عقدة القداسة والطهر توهم من يعانون منها بالتميز عن خلق الله والاستعلاء عليه

عقدة القداسة والطهر توهم من يعانون منها بالتميز عن خلق الله والاستعلاء عليه اعتمادا على غير ما لا يرفع الخلق عند الخالق سبحانه وتعالى

بداية نذكر بأن معالجة هذا الموضوع في هذا المقال تعتمد المرجعية الإسلامية التي قوامها كتاب الله عز وجل ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم دون طائفية أو مذهبية أو طرقية مما ابتدعه الناس ، وصاروا يعتمدونه مرجعية تنسب إلى الإسلام ، ويلتمسون لها أدلة من الكتاب والسنة تمحلا، وتعسفا، و كذبا وافتراء على الله عز وجل، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم .

بالرغم من أن الله عز وجل قد كرم بني آدم، وفضلهم على كثير ممن خلق تفضيلا  كما جاء ذلك في محكم التنزيل ، واشترط في صيانتهم لهذا التكريم الاستقامة له وإلا ضاعت منهم وهووا إلى أسفل سافلين ، كما أنه حدد المكرم منهم عنده بتقواه مصداقا لقوله عز من قائل مخاطبا كل الناس  : ((  يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم )) ، فإن كثيرا من الناس يعانون من عقدة القداسة والطهر، وهو ما يوهمهم بالتميزعن غيرهم  من خلق الله ، والاستعلاء عليهم بسبب أمور وهمية أخرى غيرالتقوى التي بها يكون التمايز بين الناس عند خالقهم .

والقداسة والطهر لفظتان مترادفان تشرح الواحدو منهما الأخرى ، ذلك أن القديس هو الإنسان الطاهر ، المنزه عما يفقده قداسته وطهره . ولا شك أن الذين يصفون الخلق من غير المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين  بالقدسين ، ينطلقون من قدوسية الله عز وجل التي هي تنزيهه عن الخلق قياسا على ما فيهم من كمال أو نقص، وهم في ذلك مخطئون في فهم قدوسيته كما قال الإمام الغزالي في كتابه: " المقصد الأسنى في شرح اسماء الله الحسنى " .

ومعلوم أن ما ينقض وهم القداسة والطهر عند غير المرسلين الذين كرمهم الله عز وجل بالعصمة ، هو طبيعة بني آدم الخطّاءة  مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل ابن آدم خطّاء وخير الخطّائين التوّابون "، ولعل ورود صفة الخطأ في بني آدم بصيغة المبالغة ،تدل على كثرة أخطائهم ، ولا قداسة ولا طهر لمن كانت هذه جبلته ، ولا بد أن يستثنى من ذلك المرسلون الذين تفضل الله عز وجل عليهم بالعصمة دون غيرهم من الخلق  انسجاما مع وظيفة تبليغ رسالاته لخلقه.

ولقد ورد في كتاب الله عز وجل أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى هم أكثر الناس فتنة بالقداسة والطهر إلى درجة أنهم جعلوا أنفسهم أبناء الله وأحباؤه ـ تعالى علوا كبيرا عما يصفون ـ ، وفي ادعائهم هذا يظنون بأنفسهم النهل مباشرة  من قدوسيته ، وقد رد عليهم في الرسالة الخاتمة المنزلة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بقوله : (( وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير )) ، ففي هذه الآية من سورة آل عمران تسفيه لقول اليهود والنصارى به ينهار وهم القداسة والطهر الذي يدعونه ، وفيها أيضا إشارة إلى طبيعتهم البشرية الخطاءة . وبالرغم من هذه الحقيقة القرآنية ، لا زال اليهود النصارى إلى  أيام الناس هذه يعيشون على وهمهم المتوارث عن أسلافهم ، ويرفعون  قدر أنفسهم فوق أقدار البشر ، ويتعالون عليهم، بل يؤذونهم ، ويعتبرونهم مجرد مخلوقات مصنفة  في مرتبة البهائم ، وقد يستبيحون دماءهم وأعراضهم، وما يملكون بذريعة وهم القداسة والطهر. وها هم اليهود الذين احتلوا أرض غيرهم بذلك الوهم اليوم يبيدونهم ، والعالم يزكي ما يفعلون،  بل من الكيانات النصرانية التي تشاركهم وهمهم منخرطة معهم في إجرامهم.

