كانوا همجــاً (1)

روايات إسلامية

كانوا همجاً

قصة طويلة

عبد الودود يوسف

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

إنها محاولة تعالج واقع البشرية من خلال نظرة تستشف أستار المستقبل، حيث تقوم الخلافة الراشدة التي ستعم الأرض... بلسماً للناس، وشفاء لجراحات عصور الهمجية، في جسد وروح البشرية المعذبة.

          

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

إن أول(1) دينكم نبوة ورحمة، وتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله جل جلاله.

ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله جل جلاله.

ثم تكون ملكاً عاضاً فيكم ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعه الله جل جلاله.

ثم يكون ملكاً جبرياً (عتواً، وفساداً في الأمة)(2)، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعه الله جل جلاله.

ثم تكون خلافة راشدة على منهاج النبوة تعمل في الناس بسنة النبي ويلقي الإسلام بجرانه في الأرض، يرضى عنها ساكن السماء، وساكن الأرض. لا تدع السماء من قطر إلا صبته مدراراً، ولا تدع الأرض من نباتها وبركاتها شيئاً إلا أخرجته.

"رواه البزار بسند حسن صحيح".

          

بسم الله الرحمن الرحيم

كانوا همجاً!!.

قفزت أم كريم إلى جهاز التلفاز حين أصدر إشارة رنين جميل... سألت:

ما هذا؟!.. هل من بشارة أم هناك إنذار من خطر؟! ضغطت على زر العرض، فرأت على شاشة التلفاز كلمة: بشارة.. بشارة.. إلى المؤمنين في أنحاء دولة خلافتنا الراشدة... افتحوا التلفاز عند الساعة السابعة مساء... سنعلن عليكم خبراً عظيماً.

تساءلت: ما هذه البشارة؟!!..

ضغطت على عدة أرقام في جهاز الهاتف ثم رفعت السماعة، فرأت جارتها، سألتها: ما هذه البشارة التي ستعلن اليوم يا همت؟!

همت: لا أدري... وإن كنت أظن أن البشارة تتعلق بإنجاز جديد أوجده علماؤنا في مجلس "تذليل الصعوبات".

أم كريم: أحس ببعض القلق يا همت؟!.. إن مخزون العالم من النفط أخذ يقل... ولا أدري ماذا سيحل بنا إن نفذ...؟...

همت: والنفط أصبح أساساً لكل سلع الحياة وأشيائها... فهو ثمين... ثمين..

أم كريم: أنت على حق... كنت أنوي الذهاب إلى سوق الخضار.. لولا أنني أخاف أن أضيع وقتي في المواصلات.. إن الازدحام في هذا الوقت مخيف...

همت: وهذه مشكلة ثانية... ويجب أن ننتهي منها... الوقت هو أثمن ما في الحياة.. ما رأيك لو طلبنا من مجلس "تذليل العقوبات" أن يتدخل لحل هذه المشكلة؟!.

ماذا يقولون..

أم كريم: حقاً!! هيا اتصلي ودعيني أرى معك.

همت: حسناً!! تلبس جلبابها وخمارها وتتهيأ للاتصال بمجلس تذليل العقوبات.. تضغط على عدة أرقام فيظهر أمامها على شاشة تلفاز الهاتف غرفة فيها عامل قسم فتقول:

السلام عليكم... أريد المختص بقضايا المواصلات في المدن...

بعد لحظة يظهر على شاشة الهاتف كهل جميل وأنيق، يقول: أهلا أنا هيثم. من؟!

فتضغط همت على زر عندها فتظهر صورتها على شاشة تلفاز هاتفه، فيقول أهلاً بالأخت ما الأمر؟.. نحن في خدمتك.. نرجو أن لا تكون المشكلة عويصة.. على كل حال.. سنضمن لك إن شاء الله حلاً مناسباً.

تفضلي قولي: قالت همت وهي تبتسم: أخي هيثم، إن وقتي يضيع.. في المواصلات.. وكذلك كل أخواتنا ربات البيوت في أنحاء الخلافة الراشدة كلها.. إنني أشعر أن قضية المواصلات كلها يجب أن يعاد النظر فيها..

ابتسم هيثم وهمس: هذا يا أخت هو ما يشغلنا الآن.. وقد وصلنا إلى نتائج ممتازة والحمد لله.. اخترعنا آلة توفر لنا النفط. ولا تضر بالصحة العامة ولا تزاحم الطرقات، وتنقل الإخوة إلى العالم إلى حيث يريدون دون أية تكاليف.. فما رأيك..؟!.. عجبت همت، كما عجبت أم كريم التي كانت ترى وتسمع كل شيء من جهاز هاتفها... ابتسمت همت وسألت بدهشة: عجيب هذا الاختراع!! سيريح كل المسلمين.. هذا ما يجب أن يكون.. ابتسم الكهل ابتسامة واثقة وقال الحمد لله.. إننا نتخلص الآن وبالتدريج من جميع ما أورثتنا إياه الحضارات الجاهلية البائدة.. كالسيارة والقطار واستعمال النفط، وإهلاك المواطنين بالضجيج، وإقلاق الأمة كلها بالتعاسات وإضاعة الوقت الذي هو أساس حياتنا..

أم كريم تبتسم وتقول: أنا أم كريم هل تسمحان أن أشارككما في هذا الحوار؟!...

أجاب الكهل بسرعة: تفضلي...

ضغطت على زر هاتفها فظهرت على شاشة الكهل وشاشة همت وظهرا على شاشتها...

قالت: وكيف توصل مجلس تذليل العقوبات إلى هذا الحل؟! وما هو الحل..؟!

ابتسم "هيثم" وقال: أما ما هو الحل فهذا سر..؟!

ستطلعان عليه مساء هذا اليوم في الساعة السابعة إن شاء الله أما كيف وصلنا إلى هذا الحل... فقد كنا أكثر من ثلاث سنين نفكر في مشكلة الموصلات هذه إن تعبيد الطرقات في الأرض كلها..في أنحاء خلافتنا الراشدة يكلف ألوف الملايين.. كما أن ما يصاب به المؤمنون من تعاسة نتيجة أصوات السيارات.. ودخانها.. وما تستهلكه من محروقات من مادة النفط الثمينة يكلف أكثر من ذلك بكثير.. لذلك طلبنا رأي جميع العمالقة من المختصين وفي أنحاء الأرض كلها أن يعطونا رأيهم في هذه المشكلة.. وفعلا راحت ترد إلينا آراء ناضجة... وبعد دراسة جميع الإجابات تشكل مجلس خاص من علماء النفس، وعلماء الصحة، والميكانيكيين، ومهندسي الطرقات، ومهندسي الطائرات، وبعض علماء الفضل لحل هذه المشكلة.. على أساس:

إلغاء كل مزعجات المواصلات كالدخان والضجة والزمور.

إلغاء الازدحام.

توفير ما يمكن من استهلاك طرق المواصلات..

الاستفادة من طاقات مجانية متوفرة بالكون.

سهولة استعمال الجهاز الجديد للنقل حتى يستخدمه المواطنون كلهم في أنحاء الخلافة الراشدة.

أن لا تكون له أية أضرار جانبية.

وقد مارست هذه اللجنة مهامها وقدمت عدة مشروعات للتنفيذ..

وقد وضعت الدولة تحت تصرف اللجنة مجموعة من المعامل لإجراء التجارب اللازمة.. فحققت والحمد لله اختراعاً مدهشاً يوفر جميع الشروط التي تحدثت لكما عنها..

وسوف يدخل هذا الاختراع مرحلة التنفيذ الواسع بعد أسبوعين.. حيث سيصبح لكل عائلة مركبة خاصة.. يتلعثم.. ثم يقول.. عفوا.. كدت أفشي السر.. أرجو المعذرة.. على كل حال ستسمعون تفاصيل ذلك في الساعة السابعة مساء إن شاء الله.. والآن هل من سؤال آخر؟!..

أم كريم تقول مع همت: الحمد لله.. شكراً لكم أيها الأخ هيثم.

