إنا أعطيناك الكوثر

حكايات من القرآن الكريم

للفتيان والفتيات

عبد الودود يوسف *

رسالة من جزيرة

عاد الصياد أبو خالد ظهر ذلك اليوم إلى بيته مبكراً، فوجئت زوجه به، وقفز إلى حضنه ابنه خالد فرحاً به، همس لها: تعالي يا أم خالد، لن تعود إلينا أيام التعب بعد اليوم.

زادت دهشتها حين مدّ يده إلى سلته وأخرج منها علبة تلمع كالذهب، في طرفها كلاّبة قوية، همست أم خالد: يا سلام.. ما هذا؟!!

همس: ألقيت صباح هذا اليوم شباكي، وسألت الله أن يغنيني، وبعد قليل شعرت أن الشبكة أصبحت ثقيلة، وسحبتها بكل ما لدي من قوة وعضلات، وإذا بي أجد هذه العلبة مع أسماك ملونة لم أشاهد مثلها طوال حياتي.

همست له: إنه بركة دعائك يا أبا خالد، إنك رجل صالح، والله يستجيب دعاء الصالحين. قاطعها: تعالي نفتح هذه العلبة لنرى ما فيها.

أخذتها منه أم خالد فوجدتها ثقيلة، أخذها منها، وبدأ يبحث عن طريقة لفتحها، رأى فيها ثقباً. نادى:

- هاتي إبرة يا أم خالد.

أعطته إبرة فأدخلها في ثقب العلبة، فإذا بالعلبة تنفتح بعنف، وتقفز منها علبة صغيرة سوداء، وجواهر كثيرة، وعقود وأساور من ذهب.

طار عقل أم خالد، لكنها لم تمد يدها إلى الجواهر والأساور.

قالت له: هل أنت صادق يا أبا خالد؟ هل أتيت بها من البحر ولم تأخذها من مكان آخر؟!!

عرف أنها تشك به، صاح بها:

- ويحك وهل عرفتني يوماً آكل المال الحرام؟ إنّ من يأكله فسوف يأكل في الآخرة نار جهنم. اجمعي هذه العقود والجواهر، وتعالي نفتح هذه العلبة السوداء.

ماذا في العلبة السوداء؟!!

أخذ العلبة السوداء وبدأ يقلبها، رأى فيها خيطاً لونه أحمر، سحبه وإذا بالعلبة تنفتح. نظر فرأى فيها ورقة ومفتاحاً، وبوصلة صفراء. فتح الورقة فرأى فيها كتابة قد محت مياه البحر بعضها، قرأها بصعوبة،

فإذا مكتوب فيها:

"أيها الإنسان في أيِّ مكان.. إن هذه العلبة هدية مني إليك. عندي من هذه الجواهر الكثير.. إن أتيت إلى جزيرتنا التي اسمها (المشنوءة البتراء) فسأعطيك من الجواهر الكثير بشرط أن تكون كبير العقل، كريم النفس، قوي الجسم، تحب الناس وتريد لهم الخير، وهذا المفتاح هو مفتاح بيتي، عندما ستصل إلى الجزيرة ستجد على الشاطئ شجرة جوز كبيرة، لا تنزل إلا عندها، وبعدها بمئة متر إلى اليمين ستجد هناك بيتي، إن لم تكن كبير العقل قوي الجسم، كريم النفس، فلا تأت إلينا، لأننا سنقتلك، إننا بحاجة إليك.. إننا لن نسامحك بهذه الجواهر إن كنت كبير العقل قوي الجسم، كريم النفس ولم تأت إلينا، ستجد في هذه العلبة بوصلة بحرية بواسطتها ستصل إلى جزيرتنا.. تعال إلينا نحن في خطر، تعال إلينا أيها الصالح، يا كبير العقل، ويا كريم النفس.. إننا في خطر.. في خطر.. والله إننا في خطر.."

ماذا فعل أبو خالد؟!!

صار أبو خالد يردد: جزيرة اسمها المشنوءة البتراء؟!! ما معنى هذا الاسم؟!!

صاحت أم خالد: ألا تعرف معنى الآية الكريمة: (إن شانئك هو الأبتر؟).

صرخ: نعم.. نعم.. والله إني أعرف معناها.. الشانئ هو الذي يكره الناس ويبغضهم، والأبتر.. هو المنقطع الذليل.. إن اسم الجزيرة يعني (الجزيرة المكروهة الذليلة المنقطعة).. إنه اسم عجيب..

