مذكرات كلب (7)

عكاب يحيى

متفرقات كلب جريح..

مضت الأيام، وبعدها الشهور والأعوام.. تبخّرت الأحلام (بالثورة) والاستقلال، وهرب الحب إلى قلبي يحتله كاملاً.. فلا يسمح لأي آخر بدخوله.. فظلت ذكريات فتنتي زاده المتجدد، وصور أولادي –منها- كما تخيلتهم.. نبعاً يروي ظمأ عروقي التي أخذت تجفّ..

- عرفت بضع كلبات.. مضين في حياتي كسحابة صيفية فما خلفن أثراً.. بعضهنّ حملن مني وأنجبن جراء.. دون أن أجهد نفسي بالبحث عنها، ومعرفة مصيرها.. لأن ما أصابني علمني عدم جدوى الجهد الضائع..

تصاحبت مع عدة كلاب التقيتُها في مشاويري، أو في البيوت المجاورة. خضنا حوارات ونقاشات كثيرة حول واقعنا ومستقبلنا.. اليأس يغطي وجه دنيا الكلاب، يحجب الضوء.. حتى من بصيص.. والأغلبية ترى أنها ضعيفة، ممزقة لا حول لها ولا قوة.. وأن التفكير بالحرية مغامرة كبرى، تحمل الموت والفوضى.. وفي أحسن الحالات الانتظار ولا شيء غير الانتظار، علّ كلاباً جديدة.. من مواصفات أخرى تقدر أن تفعل شيئاً.. وبأمل أن تتغيّر الظروف المسيطرة نحو الأحسن..

وأن مهمتنا.. هي الاستقرار والتوعية.. إن أمكن.. وشيء من التحضير بزرع بعض البذور في تربة خصبة..

لم أكن مقتنعاً بالتبريرات الهروبية.. وبالوقت نفسه لا أملك خيارات أخرى محددة، قابلة للتحقيق.. فطويت حلمي داخلي.. أستعيده كنوع من فردوس مفقود.. فأغوص فيه، وأهرب إليه كلما تأزّمت حالتي.. أو حاصرتني الحياة..

توطّدت علاقتي مع القط (مينو) بعد حوارنا ذاك.. وصرنا شبه أصدقاء، نتعلّم احترام تكوين كلّ منّا، فلا يتعدّى طرف على مبادئ الآخر وقناعاته..

ورغم تشاجرنا أحياناً، وتخابثه في عدد من المرّات.. إلا أن علاقتنا كانت أقوى، قادرة على امتصاص الطوارئ وتجاوزها.. ليعود الصفاء بيننا.. فنحن –في النتيجة- حيوانان وحيدان.. خاصة وأن علائم الشيخوخة بدأت تظهر على (مينو) قبلي.. فصار كثير النوم، يتمطى باستمرار، بطيء الحركة.. زاهداً، قانطاً..

فكان عليّ التخفيف عنه، وإدخال بعض الفرح إلى نفسه.. وتقديم العون.. حيثما استطعت.. بل لم أبخل في حمايته –عدة مرات- من قطط كبيرة هاجمت الحديقة وطاردته، فكدت أن أمزّق بعضها.. وأنا أدافع عنه بكل إخلاص.. فكان يشكرني.. وأعانقه (ترى هل غيّر مينو طبيعته.. أم أنه يضحك عليّ لأنه يحتاجني؟ أعتقد أن شيئاً من الحب الخالص يكنّه لي.. وأنا رفيق عمره).

وعندما هدّ المرض (مينو) وسكنته الشيخوخة.. فسقط جزء كبير من شعره.. وظهرت دمامل في رأسه ويديه ورجليه.. وتناقصت حركته كثيراً حتى لم يعد يقوى على السير إلا بجهد كبير.. لم أتركه.. فكنت إلى جانبه.. أحمله، وأطعمه، وأقوّي عزيمته.. وكثيراً ما رقصت له، وقمت بحركات بهلوانية لإخراجه مما هو فيه.. فكان يموء بصوت شاحب.. ويبكي.. ويعانقني مراراً..

          

موت مينو

وجاء اليوم المشؤوم.. يوم الرحيل الحزين..

عانى (مينو) في أيامه الأخيرة آلاماً مبرحة.. فالمرض يسيطر على خلاياه ويرهقه (كانت لفتة كريمة من أسيادنا الحفاظ عليه وعلاجه. وإبقاوه في البيت حتى آخر يوم من حياته.. خلاف سادة كثر يرمون حيواناتهم مجرد كهولتها أو مرضها)..

أنّ مينو وتوجّع.. وتقلب ظهراً وبطناً.. ولم يستطع تناول شيء من الطعام أو الشراب.. ودموع جامدة، متقطعة تتساقط.. وإحساس قوي ينبئني أن (مينو) يودّع الدنيا ويغادرنا إلى غير رجعة، وأني لن أراه بعد ذلك.. لن نتصاحب ونتخاصم (كما فعلنا سنوات) فاحتضنته مراراً، قبّلته.. مسحت رأسه بيدي.. والأولاد وأمهم حولنا، وبكاء حزين يملأ المكان..