لاشك أن الله قد أنعم علينا كثيرا بتشكيل لجنتكم وبعد قيام الخلافة الراشدة مباشرة.. إنها تقدم خدمات مدهشة للمؤمنين في كل مكان. هيثم يقاطعها ويقول: عفوا يا أختي.. إننا نقدم خدماتنا لكل الناس.. في دولة الخلافة الراشدة التي تعم الأرض الآن.. سواء كانوا مؤمنين.. أم غير مؤمنين.. إن دولتنا لا تمارس أي نوع من الضغط على مواطنيهم  لدفعهم إلى الدخول في الإسلام.. صحيح أن عدد من لم يؤمنوا بعد لا يتجاوز الواحد في الألف.. لكننا نتقيد بقول الله تعالى (لا إكراه في الدين).. همت وأم كريم تقاطعانه: لكننا لم نقصد شيئا مما تقول (تتابع همت) ثم إنني لا أتهمكم أنكم تكرهون الناس على الدخول في الإسلام.. فمن أين شعرت بذلك؟ وما هو الذي يشير إلى ذلك مما قلته؟! قال هيثم بانفعال: إنك عندما قلت: بأننا نقدم خدماتنا للمؤمنين في كل مكان فقد تضمنت هذه العبارة خطرا شديدا تقاومه الخلافة الراشدة بعنف.. لأننا نقاوم كل ما يعيدنا إلى الحياة الجاهلية التعيسة.. همت: لا أفهم يا سيدي.. أنا آسفة.. أنا آسفة.. هيثم: حسنا.. حسنا.. سأوضح لك كل شيء يا أخت.

إن دول الجاهلية السابقة لخلافتنا الراشدة.. كانت تمارس أنواعاً من الأساليب الخفية والظاهرة لدفع مواطنيها إلى الإيمان بما تؤمن به هذه الدول: فمثلا كانت هذه الدول الجاهلية الهمجية لا تعطي المنافع إلا لمن يؤمنون بمذهبها.. كل ذلك حتى تدفع الناس إلى الإيمان بما تؤمن به.. لاعن اقتناع.. ولكن نتيجة لهذه الضغوط.. نتج عن ذلك أن هذه الدول قد انحطت بعد مدة وهلكت لأنها أصبحت تقوم على أكتاف انتهازيين ليست لديهم الكفاءة اللازمة لتقوم الدولة القوية على أكتافهم ومواهبهم فانهارت تلك الدول، وحدثت المظالم الرهيبة في ظلها.. فالملايين من المواطنين الأبرياء يمنعون من حق الكرامة والحياة. وجميع طاقات الأمة توضع بين أيدي غير الخبراء مما يؤدي إلى تبددها وضياعها... كما يؤدي إلى تأخر الأمة وضياع حضارتها.. وعدم تمكنها من الوصول إلى الحضارة التي تسعدها.. فهل نفعل نحن ذلك؟! هل نفعل ما تفعله تلك الدول الهمجية المجرمة؟؟!..

لا.. لا.. إن هذا ليس من الإسلام...؟...

أم كريم: شكراً.. شكراً يا أخ هيثم.. الحمد لله أن كان في هذه الأمة مـن هـم من أمثالك.. هيثم: عفوا.. عفوا.. أنا لا أقوم إلا بواجبي إنني أؤدي ما حملني الله من أمانة.. تجاهك وتجاه كل مسلم في دولتنا.. وتجاه كل إنسان يعيش في ظل خلافتنا الراشدة...

يرن جرس هاتف في غرفة هيثم فيقول لهما مستعجلا: عفوا.. عفوا... هل تحقق ما تريدان.. إن هناك من يطلبني.. ويجب أن أجيب حتى لا يضيع وقت مواطن في دولتنا... تبتسم همت وأم كريم وتقولان:

حسنا.. حسنا.. السلام عليكم... وتختفي صورة هيثم من شاشتهما...

          

البشارة..

 لم يبق إنسان في أنحاء الأرض كلها إلا وراح ينتظر الساعة السابعة ليرى ما هي البشارة التي ستقدمها دولة الخلافة الراشدة لشعبها.

ومنذ الساعة الخامسة كانت تظهر بعض الصور العجيبة التي لم يعرف الناس لماذا تعرض. ثم.. ظهر أحد العلماء وأمسك لوحا أسود على شكل جدار خلية نحل، أو على شكل قرص عسل... وراح يقول: هذا اللوح من معدن خاص اسمه معدن "التوليت" له ميزات عجيبة وهي: أولا: خفة وزنه العجيبة، فكل متر مربع منه يزن كيلو غراما وربعا فقط...

أما ميزته الثانية: فهي صلابته العجيبة أيضا.. فهو يعتبر من أقسى المعادن وأكثرها تحملاً للصدمات وللعوامل الجوية.. انظروا إلى هذا اللوح... لقد بقي ستة شهور داخل عمليات معقدة من التسخين والتبريد، والتعريض للمياه والمواد الكيماوية.. فلم تطرأ عليه أية تغيرات انظروا إلى هذا اللوح الجديد هل ترون بينهما اختلافاً..؟!..

أما الميزة الثالثة: فهي استعداده لنقل الحرارة بشكل صاعق تقريباً.. فهو يتأثر بأقل درجة حرارة.. انظروا: وضع ميزان الحرارة في أحد فتحات اللوح.. ثم أشعل عود ثقاب وقربه من اللوح المعدني قريباً من ميزان الحرارة... فارتفع ميزان الحرارة إلى عشرين درجة فوراً..

أما الميزة الرابعة: فإنه يحتفظ بالحرارة بشكل يكاد يكون دائماً، فيمكن أن تبقى الحرارة فيه مائة يوم حتى تتلاشى تقريباً.. إن الحرارة التي نتجت عن عود الثقاب تبقى مائة يوم حتى تزول منه، لهذا فهو مدهش بهذه الميزة..

والميزة الخامسة: أن تفريغ هذه الحرارة منه ممكن جدا بواسطة أنابيب من المعدن نفسه توضع في أولها قطعة من البلاستيك، وفي آخرها قطعة أخرى من البلاستيك..

انظروا: أتى العالم بقطعة من المعدن على شكل أنبوب، ثم أتى بحلقة من البلاستيك أدخل الأنبوب بها.. ثم وضع في الأنبوب ميزان الحرارة، وألصق الأنبوب باللوح السابق الذي فيه ميزان الحرارة فانخفضت حرارة اللوح الأول فورا، وارتفعت حرارة الأنبوب إلى عشرين درجة..

أما الميزة السادسة: فهي أن هذا المعدن مهما بلغت حرارته فإن طبقة خفيفة من الحرير يمكن أن تبعد الحرارة عن حواف المعدن وسطوحه، وتدفعها إلى داخله أي إن الإنسان يمكن أن يحمل لوحا من هذا المعدن حرارته ألف درجة بإمساكه بكفوف من حرير..

هذا المعدن العجيب قد هدانا الله إليه لتصميم أعظم آلة عرفها عصرنا الإسلامي الذي نعيش فيه. تخلصنا من ألوف التعاسات التي خلفتها لنا الجاهلية المجرمة وعصور الهمجية السابقة.

دهش الناس.. وقالوا وما هي هذه الآلة؟:

تابع العالم: أما هذه الآلة فهي موضوع البشارة التي سيذاع خبرها بعد قليل...

