ظاهرة جمع شريحة عريضة من المسلمين بين الانحراف عن قيم وأخلاق دينهم وبين الشعور بالاستلاب

ظاهرة جمع شريحة عريضة من المسلمين بين الانحراف عن قيم وأخلاق دينهم وبين الشعور بالاستلاب بقيم  وأخلاق الغرب

توصلت من أخ فاضل بفيديو يروي فيه أحدهم قصة قرية في فلندا لا يتجاوز عدد سكانها أربع آلآف نسمة، معظمهم مسيحيون  لهم أربع كنائس، وفيهم جالية يهودية لها معبد خاص بها ، وقد وفد عليها مهاجرون مسلمون ، ففكرت الجهة المسؤولة هناك  في تحويل إحدى الكنائس إلى مسجد ليقيموا فيه صلواتهم ، لكنهم لم يتفقوا على من يؤمهم نظرا لخلافاتهم المذهبية ، وتطور الخلاف بينهم إلى صراع وصدام وفوضى ، فاضطرت الجهة المسؤولة إلى إغلاق المسجد .  وعبر صاحب الفيديو عن أسفه الشديد لما آل إليه حال المسلمين من ابتعاد عن  قيم وأخلاق دينهم مقابل ما هو عليه حال غير المسلمين .

وعقبت على هذا الفيديو بعبارة أرسلته إلى أخي الفاضل قلت فيها : ليت صاحب الفيديو  بدأ الحكاية من البداية ، ولم يقفز على حقيقة  إفساد الدول الغربية التي احتلت بلادنا العربية والإسلامية طباعنا ، فصرنا على هذه الحال المزرية  من البعد عن قيم وأخلاق ديننا ، ونحن نعاني من عقدة النقص أمام قيم  وأخلاق الغربيين مع أنها لا تتعلق بغبار قيم وأخلاق ديننا .

ولقد قدح  ما أثاره صاحب هذا الفيديو في ذهني معالجة ظاهرة جمع شريحة عريضة من المسلمين بين الانحراف عن قيم  وأخلاق دينهم ،وبين الشعور بالاستلاب بقيم  وأخلاق الغرب .

ومعلوم أننا إذا ما عدنا إلى ما قبل حملة الاحتلال الغربي لمعظم البلاد العربية والإسلامية ، نجد أننا كنا  متشبثين بقيم  وأخلاق ديننا ، وأن أول ما قامت به الدول الغربية المحتلة ، هو محاربة هذه القيم والأخلاق التي كنا عليها ،  وفرضت  في المقابل  قيمها وأخلاقها بديلة عنها من خلال أساليب التربية والتعليم  المشبوهة التي فرضت علينا  فرضا ، وهي أساليب شوشت على أساليب تربيتنا الإسلامية  الأصيلة . ويكفي أن نشير إلى وصف المحتل الفرنسي لبلدنا المغرب جامعة القرويين بالبيت المظلم ،لأنها كانت تخرج من ناهضوا احتلاله ، وكذلك كان موقفه من كل المعاهد الدينية التي كانت تعلم  وتربي الناشئة المغربية المسلمة  على القيم والأخلاق الإسلامية  . ولقد كان المربون في تلك المعاهد يتعرضون للاضطهاد ، ويتابعون ويحاكمون ، ويصفون ، بينما كانت الآفاق تفتح واسعة لمن يخضعون للتربية والتعليم على القيم والأخلاق الغربية العلمانية الفرنسية .  ولم يكن بلدنا وحده  هو من مر بهذا التغريب  المتوحش على مستوى التربية والتعليم ، وفي كل مجالات الحياة ، ونحن تحت الاحتلال الفرنسي .

وما عبر عنه صاحب الفيديو من أسف على انحراف المسلمين عن قيم وأخلاق دينهم انطلاقا مما وقع في القرية الفلندية ، هو خطاب يردده الكثيرون  منا ، وإن كان تناوله يختلف بين أسلوب السخرية والاستهزاء عند الغالبية ممن يتعاطونه ، وبين الحسرة والأسف عند الأقلية ممن لديهم غيرة على هويتنا الإسلامية .