ذهب مينو في غيبوبات متقطعة لا يستفيق من إحداها إلا ليغرق بأخرى.. وفجأة انتفض مينو وكأن قوة خارقة اجتاحته.. فنهض وعيناه نجول بيننا، تحدّق ملياً فينا.. ثم جرّ جسده الهزيل متجهاً إلينا يعانقنا بقوة، ويجثو على أقدامنا، يلثم الأيادي والرؤوس.. ويبكي بحرقة.. وكأنه يشكرنا، يودعنا.. يطلب أن نسامحه..

وما إن انتهى (مينو) من مهمته وقد بذل جهداً كبيراً حتى رأيناه يعود إلى غيبوبة أعمق وجسده يهتز ففتح عينيه (كانت نصف مغمضتين) محاولاً تثبيتهما فينا وانتزاع ابتسامة ضعيفة وفجأة سكنت حركاته، وجحظت عيناه..

ارتفع عويل (منى) وأمها متشابكاً مع نحيبي المفجع وحزن مجيد وعادل حتى سيدي الذي وصل لحظتها، لم يستطع تمالك نفسه، فسقطت دمعتان منه..

حمل (مينو) إلى الحديقة.. وغير بعيد عن بيتي.. دفن في حفرة صغيرة.. غرست فوقها شتلات حبق وقرنفل..

الموت هو النهاية الطبيعية للحياة.. القدر المحتوم الذي لا مهرب منه، الحقيقة الوحيدة الثابته, الكاشفة، العظة والدرس، والجوهر..

فتح رحيل مينو عقلي وعيني على حقائق عديدة.. طالما حاولت نسيانها، أو تناسيها.. قرع ناقوس الأبدية كإنذار للجميع.. أن اتعظوا.. واعلموا أنكم ستواجهون مصير مينو يوماً.. فلا ينفعكم ندم بعد فوات الأوان..

وحيداً، هزيلاً، عليلاً مات مينو واحتوته حفرة في التراب.. لم يأخذ معه عظمة، أو لباساً، أو طوقاً.. أو ولداً.. ذهب كل شيء إلا ما تركه من أثر.. هو عمله بخيره أو شرّه.

استحال عليّ نسيان مينو (هي عشرة عمر) أو طرده من قلبي وذاكرتي.. فأضاف جرحاً جديداً إلى جراحي.. يذكرني قبره به، وبي، فأجثو عنده أناجيه، أستعيد شريط حياتنا مذ جئت.. أقف عند علاقتنا.. فألوم نفسي كثيراً على بعض الإساءات التي صدرت مني إزاءه، أو تشنجي منه، وصفعي إياه مرتين، وحكمي الظالم عليه، فأستسمحه راجياً أن يقبل.. وأخاطبه وكأنه ما زال أمامي.. خاصة وأني لم أعد أذكر سوى حسناته.. فقد غابت كل سيئة.. بل عللتها وبررتها فضممتها إلى رصيده..

صوت مينو يقول لي: دورك قادم أيها الوحيد.. الجريح.. فماذا ستأخذ معك غير حبّ الآخرين، وجزاء ما فعلت؟

كم تمنيت لو تبقى حقيقة الموت ماثلة أمامنا توقظ ضمائرنا، تنبّه دواخلنا، تذكرنا بأن الحياة –مهما طالت- قصيرة.. وأنها لا تستحق ذلك الألم والحزن والأسى.. والبغضاء والحروب والجشع والتملّك والحسد.. والغشّ والخداع والعداوة..

إنها رحلة لنا.. نركب قطارها لنهبط في محطة ما من الطريق.. تمضي بسرعة.. وقد لا نشعر إلا والإنذار بالوصول.. أو اقترابه قد أعلن..

هكذا إذاً مينو.. رفيق مشواري.. تذهب لتتركني وحيداً..

          

علاقتي مع أسيادي.. وشؤون أخرى..

لم يعد يشاركني أحد في حب أسيادي، فزادت حاجتهم لي..

فقد ترك رحيل (مينو) فراغاً كبيراً داخلنا جميعاً.. لم نعرف حجمه إلا عند افتقاده.. فأصبح وجودي داخل البيت أكبر من السابق، وقد تركت فيه عدة مرات للمبيت.. كنت أسهر مع الأولاد أختار مكاناً يعجبني (كل مرة) في زاوية من غرفة أحدهم لقضاء ليلتي شبه نائم.. شبه متيقظ..

أحسست –أكثر من ذي قبل- أني جزء صميمي من هذه العائلة (واحد منها) وليس لي سواها في الحياة.. فالماضي ولّى.. والأحبة شردوا.. ومينو رحل.. والزمن يعلمني أن المستقبل قصير..

فتوطدت علاقتنا التي لم تعكرها سوى ظروف صعبة خارجة عن إرادة الجميع.. ظروف تركت آثارها فينا جميعاً، وبشكل خاص في سيدي..