صاح أبو خالد: لكن كيف نصل إليها؟!!..

نظرت أم خالد فرأت خالداً يدحرج على الأرض العلبة الصفراء المدورة، اختطفتها من يده، ونظرت إليها وصاحت:

- هذه هي البوصلة، مكتوب عليها اسم الجزيرة.. هي التي ستوصلنا إلى الجزيرة.

وضع أبو خالد رأسه بين يديه وراح يفكر.. اقترب منه ابنه وهمس له:

- يجب أن نذهب يا أبي.. إن أهل الجزيرة في خطر.

همست أم خالد: ونحن والحمد لله صالحون أقوياء، وكرام النفوس فلنذهب..

اشترى أبو خالد قارباً ملأه بالطعام والشراب، وأخذ الجواهر معه، ووضع في صندوق حديدي جميع ما عنده من كتب، ووضع معها نسخة رائعة من القرآن، وصباح اليوم التالي صلى الصبح مع زوجه وابنه، ودعوا الله أن يختار لهم الخير في هذه الرحلة العجيبة إلى جزيرة (المشنوءة البتراء) الجزيرة المكروهة الذليلة المنقطعة، قفزوا إلى القارب بنشاط عجيب، وقادوا قاربهم في ذلك البحر الذي لا يرون له نهاية..

ماذا جرى في البحر؟!!..

مضى يوم ويومان.. وشهر وشهران، دون أن يصلوا إلى جزيرتهم (المشنوءة البتراء) كانوا في كل يوم يصلّون ويدعون الله أن يوصلهم إلى الجزيرة بسلام، إنهم يريدون إنقاذ الناس من الخطر.

نام أبو خالد تلك الليلة حزيناً، ونامت أم خالد كذلك، وجلس خالد يراقب النجوم، والقارب يسير.. شمّ رائحة دخان وحريق، ظن أن في القارب ناراً، أسرع إلى والده، وصاح:

- بابا.. بابا.. أشم رائحة نار ودخان..

قفز أبوه ودار في أنحاء المركب فلم يجد شيئاً، لكن رائحة الدخان كانت تتزايد باستمرار، كان الليل في آخره، وبدأت أضواء الفجر تتزايد، صلّوا جميعاً، وجلسوا يدعون:

"يا رب.. أوصلنا إلى الجزيرة"..

زادت رائحة الدخان، وطلع النهار.. من بعيد رأوا ناراً عظيمة، ما زالوا يقتربون منها حتى رأوا جزيرة سوداء، صاح خالد:

- بابا. بابا.. هذه شجرة الجوز.. انظر.. إنها الجزيرة التي نريدها..

وقف الثلاثة يتفرجون، أخذ أبو خالد منظاره، وراح ينظر إلى تلك الجزيرة العجيبة،

رأى الناس فيها لهم أشكال غريبة، وجوههم سوداء مملوءة بالقسوة، وظهورهم محنية، وكلهم خائفون..

أوقف أبو خالد قاربه وسط البحر أمام شجرة الجوز بعيداً عن الشاطئ فلما غابت الشمس ودخل الليل حرّك قاربه حتى وصل إلى الشاطئ، ووقف عند شجرة الجوز، كان مكاناً مهجوراً، لم يستطع أن يحمل معه من قاربه إلا علبة الجواهر والمفتاح والقرآن وحملت زوجه وابنه بعض الكتب وشيئاً من الطعام، نزلوا إلى البر، وعلى بعد مئة متر رأوا بيتاً كبيراً، أسرعوا إليه..

ماذا رأوا في البيت؟!!..

وضع أبو خالد المفتاح في قفل الباب فانفتح، دخلوا وأغلقوا الباب. من بعيد سمعوا صوتاً يصرخ:

- مظلوم.. مظلوم.. يا ربِّ أنا مظلوم..

سكت الصوت ثم رأوا باباً قد انفتح، وخرج منه شيخ كبير، لحيته بيضاء، ووجهه يشع بالنور، أسرع إليهم وهو يصيح:

- أهلاً بكرام النفوس، أهلاً بالحكماء.. هل وصلتكم العلبة والرسالة؟..

أجابه أبو خالد: نعم.. نعم.. هذه جواهرك لا نريدها جئنا لنرفع عنكم الخطر..