          

السيارة العجيبة

في الساعة السابعة إلا خمس دقائق.. ظهر أمير المؤمنين فالتهبت نفوس المؤمنين في الأرض كلها بالحماس، قالوا: يبدو أن الأمر خطير... قال وهو يبتسم: السلام عليكم ورحمة الله.. وبعد... أمرنا الله أن ندفع كل ضرر عن حياتنا فقال: (إن الله لا يحب المفسدين...) لذلك فقد درست الدولة المصائب التي لا تحصى والتي تخلفها وسائل النقل القديمة التي ورثناها عن عهود الجاهلية كالسيارة والقطار والطائرة... فوجدت أنها تهلك الراحة، وتدمر الأعصاب، وتستنفد طاقات البلاد... ورأت أن هذه المفاسد يجب أن تزول... فوضع علماؤنا المؤمنون تصميما لسيارة مدهشة، راعوا فيها جميع الشروط النفسية والاقتصادية والاجتماعية بحيث أنها لا تؤدي إلى أية مفسدة.. وتحقق خدمة الإنسان في ظل خلافتنا الراشدة التي تسير على منهاج النبوة، فأبشر المواطنين بهذه السيارة الرائعة.. التي أنتجها مجتمعكم الكريم مجتمع الإسلام العظيم. أقول لكل أخ ولكل أخت هيا وخلال أسبوع، سلموا سياراتكم إلى مخازن توزيع السيارات الجديدة في كل مكان واستلموا سيارات من النوع الجديد.. واشكروا الله أن خلق لكم ما في هذا الكون من مواد... وأعطاكم العلم والعقل، واذكروا إخوان الجهاد الذين أقاموا هذه الخلافة على خلاصة أموالهم وأوقاتهم... وقولوا: (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان...) وأترككم الآن لتروا التفاصيل المتعلقة بهذه السيارة العجيبة... حزن الناس جميعا حين ذكروا المؤمنين الذين سبقوا والذين عانوا من أعظم أنواع الظلم حتى بنوا الخلافة الراشدة.. ورددوا جميعا (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان...).

فورا: ظهرت على الشاشة أسرة مؤلفة من والد ووالدة وطفلة... يخرجون من بيتهم، ومع كل منهم حقيبة تناسبه...وصلوا إلى سيارة عادية.. إلا أن هيكلها كله على شكل خلايا نحل... فتح الرجل السيارة، ووضع الحقائب في مؤخرتها...

وركب الجميع... وأغلقوا الأبواب.. ضغط الرجل زرا فبدأت السيارة ترتفع وعند ارتفاعها راحت تخرج من جانبيها أجنحة. فلما أصبحت السيارة على ارتفاع خمسين متراً.

ظهرت كامل أجنحتها.. ضغط السائق زراً آخر.. فاتجهت السيارة إلى الأمام... وراحت تسير كالبرق... حتى وصلت إلى المدينة الأخرى... توغلت فوق المدينة.. ثم راحت تهبط وأجنحتها تختفي حتى وقفت على ظهر بناية.. فتحت الأسرة الأبواب ونزل أفرادها.. وكان على سطح البناية عدد من أقربائهم فاستقبلوهم بالترحاب... ظهر المذيع وقال: هذه هي السيارة الجديدة.. وقودها من حرارة الشمس التي تلتقطها ألواح معدن "التوليت" وهي لا تصدر أية ضجة.. كما أنها تستطيع الهبوط في أي مكان. إن ما فيها من ألواح التوليت تستطيع أن تمد آلتها بطاقة الشمس اللازمة.. ففي كل يوم حار تستطيع هذه السيارة أن تختزن طاقة كافية لتسييرها لمدة أسبوع.. وإذا كان الجو معتما أو باردا، فإنها تشحن خلال سبعة أيام.. وتستطيع أن تختزن طاقة لمدة ثلاثة أشهر..

إن هذه السيارة قد أمنت راحة كاملة لكل الناس.. ووفرت النفط بشكل كامل. كما وفرت تكاليف الخطوط الحديدية والطرقات المعبدة.. ثم إنها صالحة للاستعمال كسيارة داخل المدن.. ويمكن إنتاج حجوم مختلفة منها حسب الحاجة.. سرعتها ثلاثمائة كيلو متر في الساعة..

وتتمتع بحاجز أمان عجيب: افرضوا أن سيارة من هذه السيارات كانت تسير بأقصى سرعتها في الجو... فإن فيها شاشة تكشف كل السيارات التي تبعد عنها مسافة /20/ كيلو متراً.. وإذا حدث أن اقتربتا سيارة من سيارة أخرى فإن قوة مغناطيسية تتشكل في كل سيارة تتنافر مع مغناطيسية السيارة القادمة، وكلما اقتربتا زاد تنافرهما وبالتالي لا يمكن أن تصطدما بل تبتعد كل منهما عن الأخرى مسافة كافية أثناء تقاربهما.

رأى المشاهدون سيارتين تقتربان من بعضهما... حتى إذا اقتربتا جدا انحرفت واحدة إلى اليمين، وأخرى إلى اليسار... ثم عادتا إلى خطهما الأصلي الذي كانت كل واحدة منهما تسير عليه بعد أن ابتعدتا..

هل تعلمون كم وزن هذه السيارة...؟!...

عجب الناس كلهم حين أقبل رجلان إلى سيارة متوقفة ورفعاها بأيديهما بيسر إلى أعلى.. والمذيع يقول.. إن وزنها هو مائة كيلو غرام فقط.. فهل تصدقون..؟!..

وفي أجواء الضباب يمكن وبحركة بسيطة أن تتحول السيارة كلها إلى شعلة من نور.. ورأى الجميع السيارة في الجو.. قد دخلت في جو ضبابي.. رأوا سائق السيارة يضغط على زر وفجأة أصبحت السيارة كلها ضوءا باهرا...

ابتسم المذيع وقال: والآن أهنئكم يا إخوتي في دولة الخلافة الراشدة بهذا العمل العظيم، لن تسمعوا ضجيجا بعد اليوم.. ولن تزدحم الطرقات بالسيارات التي تنفث الموت والدخان.. ولن تضطر الدولة إلى تعبيد طرقات الدنيا كل سنة.. فقد تعبدها كل عشر سنين لتصل بين القرى والمدن... ولن نستهلك بعد اليوم قطرة من النفط في محركات السيارات والقطارات والطائرات.. ولن نتكلف قرشا واحدا على مد الخطوط الحديدية.. ولن نفقد عزيزا في صدام رهيب بين سيارتين.. فاشكروا الله الذي هيأ لكم هذه الخلافة الراشدة التي تطبق الإسلام.. واذكروا أولئك المجاهدين الأبطال من النساء والرجال والأطفال الذين رفعوا على هاماتهم هذه الخلافة وقدموا دماءهم وأموالهم وكل دنياهم لنصل نحن إلى ما وصلنا إليه... وتوقف قليلا ثم قال: والآن... من أراد سؤالا فليتفضل..

فورا رن جرس الهاتف في غرفة المذيع فرفع السماعة فرأى مواطنا يسأل:

أخي الكريم: كيف نتحرك بالسيارة داخل المدينة...؟!..

المذيع: للسيارة كما رأيتم عجلات كأية سيارة أخرى... يمكن أن تستعمل للحركة داخل المدن للمسافات القريبة.. أو عند الضرورة...

أخ آخر يظهر على شاشة التلفزيون يقول: أخي: إن عندي رأيا.. لماذا لا تأخذ دولتنا التي نحبها ثمن هذه السيارات من الإخوة في الأرض كلها؟!..

المذيع: عفوا.. أنا لا أستطيع الإجابة على هذا السؤال... سأتصل بالسيد الدكتور حسام رئيس الإدارة المالية في لجنة "تذليل الصعوبات" وبعد عدة ثوان ظهر كهل طويل يجلس على طاولة طويلة لكنها بسيطة.. ولا تزال صورته تقترب من الشاشة وتكبر حتى انتشرت على الشاشة كلها.. قال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: أجيب أخي السائل بما يلي: لقد درسنا كلفة السيارة الجديدة.. وثمن كل سيارة سيقدمها كل مواطن بدلا من السيارة التي سيأخذها.. فوجدنا أن ما في السيارة القديمة من حديد يعادل ثمنه ثمن السيارة الجديدة.. لذلك لن يطالب المؤمنون وغيرهم بدفع أي ثمن لسياراتهم. يسمع الجميع رنينا... فيلتفت الدكتور حسام فيظهر على زاوية الشاشة صورة الرجل السابق يقول: ولماذا لا تربحون..؟!..