إذ أدّت المتغيرات إلى عزله وإحالته إلى التقاعد (وهو تقاعد مبكّر لرجل في عزّ شبابه وعطائه) ويبدو أن سيدي لم يتمكن من هضم ما جرى.. خاصة وأن المآسي تلاحقت: عزل وإقامة شبه جبرية، ومحاولة اغتيال جبانة، وإساءات بالجملة، وحملات تشهير وتشويه.,. واستدعاءات للتحقيق والمسألة.. فأصبح عصبياً جداً، كثير الوجوم، يمضي معظم وقته في غرفة مكتبه.. وحيداً، شارداً، قانطاً.. وإن خرج.. تراه حاد المزاج، يثور لأصغر وأتفه الأسباب، يتدخل بكل شيء حتى وإن كان شأناً سخيفاًُ.. يضرب.. ويشتم ويزعق.. كل من يصادفه: الأولاد وأمهم والخادمين الوفيين.. وأنا بالطبع..

كان علينا أن نقدّر حالته، ونستوعب ما يعانيه من ألم وغضب ومرارات.. فنعمل –جميعاً- للتخفيف عليه، وتلبية كافة طلباته.. وكانت سيدتي العظيمة.. كبيرة، أقوى من المأساة.. فحافظت على هدوئها ورباطة جأشها (ربما كانت تبكي بصمت..) تنشر الحب والتصميم والصبر في أرجاء البيت، تعلمنا التحمّل والتكاتف.. وتوصي الجميع بالتسامح مع سيدي، وتفهم ظروفه، وتقبل الشتم والضرب والصراخ بالابتسامة والتودد إليه..

          

وجاء اعتقال سيدي

أشهرُ والمأساة تعصف بهذه الأسرة المتكاتفة.. فتنزل عليها متلاحقة.. وهي صامدة صابرة.. بل لعلها زادتهم وحدة وتماسكاً وحباً وتلاحماً (يقولون إن المصائب توحّد القلوب وتؤلف بين الناس) فتحوّلت الأسرة (بما فيها الخادمان وأنا) إلى كتلة واحدة، تواجه المحن، وتصدّ كيد الأعداء وحقدهم، وكل يقوم بواجبه من تلقاء ذاته.. (لعل هذا التكاتف هو الذي مكّن سيدي من الثبات والاستمرار.. وإلا.. فإن كثيرين ممن لم يقع عليهم جزء يسير مما وقع عليه انهاروا وانتهوا وانتحروا) وفي ليلة غاب قمرها (ونحن جميعاً في الداخل) وقبيل الفجر بقليل.. شممت روائح مختلطة.. عدوانية ثم طرقاً عنيفاً على الباب.. وأصوات صراخ قمعي يصل أسماعنا: "افتحوا الباب وإلا كسرناه"..

قفزت نحو الباب ونباحي الثائر يسبقني.. بينما استفاقت الأسرة المذعورة، والمفاجأة تطيح بآثار النوم.. وتثاقل الجفون..

بلحظة واحدة.. كانت أقدامهم الغليظة تتداخل مع أسلحتهم، وسبابهم، وأوامرهم..

وقبل أن أتمكّن من مهاجمتهم كان أربعة أو خمسة قد أحاطوا بي من كل جانب وسياطهم تلسع ظهري، وحيثما طالت جسدي، فقيدوني، وأغلقوا فمي بكمامة خاصة.. لم أستطع فعل شيء غير عضّ يد أحدهم.. (آه كم تمنيت لو استطعت قطعها، وبتر أياديهم جميعاً) وألقوا بي مكبلاً، مكمماً في زاوية المنزل..

الغزاة متوحشون، وكأنهم ليسوا بشراً، صنف آخر من الشرّ والعدوانية والإجرام.. فقد كان بإمكانهم –مثلاً- الدخول إلى البيت نهاراً وليس قبيل الفجر (يبدو أنهم اختصّوا بعملهم في جنح الظلام فسمّوهم "زوّار الفجر" والفجر براء..) واستلام سيدي بكل هدوء، ودون إهانات ورعب وإساءات (الإهانات والتخويف والإساءات جزء من هيبتهم.. مما يعتبرونه: الاحترام القسري.)

عندما ظهر سيدي وقد تحلقت الأسرة حوله وكأنها تخشى شراً مستطيراً عليه.. هجم (الغزاة) عليه وكأنهم في معركة ضروس.. يواجهون عدواً.. فأوسعوه ضرباً ولكماً أمام الجميع. فتدخلت سيدتي لحمايته، وكذلك الأولاد والخدم.. فنالوا نصيبهم.. صفعات ودفشات وركلات بأرجل غليظة (كأنهم اختصاصيون في الركل واللبط) فوقعت سيدتي أرضاً.. وارتفعت الشتائم من كل نوع بذيء.

كنت أتمزّق وأنا مقيّد، عاجز.. سيدك يُهان ويُضرب، وسيدتك على الأرض مرمية، والأولاد يبكون.. وأنت كالخرقة البالية لا تقدر على شيء.. حتى وإن كان نباحاً..

رفض الغزاة أن يبدل سيدي (منامته) أو أن يصطحب حقيبة فيها بعض ما يحتاج (كان يعرف إلى أين ذاهب) فاقتادوه وسط العويل والصراخ، وحقد صارم يغلي في الجوف فيخرج عزماً، وإرادة.. وكبرياء..

