الخليج العربي وتعاظم الوزن الجيوسياسي للبحر الأحمر

أزمة دول الخليج العربي باتت خانقة تسودها الصراعات والانقسامات في اعقاب ازمة حصار قطر والحرب اليمنية واخيرا ازمة خاشقجي، فاقمها انزياح استراتيجي مفاجئ نحو البحر الاحمر؛ اذ استقطب البحر الاحمر اهتمام القوى الاقليمية والدولية المتنافسة خلال العامين الفائتين بعد اعلان الصين خطتها الاستراتيجية (حزام واحد -  طريق واحد) والمتوقع ان تستثمر فيها اكثر من 800 مليار دولار خلال السنوات العشر القادمة.

العديد من القوى الاقليمية انخرطت في سباق وصراع محموم لتحسين تموضعها في اقليم البحر الاحمر مشعلة معركة الموانئ والجزر في ضوء الاستراتيجية الصينية الواعدة؛  فخلال العام الفائت اندلعت مواجهة ساخنة على موانئ البحر الاحمر الغربية في الصومال وجيبوتي والسودان وارتيريا وامتد الصراع الى اثيوبيا وكينيا والجزر المحيطة بها، صراع انخرطت فيه الامارات العربية المتحدة بنشاط ممثل بشركة دبي للموانئ في مواجهة تركيا وقطر والصين وامريكا.

انضمت روسيا الى هذه المواجهة في مرحلة متأخرة في جولة وزير خارجيتها لافروف توجها في اثيوبيا لتتزامن مع زيارة قام بها وزير الخارجية الامريكي السابق تيلرسون لأثيوبيا وجيبوتي وقطعها ليعلن عن اقالته بعد ذلك بساعات، علما انه بذل جهودا مضنية لوقف التدهور الحاصل في الخليج العربي بين قطر ودول الحصار وعلى رأسها الرياض وابو ظبي على امل استعادة التناسق الوظيفي لمجلس التعاون الخليجي.

فإدارة ترمب المستاءة من تيلرسون هيمن عليها رؤية ترمب وكوشينر لمستقبل الخليج العربي والبحر الاحمر والمنطقة، مثيرا المزيد من المخاوف لدى المؤسسات السيادية والخبراء الاستراتيجيين في امريكا حول فاعلية هذه الاستراتيجية ومدى صوابيتها. 

حسمت معركة الموانئ لغير صالح الامارات العربية المتحدة في حينه واوقفت مشاريعها في السودان وجيبوتي والصومال، وعانت من انتكاسة في جزيرة سوقطرة اليمنية وميناء الحديدة وارتيريا، وانتقلت المعركة الى محافظة المهرة جنوب اليمن المشاطئة لبحر العرب والمفتوحة على المحيط الهندي، معركة جدية كشفت عن انزياح جيوسياسي واضح باتجاه البحر الاحمر فهو صلة وصل الصين والهند وجنوب شرق اسيا بإفريقيا والقارة الاوروبية، حيث تتواجد الاسواق والمواد الخام فاتحة ثغرة كبيرة؛ فبدل احتواء الصين تحولت المنطقة الى ارض بكر تستعد لاستقبال نفوذها، مولدة حالة انكشاف استراتيجي خطير في الاستراتيجية الامريكية خصوصا ان تعثر المشاريع في البحر الاحمر كان يسير بالتوازي مع تفكك واضح في منطقة الخليج العربي يهدد نفوذها.

مواجهة عادت لتتجدد مرة اخرى بعد اعلان ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان ان مشروع «نيوم» يواجه الفشل بسبب ضعف الاقبال على الاستثمار بتأثير من ازمة خاشقجي، دافعا المملكة العربية السعودية لمحاولة تشكيل تحالف جديد يضم الصومال وجيبوتي واثيوبيا ومصر والاردن التي شاركت من خلال وكيل وزارة الخارجية في الاجتماع الاخير وبرعاية من الملك سلمان. 