أما الساخرون، فغالبا ما يقابلون أو يقارنون  بين سلوكات في المجتمعات الغربية ، وبين نفس النمط من السلوكات في المجتمعات العربية  والإسلامية . وما أكثر الفيديوهات التي تعرض مثل هذه المقابلات أو المقارنات  بغرض التندر بالمسلمين ، والإشادة بالغربيين ، وهم بذلك يعانون من عقدة الشعور بالدونية  . ومن المفارقة أن من ينتقدون سلوكات مجتمعاتهم العربية والإسلامية ، مقابل الإشادة والإعجاب بسلوكات الغربيين، هم أنفسهم من يكرسون الانحراف عن قيم وأخلاق ديننا ، ومع ذلك يتصرفون كأنهم شريحة أخرى غير الشريحة التي ينتقدونها .

وأما الذين يتحرقون أسفا وحسرة على ضياع قيم وأخلاق ديننا الإسلامي،  فإنهم يلتقون مع الساخرين في انتقادهم  لأنفسهم من باب جلد الذوات كما يقال ، كما أنهم يسقطون هم أيضا في فخ الاعجاب بالقيم والأخلاق الغربية، دون تمييز بين غث وسمين أو بين ما يجب أن يحمد منها، وبين ما يجب أن يذم ويحذّر منه . وفيهم من يتحدث عن قيم وأخلاق الغرب ، ويضفي عليها الكمال والسداد مع أن الواقع خلاف ذلك ، فضلا عن كون الكثير من تلك القيم والأخلاق هي سبب انحرافنا عن قيم وأخلاق ديننا إما عن جهل به ، أو تبعية وانبهار وتقليد أعمى للغرب . وقد لا ينتبه الكثير من المنبهرين بقيم وأخلاق الغرب  إلى سقوطهم في فخ التبعية والتقليد  الأعمى مع غياب الوعي ،وغياب الحس النقدي السليم .

والقلة القليلة من المعبرين عن أسفهم عما آل إليه حال قيمنا وأخلاقنا الإسلامية  بسبب التأثر بالغرب ، وتقليدنا التقليد الأعمى  له ، خصوصا وأن الغرب يضفي على قيمه وأخلاقه صفة العالمية والكونية  مفاخرا بها ، الشيء الذي يوهم أنه لا بد أن تكون هي البديل عن قيمنا وأخلاقنا الإسلامية  بل عن كل القيم والأخلاق مهما كانت ، وإلا صرنا خارج مضمار العالمية والكونية . ولعل معظم الدول العربية والإسلامية قد صادقت على اتفاقيات دولية تلزمها بقيم وأخلاق الغرب مكرهة لا بطلة ، ومنها من تثبتها في دساتيرها ، تماما كما تثبت رسمية دينها  وهويتها الإسلامية  ، الشيء الذي يعكس فوضى القيم والأخلاق السائدة فيها ، وهو ما يجعل رعاياها موزعين بين نمطين من القيم والأخلاق هي على طرفي نقيض ، وهذا ما يسبب الصراع بين هؤلاء الرعايا تماما كما وقع للجالية المسلمة في القرية الفلندية ، والتي انتهى بها الصراع فيما بينها إلى حرمانها من مسجد تقيم فيه صلواتها .

أليس الصراع ضارية في بلدنا المغرب على سبيل المثال لا الحصر ، وإلا فهو صارع أشد ضراوة في غير بلدنا من البلاد العربية والإسلامية ، ويتعلق الأمر بالخلاف في موضوع إصلاح مدونة أحوالنا الشخصية حيث يطالب المنبهرون بالقيم والأخلاق الغربية بمدونة ذات طالع علماني ، بينما يطالب المتشبثون بقيم وأخلاق الإسلام بمدونة ذات مرجعية وأصالة إسلامية . ولا ندري لحد الساعة  إلى أين سينتهي هذا الخلاف المزمن بين الطرفين ؟

وليست مدونة الأحوال الشخصية هي موضوع الخلاف الوحيد عندنا بين التيار العلماني وتيارالأصالة الإسلامية، بل هناك قضايا كثيرة هي محل خلاف عميق بينهما ،والسبب هو غزو القيم والأخلاق الغربية لنا عن طريق المنبهرين بها ، والذين هم حصان طروادة في بلادنا ، وفي كل البلاد العربية والإسلامية . ولقد أصبح عدد هؤلاء  في ازدياد سنة بعد أخرى ، الشيء الذي جعل لهم تأثيرا في السواد  الأعظم الذي صار يوجه تلقاء أخلاق وقيم  الغرب عن قيم دينه  ، وهو اليوم  يتوجس من الغزو العلماني الكاسح الذي صارت تموله أنظمة عربية  هي بمثابة أدوات في يد الإدارات الغربية العلمانية تسيرها كما تشاء .

