عينان مطفأتان ، وقلب بصير(2)

عبد الله الطنطاوي

عينان مطفأتان، وقلبٌ بصير

عبد الله الطنطاوي

[email protected]

الفصل الثاني

لم تمض أيام على وجود الشيخ صالح في المعهد الشرعي، حتى لفت إليه انتباه الطلاب والمشايخ، وكان محطّ الأنظار، ولا يناديه أحد إلا باسم الشيخ صالح.. هذا الفتى الضرير الذي عمل دورة في القراءة والكتابة علـى طريقة (برايل Braille) التي تجعل الأعمى كالبصير في القراءة والكتابة، كانوا ينظرون -بإعجاب- إليه وإلى مسطرته المعدنية المثقّبة، ومخرزه الذي هو القلم الذي يكتب به عبر ثقوب تلك المسطرة، على أوراق غليظة كالكرتون.

تجمّع الطلاب حول الشيخ صالح مرّة، وانطلق هذا يشرح لزملائه الطلاب كيف يمكنه أن يكتب ويقرأ.. كتب بعض العبارات، ثم عاد يقرؤها عن طريق اللمس، والطلاب الصغار مندهشون لما يفعله الشيخ صالح.. حضر مدرّس التفسير، فوجد الطلاب متجمعين حول الشيخ صالح. دقّ بجُمْْع يده على المنضدة.. صاح بالطلاب ليجلسوا في أماكنهم، ولكنهم لم ينتبهوا، واستمرّوا في صياحهم وإبداء إعجابهم فيما يفعله الشيخ صالح الذي كان يحاول -عبثاً- تهدئتهم والانتباه لحضور الأستاذ.

صرخ الشيخ عبد الرحمن بالطلاب، فأسرعوا إلى أماكنهم، وظهر الشيخ صالح مع مسطرته وقلمه وأوراقه السميكة، وقد وضع مجلداً ضخماً أمامه.

سأله الشيخ عبد الرحمن بغضب:

- ما هذه الفوضى يا شيخ صالح؟ ماذا يفعل هؤلاء العفاريت عندك؟ وما هذه الأدوات المعدنية التي تضعها أمامك؟ وما هذا المجلد الكبير الذي تضمّه إلى صدرك؟ أجب يا صالح.. أجب..

صعد الدم إلى أذني صالح ووجنتيه الناصعتي البياض حتى غدت كالوردات الجورية الحمراء.. نهض عن مقعده، ثمّ قال في أدب:

- كانوا (يتفرّجون) على آلتي الكاتبة هذه.

ورفع بيديه مسطرته المعدنية وقلمه المخرزي، ثم تابع:

- وكنت أشرح لهم كيف أكتب بها، وكيف أقرأ.

سأل الشيخ عبد الرحمن:

- هل تستطيع أن تكتب وتقرأ بوساطة هذه الحديدة، وهذا المخرز يا صالح؟ أم أنك تضحك على زملائك، وتسخر من ثقتهم بك؟

قال صالح في ألم:

- معاذ الله يا أستاذي أن أكون من الساخرين، وقد نهانا الله تعالى عن السخرية فقال، بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم:

يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم وأنا أظنهم خيراً مني.

نزل الشيخ عبد الرحمن من المنصّة التي يجلس عليها، وتقدّم من صالح، وأخذ بيده المسطرة والمخرز، وقلّبهما بين يديه، ثم جسّ الورق السميك، وهو يقول:

- أنت تكتب بهذه وهذه على هذا الورق يا صالح؟

فهزّ صالح رأسه وهو يقول:

- نعمْ يا أستاذ.

قال الأستاذ وهو يعيد ما بيده إلى صالح:

- خذها واكتب أمامي.

قال الطالب عبد الله:

- صدّقْه يا أستاذ، فقد رأيناه وهو يكتب، ثم وهو يقرأ ما يكتب.

صرخ الأستاذ بالطلاب الذين أمّنوا على كلام زميلهم، ثم قال لصالح:

- اكتب أمامي.

