قبائل البجة في السودان وعلاقاتها بالدولة الاسلامية..

ورد في المصادر العربية أن البُجَة (أو البِجَة) هي قبائل كبيرة من أصل إفريقي، بدوية وتنقصها الحضارة كالعرب البدو في الجاهلية.286 وقد عُرِفَ عن رجالها بأنهم محاربون أشداء، وسكنوا في السودان في الشريط الممتد بين النيل والبحر الأحمر.287

في سنة 31 ﻫ/ 651 احتل عبد الله بن سعد بن أبي سرح من أيدي النوبيين مدينة أسوان وما جاورها، ولكنه لم يهتم باحتلال بلاد البجة وتركهم وشأنهم دون أن يُنشئ معهم اتصالاً، أو يتوصل معهم إلى اتفاق.288

استيطان القبائل العربية في أسوان ومحيطها منح العرب فرصة للوقوف عن قرب على الكنوز الطبيعية الموجودة في المناطق التي تسيطر عليها قبائل البجة. أخذ العرب يزحفون تدريجيًا نحو هذه المناطق وبالذات نحو العلاقي كي يستغلوا مناجم (معادن) الذهب والزمرد والفضة والحجارة الكريمة التي كانت مشهورة منذ أيام الفراعنة القدماء.289

روى ابن عبد الحكم أن غارات قبائل البجة على مصر العليا كانت السبب في قيام عبيد الله بن الحبحاب السلولي في بداية القرن الثاني الهجري بغزو بلادهم. يبدو أن كنوز الذهب والمعادن أثارت شهيته وسلبت لبه، ذلك لأن هذا الغزو أدّى إلى اتفاق تمّ بموجبه السماح لرجال البجة بالدخول إلى مصر العليا للتجارة مقابل تسليمهم والي مصر ثلثمائة جمل سنويًا، والسماح للمسلمين بالاستيطان بجوار المناجم مع ضمان سلامتهم. كما أُلزم رجال البجة بإرسال أحد زعمائهم إلى مصر العليا ليكون ممثلاً ثابتًا عنهم ورهينة في أيدي المسلمين لضمان احترام تنفيذ هذه الاتفاقية.290

بعد التوصل إلى هذه الاتفاقية استوطن كثير من المسلمين بجوار المناجم وأخذوا يعملون فيها. مع مرور الزمن نتج اندماج اجتماعي بين هؤلاء وكثير من رجال البجة، وقد تجلّى ذلك في الزواج المختلط وفي اعتناق كثيرين من البجة الإسلام وهم المسمّون بالحداربة، ولكن مبادئ الإسلام لم تتغلغل في قلوبهم، وبقي إيمانهم ضعيفًا واهيًا حيث استمروا يؤمنون بعقائدهم الوثنية ويجرون طقوسهم الأصلية.291

حافظ رجال البجة على الاتفاق المذكور أعلاه حتى سنة 204ﻫ/819. عندها بدأوا بقتل المسلمين البجائيين وبمهاجمة مصر العليا حيث سلبوا وقتلوا وزرعوا الرعب في قلوب السكان الذين فرّوا إلى داخل مصر.292 منذ تلك الفترة سادت في مصر حالة من الفوضى وعدم الاستقرار حتى سنة 216ﻫ/831. 293 في هذه السنة قرر المأمون وضع حدّ، كذلك، لهجمات رجال البجة، فأرسل حملة عسكرية تحت قيادة عبد الله بن الجهم الذي نجح في احتلال قسم كبير من بلاد البجة، فتمّ توقيع اتفاقية بينه وبين كنون بن عبد العزيز، زعيم قبائل البجة، وفق الشروط التالية:

أ) يكون كنون بن عبد العزيز ممثلاً وحيدًا عن قبائل البجة لدى الحكم العباسي، ويمكث في مصر العليا كرهينة لضمان الحفاظ على تطبيق الاتفاقية.

ب) يلتزم كنون بن عبد العزيز بأن يُسلّم الخزينة العباسية ضريبة سنوية (خراج) مُكوّنة من مائة جمل، أو ثلثمائة دينار ذات الوزن الكامل (وازنة). هذا الأمر يُقرره ولاة مصر العليا حسبما يرونه مناسبًا.

ج) يسمح رجال البجة للمسلمين بالدخول إلى بلادهم دون أي قيود من أجل الاتجار و/أو استغلال المناجم.