ولا حاجة للخوض في مرجعيات وثنية يتمسك أصحابها  أيضا بوهم القداسة والطهر في شتى أقطار الرض ، ويستعلون به على غيرهم تماما  كما يفعل اليهود والنصارى ، ويفتكون بغيرهم ، ويسفكون دماءهم ، وينتهكون أعراضهم ، ويسطون على أموالهم وممتلكاتهم ، ويطردونهم من أوطانهم .

وإذا ما كانت مرجعية اليهود والنصارى، وهي محرفة بشهادة القرآن الكريم، وهو  آخر ما أنزل الله تعالى للبشرية قد كرست عقدة القداسة والطهر في نفوس أصحابها ، وصارت عبارة عن عقيدة عندهم ، فإنه لا مسوغ لانتقال عدوى هذه العقدة إلى المسلمين ، وفيهم كتاب الله وسنة رسوله اللذان لا يضل من تمسك بهما.

ولقد فرقت عقدة القداسة والطهر بين المسلمين فصاروا فرقا بينها عداء  سنة وشيعة ، وتشظت  كل فرقة  منهما إلى توابع لهما لديها ما يجمعها وما يفرقها . ولم تسلم كل منهما  مما يشبه وهم اليهود والنصارى ، وإن كانتا تعلننا الانتماء إلى المرجعية الإسلامية كتابا وسنة مع تصرف كلتاهما في تأويلهما تأويلا متمحلا ، افتراء  وكذبا عليهما . وأشهر من يركبون وهم القداسة والطهر ويستعلون به على غيرهم ، ويستبيحون أعراض ودماء غيرهم بذلك عموم الشيعة ، ومن السنة  أيضا أصحاب الطرق الصوفية الذين يستعلون أيضا بوهمهم على غيرهم ، ويستغلونهم ، ويبتزونهم ، ويأكلون أموالهم بالباطل .

أما الشيعة فقد جعلوا لأنفسهم مرجعية خاصة بهم مفادها أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أوكل بابن عمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه  بعد عودته من حجة الوداع  بمكان يدعى غدير خم  إمامة المسلمين بعده ، واشترطوا أن تبقى هذه  الإمامة  في ذريته إلى يوم الدين أو إلى يوم ينزل من السماء إمام منها قد رفع إليها ، وهذا اعتقاد فصيل  كبير من الشيعة .

ولن نخوض فيما خاض فيه الأوائل بخصوص هذا الزعم الشيعي ، وقد اعترض عليه بتهافت فكرة اجتماع  غدير خم ، والناس قد انصرفوا من عرفات في حجة الوداع إلى وجهاتهم المختلفة  شرقا وجنوبا وشمالا وقد خطبهم  رسول الله صلى الله عليه وسلم  ، وكان الأولى أن يقول لهم ما تزعم الشيعة أنه قاله لبعضهم  في غدير خم  دون باقي من حج معه . وليس مع الشيعة من نص قرآني يدعم زعمهم إلا ما يؤولونه وهم يلوون بأعناق الآيات  القرآنية ،  ويخترعونه من الأحاديث ما يجعلون رواتها آل البيت رضوان الله عليهم  افتراء وكذبا . ودون دحض زعمهم هذا أيضا  قول الله تعالى في وصف أمر المسلمين بعد موت الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم : (( والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون)) ، ففي هذه الآية ما يدحض الزعم الشيعي إذ لا تستقيم الإمامة بمفهومهم مع الشورى التي يكون الإمام بموجبها ممن يختاره المسلمون بتشاور فيما بينهم ، ولا يكون مفروضا عليهما بذريعة انتسابه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم  أو بذريعة كونه  وصيا ووليا فقيها ينوب عن الإمامة الغائبة التي يسألون الله تعالى أن يعجل بفرجها .