أقبل الشيخ إليه، عانقه وقبّله، ودموعه تملأ لحيته.. عرف حين رد إليه جواهره أنه صالح كريم النفس.. صاح:

- يا أم ناسيس.. أتاك الحكماء والطيبون، تعالي..

رأوا امرأة محنية الظهر، تستند على عكّاز قديم، أسرعت إلى أم خالد تضمها وتبكي.

سجدت على الأرض وأخذت تقبّل رجليها، ورجلي أبي خالد، رفعوها.. وساروا معاً إلى غرفتهم التي خرجوا منها.. همس الشيخ:

- إننا في خطر يا بني، يجب أن تنقذونا..

همس أبو خالد: وما هو الخطر يا سيدي ناسيس..؟!!

الظلم والنار..

همس ناسيس: ألم تروا دخاناً من بعيد؟.. إنها نار عظيمة يا بني خرجت في جزيرتنا ولها قصة عجيبة.

سأله خالد: وما هي قصتها يا جدّاه؟..

استمر ناسيس يقول: أنا رجل حكيم، وهذه أمي الطاهرة، منذ مئة عام تحطمت على شاطئ جزيرتنا باخرة هائلة، كان يركبها رجال غرباء لا نعرفهم... ماتوا كلهم إلا شاباً مثلك وذاك قبره -وأشار إلى قبر في وسط الدار- قال إنه من بلاد بعيدة أهلها من المسلمين، قرأ علينا بعض ما يحفظه من كتاب المسلمين واسمه القرآن.. لكننا واأسفاه لم نسمع منه إلا بضع آيات ثم مات.. رأت أمي في هذه الآيات كل الحكمة فكتبتها وحفظتها، وعلمتني إياها.

صاح أبو خالد: وما هي هذه الآيات يا عماه؟.

قاطعه الحكيم ناسيس: حسناً.. حسناً.. سأقرؤها عليك، لكن يجب أن أغسل جسمي كله قبل ذلك.

أسرع وغطس في بحرة ماء قريبة ورجع مهرولاً.. جلس واتجه إلى القبلة، وقرأ:

"إنا أعطيناك الكوثر.. فصلّ لربك وانحر.. إنّ شانئك هو الأبتر".

نظر أبو خالد إلى ابنه وزوجه وابتسم، وبكت أم ناسيس، وبكى الحكيم ناسيس.

همس أبو خالد: وهل تعرف معناها يا سيدي؟!!..

أجابه: نعم.. نعم.. قال لنا إن الكوثر هو الخير العظيم، منحه الله للمسلمين في الدنيا.. وسيمنحهم في الجنة نهراً اسمه الكوثر.

توقف ناسيس وبكى: لكننا لم نعرف أي شيء من ذلك الخير الكثير يا بني..

صاح خالد: إنه الإسلام يا سيدي..

بُهِتَ ناسيس بكلامه، وهمست أم ناسيس:

- وما أدراك به يا بني؟!!.

صاحت أم خالد: إننا مسلمون يا سيدتي.

هجمت أم ناسيس وناسيس على رجليها يقبلانها.. تضرعا لها وقالا:

- هل تعلميننا كيف نصلي وكيف ننحر؟..

أجاب خالد: أنا أعلمكم كيف تكون الصلاة، وأبي يعلمكم كيف تنحرون..

قال أبو خالد: النحر هو ذبح الأغنام وغيرها في الحج قرب مكة..

صاح الشيخ: وأين هي مكة يا سيدي؟!!..

صاح خالد: في بلاد المسلمين التي أتينا منها..

مد أبو خالد يده إلى جيبه وقال للحكيم: وهل تريد أن تقرأ القرآن كله؟؟!!

أجابه: ومن أين لي ذلك يا بني.. يا ليتني أعرف آية واحدة منه.. كله خير..

أخرج أبو خالد نسخة القرآن من جيبه وقال: هذا هو القرآن كله.

هتفت أم ناسيس: صحيح.. أنتم من الملائكة أرسلكم الله إلينا.. إنكم أعظم هدية أعطانا الله إياها.. الحمد لله إنني لم أمت قبل أن ألقاكم..

همست: عندي صندوق جواهر.. هل تأخذونه وتعطونني هذا القرآن الكريم؟!!! أرجوكم اقبلوا مني ذلك..

بكت بكاء عالياً..

- أريد أن أعرف الخير العظيم قبل أن أموت.. حتى لا أكون من المبغوضين الأذلاء.. كما قال الله في آخر سورة الكوثر.. لا أريد أن يبغضني الله ويذلني كما فعل بهذه الجزيرة كلها..