د) يضمن رجال البجة أمن وسلامة المسلمين في بلادهم ويحافظون على مصالحهم. في حالة مقتل مسلم، أو ذمي، أو عبد مسلم يلتزم رجال البجة بدفع دية أكبر بعشرة أضعاف مما هو معهود.

ﻫ) يحق لجباة الضرائب العباسيين الدخول إلى بلاد البجة من أجل جباية الصدقات ممن أسلم من البجة.

و) يلتزم رجال البجة بعدم المساس بالمساجد التي بُنيت في بلادهم.

ز) يسمح لرجال البجة بالدخول إلى أسواق مصر العليا للتجارة شريطة ألا يحملوا معهم سلاحًا، وألا يدخلوا القرى المأهولة بالسكان.294

استنادًا إلى بنود الاتفاقية المذكورة أعلاه يمكننا أن نستنتج بأن قبائل البجة حظيت بنوع من الاستقلال الذاتي في بلادها، بينما تجوّل المسلمون في المنطقة بحرية حيث عملوا بالتجارة التي اشتملت ، كذلك، على تجارة العبيد،295 وباستغلال المناجم. من الجدير بالذكر أن رجال البجة لم يعملوا في المناجم،296 لكنهم حصلوا على حصتهم من المنتوج. كما أن جباة الضرائب العباسيين جبوا من المسلمين العاملين في هذه المناجم ضريبة الخمس.297

منذ سنة 31ﻫ/651 كانت بين المسلمين والنوبيين اتفاقية تُسمّى البقط التي بموجبها سلّم النوبيون السلطة الإسلامية 360 عبدًا ( وأربعين آخرين هدية لوالي مصر العليا) وزرافة. مقابل ذلك حصلوا على مواد غذائية وملابس وحاجيات ضرورية أخرى. في أيام العباسيين الأوائل اضطر النوبيون إلى تسليم أولادهم إلى المسلمين من أجل عدم الإخلال بالاتفاقية، ذلك لأنهم أصبحوا غير قادرين على سبي العدد المطلوب من جيرانهم. في أيام المهدي تقرر تسهيل الأمر حيث سلّم النوبيون ما التزموا به من البقط مرّة كل ثلاث سنوات.298

في أيام المعتصم امتنع ولاة مصر العليا عن تزويد النوبيين بمواد غذائية وملابس وحاجيات ضرورية أخرى لأن هؤلاء لم ينفذوا شروط اتفاقية البقط. في أعقاب ذلك أخذ النوبيون يهاجمون الحاميات العباسية المرابطة على حدود بلادهم، ولكنهم فضّلوا حلّ نزاعهم مع العباسيين بالطرق السلمية بعد ما وقع كثير منهم في الأسر، إذ قام زعيمهم بزيارة إلى سامراء حيث تمّ هناك الاتفاق على أن يُسلّم النوبيون لولاة مصر العليا ضربية البقط مرّة كل ثلاث سنوات. لم يُخفّض عدد العبيد بدعوى أن قيمتهم لا تساوي قيمة ما يحصل عليه النوبيون من السلطة العباسية.299

روى قدامة بن جعفر أن رجال البجة كانوا ملزمين بضريبة البقط مثل النوبيين.300 روى البلاذري أن رجال البجة أُلزموا بإتاوة وكذلك بضريبة بقط.301 روى ابن تغري بردي أنه في بداية عهد المتوكل امتنع رجال البجة عن تسليم خمسمائة عبد وجملين وزرافتين وفيلين وأشياء أخرى،302 بينما ذكر الطبري أن البجائيين امتنعوا عن دفع خراج للعباسيين مقداره أربعمائة مثقال من التبر غير المطبوخ.303بناءً على هذه المعلومات يمكننا أن نُقرّر أن رجال البجة أُلزموا بضريبة خراج، وكذلك بضريبة بقط. قبل اعتلاء المتوكل الخلافة ازدادت التزامات رجال البجة لأنهم أُلزموا بضريبة خراج مقدارها أربعمائة مثقال تبر بدلاً من ثلثمائة،304 وبضريبة بقط مقدارها خمسمائة عبد بدلاً من ثلثمائة وستين عبدًا ( وأربعين آخرين هدية لوالي مصر العليا).305

