو يحمل مسدسه بيده، لكنهما يرفضان.. عندها يشير إلى خدمه فيسرعون إليهما.. ويحملونهما رغما عنهما ويلقونهما في الشارع، يتصلون بالبوليس.. فيتدخل البوليس ضدهما.. ويساقان إلى مخفر لمعاقبتهما لأنهما دنسا مطعم البيض، يجلس الاثنان في السجن ويكاد الغضب يقتلهما يقول المحاضر لزميله: لقد أعرضت عني جميع شركات الميكانيكا في الولايات المتحدة، ولم تأخذ باختراعاتي لأنني أسود.. ومن بعيد يسمعان صراخا عاليا، فينظران من النافذة فيريان تظاهرة من طلابهما السود أتوا محتجين على سجنهما، لكنهما يلاحظان أيضا أن البوليس قد أقام المتاريس خارج المخفر... فلما وصل الطلبة هددهم البوليس أنهم إن لم يتفرقوا فإنه سيطلق عليهم النار، فصرخوا نريد الدكتور وزميله.. وانطلقت النيران لتحصد معظم الطلبة.. وهجم الباقون فذبحوا بعض الشرطة، وأخرجوا الأستاذين، واختطفوا الأسلحة.. وراحوا يرمون البوليس بالنار.. وبعد أقل من ساعة طوقت قوات الجيش الجامعة. واعتقلت معظم الأساتذة والطلاب.. وأغلقت الجامعة، وخرجت الصحف تقول تحت عنوان: السود الوحوش يمارسون جرائمهم، اقتحم زنجي شديد سواد البشرة مطعما للبيض فاقتيد إلى الشرطة، فحضر بعض السود وأخرجوه عنوة، وقتلوا بعض الشرطة البيض بالخناجر، فأغلقت حكومة الولايات المتحدة الجامعة..

توقف الفيلم فجأة وانتقل إلى جنوب إفريقيا.. فإذا بنا نرى مدن البيض ذات العمارات الشاهقة، والنظافة التامة، مكتوباً على بواباتها ممنوع دخول السود، وتنتقل الصورة بعدها إلى أحياء فقيرة مكتوب على أولها: انتبه.. هنا أحياء السود.. يعبر قطار مكتوب عليه قطار البيض.. ندخل منجما فنرى عاملين عاملاً أبيض، وعاملاً أسود.. نرى إنتاج الأسود ضعف إنتاج الأبيض، لكن إدارة المنجم تعطي الأسود نصف ما يأخذه الأبيض من أجر..

يقول المذيع: إن ما رأيتموه من همجية هو بسيط بالنسبة لما جرى حول العنصرية والعرقية يكفي أن تعلموا أن حربا عالمية دمرت العالم قامت أتدرون لماذا؟! تعالوا فانظروا:

نرى هتلر يرفع يده ويقول: ألمانيا فوق الجميع.. فتهتف الحشود بالملايين تحية له...

ثم نرى تشرشل يعلن: نحن فوق الجميع.. ويصرخ موسوليني: إيطاليا فوق الجميع.. ثم نرى المعارك تحتدم، والملايين يقتلون، والدمار يعم أوربا وآسيا..

يقول المذيع: انظروا إلى هؤلاء المتوحشين.. لقد قال لهم الإسلام قبل ذلك بثلاثة عشر قرنا أكثركم علما واستقامة وخلقا هو أفضلكم.. فلم يفهموا. إنهم شر أنواع الهمج.. رن هاتف التلفاز فأسرع المذيع ورفع السماعة فظهر القاضي يقول: إن الأخ جهام عنده بعض الاضطرابات النفسية، إلى جانب أنه مسن جدا فعمره مائة وستون سنة، فهو من الذين عاشوا بعض حياتهم في ظل الهمجيات الماضية، لكن وجدناه حسن الإيمان، مشهودا له بالخلق الكريم.. فبحثنا عن السبب الحقيقي في بيئته الاجتماعية فوجدنا له جارا زنجيا سيء الخلق يشكو أهل زقاقه كلهم منه.. وهم لا يرفعون أمره إلى السلطة حرصا عليه.. لذلك فإننا نعتقد أن غضب الأخ جهام من جاره الأسود هو السبب في نفوره من السود.. وقد قرر الأطباء النفسيون قرارا سنعمل به، ونعطيكم النتيجة بعد شهر على الأقل.. لنعرف ما إذا كان هذا هو سبب رأي الأخ جهام أم غيره.. على كل حال سيمضي الأخ جهام شهراً في معهد التربية النفسي، في جو جميل.. نطمئن المواطنين أن يدا لا يمكن أن تمتد إلى الأخ جهام.. لكن حالة مرضية قد ألمت به.. سنعالجها بنجاح بإذن الله.. ونعلم الجماهير بالنتيجة فورا.. وقد نأخذ كل يوم خمس دقائق من وقت التلفاز نعرض فيه نتائج اليوم مع جهام..