ووهم الشيعة بالقداسة والطهر مزمن ، ولا يمكن أن يقبلوا من يجادلهم في ذلك  ، وبموجبه يروا أنفسهم على صراط الله المستقيم ، ويرون غيرهم ضالين ،وإن شهدوا لله بالوحدانية ولرسوله صلى الله عليه وسلم بالرسالة الخاتمة ، وإن صلوا ،وصاموا ،وحجوا ، وزكوا ، علما بأنه عبر مراحل التاريخ  كان غير الشيعة من السنة  أكثر المسلمين عددا  يفوقونهم بأضعاف كثيرة . وبوهم القداسة والطهر عند الشيعة يبيحون لأنفسهم الاستعلاء على عموم المسلمين ، بل قد يصل الأمر ببعضهم  اعتبارهم مدنسين ، يحق لهم  استباحة  دمائهم ، وأعراضهم، وأموالهم . ولقد شهد التاريخ الإسلامي مآسيا فظيعة ارتكبت بسبب هذا  الوهم الشيعي ، ولا زالت ترتكب إلى يوم الناس هذا . ولا يختلف وهم القداسة  والطهرعند الشيعة عن  وهم القداسة والطهر عند اليهود والنصارى .

أما أصحاب الطرق الصوفية على اختلافها ، وهم يحسبون على أهل السنة ، فلهم أيضا وهم القداسة والطهر الخاص بهم حيث يزعمون أن شيوخهم  المربين الذين يسمونهم أقطابا  قد حصلوا على إذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم  بواسطة رؤى  يرونها في منامهم، يسمح لهم بتربية الناس على طرقهم التي يبتدعون لها طقوسا خاصة ، ويلتمسون لها  أدلة في الكتاب والسنة تأويلا وتمحلا وإفتراء  كما يفعل الشيعة لتبرير وهمهم. وإذا كان الشيعة أصحاب إمامة ، فالطرقيون أصحاب ولاية ،علما بأن الإمامة والولاية في كتاب الله عز وجل ، لا يمكن الزعم أنها كما يدعي هؤلاء وأولئك .

 ولنتأمل سياق ذكر الإمامة في قوله تعالى : (( وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين )) ، فهذه الآية من سورة الأنبياء قد جاءت في سياق الحديث عن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، ولهذا فالأئمة هم من أوحي إليهم من المرسلين لا غير ، ومن زعم غير هذا في تفسير هذه الآية، فهو كاذب ومدلس ، ومحرف لكلام الله عز وجل .

ولنتأمل أيضا سياق ذكر الولاية في قوله  تعالى : (( ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون ))، ففي هاتين الآيتين من سورة يونس ما يدحض ادعاء أهل الطرق الصوفية الولاية ، وقد بيّن الله تعالى أن أولياءه إنما هم المؤمنون المتقون ، وليسوا أقطابا وشيوخا لطرق ابتدعوها ، وزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أذن لهم بها في منامهم ، ولو كان الرسول يفعل ذلك لأذن به لمن عاصروه، وعايشوه، وعاينوه  من صحابته وهو في يقظة لا في منام ، وهم كذلك . ومما يؤكد وهم القداسة والطهر عند هؤلاء ما ابتدعوه من شطحات ، ومن مفاهيم ومصطلحات من قبيل الجدب، والوجد، والفناء، والسكر ،والعشق ، والاتحاد ... وهلم جرا، مع أذكار وسبحات من اختراعهم  غير ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن غير ما  لم يعرف شيء منه زمن النبوة، ولا زمن الخلافة الراشدة ، ولا زمن التابعين . ولهم أحاديث عن كرامات تضاهي معجزات الأنبياء بها يستميلون الناس إلى طرقهم من أجل استغلال أموالهم وأكلها بالباطل ، وما خفي من أحوالهم المريبة أعظم مما يتحدث به كثير من الناس عنهم ممن عاشروهم وخبروهم عن قرب .