عجب المشاهدون حين تلون وجه الدكتور حسام بالحمرة.. وظهر عليه غضب شديد.. وقال: أذكر الأخ السائل بأننا دولة الخلافة الراشدة.. لا دولة من دول الجاهلية الهمجية... وإن ما اقترح من رأي هو خطير للغاية... إننا إذا طبقنا هذا الاقتراح فإنه يعني أن تقوم الدولة الراشدة بابتزاز الناس.. وهي قد جعلها الله من أجلهم.. يريدنا أن نعود إلى نفسية التجار.. فنسرق أموال الناس في سبيل تحقيق بعض سعادتهم.. أسأل الأخ: ما هي مهمتنا كدولة تنفذ قانون الله في الأرض؟؟ هل مهمتنا أن نخدم الناس.. أو أن نسرقهم.. إن هذه النفسية هي نفسية شركات السيارات التي كانت في الجاهلية الهمجية التي سبقت خلافتنا الراشدة... الدولة تتاجر.. والشركات الاستغلالية تتاجر والمواطن في كل مكان هو الذي يدفع الضريبة.. ويدفع الأموال أرباحا للدولة المتاجرة والشركة المتاجرة...

ماذا ينشأ عن هذا أيها الأخ الكريم؟!. قد لا أستطيع أن أبين لكم المخاطر المخيفة التي تنزل بنا إذا فعلنا ما اقترحه الأخ.. فسوف أترككم لرئيس لجنة "إزالة التعاسات" الدكتور قتيبة ليبين لكم الخطر... يضغط على زر أمامه.. فيظهر رجل ليس طويلاً ولا قصيراً... عمره يزيد عن خمسين سنة.. لا تزال صورته تقترب من الشاشة حتى تملأها.. يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته الحمد لله.. والصلاة على نبينا وعلى المجاهدين الذين جاهدوا لإقامة خلافتنا الراشدة... أقول: إن الأخطار مخيفة حقا.. إن حب الربح كان يؤدي إلى ما يلي: على مستوى الدولة كانت الدولة التي تربح من أبنائها تعتمد على هذه الأرباح لسد حاجات الأمة.. وبالتالي فإن اهتمامها بالمشاريع كان ضئيلا.. وقد أدى ذلك إلى ابتزاز المواطنين مرتين مرة حين يدفع المواطن الضريبة، ومرة ثانية حين يدفع الربح للدولة... أدى ذلك إلى شعور المواطن أن دولته تستغله... فكرهها... ثم تحول كرهه للدولة إلى عدم الشعور بالمسؤولية وإلى التفريط في الأعمال التي يؤديها في مجتمعه.. فانتشر نتيجة ذلك الإهمال.. وتأخير المشاريع... وتنفيذها بشكل سيء.. وإلى حلول العذابات والآلام بين المواطنين نتيجة إهمال قضاياهم.. أو نتيجة استهلاك المشاريع التي تبنى بسرعة بمدد أقل من عمرها.. فالطريق التي يجب أن يكون عمرها خمسة أعوام.. نجدها قد تهدمت خلال سنة واحدة.. ويكون نتيجة ذلك أمران إما أن تبقى الطريق مهدّمة... غير صالحة للسير.. فيتعس الناس ويشقون.. أو تعمد الدولة إلى تجديد الطريق مرة أخرى.. فتخسر الدولة تكاليفها من جديد.. كل هذا يؤدي إلى البؤس والفقر.. فالأموال التي يدفعها المواطنون تذهب هدراً...

أما الشركات التي كانت تعمل لتربح.. فإن نظام الجاهلية يطلق لها الحرية كي تتصرف كما تريد.. لذلك كانت الشركات تسعى باستمرار إلى تبديل أشكال سلعها..

وتنشئ في كل فصل أو سنة ما يسمى "بالموضات" الجديدة.. وكلها لا تهدف إلا إلى دفع المواطن كي يجدد سلعته بسلعة جديدة.. وكانت هذه الشركات تتعاون مع شركات الإعلان... فتلك تخترع السلعة، والإعلان يذيع أخبارها.. ويزينها للناس.. مما يضطرهم إلى شراء السلعة الجديدة.. ويشعرون بالعار إن لم يشتروها.. وهكذا ترمى سلع ومنتجات بألوف الملايين في صناديق القمامة.. فتخسر الأمة طاقاتها.. لتربح الشركات أرباحاً طائلة... ونرى من جانب آخر أن الشركات التي تسعى للربح.. كانت تحرق ألوف الأطنان من المواد الزراعية كي تحافظ على أرباحها.. وحتى لا ينخفض ثمن السلعة في السوق.. وهناك الملايين يموتون من الجوع في أنحاء العالم كله.. كل ما سبق قد جر إليه الجشع.. وحب الربح.. فهل يريدنا الأخ أن نعود إلى هذه الظلمات.. إن هذه جريمة منكرة.. يجب أن نلاحقها.. لا أن نطبقها..

يجب أن لا نعود إلى أساليب الأنظمة الجاهلية الهمجية التي خلصنا الله منها على أيدي ألوف الشهداء من إخواننا الذين سبقونا بالإيمان... وأترك مكاني الآن إلى أخي الدكتور حسام رئيس اللجنة المالية في مجلس "تذليل الصعوبات".

يظهر الدكتور حسام من جديد: يقول: الحق أن دولة الخلافة الراشدة قد ربحت أرباحا عظيمة شريفة.. لا تؤدي إلى أي شر.. فإنها حين توفر لها ألوف الملايين نتيجة عدم حاجتها إلى مد السكك الحديدية.. وبناء الطرق الجديدة، وانخفاض عدد المرضى النفسيين والصحيين وما يكلفه ذلك من وفر في بناء المشافي وتوزيع الأدوية.. كل ذلك قد حقق توفيرا ضخما جدا.. يمكن أن يعتبر هو الربح الذي ربحته الأمة والدولة من مشروع السيارة.. وهذا الربح كبير.. وهو ربح ليس شريرا كأرباح الشركات والدول التي كانت في العهود الهمجية بل هو ربح مشروع طيب.

يرن الهاتف من جديد... وتختفي صورة الدكتور حسام وتظهر صورة المذيع يرفع سماعة الهاتف فيظهر مواطن يسأل: سيدي المذيع.. فيتلون وجه المذيع ويقول: قل يا أخي.. قل أخي.. لا تقل سيدي.. إن هذا من رموز العبودية الجاهلية.. فالمؤمنون كلهم إخوة.. قل يا أخي.. ولا تذكرنا بالجاهليات واستعباد الناس بعضهم لبعض..

يعود السائل ويقول: أستغفر الله.. أقول: أخي الكريم.. (فتنفرج أسارير المذيع).. يتابع المتكلم: هل أستطيع الاحتفاظ بسيارتي القديمة.؟!... إني أحب أن أستمر  في السير على الطرقات الأرضية...

 المذيع يتلون وجهه من جديد بالأسى ويقول: حسنا.. سيجيبك على سؤالك السيد رئيس لجنة التشريع في مجلس "تذليل الصعوبات". الدكتور هاشم. يختفي المذيع.. ويقترب من الشاشة رجل يميل إلى النحافة حتى يملأ الشاشة: يقول: بسم الله الرحمن الرحيم أجيب أخي بأنه يستطيع الاحتفاظ بسيارته فقط كذكرى تاريخية، أما أن يستعملها فهذا غير ممكن.. لأن الأضرار التي تصيب صحة الناس.. مع هدر الإمكانيات كالنفط مثلا.. هي من الفساد ونحن اعتمادا على أن الفساد لا يجوز في دولة الإسلام.. ولا الضرر.. ولا الاعتداء على الآخرين.. فإننا يجب أن نمنع استعمال السيارات القديمة.. لما ينتج عنها من أضرار خطيرة.