رن هاتف غرفة العرض، وظهر رجل غاضب، قال: أرجو أن يتدخل مجلس إزالة المظالم لإيقاف ذلك الرجل الذي يؤذي جاره، كما أرجو أن يوقف القاضي جميع أهل زقاق الأخ جهام لأنهم لم يتخذوا الإجراءات الكافية لإيقاف أذى ذلك الجار.. إن أذاه قد أدى إلى مشكلة عامة على مستوى الأمة كلها.. أدى إلى عودة النظرة العرقية الهمجية إلى الناس.. وهذا شيء مخيف..

همس القاضي: أنت على حق.. لكننا لم نفعل شيئا مع أهل الزقاق حتى تظهر نتيجة التحقيق، أما الجار المؤذي فإننا قد أحضرناه.. ونحن الآن نحقق معه لنعرف سبب إيذائه لجيرانه.. هيا إلى التحقيق...

ينتقل التلفاز فوراً إلى غرفة القضاء، فترى الأمة كلها زنجياً أسود طويل القامة تبدو عليه البساطة يقول: عندما سكنت في زقاق بني سوردون انتظرت أن يعاملني إخواني كما أعاملهم.. لكنني لاحظت أن بني سوردون هؤلاء، وهم من الجزيرة البريطانية.. لا يعيرونني مواعينهم إن احتجت إليها، وماذا أحتاج؟!.. إلى مطرقة.. أو بعض أدوات خفيفة.. لم أعرف لماذا لا يعيرونني.. وبعد ذلك علمت أنهم من أبناء أسرة واحدة مات معظم أجدادهم في معارك خاضها الإفريقيون السود من قبيلتنا ضد المستعمرين الإنكليز.. كان أجداد جيراني من قادة جيوش الاستعمار الإنكليزي.. إنهم لم يذكروا لي السبب.. لكنني أظن أن هذا هو السبب.. لماذا إذاً لا يعيرونني بعض مواعينهم ونجن إخوة؟! فصرت أنا أسلم عليهم بجفاف، ولا أبادلهم الزيارات، فصاروا هم لا يزورونني إن مرضت، وتطور الأمر فصرت أقابلهم بالنفور، ويقابلونني بالنفور.. ثم صاروا يسخرون مني ويعلمون أطفالهم كي يسخروا مني، فصرت أشتمهم.. وأؤذيهم ما استطعت. عجب الناس أشد العجب لما سمعوه وتساءلوا ما هذه الأخلاق الهمجية الجاهلية.. حدث كل هذا الشر.. ولم يعلم به أحد؟!

تابع الزنجي: صرت أكره كل جيراني.. إنني لا أكره الأخ جهام.. لكنني ولأنني كرهت جيراني فإنني صرت أعامله كما أعاملهم.. كان في العادة يكلفني ببعض الأعمال كشراء بعض الخضار ورمي بعض النفايات، وشراء بعض الصحف.. ودفع بعض الضرائب. فلما شعرت أنه يشارك جيرانه السخرية بي أهملته.. فصار يطلب من جيرانه أن يعينوه، فصاروا يرسلون له أولادهم.. لكن أولادهم قد اعتادوا السخرية بي، وما كنت أطيق على ذلك صبراً.. فصرت أطردهم حين يأتون إلى جاري.. وضربت بعضهم لأنهم شتموني، فصار جاري الكبير يشعر بالضرر، قلت له: إن منعت أطفال جيرانك أن يسخروا مني تركتهم لك.. لكنهم لم يكفوا عن سخريتهم.. فشددت عليهم الأذى.. وبكى.. فأبكى الناس كلهم ثم مسح دموعه وتابع.. وأنا لا أدري ماذا أفعل؟! أعرف أن إيذاء الجار يغضب الله، لكنهم آذوني.. وهدروا كرامتي.. أرجوكم أعطوني بيتاً خارج هذا الزقاق وخذوا بيتي، أرجوكم خلصوني من غضب الله.. وبكى بكاءً مراً.