همس أبو خالد: القرآن هدية لكما، وسنعلمكم كل ما فيه من خير..

بكى ناسيس وبكت أمه من الفرح.. أخذا القرآن يقبلانه ويضمّانه.. بصمت عميق..

ما قصة النار..؟!!.

همست أم خالد: لكن ما قصة النار يا سيدي ناسيس؟

مسح ناسيس دموعه وقال:

- سأحكي لكم حكايتها.. إنها حكاية غريبة وعجيبة..

بعد أن مات الشاب المسلم المبروك، كان عمري عشرين سنة، حفظت سورة الكوثر، وأخذت أدعو الناس أن يؤمنوا بها.. أحبني كثير من الناس، لكنهم كانوا يسألونني: دلّنا على الخير العظيم.. على الكوثر.. بماذا يأمرنا؟!! فلا أعرف.. يسألونني: كيف نصلي وكيف ننحر، وأنا لا أعرف.. كنت أقول لهم: افعلوا الخير واتركوا الشر.. كانوا حائرين..

وأخيراً.. أتاهم رجل خبيث، قال للناس:

- أنا الكوثر.. أرسلني الله إليكم حتى أدلكم على الخير العظيم..

جعلوه ملكاً، فصار يأمرهم أن يعطوه الأموال وأن يسجدوا له، وأن يذبحوا له الذبائح. وضع لهم من عقله نظاماً كله خطأ وظلم وصار يقول لهم: هذا هو الكوثر.. يصنع لهم الخمر ويبيعهم إياه، ويأخذ من النساء ما يشاء. شقي الناس، وكفروا به.. فصار يجبرهم على الدخول في دينه الخاطئ الظالم، فسكت الناس له، فازرقت وجوههم، وانفجرت من طرف الجزيرة نار عظيمة، تزداد اشتعالاً كلما زاد ظلمه، وهي كل يوم تزيد يا بني.. ستأكل النار الجزيرة كلها..

صاح أبو خالد: يجب أن ننقذكم إن كانت النار تزيد إذا زاد الظلم، فيجب أن نوقف الظلم حتى لا تأكل النار كل الجزيرة.. وتأكل الناس معها..

همست أم ناسيس: وكيف توقفون الظلم يا بني؟؟!

صاحت أم خالد: يجب أن نعرف أحوال الجزيرة أولاً..

أسرعت أم ناسيس وأعطت أم خالد ثوباً مثل ثياب أهل الجزيرة كما أعطت أبا خالد ثوباً وقالت: هيا إلى الجزيرة لتعرفوا ما فيها، وموعدنا كل يوم عند المساء.

وصاح خالد: وأين ثيابي أنا؟..

ضمته أم ناسيس إلى صدرها وأعطته ثوباً جميلاً فلبسه وخرج الثلاثة معاً..

ماذا رأى أبو خالد؟؟!

ما كان أبو خالد يصدّق ما يرى.. رأى رجالاً وجوههم زرقاء، وظهورهم محنية يخافون من كل شيء.

سمع صراخاً من بعيد، أسرع فرأى رجلاً ليس كأهل الجزيرة وجهه أزرق، وظهره مستقيم، يذبح بالخنجر رجلاً من أهل الجزيرة وهو يقول له: ألا تريد أن تعطيني دارك، سأذبحك وآخذها.. رأى الناس حولهما يبكون ويتفرجون. أخذ الرجل الأزرق بيت الذي ذبحه، وأكلت الكلاب جثة المذبوح، اقترب أبو خالد من رجل من أهل الجزيرة، وقال له: مرحباً يا عم. ارتجف خوفاً منه، قال له: ماذا تريد مني؟!! أجابه: أريد أن أدلك على الكوثر يا سيدي..

فتح فمه بدهشة، أكمل أبو خالد: هل تريد أن تنجو من الظالمين؟..

أجابه: نعم.. نعم..

فقال له: إذن.. اذهب إلى بيت الحكيم ناسيس عند المساء وأنا سألحق بك.

وماذا رأت أم خالد؟!!..فوجئت أم خالد بجمع كبير.. اقتربت.. رأت منظراً فظيعاً.. الرجال الذين لهم وجوه زرقاء يسوقون مئات النساء.. إلى ميدان كبير، مملوء بالنساء المتفرجات. رأت الملك سندوح يجلس على عرش كبير، وجهه أزرق كالنيلة، قام من عرشه بعد أن وقفت النساء أمامه، قال لهن: ما أجملكن..