تعود صورة السائل ويقول: أليس في هذا تعد على حريتي، واعتداء على حقوقي.؟!. إنني أعترض.. أعترض.. فالإسلام كرمني وجعلني حراً.. وأنتم تجبرونني على أمر لا أريده.. إنكم تخالفون الإسلام.. يلتفت الدكتور هاشم ويقول للمذيع: أظن أن الإجابة على هذا الأخ هي من اختصاص لجنة "الحفاظ على الحريات". يظهر المذيع، ويختفي الدكتور هاشم.. يقول المذيع: سيجيبك على رأيك الدكتور "أمانة الله" رئيس لجنة الحفاظ على الحريات.. يظهر رجل أسود .. متوسط الحجم عمره أربعون سنة.. ولا يزال يقترب حتى يملأ شاشة التلفاز.. يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. أجيب أخي الكريم بما يلي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  يقول: "رحم الله أمرءاً عرف حده فوقف عنده". ويقول في حديث السفينة.. "مثل القائم على حدود الله والمفرط فيها كمثل قوم ركبوا سفينة....." (إلى آخر الحديث)... من هذا تبين أن حرية المرء محدودة بعدم الاعتداء على الآخرين.. إن الأنظمة الجاهلية الهمجية الغابرة كانت تقول الحرية مكفولة.. والحق أن الذي كان مكفولا هو الفوضى. فالرجل حين يتصرف تصرفات ضارة بالآخرين يجب أن يؤخذ على يديه.. فليس من الحرية أن تخرج المرأة عارية في الطرقات.. ولا أن يشرب المرء الخمر... ولا أن يبني أي إنسان أي معمل إذا توفر له ثمنه فقط...لا... إن المرء حين يشرب الخمر فإنه يؤذي نفسه ويذهب عقله... ويحكم على الأجيال التالية من نسله أن يخرج بعضهما مشوها.. وكل هذا اعتداء على الناس وعلى الأمة وعلى نفسه، هذا ما كانت تفعله الدول الهمجية الغارقة في الظلام منذ آلاف السنين وحتى قبيل قيام دولتنا الإسلامية الراشدة.. التي عمت الأرض.

 وليست المرأة حرة حين تخرج  إلى الشارع بزينتها.. لا.. إنها حين تفعل ذلك فإنها تثير الشباب.. وإذا ثاروا زنوا... وإذا زنوا هلك المجتمع؛ بالنساء اللائي يزنين.. فلا يجدن الأزواج.. أو يلدن الأولاد دون أباء.. أو يدفعهن الرجال إلى عدم الزواج الشريف.. فتهلك نساء من الحسرة لأنهن لم يتزوجن... هذا عدا انتشار أمراض الزنى الرهيبة...

وليس الرجل حراً أن يبني المصنع إذا توفر له ثمنه... لا... يجب أن تتوافر له أيضا شروط كثيرة منها أن لا ينتج سلعا ضارة... وأن لا يبني مصنعه في مكان يؤذي الآخرين..  وأجيب الآن الأخ إن بقاء سيارتك القديمة مستعملة سوف يؤدي إلى إضرار بصحة الناس، وفي الدخل العام للمواطنين. كما سيستهلك النفط الذي هو مادة نادرة وضرورية لألوف المصالح الأخرى.. كما أنك لن تكون أنت وحدك الذي سيطلب هذا الطلب.. بل سيسير على دربك كثيرون مما يفوت على الأمة منافع هائلة.. ويوقعها في أضرار جسيمة...

السائل يقول بحدة: لكن هذا يضرني أنا...؟... يتلون وجه رئيس لجنة الحفاظ على الحريات يقول: هل يحرمك هذا من حاجة لك...؟... إنك ستأخذ سيارة أفضل من سيارتك تحقق لك كل حاجاتك في الانتقال.. ودون تكاليف.. فماذا بقى لك من سيارتك القديمة.؟.!! السائل يظهر من جديد ويقول: بقيت النواحي العاطفية.. إنكم لم تراعوها.. إنني أحب سيارتي.. يجيب رئيس لجنة الحفاظ على الحريات: إن الاسترسال مع الهوى عبودية له.. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به". ويقول: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"..

عشرات الاتصالات مع غرفة الإذاعة... يظهر أناس غاضبون جداً... يقولون بالتوالي: أرى أن لا تستمروا في هذا النقاش غير المجدي..

(آخر): إن هذا الأخ يريد أن يفرض على الأمة رأيه.. يريد أن يعيد إلينا عهد الديكتاتورية الهمجية الفاجرة...

(آخر): إن الخلافة الراشدة مهددة من قبل أمثال هذا الرجل..

(آخر): أرى أن يدخل دورات تثقيف وتربية في "معاهد تربية المواطن المسلم" حتى يعرف حدوده...

(آخر): هذا عنصر كشف عن نفسه.. يجب أن لا يهمل..

(آخر): كنا نظن أن دولتنا تخلو من أمثال هؤلاء الذين لا يريدون أن يعيدونا إلى عصور الهمجية..

(آخر): لا مراء.. لا جدل... الأمور واضحة.. هذا منحرف...

المذيع: أرجو من إخوتنا جميعاً أن يعفوا ويصفحوا...

يرن جرس هاتف من جديد، يرفع المذيع السماعة فيظهر أمير المؤمنين. يسرع المذيع ويقول: أيها الإخوة.. أمير المؤمنين يريد الحديث إليكم.. تقترب صورة أمير المؤمنين من الشاشة.. حتى تملأها: تهتز قلوب الأمة كلها... يقول والغضب قد سيطر عليه: أرجو أن يكون إخواننا في كل مكان بعيدين عن المهاترات.. التي تؤدي إلى فرقة في صفوفهم فالله سبحانه وتعالى يقول: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم)... وأنتم تعلمون أن أعظم علامات تاريخنا الجاهلي الهمجي الإجرامي هي قيام النزاعات المستمرة بين المسلمين لأتفه الأسباب.. نعم.. لأتفه الأسباب.. وقد تطورت هذه النزاعات التافهة إلى حروب مدمرة استفاد منها الأعداء فطردوا إخواننا من الأندلس، وبقيت الشعوب العربية مئات السنين في حضيض التخلف والهمجية بسبب فرقتها... فلا تسيروا في هذه الدروب... لا تسيروا فيها... إنني وحسما لكل نزاع، ورغم أن الحق واضح والإنجاز الذي قدمه لنا علماؤنا عظيم... عظيم... إلا أنني أرى أن يجري تصويت عام على استخدام السيارة القديمة إن هذا الاستفتاء كما تعلمون لن يكلفنا أكثر من ساعة واحدة... فلنفعل.. أنتظر من إخواني أمراء البلاد أن يوافوني بالنتيجة فوراً...

المذيع يقول: تعالوا لنرى ماذا يجري..؟!...

          

استفتاء

تعرض فورا قاعة في بيت: رب الأسرة مع زوجة وولدين شابين يقول: هل توافقون على بقاء السيارة القديمة.. يقولون جميعا: لا.. لا.. كيف نرضى ببقائها وفيها ضرر.. والله حرم الضرر..

يرفع رب الأسرة السماعة فيظهر رجل في الأربعين في مكتب عليه لافتة مكتوب عليها أمير شارع المأمون يقول رب الأسرة: أسرتي لا توافق... أمير شارع المأمون يرفع السماعة فيظهر مكتب مكتوب عليه أمير حي الطاهرة فيه رجل في الأربعين يقول له أمير شارع المأمون.. أخي: إن شارع المأمون كله لا يوافق على استعمال السيارة القديمة. أمير حي الطاهرة يرفع سماعة الهاتف بعد أن يضغط على عدة أرقام فيظهر أمير مهيب في مكتب واسع، وبسيط.. يقول: أخي أمير مدينة أنس إن حي الطاهرة لا يوافق على استعمال السيارة القديمة لما تبين من أضرارها... ولما في السيارة الجديدة من حسنات.. يرفع أمير مدينة أنس السماعة فيظهر أمير بلاد العراق يقول: أخي حضرة الأمير: مدينة أنس لا توافق على إعادة استعمال السيارة القديمة التي هي من نتائج الحضارات الهمجية البائدة.. لما تبين فيها من أضرار في نفوس  الناس وصحتهم واقتصاد البلاد.. ولما تتمتع به السيارة الجديدة من حسنات وما تحققه من وفر عظيم للأمة في كل شيء... أرجو إبلاغ تحياتنا لأمير المؤمنين. يرفع أمير بلاد العراق سماعة الهاتف فيظهر أمير المؤمنين يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. إن بلاد العراق لا يوجد فيها موافق واحد على إعادة استعمال السيارات القديمة الضارة التي هي من عصور الهمجية  البائدة....