ما حدث يفوق الوصف والتخيّل.. هي المرة الأولى التي أشاهد فيها (بشراً) ليسوا كالبشر.. وحوشاً وما هم بوحوش. بل آلات انتزعت منها الأحاسيس والرحمة والعطف، فتحوّلت إلى قطع صمّاء.. لا تعرف غير الإيذاء والضرب والقتل والإهانات..

ماذا فعل سيدي كي يعتدى عليه بهذه الصورة الوحشية؟

أيام، وشهور والحادثة ماثلة أمامي.. محفورة في الذاكرة، تضيف إلى المآسي بعداً جديداً ما عرفته في سابق تجاربي، ووسط شعوري بالإهانة الفظيعة التي وجهت لنا جميعاً، ولي بشكل خاص، أنا حامي العائلة الذي وقف ذليلاً=، صاغراً، مكبلاً، لم يقدر على فعل شيء.. كان الثأر هو البديل والرد..

وتساءلت مراراً: من هؤلاء لأثأر منهم؟ أين يقيمون؟ وكيف سأجدهم؟ من يحميهم ويطلقهم كـ "الكلاب المسعورة" (وأسمح هنا لنفسي بتوجيه الإهانة لبني جنسي.. لأن الكلب المسعور مثل لا يشابهه إلا هؤلاء)..

هل هم أشباح تحطّ فجأة، تهوى الظلام فلا تظهر إلا في العتمة.. أم بشر مثل البقية؟؟

وأدركت بحاسَّتي.. أني لا أستطيع الانتقام والثأر لشرفي، وكرامة العائلة، وأن عليّ ابتلاع ما جرى.. لأن هؤلاء من طينة خاصة، خفية.. لا يعرفه إلا قلّة.. والقلة هم الأسياد الكبار..

          

السجن و (عائلتي)..

أكاد أقول.. إن مصيبة (أسرتي) كادت تنسيني فجيعتي بالحبيبة وأولادي الذين كانوا في أحشائها.. خاصة وأني قطعت الأمل بلقائهم، أو معرفة طريق يوصلني إليهم.. فعاهدت نفسي أن أكرّس كل جهدي لخدمة (أسرتي) التي هي بأمسّ الحاجة إليّ..

قد يسأل أحدكم فيقول: وماذا يستطيع كلب أن يفعل لأسرة منكوبة؟

وستعرفون أني قمت بالكثير من الخدمات والمهام..

كان –علينا- بداية أن نتماسك لتحمل الصدمة الكبيرة، وسدّ الأبواب على الحاقدين والمتربصين والشامتين.. والتماسك لا يحصل إلا بتفهّم ما جرى وما يخلفه من تبعات ومسؤوليات.. وأول خطوات التفهّم: تجاوز الآثار المباشرة، ورفض الضعف والانهيار.. والاحتفاظ بالحزن داخل القلب..

لذلك –تعمدت- ولأيام متواصلة- إدخال شيء من الفرح إلى الأسرة.. فقمت بالعديد من  الحركات المتقنة المسلية (حتى ولو لم أك مقتنعاً بها) لاعبت الأولاد وألزمتهم على الجري في الحديقة، والقفز.. والضحك (ويبدو أن سيدتي فهمت قصدي فكانت تشجعني وتثني عليّ)

وبالوقت نفسه كنت في أقصى حالات استنفاري وتيقظي، أرفض المبيت داخل البيت، فأمضي معهم بعض الوقت، ثم أتركهم –بإصرار- إلى الحديقة أجول فيها طولاً وعرضاً، أراقب كل حركة، أشمّ جميع الروائح..

وفي الصباح أقضي وقت الإفطار معهم، فأمزجه بمزيد من الألعاب والرياضات.. ثم أحتضنهم، ألثمهم.. أشدّ على أيديهم.. وأظهر الكثير الكثير من الفرح..

كان يجب أن نخرج إلى الأسواق لقضاء حاجات البيت.. والخروج لم يعد كالسابق.. فالأعين تلاحقنا، والتحرشات من هذا وذاك تواجهنا دوماً، وكثيراً ما تصلنا شتيمة، أو كلمة حقد وتشفٍ، أو نظرة استهزاء. وبعضها شفقة..

وصممت أن أعوّض غياب سيدي.. فأفرض هيبة (أسرتي) على  الجميع باستخدام كل الوسائل التي يمتلكها كلب خبير.. قوي..

رافقتهم إلى شتى الأسواق الكبيرة، وحملت (في رقبتي) أقصى ما أستطيع..

مرات عديدة اشتبكت في معارك مع كلاب معادية.. كان أصحابها يأمرونها التحرّش بنا، فأنزلت بها أضراراً جسيمة.. ورغم أني أصبت بعدة جروح وخدوش جرائها.. إلا أنني تمكنت من كسر هيبة تلك الكلاب ومن يقف خلفها.. ففرضت سلطاني عليهم، حتى صاروا يهربون لرؤيتنا أو ينتحون جانب الطريق عند قدومنا..