اقترب من واحدة وقال لها: أنت جميلة.. سآخذك معي.. وأنتم أيها الجنود الزرق خذوا ما تريدون من النساء.

رفضت النساء جميعاً.. وتجرأت امرأة وقالت:

- لا أريد.. فذبح أصحاب الوجوه الزرقاء كل النساء.. كانت ظهور المتفرجات محنية، ووجوههن يأكلها الخوف.. يبكين ويُخرجن من عيونهن الدماء.. ذهب الملك والجنود.

اقتربت أم خالد من واحدة من المتفرجات ومسحت لها دموعها وقالت لها:

- هل تحبين أن لا تظلم النساء؟؟!.

انتفضت وقالت: كيف يا أختاه؟.. ربُّنا الملك يفعل بنا ما يشاء.

أجابتها: اذهبي هذا المساء إلى بيت الحكيم ناسيس.

ماذا جرى في بيت ناسيس؟!!

كان مساء مباركاً، جلس ناسيس وأمه مع أبي خالد وأم خالد. فُتح الباب ودخلت المرأة همانة، وبعد قليل دخل الشاب سمهار وأتى معه بشاب اسمه شعينا.. عندما دخلوا البيت، شعروا بالراحة والسلام.

 همست همانة: ما هو أول طريق الكوثر؟

أجابها أبو خالد: أن تحبوا الخير ولا تخافوا الموت.

همس سمهار: وهل هناك من لا يخاف الموت؟!!!..

نطقت أم خالد: من يخاف الله لا يخاف من أحد.. أتدري يا سمهار أن الله وعدنا إن نحن متنا في سبيل الله بأعظم حياة؟!!

قفز شعينا وسأل: وكيف ذلك يا أختاه؟!!.

أجابه أبو خالد: يزول الظلم من حياتنا في الدنيا، ويعيش الأولاد والآباء والأمهات حياة كلها نعيم، وفي الآخرة جنات خالدات فيها كل ما تشتهون.

دمعت عيون الجميع وصاحوا: ما أحلى الموت في سبيل الله.. إن كان الله سيعطينا ذلك..

فوجئ الجميع بما لم يكونوا يتوقعونه.. فُتح الباب، ودخل الطفل خالد كالبرق، وقف الجميع مذعورين.. صاح:

- بابا.. بابا.. ذهبت صباحاً لأتفرج على الجزيرة، عند الظهر رأيت النار تزداد.

همس ناسيس: لأن الملك قتل النساء وجنوده قتلوا الرجال.

أكمل خالد: لكنني منذ لحظات رأيتها تتراجع، رأيتها بعيني يا أبي..

صاح الجميع: الله.. الله.. لقد آمنا بالكوثر.. بالخير العظيم، فتراجعت النار، هيا إلى العمل.. سعياً لإنقاذ الناس من الظلم، وخطر النار.. دون أن نخاف من الموت..

صار بيت الحكيم ناسيس مملوءاً بالناس، والنار كانت في كل يوم تتراجع..

في قصر الملك..

أمر الملك أن يأخذ جنوده كل الأموال وأن يذبحوا كل الأطفال.. فتأججت النار.. وهجمت على الجزيرة.. ودخلت قصر الملك.. وأكلت عرشه.. فر هارباً.. رأى بعض جنوده تأكلهم النار.. ورأى جنوداً يخرجون منها دون أن يصيبهم منها ضرر..

نظر إليهم.. رأى وجوههم بيضاء.. سألهم: كيف أصبحت وجوهكم بيضاء؟..

أجابوه بعزة: لأنهم ما كانوا يخافون الموت: آمنا بالخير العظيم، بالكوثر.. بدين المسلمين، فوجئ الملك، لكن وجوههم كانت تعجبه. صرخ بهم: من دلّكم على الكوثر؟ هاتوه لأراه..

وبعد لحظات كان أبو خالد أمام الملك يتحداه، وحضر معه جميع المؤمنين.

صاح الملك سندوح: من أين أتيت أيها الغريب؟؟..

أجابه ورأسه في السماء، ووجهه مملوء بالضياء:

- أنا من بلاد المسلمين التي نبع فيها الخير العظيم، وعلى أرضها نزل القرآن على النبي..

