الإفراج عن بائع عقار في القدس خطيئة

صدق أولا تصدق، لقد وقع المحظور وجرى تأكيد ذلك بشكل غير رسمي، رغم أنه لم يصدر عن السلطة الفلسطينية أي توضيح أو تأكيد أو تكذيب أو نفي، بل اختارت أن تلتزم الصمت المطبق، لما أوردته وسائل الإعلام الإسرائيلية حول تسليم السفارة الأمريكية بموجب اتفاق سري، لا نعرف تفاصيله، مجرما باع عقارا في البلدة القديمة من القدس المحتلة لجمعية عطيرت كوهنيم الاستيطانية. حقيقة أنني لم أصدق ما تناقلته وسائل الإعلام الإسرائيلية حول هذه القضية، إلى أن أكد لي مصدر فلسطيني موثوق، أن السلطة سلمت بالفعل للسلطات الامريكية، عصام عقل وهو فلسطيني يحمل الجنسية الأمريكية، أدانته محكمة فلسطينية بجريمة بيع العقار في القدس، وحكمت عليه بالسجن المؤبد، وأعرب المسؤولون عن رفضهم لهذه الخطوة.

لم أكن لأصدق، لأنني مخطئا اعتقدت أن سلطة تقول إنها تقاطع الإدارة الأمريكية وترفض أي ضغوط، وكذلك أي قرارات أمريكية، لاسيما في ما يتعلق بقضية القدس المحتلة، لا يمكن أن تقدم على مثل هذه الخطوة وتذعن للضغوط الامريكية. ومهما حاولنا تبرير هذا القرار، الذي أقل ما يقال عنه إنه قرار خاطئ وخطيئة بامتياز، فلن يكون لذلك سوى تفسير واحد وهو تورط بعض الأطراف التي قدّمت النصيحة لصاحب القرار، في جرائم تسريب أراضي القدس للمستوطنين ودولة الاحتلال.

هذا القرار يجعلنا نتساءل عن مدى مصداقية السلطة في كل مواقفها المعلنة من الإدارة الأمريكية. أصحاب النصيحة يبررون موقفهم هذا بأن عقل يحمل الجنسية الأمريكية كما أنه يحمل الهوية الإسرائيلية كغيره من أهالي القدس الشرقية المحتلة، لكن ذلك لا يعفيه من العقاب على جريمة الخيانة هذه، وهو أولا وأخيرا فلسطيني. وثانيا، ألم يكن يعرف من أقدم على خطوة اعتقاله وتقديمه إلى المحكمة بهذه التفاصيل، وثالثا ألم يتوقع أصحاب النصيحة أن يمارس الأمريكان الضغوط والتهديد من أجل الإفراج عنه، خاصة أنه يقدم الخدمات لإسرائيل.

يذكر في هذا السياق أن السفير الأمريكي المستوطن في إسرائيل ديفيد فريدمان، كان أول المطالبين بالإفراج عن عقل. وكتب على حسابه الخاص على تويتر «السلطة الفلسطينية تحتجز المواطن الأمريكي عصام عقل في السجن منذ شهرين. ما هي التهمة التي يشتبه في أنه ارتكبها؟ إنها بيع أرض ليهودي». وأضاف فريدمان «سجن عقل يتنافى مع قيم الولايات المتحدة، ومع كل مؤيد لقضية التعايش السلمي. نطالب بإطلاق سراحه فورا». ومن المبررات الأخرى التي سيقت أيضا، حسبما تسرب من معلومات حول هذه القضية، أن السلطة كانت متخوفة من إقدام جيش الاحتلال، أو وحدات خاصة أمريكية على اقتحام المكان الذي كان عقل محتجزا فيه واختطافه. ولو تم ذلك لكان أفضل وأشرف بكثير للسلطة، ولزاد من التفاف الشارع حولها وتعاطفه معها، وعزز شعبيتها المفقودة التي تحتاجها وهي مقبلة على انتخابات. وهذا يجعلنا نتساءل إن كان طلب السلطة من الإدارة وقف كل المساعدات المالية، محاولة للتغطية على قرار الإفراج عن عقل.

تسريب العقارات وبيعها للعدو المحتل خيانة عظمى، عقوبتها حسب القانون الفلسطيني الإعدام

ألا يتناقض الإذعان للضغوط والتهديدات الأمريكية والإسرائيلية على السلطة، بتسليم بائع الارض، مع موقف السلطة التي تقول إنها تقف في وجه دونالد ترامب وإدارته الصهيونية، وترفض جميع إجراءاته وقرارته بشأن القضية الفلسطينية، وفي مقدمتها الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال ونقل السفارة إلى القدس و»صفقة القرن» التي لا تزال قيد «التشطيب» كما يقولون.