أذكر واحدة من تلك المعارك الضارية التي حصلت مع كلب قوي – شرس (من نوع دوبرمان) الذي يعتبر أكثر شراسة من فصيلتنا..

كنا في الطريق إلى مخزن التسوّق.. حين لمحت على بعد عشرات الأمتار عدة فتيان يصطحبون كلباً ضخماً.. شممت رائحته العدوانية.. وتأكدت من ذلك عبر نظراتهم الحاقدة وهم يقتربون منّا (كان مجيد معي) وأدركت أننا المقصودان.. وأن النية مبيّتة لإيذائي.. وما مِنْ مهرب.. وكيف لكلب مثلي أن يهرب من مواجهة قدره.. حتى وإن كان الموت؟!

تلفظ الشبان بعبارات بذيئة راحوا يقذفوننا بها، وبإشارات مخلّة بالأدب ترسمها أياديهم.. فدبّت الحمية في رأسي، واستنفرت حواسي.. وشعري يقف.. وكأن جهازاً كهربائياً قد فعل ذلك.. بينما كان خصمي يرغي ويزبد وهو يطلق لعاباً كثيراً.. وتقدح عيناه شرراً، وصراخ نباح أجش ينذرني، ويتوعدني بأوخم العواقب..

أعرف جيداً هذا النوع من الكلاب، وأخبر نقاط قوتها وضعفها.. وهي أقوى فكّاً منّا، أكثر شراسة، ويمكن أن تتحول إن استثيرت.. إلى وحش حاقد.,., لكنها أقل ذكاءً وحنكة وخفة ومناورة منّا..

كان يجب استخدام الذكاء والدهاء، وليس العضلات.. عبر استنزاف قوى خصمي.. ثم توجيه ضربات قاصمة له..

وسط لؤم الشبان وفرصتهم (بانتصارهم القادم) وخوف وقلق مجيد عليّ أطلقوا عنان كلبهم نحوي، ومجيد يحاول الانسحاب (حرصاً على سلامتي) فيجرني باتجاه الهرب.. وكان يستحيل عليّ الهرب من مواجهة مصيرية حاسمة.. وبدأت المعركة..

.. خصمي ينطلق كالسهم (الطائش) نحوي.. فأستدير لأواجهه من الخلف.. نحو ظهر رقبته. وأجبره على استدارة كنت أسرع منه.. فيصطدم بجذع شجرة.. وجدتها خير متراس لي.. فأدور حولها لأصطاده حيثما أستطيع.. بينما أمنعه من الوصول إليّ..

دورة.. اثنتان.. عشر دورات متتالية وأنا أرغم خصمي وقد صار أسير خطتي، فأنال منه، وأنهكه، وأستنزفه جهداً وحنقاً وخيبة..

كانت دماؤه تنزف من عدة مواقع.. بينما لم يصبني سوى بخدوش بسيطة..

وعندما تأكدت أني أتعبته.. قررت الالتحام.. ومجيد مرعوب..

وبحركة متتالية جريئة كنت على ظهره أمسك رقبته بفكي القوي.. بينما تحيطه يدي ورجلاي.. حتى لا يستطيع فكاكاً.. فأوسعته عضاً.. حتى أسقطته أرضاً.. وكأنه فارق الحياة..

بلغ حنقي مداه.. فلم أرغب ترك غريمي يسبح بدمائه.. فاتجهت إلى الشبان.. أنفث فيهم جزءاً من حقد وغضب.. وتمكنت من الإمساك بأحدهم.. فأشبعته نهشاً وجروحاً.. بينما كانت أرجل البقية تسابق الريح.. ثم توقفت فجأة، ونذير داخلي يقول: قف.. كفى.. تكاد أن تقتله..

قبلني مجيد باحتضان يتفقد كل جزء مني.. فعرف أن جروحي ليست كبيرة.. فاقتادني والشعور بالنصر يتراقص مع خطواتنا المسرعة للبيت.. لإعلام (الأسرة).

هو نصر.. بعد نكبات.. علامة ضوء وسط حلكة.. حالة فرح في جوف الظلم والألم.. طاردت مراراً مجموعات من الشبان، والرجال، وحتى بعض النساء.. التي أرادت إهانتنا والسخرية منّا، التقطت بعضهم فجرحتهم جروحاً خفيفة (عن قصد) وكشّرت أنيابي أمام نساء ثرثارات.. ورجال مهاذرين.. وخوّفت العديد لفرض احترامنا.. فكان لنا حيث لم يعد أحد يتجرأ على التعرّض لنا أو بنا..

فأدخل ذلك نوعاً من الثقة بالنفس، وقوّى عزيمتنا، والتحامنا مع بعضنا..

السجن مجهول كالظلام.. نوع من الموت (مع وقف التنفيذ) لعنة البشر على بعضهم.. عنوان شرورهم وجرائمهم، ورمز طيشهم وأخطائهم.. ونزوعاتهم المريضة في الحكم والتملّك والسيطرة والاستبداد..