صاح به: قل لي يا رجل ماذا يقول القرآن؟!!.

أجابه: لن أقول لك حتى تجمع أهل الجزيرة كلهم ليسمعوا ما نقول.

أحبه الملك رآه كريماً وعظيماً، ورأى النار تخف والخطر يبتعد عن الجزيرة.

صاح الملك سندوح: اجمعوا أهل الجزيرة كلهم حول القصر..

احتشد الناس ولما رأوا أبا خالد وأصحابه ظهورهم غير محنية ووجوههم بيضاء تعجبوا.. سأل الملك: قل لي يا غريب شيئاً عن الخير العظيم الذي جاء في القرآن..

صاح أبو خالد بأعلى صوته: الله يأمر الملك أن يحبَّ الناس، لا يأكل عسلاً وسمناً ولحماً حتى يأكلوا جميعاً عسلاً وسمناً ولحماً، هو أعظمهم، لكنه خادمهم.

صاح الشعب: هذا عظيم..

صاح الملك: وماذا أيضاً؟؟

صاح أبو خالد: الناس أحباب، والفقير يعطيه الغني حتى يصبح غنياً، والمرأة كريمة، إن عشق زوجها غيرها قتلناه، حتى لا يضيع الأولاد..

صاح الشعب: ما أعظم هذا الكلام!!!.

نظر الملك، أراد أن يقتل هؤلاء، لكنه قال:

- الشعب معهم، والنار قد تأكلني.. فماذا أفعل!!!؟

صاح الملك سندوح: والناس ماذا يفعلون بالملك؟!!.

صرخ أبو خالد: الناس يحبون الملك، ويفدونه بالأرواح إن فعل ما يريده الله.. والله يعطيه الجنة إن عدل..

صاح الملك بأعلى صوته: أنا آمنت.. فهات القرآن لأطبقه..

ابيضَّ وجه الملك وأصبح كالنور يتلألأ. صاح الناس:

- كلنا نحب القرآن الكريم..

ابيضَّتْ كلُّ الوجوه واستقامت كل الظهور.

صاح خالد: يا أبتاه.. يا ناسيس ويا أم ناسيس.. لقد انطفأت النار وأصبحت الأرض مكانها خضراء.. فيها الورود..

أرعدت السماء وأبرقت.. ونزل من السماء مطر غزير.. غسل الجزيرة كلها، وغسل نفوس الناس جميعاً...

هتف الحكيم ناسيس: أبو خالد هو الملك.. هو أفضلنا.. هو منقذنا..

وحمل الملك التاج عن رأسه.. وصاح:

- أبو خالد هو الملك والحكيم ناسيس هو الوزير والمستشار.. وأنا في خدمته..

هتف الناس: يحيا الوزير والمستشار.

صاح أبو خالد: سندوح الملك وناسيس الوزير، تعالوا نصلي لله شكراً..

اصطفوا صفوفاً، وصلّوا خاشعين.. وهبت عليهم من كل الجزيرة نسمات طرية، كأنها الريحان.. سلّم الناس.. وجلسوا يتفكرون..

قام شعينا وصاح طويلاً:

- سيدي الملك.. سيدي الوزير.. لماذا لا نغير اسم الجزيرة؟ تعالوا نسميها جزيرة الكوثر.

تعالت هتافات الجماهير، وزغردت النساء المؤمنات.. وقالوا جميعاً: اسم عظيم..

فوجئ الناس بصوت الملك ينادي بهم:

- أين أبو خالد، إني لا أراه.. رأوه جميعاً ومعه زوجه، وخالد ابنه، يسيرون نحو البحر يريدون السفر. أحاطوا بهم من كلِّ جانب.. سألوهم بلهفة:

- إلى أين يا أحباب؟!!

أجابوهم جميعاً:

- إلى أرضنا.. إلى بيتنا.. نريد الذهاب إلى الحج سعياً ونصلي وننحر..

وصاح الملك: خذونا جميعاً.. إلى الحج نسعى، وننحر لله كل الضحايا.. شكراً لفضله، وحمداً لخيره.. ولما أعطانا من الخير العظيم..

وماج البحر بألوف البواخر.. ومرت شهور، وعاد الحجيج، وعم السرور صدور الجميع، وساد العدل، وزال الظلام، وكانت حكاية...

              

* أديب سوري، وكاتب باحث ومفسر معتقل في دمشق منذ عام 1980.