قال أحمد:

- على مبدأ: ولكن ليطمئن قلبي أليس كذلك يا أستاذ؟

فرماه الأستاذ بنظرة غضوب، ثم قال لصالح:

- اكتب يا صالح..

- ماذا أكتب؟

- اكتب سورة الإخلاص.

اشرأبّت الأعناق نحو كفّ الشيخ صالح، حتى إذا انتهى من كتابة سورة الإخلاص، قال له الشيخ:

- اقرأها يا شيخ صالح.

ابتسم الشيخ صالح، وهو يلمس بأطراف أنامله ما كتب، وقرأ ما كتب.

أخذ الشيخ عبد الرحمن الورقة بين يديه، ولمسها بأنامله، فأحسَّ بأنها ثقوب مدبّبة، كتلك التي تظهر خلف الورقة التي تغرز بها دبوساً.. ثم قال:

- كيف عرفت قراءتها؟

قال عليّ:

- لأنه يحفظ سورة الإخلاص وأختيها يا أستاذ.

حدجه الأستاذ بتأنيب:

- اسكتْ أنت..

ولكنَّ عليّاً زرع الشكّ في نفس الأستاذ، فقال لصالح:

- اكتب ما أمليه عليك..

وأشار إلى غسان أن يكتب سرّاً ما سوف يمليه على صالح.

ركز صالح مسطرته على أوراقه، وضبطها جيداً بمثبّتين عن يمين وشمال، ثمّ قال:

- تفضّل يا أستاذ.

أملى عليه الشيخ صفحة كاملة، ثم طلب منه أن يقرأها له، فقرأها كما أملاها الشيخ، وغسّان يتابع ما يقرأ، ويهزّ رأسه للشيخ، كأنه يقول له: تمام يا أستاذ.قال الشيخ:

- طيّب طيّب يا شيخ صالح، جميل جداً.

وأمسك بالمجلد بين يديه، فسأله الشيخ صالح:

- هل أنت متوضّئ يا أستاذ؟

نعمْ أنا على وضوء.. ولكن.. لماذا هذا السؤال؟

- لأن هذا مصحف.. مصحف كامل، مكتوب بطريقة برايل.

قلّب الشيخ أوراق المصحف.. لمس حروفه بأنامله.. أغمض عينيه، وهو يلامس الحروف أو النتوءات البارزة، وكان الطلاب يتابعون الأستاذ فيما يقول ويفعل، وعندما رأوه يغمض عينيه انفجروا ضاحكين.

صرخ فيهم الأستاذ، ثم انفجر هو ضاحكاً وهو يقول:

- إذا كنت لم أستطع أن أقرأ وأنا مفتوح العينين، فهل أستطيع أن أقرأ وأنا مغمض العينين؟ من حقّكم أن تضحكوا، ولكنْ.. بأدب.

ثم طلب من الشيخ صالح أن يفتح المجلد عشوائياً، ففتح صالح المجلد وهو يقول:

- تعني هذا المصحف يا أستاذ؟

قال الأستاذ:

- نعمْ.. اقرأ من هنا..

ووضع أصبع الشيخ صالح على مكان أسفل الصفحة، فقرأ صالح آخر كلمة في الآية، ثم تابع القراءة.

سأله الشيخ:

- أيّ سورة هذه يا شيخ صالح؟

رفع صالح كفّه إلى أعلى الصفحة، ومرّ بأنامله على ما هو مكتوب فيها وقال:

- هذه سورة المائدة.

ثم نزل بيده إلى المكان الذي كان يقرأ فيه، وقال:

- نحن نقرأ الآية الثانية والتسعين.

قال الأستاذ:

- أعطوني المصحف.

فامتدت إليه أكثر من ثلاثين يداً تقدّم له المصاحف.

