عينان مطفأتان ، وقلب بصير(6)

عبد الله الطنطاوي

عينان مطفأتان، وقلبٌ بصير

    عبد الله الطنطاوي  

[email protected]

  

الفصل السادس

لمع نجم الشيخ صالح في كلية الشريعة، وفي الجامعة، وضحكت له الأيام، فشدّ إليه الأنظار، بدماثته، وحسن تصرّفه، وروحه المرحة، وبابتسامته التي ما كانت تفارق شفتيه، وبحبّه الناس، وتقديم العون لمـن يـطلبـه، وبذكائه، ورجاحة عقله، وقدرته الفائقة على الاستيعاب، وتفوّقه على سائر أقرانه بعلمه وجدّه واجتهاده..

كان يدخل الجامعة بأناقته التي عُرف بها، يحمل في يده اليمنى عصاه البيضاء لترشده إلى الطريق المأمون، وتمنعه العثرات، وبيده اليسرى محفظة أنيقة، فيها عُدّته للكتابة، ومسجّل صغير لتسجيل المحاضرات والحوارات، وأحياناً يكون معه الفتى نعمان الذي استأجره ليقرأ له من كتب المبصرين التي كوَّن منها مكتبة كبيرة، أكبر من المكتبة الصوتية، ومن كتب المكفوفين ومجلاتهم باللغتين العربية والإنكليزية.

توزّعت حياة صالح بين الجامعة والقرية، وكانت حياة حافلة بالحيوية والنشاط..

في الجامعة كان يشارك في الأنشطة الطلابية عامة، والثقافية خاصة، ويخوض غمار الاتحادات الطلابية، وكان دائماً الفائز الأول في انتخاباتها، والمقدَّم في لجانها الثقافية، وكان يبذل فيها من النشاط ما كان يبهر المبصرين.

أسس (الرابطة الجامعية للمكفوفين) وشملت المكفوفين في الجامعة في سائر كلياتها وأقسامها، ثم سعى لضمّ بعض المكفوفين من خارج الجامعة.. من المدارس الثانوية والمعاهد الشرعية، ومدارس تحفيظ القرآن، وصرف جهوداً مضنية في سبيل إنجاحها، وتقديم الخدمات المناسبة لمنتسبيها.. كان يقيم لهم الحفلات، والمهرجانات، ويأخذهم في رحلات ترفيهية، كان يحدّثهم عن مشروعه الطموح في مركز الأبرار، وهيأ لهم زيارة إلى قريته، وأطلعهم على ما تمّ في مشروعه، وعرّفهم إلى الأكفّاء الذين باشروا العمل في ورشة لصناعة كراسي القش، وكراسي الخيزران، كان استأجر لهم بيتاً ليعملوا فيه، ريثما يتمّ البناء المخصص لورشتهم ضمن مباني مركز الأبرار.

شارك صالح في مسابقة شعرية لطلبة الجامعة، وفازت قصيدته: (عينان مطفأتان) بالجائزة الأولى.. ألقاها على مدرّج الجامعة، بصوته الدافئ الهادئ حيناً، الهادر حيناً آخر.. وعندما قال:

"العُمْيْ عميان القلوب، الضائعون بلا كيان

والمبصرون بنور أفئدة.. لهم هَتَفَ الزمان".

ضجّت القاعة بالهتاف والتكبير وطلب الإعادة، فكان يبدئ ويعيد الكثير من أبيات قصيدته العصماء هذه. وعندما أنشد:

"والعُمْيُ عُميان البصائر في الضلالة يعمهون

بُكْمٌ ووَقْرُ الشكِّ أصماهم فهم لا يسمعون".

علت الهتافات، واشتدَّ التكبير، وتطاولت أعناق الأكفّاء، وتقاصرت قامات عميان البصائر.

وتحدثت بعض الصحف المحلية عن هذا المهرجان العُكاظي، وعن شاعر الجامعة: الشيخ صالح.. تحدّثت عن الشاعر وشعره.. عن طوله الفارع، عن وسامته، عن أناقته، عن ذوقه وهو يحسو قليلاً من الماء أثناء الإنشاد.. عن قسمات وجهه.. عن نظارته السوداء التي غطت عينيه وما فوقهما وما تحتهما بقليل، وأبدت حزنها لعجز الطبّ عن ردّ البصر إلى صاحب هذه البصيرة النافذة.. وتحدّثت عن شعره.. عن ألفاظه المصطفاة من لآلئ اللغة العربية. عن جملته القرآنية.. عن خياله الخصب.. عن صوره البديعة.. عن موسيقاه الشجيّة.. ثم وقفت طويلاً عند إلقائه، وقالت:

"لقد بزّ بإنشاده كلّ من عرفناه من شعراء هذا البلد الأمين.. وقد سما إنشاده بشعره حتى بلغ ذروة لا تسامى.."

وهكذا صار الشيخ صالح حديث بعض المثقفين في منتدياتهم.. وكلما تناهى إلى مسامعه إطراء المُطْرين، تطامَنَ تواضعاً لله، وشكراً له على نعمائه وآلائه، وقد يخرّ ساجداً لله، حامداً إياه، راجياً أن يديم عليه نعمه، ويهديه سبيل الرشاد، حتى لا يَضلَّ أو يُضِلّ، وكثيراً ما سُمع يقول في شبه بكاء:

"يا رب اجعلني خيراً ممّا يظنّون، واغفر لي مالا يعلمون..

يا ربّ كن مع عبدك الفقير القليل العاجز صالح، فإذا تخلَّيتَ عنه هلك..

يا ربّ إليك المشتكى، وأنت المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بك".

وقد تنفر دمعة أو أكثر، فيلتقطها بسبّابته، حتى لا يراها المبصرون، فيكون مظنّة النفاق والرياء.

يتبــــع