سيدي هناك لا نعلم شيئاً عنه، ولا ما يعانيه.. ترى ماذا حلّ به؟

لقد رفضوا زيارة سيدتي له، منعوا توكيل محامٍ يدافع عنه.. أوصدوا الأبواب عن كل خبر يتعلق به.. (ممنوع أن نعرف أين هو.. ممنوع أن نسأل بأية تهمة اعتقل وأهين.. ممنوع أن نرسل له ولو سروالاً يرتديه، أو بعض المال.. والممنوعات كثيرة في دنيا البشر.. حتى تكاد توازينا.. للحق بعضها أقسى وأفظع)..

وكأن سيدي ذبابة طارت فما عرف لها مكان.. وليس مواطناً له حقوق وكرامة وإنسانية (هم يصرخون كل الوقت عن الوطن والمواطن.. والحقوق، والكرامة.. والعزّة والحرية.. و..) ولا أدري كيف يكون الإنسان إنساناً.. (وحتى الكلب) وهو بدون كرامة وحقوق.. وماذا يبقى من مواطن تسلب حريته، وإنسانيته، ويحجب عن الحياة.. ثم يتحدثون عن العدل والشرف والضمير.. والتقدّم.. والحضارة!!.

أشهر تتراكم و(مفقودنا) مرمي هناك (أين.. لا ندري) و(أسرتي) تقاوم، تتحمل، تعاند الظلم وتقارعه بالثبات وسيدتي العظيمة تقتطع من أعصابها لتزرع الأمل والبسمة والتفاؤل.. وكأنها قدّت من فولاذ لا يعرف الصدأ..

الأولاد حزانى.. لكنهم يتأقلمون، يتدربون على مقارعة الصعاب، فيتعمّدون في أتون، يتصلّبون، ويكبرون بسرعة.. (وكأن عقلهم يفوق عمرهم بسنوات) فغادروا الطيش الطفولي.. وتلك الذاتية، وحبّ التملّك والاستحواذ.. والمناقرات والشجارات.. ونمت روح المسؤولية، والإيثار، والحب الدافق، والتعاضد.. حتى صارت الأسرة خلية نحل تعمل بانتظام واحترام..

بقيادة أمّ ملهمة.. تفني نفسها في سبيل ألا تطأطئ الرؤوس.. وكي يظل باب بيت سيدي مشرعاً.. أبياً..

ستة أشهر والمجهول يقتات لوعتنا بالغائب، ينهش الليالي فيحولها إلى كوابيس.. وجاء الخبر المفرح يوماً: لقد سمحوا بزيارة سيدي (تصوروا أن زيارة سجن بعد ستة أشهر تعتبر منّة كبيرة.. وفرحة تحتاج الشكر..)

واستعدّت العائلة للموعد العجيب.. تحضّر الملابس والمأكولات والحلويات والهدايا.. (مساكين أهل "أسرتي" اختلط عليهم الحلم بالواقع) والفواكه.. والأحاديث.. والقصص..

أوصت سيدتي الأولاد بالحديث المقتضب.. وبعدم إزعاج الأب بأي خبر مزعج.. بل شدّ أزره، وتقوية صموده، وإبداء المزيد من الشوق والحب به..

سهروا تلك الليلة فما استطاعوا رقاداً.. وكنت مثلهم.. أنتظر الموعد..

عندما ركبوا سيارتهم فهمت أنه يستحيل مرافقتي لهم.. وكذلك الخادمون الوفيون (فماذا يفعل كلب مع معتقل؟!) فنحن ضمن الممنوعات.. لكن الأهم سيدي وصحته..

استقبلنا الأسرة بعد ساعتين أو يزيد.. كانوا وجوماً، ثمالى.. ودمع جاف ما زالت آثاره تحكي القصة..

تذكرت الأيام الأولى لغياب سيدي.. فهي الحالة نفسها، وما هو أسوأ.. الألم يسيطر على (سيدتي) وذهول يرتحل بها بعيداً عنا.. وكأنها ليست تلك السيدة الصلبة، المعطاء، القوية، العاطفية.. التي عرفت.. وعرفت بالتتابع.. أن وضع سيدي يقطّع نياط القلب..

لقد تعرّض لتعذيب فظيع (يستحيل أن يمارسه بشر..) والتهمة "المساهمة بمحاولة انقلاب ضد الحكام الجدد!!) فجُلد وأهين، استخدموا معه الكهرباء وأجهزة ضغط الرأس.. جميع الوسائل: قديمها البدائي مما اشتهروا باستخدامه.. وجديدها (آخر ما أنتجته التقنية المتطورة، لانتزاع المعلومات) ما أشطر البشر في التعذيب.. وما أكثر تفننهم في اختراع آلات فتّاكة.. قهرية.)

وألقوا به في زنزانة ضيقة لا ضوء فيها، لا ماء، لا فراش.. فسقط معظم شعره (قالوا كان شعره تساقط بفعل الشدّ والكي والحروق) وغارت العيون في محاجر جامدة.. وهزل الجسم.. بينما آثار السياط والكهرباء وأعقاب السجائر.. تضاريس فظيعة.. تدمي..