يبدو أن هذ الزيادة كانت السبب الرئيسي لأن يبدأ رجال البجة بمهاجمة الحاميات العباسية المرابطة على حدود بلادهم. بعد ذلك أخذوا يهاجمون السكان في مصر العليا. روى ابن حوقل أنه في سنة 232ﻫ/847 قام رجال البجة بهجوم عنيف على مدينة أنبوى، الواقعة إلى الجنوب من مدينة أسوان، حيث قتلوا وأسروا عددًا كبيرًا من السكان، وقد لاحق والي مصر العليا المهاجمين، ولكنه اضطر إلى العودة إلى أسوان بعد أن تخلّى عنه جنوده الذين انشغلوا في مناجم الذهب الموجودة في بلاد البجة.306 يبدو أن هذه الهجمات استمرت بين الحين والآخر، غير أن البجائيين لم يُلغوا اتفاقهم مع العباسيين حتى حوالي سنة 238ﻫ/852. 307

روى الطبري أنه في أيام المتوكل رفض رجال البجة تسليم والي مصر العليا أربعمائة مثقال تبرٍ-قبل أن يُطبخ ويُصفّى- التي كانوا ملزمين بها في إطار ضريبة الخراج المفروضة عليهم لأنهم كانوا شركاء كاملين في منتوج مناجم الذهب. في حوالي سنة 238ﻫ/852 اتخذ رجال البجة إجراءات شديدة، إذ روى الطبري أن المسؤول عن البريد في مصر يعقوب بن ابراهيم الباذغيسي أخبر المتوكل بأن رجال البجة نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين المسلمين، وخرجوا من بلادهم إلى مناجم (معادن) الذهب والجوهر، فقتلوا عدّة من المسلمين ممن كانوا يعملون في المعادن ويستخرجون الذهب والجوهر، وسبوا عدّة من ذراريهم ونسائهم، وطردوا الآخرين من بلادهم، وبذلك خسرت الخزينة المركزية كميات كبيرة من الذهب والفضة والجوهر بعدما توقفت جباية ضريبة الخمس من العاملين المسلمين في المناجم. ثمّ تحوّل رجال البجة إلى مهاجمة القرى في مصر العليا فدّب الرعب في قلوب السكان.308

يدعي عبد العزيز الدوري أن الفوضى التي دّبت في المركز كانت السبب في ضعف سيطرة الدولة على الولايات البعيدة، وأدت إلى أن ينقض رجال البجة اتفاقياتهم مع العباسيين.309 يبدو لنا أن الدوري لا يشرح لنا الأسباب الحقيقية لهذا النقض، وهي بلا شك أسباب جوهرية. روى ابن حوقل أنه في أعقاب سيطرة ثائر علوي على اليمامة بدأت هجرة جماعية من هناك إلى بلاد البجة بخاصة إلى مناطق المناجم، وقد وصلت هذه الهجرة إلى ذروتها في سنة 238ﻫ/852 حيث انتقلت قبائل ربيعة ومضر كلها من اليمامة إلى العلاقي، وسيطرت على مناجم الذهب، وطردت الحجازيين القدماء منها وحرمتهم من مصادر رزقهم. بدأ المستوطنون الجدد الذين حصلوا على تأييد العباسيين يتحدون رجال البجة، فوقعت مصادمات بين الطرفين.310 يبدو لنا أنه كان هناك صراع على المراعي والهيمنة، وهذا السبب كافٍ وحده لأن يقرر رجال البجة نقض اتفاقياتهم مع العباسيين ويقوموا بطرد جميع المسلمين العاملين في مناجم بلادهم (يُضاف إلى ذلك ما حدث من ارتفاع ملموس على التزامات أهل البجة كما أوضحنا سابقًا).311

روى الطبري أن المتوكل أهمل في البداية معالجة مشاكل قبائل البجة. لقد أوضح له رجال سلطته أن هذه القبائل كبيرة وعنيدة وتقطن في بلاد بعيدة، جبلية وصحراوية ولا يستطيع جيش الصمود فيها بسبب صعوبة الحصول على المؤن. لكن المتوكل بدأ يفكر جديًا في الأمر بعد أن أخذ رجال البجة يهاجمون القرى في مصر العليا (الصعيد) وأخافوا السكان.312 يبدو أن جُلّ اهتمام المتوكل أنصبّ في استمرار تدفق الذهب والجوهر والعبيد من بلاد البجة. منذ سنة 238ﻫ/852 بُدئ في الإعداد لحملة حربية لاحتلال بلاد البجة، على الرغم من أن هجمات الأسطول البيزنطي على مدن الساحل المصري بلغت الذروة.313