ظهر رئيس مجلس إزالة المظالم والغضب يقطر من وجهه.. قال وهو يكظم انفعاله:

أرى أيها الأخ القاضي أن في هذه القضية انحرافات خطيرة ابتدأت برفض إعارة المواعين لعبد الرحمن أدى ذلك إلى توقف بعض العلاقات الأخوية، كالجفاف في السلام، وعدم تبادل الزيارات عند المرض، ثم النفور، ثم السخرية، والشتيمة، والإيذاء واشتراك الأطفال بذلك مما يؤدي إلى فساد تربيتهم.. وكل ذلك أدى إلى وجود أذى الجار والشعور بإهدار الكرامة، واسوداد الحياة..

كل ما سبق خطير.. إن استمرار هذه الجرائم يعني تدمير علاقات الأخوة بين المؤمنين.. إذا زالت الأخوة حلّت محلها الأثرة، والكره، وبالتالي يتنافر المجتمع ويختصم أبناؤه يتلو ذلك تنازعهم، وبعدها دمار المجتمع وهلاكه.. ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم..

ظهر رئيس مجلس إزالة المنكرات وقال: إن الأمر خطير حقاً.. ونحن سنقدم كل إمكاناتنا لإزالة كل هذه المنكرات.. قبل أن تفشو وتنتشر..

ابتعد الجميع عن شاشة التلفاز حين أخبروا أن أمير المؤمنين آت من قليل.. دخل أمير المؤمنين، وقال: بسم الله والصلاة على نبيّه..

يعزل حي بني سوردون عزلاً كاملاً.. أوجّه ندائي إلى جميع ولايات الخلافة.. أقول لهم أرجو أن ينبثّ جميع أعضاء مجلس إزالة المنكرات، ومجلس إزالة المظالم، ومجالس علوم الإحصاء وعلوم النفس، وجميع الباحثين الاجتماعيين، وجميع رجال الشرطة في أحياء دولة الخلافة كلها.. ويقدموا تقريراً عن الحالة الاجتماعية والنفسية لكل أمة.. فرداً فرداً.. للوقوف على كل انحراف وإعلام الدولة به فوراً.. لأن ما حدث في حي بني سوردون إذا تكرر وفشا فإنه يهدد دولة الخلافة الراشدة كلها بالتفكك.،. أرجو أن يصلني تقرير مفصل عن ذلك كل أربع وعشرين ساعة..

أرجو أن يخيّرَ جهام في نهاية التحقيق بين أن يعيش في مؤسسة اجتماعية تؤمن له جميع الخدمات.. أو أن يعطى موظفاً يخدمه..

وأوجّه ندائي إلى جميع قادة الولايات أن يعطوا كل من تماثل حالته حالة جهام موظفاً يخدمه، أو أن ينقل إلى مؤسسات اجتماعية تؤمن لهم حاجاتهم كلها.. وأوجّه خطابي إلى كل مواطن أن كل من يعاني تنغيصاً من أي نوع فإنني أطلب إليه أن يتقدم بالإخبار عنه فوراً إلى اللجان التي ستنتشر بين المواطنين وإن شاء فليكتب بذلك إليّ لأن الله قد كرّم بني آدم.. وحرّم أن يعيشوا منغصين تعساء..

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

وغادر قاعة البث..