تقترب صورة أمير المؤمنين من الشاشة حتى تملأها... يقول وهو في حالة دهشة عظيمة... جميع البلاد في خلافتنا الراشدة لا توافق على إعادة استعمال سيارة الحضارة الهمجية الماضية الضارة.. أنا قلق.. هل رفض الأخ المعترض.. أن يصوت... أنا خائف عليه... هل آذاه أحد؟!.. أرجو أن يتصل بي فورا.. وإلا استنفرنا البلاد كلها بحثا عنه...

يرن جرس الهاتف يرفع أمير المؤمنين السماعة فيظهر الرجل الذي اعترض سابقاً وهو يبكي: يقول أمير المؤمنين بدهشة: هل آذاك أحد...؟!... يمسح الرجل دموعه ويتوتر الجو في البلاد كلها... ثم يقول: لا... لا... يا أمير المؤمنين.... أسفت وندمت لأني خالفت الأمة كلها... يسأله أمير المؤمنين بلهفة: هل أعطيت صوتك في الاستفتاء... فيجيب: نعم يا أمير المؤمنين رفضت أن تبقى السيارة الهمجية مستعملة.يبتسم أمير المؤمنين... ويفرح الناس كلهم في بيوتهم... بينما يتابع الرجل: إنني أتوب إلى الله لأنني كنت أصر على رأي سخيف يضر بالأمة... ثم يقول بانفعال: سأحرق سيارتي القديمة.. يغضب أمير المؤمنين ويقول: لا.. لا.. لا يجوز لك أن تحرق سيارتك فتفرط بما فيها... وتتلف ما يمكن أن ينتفع المسلمون به...

فتكون من المبذرين من إخوان الشياطين... أرى أن تعيد دورة »المواطن المسلم« في المعاهد المختصة.. فما رأيك؟ فيجيب الرجل بالموافقة... وتختفي صورة أمير المؤمنين وهو يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وتردد الأمة كلها وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته... بينما يظهر المذيع من جديد ويقول: هنيئا لكل مؤمن في أرضنا.. هنيئا لكل شريف.. هنيئا لكل إنسان... إن أمة الإسلام تعطي أعظم الأمثلة.. وها نحن قد رأينا أحدها... (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، قيماً...).

يرن الهاتف عند المذيع فيرفع السماعة فيظهر عالم مهيب يقول: أحب أن أعلن أن مائة وتسعة وعشرين ألفاً... وثلاثمائة وستة وخمسين مواطنا غير مسلم قد أعلنوا رغبتهم في الدخول في الإسلام بعد ما جرى من حوار حول السيارة الجديدة... ونحن إذ نرحب بإخواننا هؤلاء نقول لهم باسم دائرة الإفتاء التي أنا رئيسها هل من أحد يريد أن يتحدث لماذا أحب أن يصبح مسلما؟...

يرن جرس الهاتف، فيرفع المفتي العام السماعة فيظهر رجل أوروبي يقول: إن عظمة ما رأيته من حرية "وحرص" شديد على دفع الأضرار عن الناس في قضية السيارة الجديدة هو الذي دفعني إلى الإيمان... لقد قلت: إنني أتمسك بدين فيه الكثير من الخطأ... والخطأ يجر الظلم والمصائب علي وعلى إخواني... وأنا أشعر بالامتنان العظيم لما  تقدمه لي دولة الخلافة الراشدة من تكريم وعدل... وأقول الحق: لقد أثر في جدا الأخ الذي طلب إبقاء السيارة القديمة.. فإن تراجعه عن خطئه قد حرضني أنا أيضاً على التراجع عن خطئي فتركت ديني الذي فيه أخطاء... أرجو أن يغفر الله لي حياتي الماضية.. وأن يقبلني في عباده الصالحين..

يرن جرس الهاتف من جديد وتظهر صورة رجل هندي يقول: كنت بوذياً... أوصاني أبي أن أبقى على ديني... ورغم اقتناعي أن رأي أبي كان خاطئاً إلا أنني حرصت أن أنفذ وصيته بأن أبقى بوذياً لكن الذي أثر في نفسي هو تراجع ذلك الأخ المسلم الذي أحب أن يبقى مستعملا للسيارة القديمة. وانصياعه للحق.. فقلت: الحق أحق أن يتبع... إنني أغامر بحياتي وآخرتي حين أطيع رأي أبي السخيف.. كم أتمنى أن أصبح عضواً كاملاً في الإسلام العظيم... أرجوكم اقبلوني...

المذيع: مرحبا بالأخ المسلم.. مرحبا به... يظهر المفتي ويقول: لا نستطيع أن نرفض طلب إنسان يريد الدخول في الإسلام... أعلن للمسلمين أن نسبة غير المسلمين في خلافتنا الراشدة قد انخفضت من واحد في الألف إلى أقل من ذلك بعشرة في المائة... نرجو أن يهدي الله إخواننا الآخرين كي يصبحوا معنا من المسلمين..

ويظهر المذيع ويقول: والآن أستودعكم الله...

وفجأة رنت سبع هواتف في غرفته.. يقف أمامها مندهشاً.. يقول: عفواً.. عفواً.. لن أودعكم حتى أجيب على جميع أسئلتكم...

يفتح باب القاعة يقترب شاب قوي البنية، يميل إلى السمنة.. يقترب من المذيع الذي يتكلم مع مواطن على الهاتف.. يلتفت المذيع إليه ويقول: أهلا أخي "دامر" يقول له: أرسلني مدير الإعلام كي أستلم العمل بدلا منك... وتذهب أنت لترتاح..

المذيع: عفوا... أستطيع الاستمرار... إلا إذا كانت المصلحة تقتضي ذلك... يبتسم دامر ويقول له: إن لديك أعمالا كثيرة.. هيا اذهب إلى أعمالك الأخرى.. المذيع الأول يغادر القاعة وهو يتوجه إلى المواطنين ويقول: السلام عليكم.. ورحمة الله وبركاته... أرجو أن تمضوا سهرة طيبة مع أخي دامر... ويخرج...

دامر يتناول أول سماعة فتظهر أم كريم تقول: تعرض المتكلمون للكثير من قضايا العصور الهمجية البربرية السابقة... فهل نستطيع أن نرى صورا حية عن بعض جوانب الحياة الهمجية... يبتسم دامر ويقول: طبعا.. طبعا.. إن الأخت تعلم أن جميع مراحل الحياة الهمجية وأساليب معيشتها وتعاملها موجودة في مركز »الحضارات الهمجية«. وهي مصورة على أفلام حسب موضوعاتها... فإما أن تتصل الأخت أم كريم بالمركز لإعارتها أي فيلم تريد عن أي جانب من جوانب الحياة الهمجية... أو نعرض نحن هذا الفيلم.. إذا كانت هناك رغبة لدى المواطنين.

يزداد رنين الهاتف.. يرفع دامر سماعة فتظهر "همت" تقول إن موضوع الديكتاتوريات في الجاهلية موضوع خطير... وكذلك قضية المرأة، أرجو أن توافق إدارة الإعلام على عرضها في التلفاز.. يجيب دامر: حسناً.. حسناً.. ثم يرفع سماعة أخرى فيظهر رجل يقول:

أرجوكم اعرضوا لنا فيلما عن قضية الشركات والأرباح...

وآخر يقول: أرجو أن تعرضوا لنا فيلما عن الاستعمار..

وآخر يقول: أرجو أن تبدؤوا بعرض فيلم عن فساد الضمائر..

وآخر يقول: أصحيح أن مجاعات كانت تحدث في الحضارات الهمجية السابقة...؟!..

دامر يبتسم ويقول: حسنا.. حسنا.. حسنا.. أرجو أن تسجلوا طلباتكم عند قسم الاستعلامات ليقوم بتنسيقها وسأسأل إدارة الإعلام إن كانت توافق على عرض ما تريدون.