والخطير في وهم القداسة والطهر، أنه تترتب عنه عقدة الاستعلاء على خلق الله عز وجل واحتقاره ، واستغلاله ، وابتزازه ،  بل وحتى إلحاق الأذى به ظلما وعدوانا . وكم أزهقت من أرواح ،وسالت من دماء بين من ينتسبون إلى الإسلام بسبب هذا الوهم الخطير بحيث تفخخ المساجد ، والشوارع والأسواق ، فتنفجر   بروادها  وهم مجتمعون يصلون أو يتسوقون . وكم ارتكبت من جرائم إبادة جماعية لا تقل عن جرائم الإبادة التي ارتكبها ولا زال يرتكبها الكيان الصهيوني كما حدث في العراق وسوريا على سبيل الذكر لا الحصر، وإلا فقد حدث مثل ذلك في أقطار أخرى، وكان وراءه  حدوثه هذا الوهم الخطير إما شيعيا أو سنيا . ولا ينجو حتى الأموات من أذاه حيث يعتدى على   رفات الأموات في أضرحتهم  فتدمر أو تنبش أو تهان الجثامين التي ترقد فيها . وآخر ما نقلته وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي الاعتداء على ضريح الصحابي معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه  حيث قذفه الشيعة بالنعال ، وقد ألقى أصحاب العمائم السود ممن يؤطرون سوادهم في روعهم أنه قد سلب الإمامة من علي كرم الله وجهه ، وهو بذلك يستحق الإهانة ميتا ، واللعنة على المنابر، والشتم والسب ، الرمي بالنعال . وفي هذا الفعل ما فيه من استفزاز لمشاعر أهل السنة ، والذي من شأنه أن يقدح زناد الصراع الدامي بين  الشيعة والسنة ، ولربما تهور من السنة عوامها  الجهلة أيضا ، وأقدموا على مثل فعل عوام الشيعة الجهلة ، فعمدوا إلى مراقد أهل البيت يرمونها بالنعال أيضا ويسبونهم، ويشتمونهم ، ويلعنونهم كرد فعل على فعل . ولقد نبشت قبور صحابة  أجلاء ، وهدمت مساجد عتيقة  ، وأتلفت مآثر تاريخية نفيسة بسبب وهم القداسة والطهر عند الشيعة .    

 وكم هم ضحايا هذا الوهم الخطير عند الطرقية أيضا ممن يُبتزون، ويُستغلون ، ويخدعون بالأماني السرابية ، وتباع لهم الأحلام الأخروية ، والوعود بدخول الجنة التي لا سبيل إليها إلا بسلوك الطرق و الخضوع لمشايخ أقطاب يدعون امتلاك الإذن النبوي عن طرق ما يرونه في منامهم . وكثير هم الذين خدعوا من طرف أصحاب الطرق ثم انتبهوا بعد ذلك من غفلتهم ، وعادوا إلى رشدهم وتشبثوا بحبل النجاة كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وعفا الله عنهم من وهم القداسة والطهر ، ومن عليهم بالتقوى المعيار الوحيد  عنده سبحانه وتعالى الذي يمكنهم من أن يكونوا أولياءه دون طرق ومسالك ، وشيوخ أقطاب ،ودون شطحات ووجد أو سكر أو غرام  ... أو غير ذلك مما يفترى على كتاب الله عز وجل ، وعلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم .

اللهم إنا نسألك تقواك ، ونعوذ بك أن نكن غلا للمؤمنين .

وسوم: العدد 1068