همس المذيع: إلى العمل أيها المؤمنون.. أزيلوا كل ما يخالف منهج الله ورسوله.. ابعدوا عن مجتمع الخلافة الراشدة كل انحراف.. أتوجه إلى الذين يعملون في المشاريع زيدوا إنتاجكم في غياب إخوانكم الباحثين حتى لا تفوتنا فرص النمو المقررة.. وأتوجه إلى الباحثين أتقنوا أعمالكم وبأقصى سرعة.. وأتوجه إلى كل مواطن أعينوا الباحثين بكل ما تستطيعون حتى ينجح العمل المنوط بهم.. يجب أن نصفي جميع آثار الهمجيات الجاهلية.. يجب أن نحافظ على سعادتنا في ظل دولة الخلافة الراشدة.. يجب أن تستمر دولة الخلافة الراشدة حتى يسعد الإنسان.. ويرضى رب السماء.. اللهم، لا تحرمنا خيرك.. ولا تبعدنا عن صراطك المستقيم..

فهتفت الأرض كلها: آمين.. آمين..

همس المذيع: والآن أستودعكم الله.. إلى الغد إن شاء الله..

--

أيها الإخوة برنامجنا اليوم في أربع نقاط..

- متابعة التحقيق مع الأخ جهام والأخ عبد الرحمن.

- ومتابعة ما يجري مع حي بني سوردون.

- ومتابعة ما يجري في قضية كبار السن من المؤمنين الذين يجب أن تقدم لهم الخدمات فوراً..

- ومتابعة أعمال الباحثين في الأرض كلها..

- ومتابعة عرض بعض الجوانب الجاهلية إن أتيح لنا وقت مناسب..

أما جهام.. فأخباره طيبة والحمد لله.. تعالوا ننظر إليه في المعهد النفسي أولاً..

     

جهام يصحو

ظهر جهام في حديقة مملوءة بالأزاهير.. وحوله أربعة أطباء بشرتهم سوداء يلاطفونه.. واحد يحادثه بمودة عظيمة، وثان يناوله طعامه، وثالث يقدم له باقة من زهور.. ورابع ينتظر أوامره، كان جهام يحبهم جداً.. ويشعر بالسعادة كأنه ابن عشرين سنة.. قال له واحد منهم: طلبت من إدارة المعهد أن يأتوك بطبيب آخر بدلاً مني.. فتوقف جهام عن طعامه وامتعض وقال له: لماذا يا أخي.. هل آذيتك.. لا أريد غيرك.. قاطعه الطبيب: قلت لهم كي يأتوك بطبيب أبيض.. فاحمر وجه جهام خجلاً وقال له: إن أكرمكم عند الله أتقاكم يا بني، وهل هناك فرق بين الأبيض والأسود أرجوك ابق معي.. ضحك الأطباء الأربعة، وضحكت الأمة كلها..

ظهر المحلل النفسي وقال: وهكذا يتبين لنا أن موقف جهام السابق حين طلب أن يكون أمير المؤمنين أبيض البشرة كان يتأثر بما يجري بينه وبين الأخ عبد الرحمن، من أذى..

رن هاتف التلفاز فرفع المذيع السماعة فظهر شخص قال: هل يمكن أن نستنتج أن المواقف الأخلاقية التي تحيط بالمرء تؤدي إلى مواقف فكرية معينة..

أجاب الطبيب: هذا شيء محتم.. فحالة الإيذاء التي لحقت بجهام اقترنت بشخص المؤذي الذي كانت بشرته سوداء، فصار يتصور، لسذاجته، أن السود كلهم سيئون.. وتطور موقفه ذلك إلى تبني سلوك جديد ينافي قاعدته الفكرية الإسلامية، هذا الموقف هو الموقف الجاهلي من ألوان البشرة التي تتلخص أن الأبيض أفضل من الأسود.. ولشدة ضيقه تبنى موقفاً سلبيّاً حين طلب ألا يكون أمير المؤمنين من الذين لهم بشرة سوداء.

الطبيب: سنستمر في العلاج لمدة شهر.. وسيكون أحد أقسام العلاج أن يعيش عبد الرحمن مع جهام جارين لمدة أسبوع.. على أن تسود بينهما علاقات الأخوة الإسلامية.. لتزول آثار إيذاء كل منهما لأخيه نهائياً.. وسنخبركم بذلك في حينه، والأمر بعد ذلك للقضاء يتصرف وفق ما تمليه شريعة الله، شريعة العدل. والسلام عليكم ورحمة الله..

     

ظهر المذيع وقال: أما قضية عبد الرحمن فتعالوا انظروا ماذا جرى له..