هاتف يرن ودامر يرفع السماعة يظهر مدير إدارة الإعلام يقول: إن الإدارة توافق على عرض هذه الأفلام بناء على طلب الإخوة المواطنين... وسنبدأ بالأفلام المتوفرة... اتصل أيها الأخ دامر بمركز الحضارات الهمجية واطلب إرسال الأفلام المتوفرة من الموضوعات التي طلب الإخوة المواطنون عرضها...

يرن جرس الهاتف.. يرفع دامر السماعة فيظهر رجل أسود حسن الهندام وتظهر خلفه علب أفلام كثيرة يقول: أخي دامر.. جميع الأفلام المطلوبة جاهزة.. وسأرسلها لكم كلها.. أقترح أن يعرض فيلم الديكتاتوريات أولا.. لما فيه من فظائع تشيب لها الرؤوس وأرجو أن تكون تعليقاتكم عليها علمية وعادلة...

حسنا: يلتفت دامر إلى الشاشة ويقول: أيها الإخوة المواطنون سنعرض عليكم بعد دقيقتين فيلما عن الديكتاتوريات الهمجية البائدة.. تلك الأنظمة من الحكم التي دمرت القيم، وأفسدت الأخلاق.. وأهلكت الشعوب... وجعلت الناس عبيدا لغير الله.. الآن نبدأ العرض...

          

دكتاتورية همجية

تظهر قاعة ملكية رائعة والجند مصفوفون، وبعض القادة والوزراء يجلسون إلى جانب الملك.. والملك على عرشه كالطاووس.. يقف.. فيقف الجميع له.. يقول: ما رأيكم أيها السادة في ابني "جحشير".. يشير الوزراء ويقول: إنه عظيم يا مولاي... يستحق أن يكون ملكاً بعدك على بلاد الأكوادوريس... يقهقه الملك قهقهات عالية... ويقهقه الناس في المجلس بعده... يقول: إذن بايعوه ليكون عليكم ملكا بعدي.. يقول أحدهم: نخاف أن نزعجه الآن يا مولاي إنه نائم... يقول الملك: ....لا...لا.... بايعوه وهو نائم... يتوجه الجميع إلى سرير في وسط القاعة... تكشف خادمة غطاءه... فيظهر رجل رضيع يمص إصبعه.. يقولون جميعا وبصوت واحد: بايعناك يا مولانا الأمير جحشير... وأنت العظيم القدير.. أن تكون علينا ملكاً بعد أبيك... الملك العظيم "همشير". يضحك الملك.. ويصمت الناس كلهم.. ثم يصيح: حسنا... اكتبوا عهدا ووقعوه وليبايع الشعب كله ولدي العظيم جحشير وليا للعهد بعدي...

تبتعد صورة القاعة رويداً... رويداً حتى تتلاشى. وتظهر قاعة جديدة فيها الوزير مع أحد قادة الجيش. يقول الوزير: ما هذه المساخر.. الملك يطالبنا أن نبايع طفله ملكا بعده.. وما يدرينا أن يكون هذا الطفل مجنوناً أو جاهلاً أو أحمق؟! يقاطعه القائد ويقول له: ما رأيك لو طردنا الملك واستلمنا الحكم بعده.. الوزير: بشرط أن أصبح أنا ملكاً.. وأنت رئيس وزرائي.. يصيح القائد: عظيم.. عظيم.. أنا موافق.. نرى القائد يوشوس مجموعة من الضباط في مجلس واحد.. وكلهم يقولون: موافقون.. موافقون.. وبعدها نرى عدداً من الدبابات تقترب من قصر الملك بسرعة.. وعددا آخر يحاصر مبنى مكتوبا عليه دار الإذاعة، وبعد قليل نرى الملك معلقاً في مشنقة..

يعانق الوزير القائد... ويعلن للناس أن الوزير قد أصبح رئيساً للدولة.. ويأتي سفراء الدول إليه مهنئين بالمنصب الجديد.. ولكنه يعتذر بأنه مشغول... كان يجلس في غرفته يفكر... ثم يتصل فورا بأحد أقربائه ويقول له: تعال إلي فورا، فيأتي إليه فيقول له: إن أخاف أن يتآمر علي القائد كما تآمرت معه على الملك.. ما رأيك ماذا نفعل؟!.. فيجيبه: تدعوه وجميع القادة إلى مجلس خمر... وعلي الباقي.. ونرى الوزير مع جميع قادة الجيش يجلسون على مائدة خمر يسكرون... وفجأة يفتح باب القاعة ويدخل قريب الوزير مع عدد من أتباعه.. يصوبون بنادقهم إلى القادة، فيقوم القادة مذعورين.. وبعد قليل نراهم يرمون بالرصاص ويقتلون... ثم يدفنون في قبر واحد..

تعلن الإذاعة: لقد أرحناكم من العصابة التي تآمرت على جلالة الملك... ونعلمكم أن خطتنا هي العدل... وبناء البلاد... وتأمين كرامة المواطنين... والقضاء على أعدائنا الخارجين.. يصفق الشعب للوزير.. الذي أصبح رئيس البلاد... وتنتشر صور الوزير في كل مكان... ويعلقها الناس في كل بيت ومدرسة ومؤسسة ودائرة حكومية.. وتعرض في التلفاز يقول المذيع: أيها الناس.. هذا هو القائد الملهم.. إنه العبقرية الفذة، الشخصية التي لا تنام حرصاً على مصالح الشعب.. هيا اعبدوه.. نعم اعبدوه.. إنّه الزعيم الأوحد.. لقد منت علينا الأقدار به... ونحن نتشرف بالعبودية له..

انتبهوا ستسمعون اليوم قرارات عظيمة لصالح الشعب كله.

يظهر خطيب على منبر برلمان يقول: لقد تفضل القائد العظيم الأوحد... وأعظم رؤساء هذا العصر بإصدار القرارات التالية:

1- تنشأ في البلاد مؤسسة بناء المشاريع الصناعية والزراعية..

2- توزع أرباحها على جميع المواطنين..

3- لكل مواطن الحق في بناء أي مشروع يريد...

يتقدم مواطن بطلب يقول فيه: أريد بناء مصنع لاستخراج الأسمنت من الرمال...

يبتسم رئيس الجمهورية ويقول له: حسناً.. حسناً.. أنا موافق.. اذهب إلى وزيري وحدثه عن مشروعاتك.. يدخل المواطن إلى الوزير فيستقبله الوزير استقبالاً رائعا ثم يقول: له: كم ستدفع لسيادة الرئيس.. فيقول: كما تريد... يا ليته يقبل مني ما يريد.. فيقول له: أنت تعلم أن سيادة الرئيس لا يهمه المال.. وهو يريد أن يدفع بالوطن إلى الأمام.. ويجب أن يكون غنيا حتى لا تنشغل أفكاره عن مصالح الدولة.. فما رأيك؟! فيجيب المواطن: أنا في خدمة الرئيس.. فيقول الوزير: حسناً كم سيكلف مشروعك فيجيبه: خمسة ملايين دينار... فيقول له: حسناً أعط سيادة الرئيس خمسة ملايين دينار.. وسيوافق لك على المشروع.. المواطن يقول: موافق.. موافق... هذا شيك بخمسة ملايين دينار. ثم يذهب ويبني مشروعاً لإنتاج الإسمنت.. نراه في مجلس إدارة المشروع يقول: كم يكلفنا كيس الإسمنت؟! فيقول المحاسب كل عشرة أكياس بدينار... فيقول: إذن نبيع الكيس بدينار.. يقول المحاسب: لكن الإسمنت الأوروبي ثمنه ربع دينار.. فيهز رأسه ويقول: لقد دفعنا كثيرا.. يجب أن نعوض ما دفعناه..