روى ابن حوقل أنه في سنة 238ﻫ/852 أطلق المتوكل سراح العربي محمد بن عبد الله القميّ من السجن، وأرسله إلى مصر ليقف على رأس الحملة على بلاد البجة. وُضِعَ تحت تصرف القمي ألف جندي وعشرة آلاف دينار التي استلمها في مصر.314 في 5 ربيع الثاني سنة 238ﻫ/25 أيلول 852 وصل إلى مصر والي جديد اسمه عنبسه بن اسحاق الضبيّ.315 يبدو أن القميّ جاء بعده إلى هناك، لأن الكندي يروي أنه في هذه السنة عَيّن عنبسةُ بن اسحاق محمدَ بن عبد الله القميَّ مسؤولاً عن شؤون الشرطة في مصر.316 روى الطبري أن المتوكل عيّن القميّ واليًا على مصر العليا، وألقى على عاتقه مهمة معالجة مشاكل قبائل البجة.

صدر الأمر إلى والي مصر عنبسة بن اسحاق بتزويد القمي بكل ما يحتاجه من معدّات وجنود نظاميين من الجند والشاكرية المرابطين في مصر.317 يبدو أن الاستعدادات لحملة القميّ شُوشت بسبب هجمات الأسطول البيزنطي على مدن الساحل المصري لأن الهجوم الواسع على قبائل البجة بدأ فقط في بداية سنة 241ﻫ/855. 318

واجهت القميّ مشاكل كثيرة وعويصة. كان رجال البجة كثيري العدد، عنيدين وأصحاب قدرة على التحرك بسرعة وبحرية على ظهور جمالهم المشهورة في المناطق الصحراوية والجبلية.319 عند وصول القميّ إلى أسوان كان عليه:

أ‌)       زيادة عدد جنوده، إذ كان معه ألف جندي نظامي فقط.320

ب‌)  الاعتناء بوصول المؤنة بصورة منتظمة في طريق لا يمكن لرجال البجة التعرض لها بطريقة "ضرب وهرب".321

ج) الامتناع عن السير في المفاوز والصحاري التي لا يوجد فيها مصادر للمياه.322

بلغ عدد جنود القميّ النظاميين خمسمائة فارس وخمسمائة راجل، لذا قام بتجنيد كثير من المتطوعين. روى ابن حوقل أنه انضم إلى جيش القميّ ثلاثة آلاف مقاتل من أبناء قبائل ربيعة، مضر واليمن القاطنين في العلاقي.323 أخذ عدد رجال القميّ بالازدياد. روى ابن تغري بردي أنه لما غادر القميّ مدينة قوص كانت جيشه مكوّنًا من سبعة آلاف مقاتل عدا المرافقين،324 بينما روى الطبري أنه انضم إلى جيش القميّ جميع العاملين في المناجم الذين طردهم رجال البجة، وهكذا بلغ عدد رجاله حوالي عشرين ألفًا.325

بالتنسيق مع والي مصر اهتم القميّ بأن تُرسل عن طريق البحر الأحمر سبع سفن كبيرة محمّلة بالمؤنة والأغذية، مثل الدقيق والزيت والتمر والشعير. هذه السفن كانت يجب أن ترسو في الوقت المناسب في ميناء عيذاب على الساحل الجنوبي الشرقي لبلاد البجة.326

خرج القميّ من مدينة قوص، واجتاز الفيافي والقفار ومناجم الذهب حتى وصل إلى مدينة دنقلة النوبية، وعندها بدأ زعيم قبائل البجة في تنظيم رجاله لصدّ هذا الهجوم. حسب رأي ابن تغري بردي كان الهدف من السيطرة على دنقلة منع حصول البجة على إمدادات عسكرية من جيرانهم النوبيين والأحباش.327 من دنقلة توّجه القمي إلى الشرق بهدف الوصول إلى المناجم الواقعة إلى الشمال من ميناء عيذاب، وبذلك اقترب من معاقل قبائل البجة الذين بدأوا بالانسحاب تدريجيًا وحسب خطة هدفها إطالة مكوث القمي وجيشه في الصحاري والقفار حتى تنفذ المؤنة والأغذية. توقف الانسحاب إلى الجنوب من مناجم الذهب، حيث تخندق البجائيون وقوّوا مواقعهم في بداية سنة 241ﻫ/أيار-حزيران 855. 328

