المفتي في غزة !
المفتي في غزة !
أ.د. حلمي محمد القاعود
كنت أتمنى أن تكون زيارة فضيلة المفتي لقطاع غزة المحاصر بدلا من القدس الأسيرة ، ليرى أهل القطاع المخنوقين بعار النظام المصري الفاسد البائد الذي ما زالت بقاياه ترتع وتلعب وتترشح لإعادة إنتاجه ، أو إعادة تدويره من خلال بعض أذرعه النجسة في السياسة والصحافة والإعلام وأجهزة الأمن ومؤسسات أخرى . ويرى أهل غزة المخنوقين بالحصار العسكري والاقتصادي ، البحري والجوي والأرضي ، ويرى أن حصول أهل غزة على علبة بيبسي أو رغيف خبز عبر المعابر النازية اليهودية دونه خرط القتاد .
كنت أتمنى من فضيلته أن يزور غزة ويقف في معبر رفح رمز النظام البائد الذي لم يزل يخرج لسانه لمصر والمصريين وثورتهم العظيمة في يناير 2011م وللفلسطينيين والعرب جميعا .
بيد أن المشكلة مع فضيلة المفتي أكبر من زيارة القدس العتيقة تحت الحراب اليهودية الملوثة بدم العرب والمسلمين ، وأكبر من نخوته المستحيلة نحو الأشقاء المظلومين في غزة الذين يعانون القهر والجوع والسجن الكبير الذي تظلله السماء ، وأكبر من نخوة المفتي الإسلامية تجاه الأرض الفلسطينية المغتصبة بوحشية نازية غير مسبوقة في التاريخ ؛ دون أن يدعو إلى الجهاد والتضحيات من أجل تحريرها وتطهيرها ، فالمفتي في كل الأحوال من الرجال الذين صنعتهم دولة مبارك الفاسدة ، والرجل شريك لشيخ الأزهر السابق ، في تقديم ما يطلبه النظام أو بالأحرى المجرمون في النظام ، وقد رأيناه عقب ثورة يناير يتحول إلى ثائر كبير ، متناسيا مواقفه وآراءه قبل سقوط النظام ، ولكن مجرمي النظام سربوا بعض الوثائق عن حياته الخاصة ، فسكت الثائر الكبير ، ولزم الصمت الجميل ، وفاجأ الأمة بسفره إلى القدس العتيقة تحت حماية الحراب النازية اليهودية ، وادعى من أمروه بالزيارة أنه ذهب لافتتاح كرسي الإمام الغزالي للدراسات الإسلامية فى المدينة المقدسة بدعوة من مؤسسة آل البيت الملكية الأردنية بوصفه أحد أمناء المؤسسة ، وترتيب من حكومة عمّان ، دون أن يمر على مكتب ختم الجوازات الصهيونية ، وظلت الآلة الإعلامية الموالية للنظام المجرم البائد تلح على ذلك حتى كانت مفاجأة العدو للعالم كله بغير ما تردده الأبواق المأجورة في بلادنا ..
فقد كشف الغزاة النازيون اليهود أن الزيارة كانت تحت حراسة أمنية مشددة من جانب الجيش الصهيوني.. وأن وزارة الدفاع الصهيونية أشرفت على تأمينه خوفا من هجمات "شهداء الأقصى".. وأن إذاعة الجيش النازي اليهودي أعلنت أن الختم الصهيوني على الجواز شرط دخول القدس المحتلة .
وقد ذكرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية على صدر صفحتها الأولى الصادرة يوم الخميس 19/4/2012، أن زيارة المفتى والوفد الملكي الأردني برئاسة الأمير غازي بن محمد، الممثل الشخصي والمستشار الخاص لملك الأردن عبد الله الثاني بن الحسين، جاءت بالتنسيق مع وزارة الدفاع الصهيونية وليس مع وزارة الخارجية الصهيونية.
وكشفت إذاعة الجيش النازي اليهودي "كول تساهال" بأن زيارة مفتى الديار المصرية جاءت بموافقة الغزاة اليهود ، مؤكدة بأن زيارته تم تنسيقها مع وحدة الاتصال الخارجية التابعة للجيش النازي اليهودي .