في الزيارة الثانية –بعد شهر من الأولى- كان وقعها أخفّ.. والذهول أضعف.. فاعتاد سادتي طريق السجن وقد اكتسبوا خبرات هامة (أية خبرات هذه) في مراجعة الشرطة مرة أو مرتين لاستلام الموافقة، وفي عدم اصطحابهم لأية أطعمة أو فاكهة.. أو كتب (يخاف السجانون كثيراً من الكتب وما فيها) أو أوراق وأقلام.. (حمداً لله أنهم يسمحون ببعض الألبسة والأموال) ودبّت الحياة تأخذ مجاريها..

الشيء اللافت أنه مع تغيّر أوضاع سادتي.. تغيرت أحوال البشر الذين كانوا يملؤون البيت: أصدقاء، وأصحاباً، زواراً، ومراجعين وأصحاب حاجات.. يظهر معظمهم، الحب والتقدير والإعجاب.. فغاب هؤلاء إلا قلّة قليلة مخلصة من الأهل والأوفياء، فأغلق باب البيت علينا معظم الأيام..

كنت مشدوهاً لطبيعة البشر ومستوى نفاقها.. ومحركاتها.. فسيدي هو هو، لم تتغيّر شخصيته وطباعه لا من قبل ولا من بعد.. كل ما تغير منصبه.. الأمر الذي أقنعني بأن تلك العلاقات التي تبدو حميمة.. ذلك الأطناب والتوصيف المبالغ فيه عن مواهب سيدي وهو في موقع قادر على تلبيتها.. غابوا وكأن الأرض ابتلعتهم..

دروس غنية تعلمناها.. فالمحن تدعوك للتأمل، لمعرفة ذاتك والآخرين، لإعمال الذهن في الأخطاء.. وهي امتحانات كبرى للنفس، والعلاقة بالآخرين..

فنضج الأولاد في معمعان الأزمة وموجباتها، وعبر تحمّل المسؤولية (وأعتقد أنها كانت مفيدة لهم..) فلم يعودوا عابثين، مبذرين لاهين، اتكاليين.. بل تصلبوا بالاعتماد على النفس، وبخبرة معرفة دولاب الزمن وتلاوينه، ومعدن البشر وخلفياتهم..

وكان طبيعياً أن تتطور علاقتنا التي صقلتها المآسي.. لأصبح (عنصراً لا غنى عنه لدى الجميع) مصدر الثقة والاطمئنان –الصديق الصدوق الذي لا يعرف المصالح والأنانية والغدر.. الوفي حتى الموت.

كان (مجيد) يحادثني وهو يقرأ بجديّة لنيل الثانوية العامة، فأجثو عند رجليه أستمع إلى حواراته.. ومناقشاته.. إنه يحتاج إلى من يفضفض له.. من يسليه في الليالي الطويلة.. فلم يك غيري الأجدر بثقته.. فأجلس ساعات أحدّق فيه.. وأدعو الله بالتوفيق..

إنه يعشق الهندسة.. وميادين العمل..

أما عادل.. الطيب.. الصديق القديم.. فكان مغرماً بالحاسوبات، يجلس الساعات أمامها، يلعب ويحسب.. ويناديني مراراً لأقبع جانبه.. فيضع لي فيلماً مسلياً عن حياة الحيوانات ومغامراتها.. هكذا رأيت مراراً كلاباً تروي حكاياتها تمثل، وتتحدث، وأخرى عن تدريبها ودورها.. وإنجازاتها.. وحيوانات كثيرة تجعلك تجلس يوماً بطوله دون أن تملّ.. فلا تشعر بأن الوقت يمضي..

ومنى الحبوبة.. الفراشة الزاهية، النعومة، اللطيفة.. فهي عاشقة للطبيعة والأدب، خاصة الشعر.. لذلك تراها ساهمة لساعات في الحديقة تخاطب العصافير، تراكض الفراشات حتى تخالها إحداهنّ، تعانق الورد والشجر.. وفي الليل.. تتخذ من البركة مكانها في خلوة طويلة، خاصة في الليالي المقمرة..

تناجي القمر وكأنه الحبيب البعيد القريب.. القادم يوماً، فأجلس عند قدميها الصغيرتين، أنتظر ملامستها لشعري.. أو مداعبة منها.. وهي تقرأ أبياتاً شعرية رقيقة.. تدعوني للسباحة في بحرها.. ولتذكر حب يمور في القلب.. ويغلي في الشرايين.. فأعيشه ككنز أخشى عليه الظهور..

          

وتقترب النهاية.. تقرع بابي..

عامين ونيّف.. وسيدي سجين مجهول.. والحياة تتواصل بطريقة ما.. وقد تماسكت (عائلتي) وتجاوزت المحنة.. خاصة وأن سيدتي.. تمكنت بما لديها من إرادة وفطنة الخروج من سجن البيت إلى الحياة.. فقررت إيجاد مصدر آمن يوفر احتياجات العائلة، ويقيها العوز والحاجة..