 وتعتبر أحداث السابع من أكتوبر هزة قوية أفاقت الشعوب العربية والإسلامية من غفلة الانبهار بالقيم والأخلاق الغربية، حيث انحازت معظم الدول الغربية العلمانية إلى جانب الكيان الصهيوني العنصري الغازي والمحتل لأرض فلسطين ، وهو اليوم يرتكب جرائم حرب ، وجرائم إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزة ، وفي الضفة  دون أن يتحرك ضمير تلك المجتمعات الغربية العلمانية أو" الصهيو ـ صليبية " التي يتغنى المنبهرون والمستلبون بقيمها وأخلاقها. ولقد صارت شرائح بشرية  عريضة  من تلك المجتمعات الغربية  تندد شبه يوميا بتلك الجرائم  وتدينها بشدة ، ولكن أنظمتها السياسية لا تبالي بتنديدها ، وتقف إلى جانب الجلاد الصهيوني ضد الضحايا الفلسطينيين دون وخز من ضمير ، وبشكل يفضح انحدار القيم والأخلاق الغربية إلى أدنى درك ، ومع ذلك  يهلل لها المستلبون من بني جلدتنا وهم مغرر بهم علمانيا وقد سُقط  في أيديهم بسبب ما حدث ويحدث  الآن في غزة، وفي الضفة . فماذا بقي للقيم والأخلاق الغربية  ما تدعيه من عالمية وكونية ، ومن دفاع عن حقوق الإنسان ، ودفاع عن السلم والأمن العالميين  ، ودفاع عن الحريات ، ووقوف مع  الشعوب المضطهدة ، والمحتلة أراضيها ... إلى غير ذلك مما يوجع الرأس من ادعاءات كاذبة  كلها سقطت بعد السابع من أكتوبر الذي سيصير محطة تاريخية تؤرخ بها  البشرية ، كما أرخت بأحداث كبرى عرفها التاريخ البشري .

وأعتقد أنه لم يعد بإمكان المنبهرين بالغرب الاستمرار في انبهارهم بقيمه وأخلاقه ، وقد برهن بموقفه  اللإنساني  واللأخلاقي من مظلمة  الشعب الفلسطيني  الصارخة ، وهو يضطهد بوحشية  في وطنه على يد محتل آثم .

وليعلم المنبهرون بقيم وأخلاق الغرب أنه يصر على استئصال المقاومة الفلسطينية من غزة بسبب انتسابها إلى دين الإسلام الذي تعارض قيمه وأخلاقه القيم والأخلاق الغربية العلمانية، بل وتعتبرها  الغربيون مصدر تهديد لقيمهم وأخلاقهم لأن هذه الأخيرة لا تقبل  بعالم فيه قيم وأخلاق غير قيمها وأخلاقها  المفروضة فرضا  على العالم .

فمتى ستستيقظ الأمة المسلمة من سباتها العميق ؟ ولئن لم يوقظها ما حدث بعد السابع من أكتوبر، فلن تستيقظ  أبدا إلا وهي   رازحة من جديد تحت نير احتلال غربي علماني "صهيو ـ صليبي" من نوع جديد، يكون أقسى عليها من الاحتلال السابق الذي قضى على  كل شعورها بالرابطة الإسلامية لدى الشعوب المسلمة ،وكرس  بل عمّق  فيها النزعات العرقية والطائفية والمذهبية المتطرفة التي فرقتها شذر مذر . ولئن اختلفت الجالية في القرية الفلندية في موضوع من يؤمها في مسجد خصص لها ، فإن الأمة الإسلامية ما لم تتداركها  ألطاف الله عز وجل الخفية ، فستكون أشد اختلاف  فيما هو دون إمامة الصلاة ، وحينئذ ستطمس هويتها طمسا ، وتمسخ قيمها وأخلاقها مسخا ، ولن ينفعها يعد ذلك ندم ، ولات حين مندم .

وسوم: العدد 1073