تكاثرت المشاريع كمشروع خط حديد السلام وتكررت المحاولات لتضفي بعدا جديدا على الصراع وحالة التنافس التي امتدت الى سلطنة عمان وقطر والكويت، مشاريع تولد عنها فوضى واختلال وظيفي (Dysfunction) في حركة غير منتظمة او متناسقة ليشمل المؤسسات ما فوق الدولة كمجلس التعاون الخليجي المهدد بالتفكك والانهيار.

البحر الاحمر يحتل مكانة مهمة لدرجة انه بات احد اوجه الاختلالات الوظيفية في اداء الدول الخليجية والتنافس فيما بينها والتصارع، فالأمر لا يقتصر على تركيا وايران وروسيا؛ اذ زاده تعقيدا اعلان الرئيس الصيني عن خطة بلاده الجديدة التي تتضمن استثمارات بأكثر من 100 مليار دولار في العالم العربي لتعزيز استراتيجية بلاده (حزام واحد طريق واحد)، وتوقيعه العديد من الاتفاقات مع كل من الامارات العربية المتحدة والكويت وانفتاحه على قطر، فجبهة الخليج العربي ممزقة وواعدة بالنسبة للصين في حين ان جبهة البحر الاحمر نضجت بشكل دفع الدول للتنافس فيما بينها انسجاما مع التوجهات الصينية الجديدة الواعدة.

اسرائيل التي تحاصرها المقاومة من كل الجهات ليست غائبة عن المشروع، فتحت غطاء صفقة القرن والسلام الاقليمي تسعى الى الخروج الى فضاء ارحب والاندماج في المشاريع التي تتخذ طابعا نخبويا فوقيا، متجاوزة بذلك المصالح الحيوية للولايات المتحدة، ومقدمة خارطة عمل من الممكن ان تخفف من حدة المعارضة الامريكية للمشاريع الواعدة والتي ستتحول الى حصان او تنين طروادة صيني مقلق للعقل الاستراتيجي الامريكي.

الخليج العربي خرج خاسرا من هذه المعركة؛ اذ فقد شيئا من وزنه الجيوسياسي فلم تتمكن دول الخليج من الحفاظ على تماسكها، ولا تمكنت من تعزيز حضورها في البحر الاحمر كقوة اقليمية قيادية مثيرة اضطرابا حقيقيا لدى الكيان الاسرائيلي العابث، اخفاقات متتابعة ناجمة عن حالة الاستنزاف في الحرب اليمنية وانفجار ازمة حصار قطر وازمة خاشقجي واضعة بذلك محاولاتها لإعادة التموضع واكتساب وزن اقليمي على المحك؛ فالسلاح الروسي معروض في الاسواق الخليجية  وايران لا زالت فاعلا رصينا الى جانب تركيا واثيوبيا، كما ان السودان حسم خياراته فالحرب اليمينة ستضع أوزارها بالنهاية، دافعة السودان لتعزيز تموضعه في البحر الاحمر والاقليم.

ختاما.. روسيا باتت حاضرة في اقليم البحر الاحمر وفي الخليج العربي عبر صفقات السلاح كما اصبحت الصين حاضرة بقوة عبر اتفاقات وتفاهمات اقتصادية ومشاريع واعدة، فاتحة للشهية ومثيرة لقلق اليابان وامريكا معا، اما تركيا فهي حاضرة في الخليج والبحر الاحمر الى جانب ايران في حين ان الدول العربية لا زالت عاجزة عن بلورة استراتيجية واضحة؛ اذ تتنازعها الانقسامات وحالة الارباك الامريكي وصفقة القرن المتعثرة وازمات متفجرة كحصار قطر وخاشقجي والحرب اليمنية، عوامل اسهمت الى حد كبير في تحويل المنطقة الواقعة بين البحر الاحمر والخليج العربي الى اكثر المناطق هشاشة في العالم، مزعزعة النفوذ الامريكي ومحسنة من تموضع القوى الاقليمية الكبرى كإيران وتركيا؛ فالبحر الاحمر تعاظمت مكانته الجيوسياسية وتحول الى وسيلة وغاية لإعادة هندسة الاقليم ورسم معالمه  بما فيه الخليج العربي الذي بات ضحية للاختلالات الوظيفية والطموحات السياسية الشخصية.

وسوم: العدد 803