وقالت الإذاعة إنها علمت من خلال مصادرها أن زيارة مفتى مصر للقدس جاءت بالتنسيق مع وزارة الدفاع الصهيونية بصحبة قوات الجيش اليهودي لتأمينه من أية هجمات قد تحدث له من كتائب شهداء الأقصى الرافضة للتعامل مع الكيان الصهيوني فيما يخص الزيارات للأماكن المقدسة.
ووصفت الإذاعة خط سير الزيارة فقالت : "وصل المفتى من عمان عن طريق جسر اللنبى، يرافقه الأمير غازي مستشار ملك الأردن ثم تولت سلطات الجيش الصهيوني تأمينهم بوحدات عسكرية خاصة".
وعبرت إذاعة الجيش الصهيوني عن فرحتها بهذه الزيارة التي تعد زيارة نادرة لشخصية بمثل هذا المستوى من مسئولين مصريين وعلماء دين بصورة خاصة.
وهكذا جاءت الزيارة تحت ظلال الحراب الصهيونية الغادرة ، وبحماية جيش القتلة النازيين اليهود ، وبالختم الصهيوني على الجواز . هم الذين قالوا ولم نقل نحن !
والسؤال لماذا كانت الزيارة ؟ وفي هذا التوقيت بالذات ؟ ومن الذي أمر بها ؟ هل هناك جهات موالية للنظام البائد هي التي أمرت بتلك الزيارة لإرسال رسالة خاصة للعدو لا نعرف معناها ؟ وما دلالة أن تجري في ظل احتدام الغليان الشعبي ، والصراع المتأجج حول القضايا المصيرية في وطن يراد معاقبته لأنه اختار الإسلام والهوية العربية ؟
إن جريمة التفريط في القدس والضفة والقطاع وسيناء التي اقترفها جمال عبد الناصر عام 1967م ، لما تزل قائمة ، وفرضت علينا حربا مجيدة في رمضان 1393 هـ = أكتوبر 1973م ، ولكن معاهدة الإذعان عام 1979 جلبت اليهود الغزاة إلى داخل مصر ، وجعلت لهم عيونا وقواعد وأنصارا كان معظمهم للأسف من الشيوعيين واليساريين الذين اختزلوا قضية الاستعمار اليهودي فيما أسموه التطبيع ، وأنشأوا ما سمي بجمعيات السلام ، وعقدوا مباحثات جنيف وأوسلو ومدريد وغيرها ، ثم رأينا مسئولين صهاينة يذهبون إلى مؤسسات قومية مصرية يديرها يساريون ويتم استقبالهم بمنتهى الحفاوة ، ورأينا مناضلين يدّعون الثورية يذهبون إلى السفارة الصهيونية وملحقاتها تحت ستار المهنية والبحث والتعلم والمجاملات الدبلوماسية .. ولكن علماء الدين – حتى الذين استقبلوا اليهود في صحن الأزهر – لم يذهبوا إلى السفارة ، ولم يزوروا القدس الأسيرة ، ولكن الذي فعلها كان فضيلة المفتي ؟ لماذا يا مولانا ؟
قال مرتزق من أهل الحظيرة الثقافية إن أنصار الإسلام السياسي سوف يستغلون الزيارة لإقصاء المفتي والترويج لها سياسيا ليحققوا أهدافهم الخاصة ! ونسي الحظائري الأفاق الذي ما زال في صدارة المشهد الثقافي والسياسي أن القدس جزء من العقيدة الإسلامية ، وأن أرض فلسطين وقف لا يجوز التنازل عنه ولو تنازل عنه جمال عبد الناصر والسادات ومبارك ، فأمة الإسلام لن تتنازل عنها مهما كانت التضحيات ، ومهما تباعد الزمان ، فكيان اليهود الغزاة أوهى من بيت العنكبوت ، وخاصة حين يكون هناك رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، فمنهم من قضى نحبه ، ومنهم من ينتظر ، وما بدلوا تبديلا !