تنزل أكياس الإسمنت إلى السوق.. فلا يشتريها أحد من المواطنين... فيذهب صاحب المعمل إلى الوزير ويقول له: سيدي الوزير... ألا تحمون الصناعة الوطنية؟!. فيجيبه: نعم... نعم... نستمع إلى الإذاعة تقول: حرصا على مصنوعاتنا الوطنية، ودعما للمشروعات الرائدة في ميدان العمارة.. فقد قررت الحكومة منع استيراد الأسمنت من الخارج.. نعود إلى مجلس إدارة المصنع لنرى المجلس كله في حالة سرور.. ورئيس المعمل يقهقه... ثم نرى المواطن يشتري كيس الأسمنت وهو يكاد ينفجر من الألم...

يبكي ويقول: لن أستطيع بناء بيت لي...

يذهب هذا المسكين إلى قريب له من العلماء تظهر خلفه مكتبة كبيرة يقول له: لقد ارتفع ثمن كيس الإسمنت إلى عشرة أضعافه... ما هذا... لماذا لا تكتب في صحيفتك تحقيقاً عن هذا العمل الشنيع..؟!.. تخرج صباح اليوم التالي صحيفة مكتوبة عليها: نريد من سيادة رئيس الإكوادوريس أن يتدخل لمنع الاستغلال.. لماذا ارتفع ثمن كيس الإسمنت إلى عشرة أضعافه.. هل من مبرر؟!..

نرى الشرطة يقودون هذا الكاتب، ثم يرمونه بالرصاص... وتصادر الحكومة صحيفته التي تخرج في اليوم التالي وعناوينها تقول: تبين بعد التحقيق الدقيق أن الأسمنت الوطني فيه مواد حديثة وغالية وتؤدي إلى زيادة تماسك الجدران.. وتجعل الغرف باردة في الصيف، وساخنة في الشتاء دون مكيفات أو مدافئ فيا أيها المواطنون.. اشكروا نعمة الرئيس عليكم... واسعدوا بهذا الإسمنت العجيب الرخيص..

ينتشر رجال الشرطة السريون في صفوف الشعب ويقتلون كل من يقول إن الإسمنت غير صالح، ثم يأمرون الناس أن يخرجوا بمظاهرات ويقدموا عرائض الشكر للرئيس الأوحد الذي مكن المواطنين الشرفاء من اختراع مثل هذا الإسمنت العجيب.

يفر جميع الشرفاء من البلاد.. ويتقرب إلى الرئيس الأوحد جميع اللصوص..

فجأة نرى قاعة مظلمة، وفيها رئيس عصابة يقول: ما رأيكم أن نستولي على السلطة.. يقفز لص ويقول:

 أنا أريد وزارة الداخلية...

ويصرخ آخر: وأنا وزارة الإعلام.. إن صوتي جهوري.. مخيف.

ويقفز لص لباسه أنيق: أما أنا فاجعلوني وزيراً للخارجية... ويتجه رئيس العصابة إلى رجل له كرش ثمين يشخر فيقول له: هل ترضى أن تصبح وزيراً للتموين؟!..

وفجأة يحيط بقصر الرئيس وبالإذاعة مئات المسلحين.. وبعد لحظات يعلق الرئيس السابق بالمشنقة فينزل الناس صورته ويعلقون صورة رئيس العصابة ومكتوباً تحتها: قاهر الظلم والظالمين.. ابن الشعب العامل.. الرئيس المفتخر حامي البلاد.. وخادم العباد بينما تذيع الإذاعات: أبشروا أيها الأحرار.. زال عهد الديكتاتورية الأسود. وجاء عهد الديمقراطية الأبيض.. اسحقوا أتباع ذلك الرئيس.. إنهم خونة.. باعوكم بالمزاد.. واضطهدوا الأحرار في كل البلاد.. أيها الأحرار أيها المفكرون.. عودوا إلينا.. نحن بحاجة إليكم..

يسرع عشرات العلماء إلى الحدود.. فيستقبلهم رئيس الحدود قائلاً: أهلاً.. أهلاً.. الحكم لكم.. ولم نقم بالانقلاب إلا لصالحكم.. أنتم زبدة الأمة.. تفضلوا.. فيدخلون إلى غرفة ثانية.. يجدون فيها رجلاً معه حبال.. يقول لكل واحد منهم: تفضل ضع هذا الحبل حول عنقك.. فيضعه.. فيعلقه في السقف حتى يموت شنقاً.. تمتلئ الغرفة بالمشنوقين.. والرجل يصرخ: يحيا عصر الحرية والديمقراطية..

ويتابع المذيع عودوا إلى بلادكم أيها الأحرار.. لقد استلم زملاؤكم الذين عادوا مناصب عالية.. وعالية جداً تقديراً لعلمهم وخبرتهم..

وفجأة نرى المذيع يختبئ تحت الطاولة ويقول: أيها المواطنون.. إلى الدفاع.. إلى الدفاع.. العدو على الأبواب.. ورئيس العصابة يصرخ: أيها الشرفاء.. العدو يهاجمنا.. هبوا لحماية الأوطان.. والناس كلهم قابعون في بيوتهم لا يتحركون..

يقف بعض الأحرار يصرخون: نريد الحرية.. نريد رفع المفاسد.. عودوا إلى الإسلام.. طبقوا الأخلاق.. فيهجم عليهم رجال الشرطة السرية ويقولون لهم: نحكم عليكم بالموت لأنكم خونة.. هيا إلى السجون.. وهناك يقتلون.. ويقتل أبناؤهم وزوجاتهم.. وآباؤهم وأجدادهم وجميع أقربائهم..

فجأة رن في غرفة المذيع دامر هاتف: رفع السماعة فظهرت على الشاشة صورة رجل حكيم يقول: أرجوكم أوقفوا هذا العرض إنه يفسد أخلاقنا.. ويسيء إلى أمتنا.. يجيبه دامر: لقد انتهى العرض فعلاً.. ثم يقول: أيها المؤمنون، هذه صفات عهود الهمجية الدكتاتورية.. تقتل الشعوب.. وتفني الموارد، وتذبح الكرامات والأخلاق.. ويصبح الملوك فيها أرباباً.. فما أظلم أطوار الهمجية التي عاشتها الإنسانية وما أبشعها من حياة كانت تعيشها شعوب العالم القديم..

والآن سنعرض عليكم فيلماً آخر.. عن جانب آخر من جوانب الهمجية السابقة..

يرن الهاتف ويظهر رجل كهل على الشاشة يقول: إن المجلس الأعلى لحماية نفسيات المواطنين، يطلب عدم عرض هذه الأفلام واحداً إثر واحد.. لما قد ينتج عن ذلك من أمراض نفسية لدى المواطنين نتيجة رؤيتهم لهذه الفظائع المذهلة التي حفلت بها عهود الحضارات الهمجية المرعبة.. لذلك نطلب ألا يبدأ العرض الثاني إلا بعد تحليل العرض الأول.. أو بعد مضي يوم أو يومين على الأقل..

المذيع دامر يجيب: هذا صحيح.. سنؤجل عرض الفيلم الثاني عن همجية العصور السابقة إلى ما بعد يومين، ونرجو من الإخوة أن يناقشوا العرض السابق..

يرن الهاتف في غرفة دامر: يقول المواطن: هل تصدق أنني في عهد الخلافة الراشدة الذي نعيش فيه قد أصابني ضرر يشبه ما كان يحدث في العهود الديكتاتورية الهمجية.. فوجئ الناس كلهم بهذا الكلام وقالوا: عجيب.. لا نصدق.. لا نصدق.. وكذلك قال المذيع دامر.. لكن المواطن وكان شاباً عمره خمس وعشرون سنة، تابع قائلاً اسمي سهيل إنك أيها المذيع تحاول أن تمنعني من عرض المصيبة  الفظيعة التي نزلت بي..

جرس الهاتف يرن وتظهر صورة رجل عمره خمسون سنة يقول: الأخ دامر.. دع الأخ سهيل يقول ما يريد.. أنا الدكتور عمرون رئيس "مجلس إزالة المظالم" سأصل إلى دائرة الإعلام فوراً..

ابتسم الناس كلهم.. لكنهم كانوا ينتظرون بفارغ الصبر أن يعرفوا خبر الشاب سهيل.

يتبع