إن قرار الإفراج عن عقل كان خطيئة، في أفضل الحالات، فهو سيكون مثالا، بل حافزا للاخرين وسيفتح الأبواب على مصراعيها أمام ضعاف النفوس للإقدام على هذه الخطوة الخيانية، وإذا كان جواز السفر الامريكي هو الحامي فلن يصعب على السفير المستوطن فريدمان ومن ورائه جارد كوشنر وجيسون غرينبلات وعرابهم ترامب، منح الجنسية وجواز السفر الامريكي لكل من يريد أن يبيع منزلا أو عقارا، ليس في البلدة القديمة في القدس، بل في كل الاراضي الفلسطينية، خاصة مناطق «ج» التي تمثل نحو60 % من الضفة الغربية وتعمل حكومة الاحتلال على تهويدها. وهذا سيكون عاملا مساعدا لتفريغ فلسطين من أهلها وتحقيق الحلم الصهيوني. وهذا ينقلنا إلى قضية أخرى وهي قضية أديب جودة الحسيني (55 عاما) المؤمَّن على مفاتيح كنيسة القيامة نيابة عن عائلته. فقد باع جودة الذي ينتمي إلى عائلة عريقة، مبنى العائلة المشيد على الطراز المملوكي والمكون من ثلاثة أدوار، في الحي الإسلامي في البلدة القديمة، عام 2016، بمبلغ مليونين ونصف المليون دولار. ويعترف بجريمته متسائلا «هل يمكن محاسبتي على شيء بيع قبل نحو أكثر من عامين لشخص آخر؟»، مؤكدا أنه لا يمكن تحميله مسؤولية انتقال المستوطنين إلى هناك أواخر عام 2018.

صحيح إنه لم يسرب العقار إلى المستوطنين مباشرة، ولكنه كان يعرف جيدا في قرارة نفسه أن من يعرض مثل هذا المبلغ السخي لا يمكن أن يكون إلا سمسارا يعمل لحساب المستوطنين. ولم تقنع تبريراته هذه أحدا ولم يعفه من غضب الفلسطينيين الذين يعتبرون بيع عقارات في القدس الشرقية لإسرائيليين «خيانة»، ويواجه جودة دعوات للتخلي عن دوره كحامل مفتاح كنيسة القيامة الذي يفتخر به وتوارثته عائلته المسلمة أبا عن جد، منذ قرون.. ويا خوفي من أن يقدم على بيع كنيسة القيامة نفسها. ولكن عقل والحسيني لا يمثلان سوى حفنة من320 ألف فلسطيني في القدس المحتلة فشلت كل محاولات دولة الاحتلال في اقتلاعهم من منازلهم وممتلكاتهم رغم القوانين الجائرة التي يسنها الكنيست، وسحب الهويات وهدم المنازل والترويع والترهيب والقرارات التعسفية التي يتخذها المجلس البلدي الاحتلالي.

وحتى لا يكون مجمل المقال سلبيا فإننا نقول إنه إذا كانت هناك قلة قليلة من ضعاف النفوس الذين ينهارون أمام المال، ويقبلون المتاجرة بأرض الوطن والثراء على حسابها، فإن الغالبية الساحقة في المقابل ترفض هذه الإغراءات المالية التي يسيل لها اللعاب، والامثلة لا تعد ولا تحصى، ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، ما حدث مع المقدسي عبد الذي رفض رغم كل الإغراءات المالية والضغوط النفسية، يقول وهو صاحب محل في البلدة القديمة ويعيش في منزل فيها «دفعوا لي بداية ستة ملايين دولار وفي اليوم التالي سبعة ملايين إلى أن وصلت لأربعين مليون دولار ورفضت. وفي يوم كنت واقفا أما بوابة البيت وكانت أعياد يهود وفي هذه الاعياد نضطر أن نعطل، جاءني شخصان من أمريكا وقالا لي يا عبد نحن نعرف أنهم دفعوا لك أربعين مليون دولار ورفضت، ونحن مستعدين لدفع مئة مليون، وإذا كنت خائفا من حماس أو الجهاد أو العرب سننقلك إلى كريات أربع (مستوطنة قريبة من الخليل)، ومن هناك إلى تل أبيب وبعدها بإمكانك الاختيار بين أستراليا وأمريكا. وإذا حابب تفتح مشاريع برة (في الخارج) سنشاركك. ولا توقع على عقد البيع إلا وفلوسك في حسابك في البنك. بتعرف كل ما زادوا السعر يزيد تمسكي بالأرض، مش برفض مئة مليون، بل مال الدنيا كله، المال حلو لما يكون طاهرا، أما لما يكون مغمس بالوسخ فهو سم».

وأخيرا في الماضي كانوا يقولون إن «الأرض كالعرض من يفرط بأرضه كمن يفرط بعرضه»، وإذا كان ذلك يقال لمن كان يبيع أرضه الموروثة عن أجداده ووالديه، لجاره أو لأهل قريته، فما بالك بالذي يبيع الأرض للعدو قاتل شعبه ومحتل أرضه، عدو يسعى جاهدا، إلى تفريغ الأرض من أهلها ومسحهم من على وجه الأرض، ووراثة حضارتهم وتاريخهم وآثارهم وتراثهم الخ.

وأختتم بالقول إن تسريب العقارات وبيعها للعدو المحتل ليست جريمة بشعة، وحسب، بل خيانة عظمى، عقوبتها حسب القانون الفلسطيني الإعدام حتى يكون الخائن عبرة لمن اعتبر، وإذا لا يتم إنزال أشد العقوبات ضد هؤلاء فإن الامور ستنفلت فالنفوس أمّارة بالسوء، وسنغمض أعيننا ونفتحها لنجد أن كل شيء قد ضاع… فنعض أصابعنا ندما حين لا ينفع الندم.

وسوم: العدد 809