يظهر عبد الرحمن مع القاضي في حي سكني جميل يطل على نهر يشق طريقه ضمن بساتين رائعة الثمار مملوءة بالأزاهير ويظهر حوله مجموعة من جيرانه يقول له القاضي: كيف جوارك يا عبد الرحمن: فيجيبه: الحمد لله.. هم من أفضل الناس.. لقد شعرت بالكرامة بينهم.. سأل القاضي الجوار: كيف جاركم الجديد فقالوا: صالح والحمد لله.. قال القاضي لعبد الرحمن: ستدخل دورة في معاهد التثقيف العلمي، موضوعها: (كيف تتخذ موقفاً صحيحاً حين يرتكب الآخرون معك عملاً خاطئاً).

تدوم شهراً كاملاً.. ظهرت بوادر القلق على وجه عبد الرحمن فسأله القاضي: أراك قلقاً، هل أستطيع معرفة سبب قلقك؟! قال عبد الرحمن ووجهه يقطر بالأسى/ إنني يا سيدي لا أملك ما أنفقه طوال هذه الفترة إلا بعض ما ادخرته لزواجي.. قاطعه القاضي: ألا تعرف أن راتبك سيستمر خلال فترة تثقيفك.. هذا نظام البلاد يا عبد الرحمن.. ثم إن كنت لا تملك تكاليف الزواج قدمناها لك..

ابتسم عبد الرحمن وقال: الحمد لله يا مولاي القاضي.. لماذا تعاملوني بكل هذا اللطف؟.. أجابه: كل مسلم يعامل هذه المعاملة، ولست وحدك الذي نعاملك هكذا.. هكذا أمرنا الله يا عبد الرحمن.. والآن هذه بطاقة لك للالتحاق بدورة التثقيف وسألقاك بعد شهر.. إن شاء الله..

     

بنو سُوردُن يجب تربيتهم

ظهر المذيع وقال: أما بنو سوردون فتعالوا ننظر ماذا يجري لهم:

نرى شارع بني سوردون محاطاً برجال الشرطة في أول الشارع علقت لافتة، واجهتها إلى داخل الزقاق، مكتوب عليها، نرجو أن يبقى جميع سكان الزقاق في بيوتهم اليوم، وستتكفل الدولة بدفع جميع ما يخسره إخوة هذا الزقاق من موارد نتيجة لذلك..

كان يقف أمام كل بيت فرقة مؤلفة من باحث، وباحثة، وممرضة، دخلت كل فرقة إلى بيت، أما الباحث فاجتمع بالرجال والشباب والفتيان البالغين، وأما الباحثة فاجتمعت بالزوجة، وبناتها الكبار، وأما الممرضة فالتفتت إلى الأطفال كي تعتني بهم خلال فترة انشغال كبار الأسرة مع الباحثين، بعد أن أمضت مع ربة البيت نصف ساعة دلتها على أقسام البيت وأماكن الأمتعة، ونظام الأطفال من ناحية الطعام والنظافة واللعب والاستحمام والتدريس.

في نهاية اليوم ثبتت جميع أقوال عبد الرحمن.. أن رجال بني سوردون وأطفالهم كانوا يسخرون منه، وأنهم لم يعيروه مواعينهم، وأنهم صاروا يعاملونه بجفاء ولا يزورونه حين يمرض.. وتبين فعلاً أنهم من أصول إنكليزية، منحدرون من غجر تلك البلاد.. وأنهم كانوا قد أسلموا مع آخر من أسلم.. إنهم لم يدخلوا أية دورة من دورات التعليم والتثقيف بالإسلام.. لأن مؤسسات التثقيف قد امتلأت ولم تتسع بعد، لدخول مئات الألوف من غير المسلمين في الإسلام.. وأن دورهم في التثقيف سيكون بعد ستة أشهر:

اتصل رئيس مجلس إزالة المنكرات بأمير المؤمنين وذكر له النتيجة، واقترح عليه أن تفتتح معاهد جديدة، أو يرسل هؤلاء وغيرهم ممن لم يدخلوا دورات تثقيف علمية وعملية إسلامية بعد دخولهم الإسلام إلى ولايات أخرى فيها متسع لهم..