وبمساعدة قلّة من الأصدقاء المخلصين افتتحت مشغلاً للخياطة.. استغرق جلّ وقتها وجهدها، وانخرط الأولاد كل يقوم بدور محدد له.. كخلية نحل لا تعرف الكلل والتوقف.. وكلفت بحراسته.. فصرت أوزّع الوقت بينه وبين البيت، فأمضي فيه معظم الليل لأعود صباحاً إلى البيت والحديقة.. أحرسهما في غيابهم..

تطوّر المشغل إلى منشأة تتوسّع.. تنتظر (سيدي) لإدارتها..

وفي صباح بارد.. والعائلة نائمة.. شممت رائحة ليست غريبة.. رائحة قديمة (من زمن العزّ) وطرقاً خفيفاً على الباب.. فهرعت إليه بصوت فرح قوي (كنت أنام داخل البيت خوفاً عليّ من قرّ الشتاء)..

إنه سيدي.. بله شبحه.. شبيهه..

ملأت البيت جرياً ونباحاً وفرحاً.. من غرفة إلى أخرى أزفّ الخبر السعيد، فأسحب الأغطية من فوق سادتي.. فيهرعون.. يريدون معرفة سرّ تصرفي الشاذ.. وأقودهم إلى الطابق الأرضي..

يا لهول المفاجأة..

بكاء ودموع.. زغاريد.. وعناق.. وابتسامات.. شيء لا يوصف..

كبر سيدي وكأنه قادم من زمن غابر، وهزل كثيراً، وتساقط معظم شعره، لكن هيبته ما زالت، ونظراته الحادة المعبّرة تعلمني أن إرادته لم تعرف الخضوع، وتلك الطيبة الساحرة..

هكذا عادت الابتسامة إلى البيت.. فانخرط سيدي في (المصنع) يضع فيه عصارة تجاربه.. يوسعه ويطوره، ومجيد يساعده بقوة، خاصة وأنه يدرس في الجامعة (كلية الهندسة) بما يؤهله ليكون المدير المقبل..

وعاد الزوّار إلى البيت، قدماء هجروه فجاؤوا بأثواب وألوان جديدة تخفي حقيقتهم.. ورجال أعمال، وأصدقاء خلّص.. فازدهرت الحياة.. وابتسم الحظ من جديد – لسيدي.. فاستعاد ثقته بنفسه، وبالكثير من مبادئه وأفكاره التي عمل على تجسيدها في عمله، وفي علاقاته مع العمال والفنيين.. وكل من يتعامل معه.. وازداد طيبة، وكرماً وتسامحاً، فلم أعرف منه سوى العطاء والهدايا واللطف.. ومثلي كان الأولاد.. وسيدتي العظيمة..

          

تكدست الحياة ورائي فتراخى زمني، وفلت المستقبل مني..

أدرك سادتي تعبي، فأعفوني من حراسة المصنع باستقدام كلبين فتيين جداً يذكراني بشبابي.. يشبهانني كثيراً حتى خلت أنهم أولادي.. ولم لا يكونان من أحفادي.. وتختلط الأمور عليّ.. نوعنا يتشابه.. وكلهم كلاب..

ازدادت وحدتي وقد دخلت مرحلة العد العكسي منذ زمن.. ولم تبقَ سوى ذكريات.. بعضها تراخى بفعل غبار الأيام.. إلا حبيبتي.. فأعددت نفسي لليوم الموعود..

تكاسلت ذاكرتي وقواي.. وأخذت الكهولة تغزوني.. فيقهرني نوم إجباري أطارده بإرادة طالما كانت كالسيف.. يقولون إن العمر التقديري للكلب بين 10 – 15 سنة وها قد شارفت الحد الأقصى.. فماذا بقي.. مفارقة عجيبة كانت تثيرني –رغم شيخوختي- وخبراتي.. وهي القائمة بيننا وبين البشر..

تصوروا يوم جئت إلى بيت سادتي كنت في أشهري الأولى.. وكان الأولاد صغاراً.. عندما بلغت العام كنت كلباً في عزّ الشباب.. وكانوا ما زالوا صغاراً..

وعندما كبرت إلى متوسط العمر.. صاروا فتياناً..

اليوم في أواخر أيامي.. يبدؤون حياتهم كشبان في مقتبل العمر.. فأي مفارقة محزنة.. إيه أيها الشباب الذي غادرني ولن يعود..

ترى لو كنت شاباً بتجربتي هذه، وخبراتي.. وحبي الخالد الذي سرق مني..

هل كنت سأكرر نفس الحياة فأقتنع بالمفروض، وأستسلم لقدري.. أم سأختار طريقاً آخر.. يحقق حرية واستقلالاً ووحدة الكلاب في العالم؟؟

ترى: ماذا سأفعل لو كنت شاباً؟؟

          

ملاحظة هامة: بالإجماع، وخلافاً لما فعله سيدي مع من كان قبلي، قررت العائلة إبقائي معها حتى آخر يوم من حياتي.. ودفني إلى جوار مينو.. كنوع من عرفان.. رد جميل..

فشكراً سادتي.. أن لم تقذفوا بي، وأنا في هذا العمر إلى الشوارع..

          

النهاية