أخذ الأستاذ مصحفاً، وفتحه على سورة المائدة، وعلى الآية الثانية والتسعين، وأمر الشيخ صالحاً بالقراءة، فتلا الشيخ صالح صفحة كاملة بصوته العذب، وترتيله الجميل، وكان كلما توقّف عن القراءة، هتف الطلاب: الله. فنبّه الشيخ تلاميذه إلى أن هذا الذي يفعلونه غير وارد، والأولى بهم أن يستمعوا وينصتوا ويتأملوا، ويتفكروا ويخشعوا، فلزم الطلاب الصمت، حتى أنهى صالح تلاوته، وبعضهم في حالة انتشاء، وبعض آخر بلغ به التأثر حدَّ البكاء خشوعاً وخوفاً وطمعاً.

استوقف الأستاذ تلميذه صالحاً عن التلاوة، ثم قال له:

- سيكون لك شأن يا شيخ صالح، فاتّق الله ولا تبطر.

قال صالح في ثقة:

- لن تبطرني نعمة يا أستاذ، فأنا أعرف نفسي.. أنا ولد أعمى، رزقه الله هذا المعهد العظيم، وهيّأ له شيوخاً فضلاء، وزملاء نجباء.. أنا لن أبطر.

قال غسان:

- حتى لو صرت وزيراً كطه حسين؟

أجاب صالح:

- حتى لو صرت وزيراً يا أخي، فسوف أبقى أذكر نشأتي الأولى في قريتي الفقيرة، وأسرتي المستورة الحال..

قال الشيخ عبد الرحمن في تأثر:

- بارك الله فيك يا ولدي.

ثم عاد إلى منصّته، وجلس خلف منضدته، وقال:

- نبدأ الآن درسنا..

شرع الشيخ عبد الرحمن يلقي درسه في التفسير، وكان درس اليوم تفسير سورة (عبس). طلب صالح أن يقرأ السورة.. تنحنح صالح، ثم انطلق يقرأ، فقال له الأستاذ:

- اقرأ من المصحف الذي معك يا شيخ صالح..

فقال عبد الله:

- الشيخ صالح يحفظ القرآن كلّه أستاذ.

وارى الأستاذ ابتسامته خلف تقطيبة مفتعلة، وقال:

- أعرف أنه يحفظ كتاب الله، ولكنّ هذا درس.. ثم.. ما الذي يدعوك إلى الكلام عنه؟ أليس له لسان يتكلم به؟

فقال عليّ:

- الشيخ صالح، وعبد الله، وأحمد، وأنا، متكافلون متضامنون يا أستاذ.

أشرق وجه الأستاذ المُشْرَب بحمرة قانية، ثم قال:

- يعني.. عصابة.

فقال صالح:

- كعصابة أهل بدر يا أستاذ، وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لتلك العصابة.

- لتلك العصابة.. وليس لعصابتكم.

- الله أعلم.. ولكني أظن أنني وأفراد هذه العصابة، امتداد لعصابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لاحظ الأستاذ فصاحة الشيخ صالح، وثقافته، فسأله:

- من أين لك هذه الفصاحة يا شيخ صالح؟

قال صالح:

- إمام قريتنا طالب علم مجتهد، وقد درست على يديه كتاب (قطر الندى) ثم بدأ بألفية ابن مالك وشرح ابن عقيل، وقبل أن نتوغّل فيها، جيء بي إلى هذا المعهد الأغرّ..

- هل قرأت شيئاً من كتب الأدب؟

- نعمْ.. قرأت كتاب (نكت الهميان في نكت العميان) للصلاح الصفدي، ثم كتاب (الكامل) للمبرد، و (البيان والتبيين) للجاحظ، وغيرها من الكتب العصرية، لعلي الجارم، وطه حسين، والرافعي وباكثير، وسواهم.

- ما شاء الله.. ما شاء الله.. وفهمتَها؟

قال صالح، وظلُّ ابتسامة يرتسم على شفتيه القرمزيتين:

- لماذا أقرؤها، إذا كنت لا أفهمها؟

- كم عمرك يا شيخ صالح؟

- أشرفت على عامي الثالث عشر.

- بارك الله فيك يا ولدي.. والآن افتح مصحفك، واقرأ لنا سورة (عبس) بترتيلك الجميل.