عرض أمير المؤمنين اقتراحاً على مجلس الشورى أن يسمح له بإصدار تشريع يتضمن استيعاب جميع المؤمنين فوراً في معاهد التثقيف العلمي والعملي الإسلامية، حتى لا يصاب المجتمع الإسلامي بتلوثات أخلاقية خطيرة نتيجة لذلك.

وحكم القاضي على بني سوردون أن تعايش كل أسرة منهم حياً إسلامياً كاملاً ولمدة ستة أشهر.. بعد أن يتخرجوا من دورات التثقيف حتى يتقنوا الحياة الإسلامية عملياً.. وبعدها يعودون إلى حيّهم الخاص إن شاؤوا..

لم يجد الباحثون أية ثغرة في حياتهم نتجت عنها تلك المساوئ.. فهم مُكْتَفون مادياً، وجميع شبابهم متزوجون وجميع بناتهم البالغات متزوجات، والتعليم مفتوح أمامهم حسب خطة الدولة وكفاءاتهم، وبيوتهم صحية ومناسبة لحجم كل أسرة، وهم محميون من كل ظالم.. وليس لهم أية شكوى من موظفي دولة الخلافة الراشدة..

بين لهم القاضي أنهم إن ارتكبوا أية مخالفات لشرع الله في المستقبل بعد دخولهم دورات التثقيف، وعيشهم في المجتمع الإسلامي.. فإنهم سيؤاخذون بعنف.. أما الآن فلن يوجه إليهم أية عقوبة لأنهم حديثو عهد بالإسلام..

أصدر أمير المؤمنين أمره إلى الولايات في الأرض كلها أن يهتم الباحثون أول ما يهتمون بالذين دخلوا الإسلام حديثاً.

كما أصدر أمراً آخر لدراسة جميع عادات غير المسلمين وتقاليدهم وأخلاقهم فوراً.. وموافاته بتفاصيل ذلك بدقة، لاتخاذ الإجراءات اللازمة تجاه كل انحراف يؤدي إلى الإضرار بجميع الخلافة الراشدة على أن لا يتخذ أي إجراء ضد غير المسلمين قبل اتخاذ القرارات اللازمة بذلك من قبله ومن قبل المجالس المختصة حتى لا يصاب أي مواطن بأذى.

ظهر المذيع وقال: الحمد لله.. هذه نتائج رائعة لقضية بني سوردون.. إن أمير المؤمنين ينفذ برنامجه من أول يوم.. في تتبع بقايا الجاهلية الهمجية في مجتمع الخلافة الراشدة تمهيداً لتصفيته منها حتى يتوفر للإنسان غاية الكرامة والعدل..

     

المسنّون يُكرّمون

والآن إلى القضية التالية: سنتابع موضوع منح المسنين الخدمات اللازمة كما أمر أمير المؤمنين.. سنذهب إلى ولاية الشام لنتابع منها ما يجري لتحديد المسنين الذين يحتاجون إلى الخدمة، وما سوف يقدم لهم من خدمات.. هيا لنرى..

نرى أمير ولاية الشام في حالة اجتماع مع مجموعة من كبار العلماء المختصين في علم النفس، وعلم الإحصاء، وعلوم الشيخوخة، والصحة، والتغذية والخدمات، مع مندوبين عن مجالس إزالة المنكرات، ومقاومة المظالم، ورئيس مجلس شورى الولاية، ورئيس المؤسسات الاجتماعية، ومجموعة مديري الأحياء..

قال أمير الولاية: إن قانون حماية المسنين معمول به منذ زمن طويل.. منذ قامت الخلافة الراشدة، لكن يبدو أن بعض الحالات قد حدثت دون أن نستطيع التعرف عليها، وذلك بسبب بعض الثغرات في التنفيذ. إن الله سبحانه يقول: (أرأيت الذي يكذّب بالدين، فذلك الذي يدعّ اليتيم، ولا يحضّ على طعام المسكين)(3) إن الحض على طعام المسكين، ومنه حمايته حين عجزه وخدمته وتكريمه هو واجب السلطة، وواجب الجار، وواجب كل من عرف به.. كل هؤلاء يجب أن يسعوا للحض على طعام المسكين، أي لإزالة حالة المسكنة من حياته. وهذا يقتضي إجراءات دقيقة، أن نبلغ جميع سكان الولاية، أن كل جار مسؤول عن جاره عليه أن يبلغ عنه.. إن بلغ سن الشيخوخة واحتاج إلى معونات الدولة، هذا ما كان معمولاً به سابقاً.. لكنني أرى أن هذا الإجراء لا يكفي.. فقد يهمل الجار، كحالة بني سوردون، فما هو العمل في رأيكم؟