تحندق البجائيون يدل على أنهم رأوا أن الوقت مناسب للقضاء على القميّ وجيشه لأن المؤن الموجودة لديه كادت أن تنفد. قبل أيام من المعركة الفاصلة قام علي بابا، زعيم البجة بالخروج مع عدد كبير من جنوده الراكبين على ظهور الجمال والمزوّدين بالرماح في استعراض لإخافة القمي وجيشه وجعلهم يستسلمون بدون قتال. هذا الهدف كاد أن يتحقق حيث خاف جنود القمي من عدد رجال البجة الكبير ومعداتهم الكثيرة. كما عانى هؤلاء من نقص في الأغذية والمؤن. وقع القمي في وضع مُرْبِك كانت خلاله جميع قواته مهددة بالفناء.329 لقد اضطر إلى التحندق والبقاء أيامًا في معسكره حيث نشر حوله مسامير من الحديد لمنع هجوم مباغت في الليل.330 في صباح اليوم الذي كان هجوم رجال البجة سيبدأ أصدر القمي أمرًا إلى جنوده برفع رسائل على رماحهم، وكأن هذه الرسائل قد أرسلها المتوكل إلى رجال البجة. يبدو أنه أجرى مفاوضات لاستسلام "وهمي" وبذلك نجح في تأجيل الهجوم لعدد من الساعات. في ذلك الوقت بدأت سبع سفن ترسو في ساحل عيذاب.331

فشلت محاولة علي بابا السيطرة على السفن الراسية بعد أن أرسل القمي جزءًا من جيشه لتأمين إنزال المؤن والأغذية. تحسن وضع القمي بصورة جلية، الأمر الذي أقلق علي بابا الذي سارع إلى شن هجوم شامل. 332

كان القمي يعلم بأن عدد رجال البجة أكثر، وقدراتهم القتالية أحسن، ومن الصعب الحصول على النصر،333 ولذلك كان عليه أن يدير المعركة بتكتيك. خلال مكوثه في بلاد البجة تعلّم من التجربة بأن جمال رجال البجة التي تعيش في الصحراء تصبح عصبية ومتوحشة عند سماعها لأصوات قوية ومزعجة. لذا علق القمي في أعناق خيول فرسانه أجراسًا، وأمر بضرب الطبول وبالصراخ في اللحظة التي حاول رجال البجة اقتحام خط الدفاع الأول، الأمر الذي أدّى إلى فزع جمال البجة وهياجها فأسقطت ما على ظهورها من رجال وولت هاربة، فعمّت الفوضى بين رجال البجة، فلاحق الفرسان العباسيون الهاربين وأعملوا السيوف فيهم.334

كان علي بابا على استعداد للاستسلام بشرط حصوله على الأمان وعدم الانتقام من أبناء شعبه. نظير ذلك التزم بدفع خراج أربع سنوات سابقة. خلع القميّ على علي بابا وأهل بيته وسادة قومه ومنحهم الهدايا.335روى البلاذري أن زعيم قبائل البجة التزم بدفع إتاوة للعباسيين بالإضافة إلى ضريبة البقط. كما سمح للمسلمين بالعودة إلى مناجم الذهب كسالف عهدهم، أي أن الاتفاقيات القديمة جُدّدت بالكامل.336 من أجل ضمان تنفيذ الاتفاقية الجديدة رأى القمي من المناسب أخذ علي بابا رهينة، بعد أن عيّن ابن الأخير، لعيس، حاكمًا على قبائل البجة بصفته نائبًا لأبيه.337

قاد القميُّ علي بابا وسبعين عبدًا بجائيًا إلى سامراء. عامل المتوكل زعيم البجائين برقة وتسامح ومنحه عباءة وعطايا، وذلك رغم أن هذا الزعيم بقي يؤمن بالوثنية ويحمل في يديه صنمًا صغيرًا.338 في شهر ذي الحجة سنة 241ﻫ/856 أخذ المتوكل العبيد البجائيين لنفسه. في بداية سنة 242ﻫ عيّن المتوكل سعد الخادم الإيتاخي مسؤولاً عن بلاد البجة. قام الأخير بتعيين محمد بن عبد الله القميّ نائبًا عنه. تعيين القميّ مسؤولاً عن بلاد البجة ضمن الهدوء التام هناك بخاصة بعد أن أعاد علي بابا إلى وطنه، وقرر الاستعانة بالبجائيين في حراسة قوافل الحجاج في مصر.339

توثقت علاقات المسلمين برجال البجة وقويت ما أدّى إلى اندماج كامل بين البجائيين والقبائل العربية التي استوطنت هناك بخاصة قبائل ربيعة.340

(المصدر: الدكتور محمد عقل، الدولة العباسية في عهد المتوكل على الله-رسالة دكتوراة.

وسوم: العدد 797