قرأ صالح سورة عبس، وتألق الأستاذ في تفسيرها، وما يؤخذ منها من دروس وعبر.. كان يشرح ويفسر، وعيناه على تلميذه صالح، الذي كان يكثر من الأسئلة حول عبد الله بن أمّ مكتوم، كأنه كان يرغب في معرفة كلّ شيء عن حياته، وكان الأستاذ يجيبه إلى ما يطلب، وكان ما قاله له عن ابن أم مكتوم رضي الله عنه:

- اسمه عمرو بن أمّ مكتوم، ولكنه معروف باسم عبد الله، وهو من بني فِهْر، أسلم في مكّة المكرمة، وكان ثاني من هاجر إلى المدينة بعد مصعب بن عمير، وصار يعلّم الناس القرآن الكريم مع مصعب.

وعندما هاجر النبيّ الكريم صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، صار المؤذِّنَ الثاني بعد بلال رضي الله عنه، وكان رسول الله يقول لأصحابه الكرام في رمضان:

(إنّ بلالاً يؤذّن بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أمّ مكتوم).

وعندما سأل صالح:

- وماذا عن سبب نزول هذه الآيات في أوائل سورة عبس؟

أجابه الأستاذ:

- أتى عبد الله بن أمّ مكتوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عنده أحد عظماء قريش، كان النبيّ يدعوه إلى الإسلام، ويطمع في إسلامه، وكان عبد الله ممّن أسلم قديماً.. أقبل على النبيّ، وانطلق لسانه يسأل النبيّ عن بعض أمور دينه، ويلحّ في السؤال، والنبيّ مشغول بذلك القرشي المشرك، وتمنّى النبيُّ لو يكفُّ ابن أمِّ مكتوم عن السؤال حتى ينتهي من مخاطبة ذلك الرجل، ودعوته، ولكنّ ابن أمِّ مكتوم كان حريصاً على أن يجيبه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، الأمر الذي جعل النبيَّ الكريم يعبس في وجهه، ويعرض عنه لحظة، ويقبل نحو الآخر، فأنزل الله هذه الآيات معاتباً رسول الله.

فهتف الطلاب: صلى الله عليه وسلم.

وتابع الأستاذ:

- فكان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك يكرمه، ويقول له:

(مرحباً بمن عاتبني فيه ربي).

قال الطالب عبد الله:

- مع أن ابن أمّ مكتوم أعمى، ولا يرى عبوس النبيّ الكريم.. مع ذلك، يعاتبه ربُّه؟ أنا تلقّيت درساً عظيماً من هذه الآيات.. تعلمت الذوق.. الذوق الرفيع في التعامل مع الآخرين، مهما كانوا ضعفاء، ومهما كنت قويّاً وعظيماً.

- وكيف انتهت حياته يا أستاذي الفاضل؟

أجاب الأستاذ:

- رآه أنس بن مالك في معركة القادسية العظيمة، وعليه درع، ومعه راية سوداء يحملها، وقد استشهد في تلك المعركة التاريخية الفاصلة التي انتصر فيها المسلمون على الفرس انتصاراً أزال دولتهم، وفتح المشرق كله أمام جيوش المسلمين.

فعلّق غسان:

- وسوف يرزقك الله الشهادة يا شيخ صالح.

فقال صالح:

- أرجو ذلك.. أرجو ذلك، فليس أعظم من الشهادة في سبيل الله تعالى يا صاحبي.

قال غسّان ضاحكاً:

- أعني الشهادة الشرعية لهذا المعهد، وليس الشهادة في سبيل الله.

- ولماذا لا تدعو لي أن يرزقني الله الشهادة في سبيله؟ فهي الشهادة الحقيقية، وأما شهادة المعهد وغيرها من الشهادات العلمية، فلا قيمة لها عندي.

قال أحمد:

- كيف يا شيخ صالح، ومداد العلماء يوزن بدماء الشهداء؟

قال صالح:

- أرجو أن أنال شرف العلم وشرف الشهادة في سبيل الله،. كما نال ابن أمّ مكتوم شرف صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشرف العلم، وشرف الشهادة في سبيل الله تعالى.

يتبــــع