رفع رئيس قسم علم الإحصاء في الولاية يده وطلب الكلام، فقال له الأمير: تفضل، فقال: إن لدينا إحصاءات كاملة عن عمر كل إنسان في ولايتنا.. أرى أن نستخرج كل من يزيد عمره عن الخمسين عاماً ونستقصي حالاتهم تماماً من قبل أمراء الأزقة، وأمراء الأحياء، وأمراء القرى الصغيرة، وأمراء المدن، فوراً..

رفع رئيس المؤسسات الاجتماعية يده: وقال: أنا أؤيد أخي رئيس مجلس الإحصاء، وأضيف إليه أن استقصاءات مستمرة يجب أن تجري اعتماداً على الإحصاءات الموجودة لدينا لاستدراك كل من يبلغ سن الخمسين..

قال أمير الولاية: حسناً هذان اقتراحان مقبولان.. سينفذان فوراً.. لكن أرى أن بعض حالات العجز قد تحدث عن أناس ينقص عمرهم عن الخمسين.

رفع أمير حي الميدان يده وقال: أرى أن أمير الزقاق عليه واجب الإخبار عن كل حالة عجز تحدث لجميع الأعمار فور حدوثها وهذا يمكننا تماماً من السيطرة على كل حالات العجز الجديدة.

ابتسم أمير الولاية وقال: دائماً يقدم لنا حي الميدان بعض بركاته.. يبتسم الجميع ويتابع أمير الولاية أنا موافق على اقتراحك.. ننتقل إلى نقطة ثانية. ما هي الخدمات التي نقدمها لكل عاجز حين العثور عليه؟..

أجاب رئيس قسم علوم الشيخوخة: جميع الخدمات المادية، والصحية، والفكرية، والنفسية التي تكفل له حياة كريمة وتوفر له مشاركة كاملة في مسيرة المجتمع الإسلامي.. فنحن نكفيه عجزه، ونبقيه مفيداً للأمة في الجوانب التي يستطيع أداء دوره فيها كعضو نافع في مجتمع الإسلام العظيم..

أمير الولاية يقول: عظيم.. عظيم.. والآن إلى العمل.. بناء على ما اتفقنا عليه.. سنحدد لكل زقاق فرقة من ثلاثة أعضاء، باحث، وباحثة، وممرضة، مهمتهم معروفة.. على أن يوافونا مجالات العجز فور التعرف عليها لاتخاذ الإجراءات اللازمة بشأنها.. والآن إلى التنفيذ..

ينتقل التلفاز فوراً إلى فرقة عمل تدخل زقاق الأنصاري الثالث في دمشق، يستقبلها أمير الزقاق، يقول له رئيس الغرفة: لديك في هذا الزقاق عشر رجال ونساء يزيد عمرهم عن الخمسين سنة، وهذه قائمة بهم.. نريد أن نراهم واحداً إثر واحد.. يبتسم الأمير الزقاق ويقول: أهلاً بكم.. تفضلوا.. في البيت رقم (9) يوجد عبد الحق شاكر، وزوجه شهامة بدر.. تفضلوا.. يضغط زراً على باب البيت رقم (9) فيظهر على شاشة صغيرة قرب الزر صاحب الدار يقول: أهلاً بالأمير أبي كريم.. خيراً.. يجيبه: نريد زيارتك وزيارة أهلك.. أهلاً تفضلوا. يضغط زراً فينفتح الباب، ويدخل الأربعة.. ويكون في استقبالهم عبد الحق.. يدخل الباحث إليه، وتدخل الباحثة إلى زوجه شهامة بدر، وتسألها الممرضة هل لديكم أولاد، فتقول نعم، لكنهم كلهم كبار، وهم في أعمالهم، في المدارس أو الجامعة، تقول لها: حسناً.. ماذا يحتاجون من خدمات لأهيئها لهم لأن الباحثة ستلهيك.. تقول: حسناً.. البيت يحتاج إلى ترتيب.. والطبخة جاهزة إلا  أنها بحاجة إلى إكمال.. والغسيل قد بدأت به.. لكنني لم أضع العيارات اللازمة من الماء والصابون، ولم أغير مكواة الغسالة، ولا النشافة، أرجوك أكملي ذلك. تكتب الممرضة كل كلمة قالتها شهامة، وتذهب لأداء ما قالته، وتدخل الباحثة مع شهامة بدر.. تجلسان.. وتخرج الباحثة بطاقة تكتب عليها.. أرجوك يا أخت: إننا نعلم أن دخل زوجك يزيد على خمسة آلاف دينار في السنة.. فهل يكفيكم هذا؟.. تقول شهامة: يكفينا ويزيد علينا.. ونحن ندفع الزكاة لصندوق الزكاة.. حسناً.. هل تشعرين أنك بحاجة إلى رعاية صحية خاصة لا تستطيعين الوصول إليها.. تقول شهامة: أبداً.. أبداً.. ففرقة الزقاق الصحية تكفينا كل شيء.. تشخيصاً ومداواة.. تقاطعها: حسناً، هل تعانون من بعض الاضطرابات النفسية؟ تجيب شهامة: أقول لك الحق، إنني أشعر بالقلق على مصيري يوم القيامة إنني أشعر أنني لم أستكمل تعلمي لكل السنّة النبوية أخاف أن أكون مقصرة في تطبيق بعض الأمور فيحاسبني الله عنها.

أرجوك كيف أستدرك ذلك؟ تجيبها الباحثة بعد أن تسجل كلامها على آلتها الخاصة: هذا أمر سهل.. تنتسبين إلى دورة لدراسة السنّة لمدة سنة. لتطلعي بشكل منهجي على جميع السنة، وليدلك العلماء على أساليب التطبيق لكل حديث روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تسأل شهامة: حسناً.. لكنني لا أستطيع أن أترك بيتي.. فتجيبها إن لم تستطيعي أن تدفعي أجور ممرضة، فدولة الخلافة الراشدة ترسل لك ممرضة تهيء لك كل السعادة في بيتك عند غيابك.. وغياب زوجك وأولادك البالغين.. تفكر شهامة وتبتسم ثم تقول: لا.. لا.. إني أغار.. وقد يفكر زوجي بالزواج من هذه الممرضة التي ستدخل بيتنا.. قولي: ألا أستطيع أن أرى الدورة على إحدى قنوات التلفاز؟ تجيبها: طبعاً هذا ممكن.. هذه بطاقة بمواعيد وقنوات دورات السنة.. يمكنك الاستفادة منها.. تقول شهامة: سلمت يداك يا أخت لقد أرحت قلبي والله.. تقول الباحثة: حسناً هل تشعرين بضرورات علمية غير الإطلاع على أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وهل هناك كتب لا تستطيعين الحصول عليها؟!.. أجابت شهامة: أبداً.. أبداً.. فكل شيء ميسر والحمد لله.. تقول الباحثة: هل لك حاجة من أي نوع تريدين تحقيقها؟! تجيبها: لا أشعر الآن بأية حاجة والحمد لله.. وإن حدث ذلك.. ولم أستطع تحقيق هذه الحاجة بنفسي فسوف أخبر أمير الزقاق. تقول الباحثة: حسناً.. السلام عليكم.. تخرج من الغرفة.. وتأتي الممرضة ويخرج الباحث وقد انتهى من مقابلته أيضاً.. إلى بيت آخر..

يقول المذيع: الحمد لله رب العالمين.. أيها الأخوة هذا نموذج من تنفيذ برنامج حماية العاجزين الذي أمر أمير المؤمنين به.. فلتهنأ نفوسكم.. ولتحمدوا الله على ما أنعم به عليكم..

يخطر على بالي أن أريكم صورة لحالات الإنسان في ظل الهمجيات السابقة.. فهل توافقون.. ترن أجراس الهواتف في غرفة العرض.. فيرفع بعضها ويرى صور المواطنين يقولون: نوافق.. نوافق..

يقول: حسناً.. تعالوا نشاهد كيف كان الهمج يعيشون..

يتبع